أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ محمد تقي شهيدي(*)

ترجمة: مرقال هاشم

تأثير الارتكاز الجديد في إعادة النظر في موضوع الحكم

_ رُبَما تقولون: إن السبب في عدم تمكُّن الشارع من إصدار حكمين هو أن أحكام الشارع تابعةٌ للمصالح والمفاسد الذاتية، وإنه عالمٌ بجميع المفاسد والمصالح. وأما في الأنظمة الحقوقية الوضعية (البشرية) فإنهم كانوا يبيحون الاسترقاق في عصرٍ، ولا يبيحونه في عصرٍ آخر؛ وذلك لاختلاف الأزمنة. فإذا كان هذا هو دليلكم رُبَما قال أحدهم ـ في موضوعاتٍ من قبيل: الجهاد الابتدائي، والردّة، والاستعباد ـ إن بحث قُبْح الظُّلم وحُسْن العَدْل يشكِّل قرينةً على أننا نتصرّف في موضوع الحكم إثباتاً؛ بمعنى أننا كنا نظنّ أن موضوع حكم الشرع قائمٌ من الناحية الإثباتية على الجهاد الابتدائي، لورود ذلك في دليل الشرع. وأما قبح الظلم فيشكّل قرينةً لكي نقول: إن الأمر لم يكن كذلك، وإن الموضوع كان بسبب تَبَعية الأحكام للمفاسد والمصالح وانتشار الدين، لا أن الجهاد الابتدائي كانت له موضوعيّةٌ واقعية، ففي مورد الارتداد ـ على سبيل المثال ـ كنا نتصوَّر إثباتاً أن الموضوع هو مجرّد أن الفرد كان حتّى الأمس ينطق بالشهادتين، وأما الآن فإنه لا ينطقهما، بل الموضوع كان عبارةً عن إضعاف الدين، وعلينا أن نرى هل كان في ذلك إضعافٌ للدين حقّاً؟ وبعبارةٍ أخرى: إن قُبْح الظلم وحُسْن العدل يشكّل قرينةً على التحليل الإثباتي لهذه الموضوعات قياساً إلى الموضوعات الأخرى، وليس التحليل الثبوتي والإصرار على الموضوع السابق.

^ لا يمكن لنا أن نعتبر حكم الموضوع الواحد مختلفاً بلحاظ اختلاف الأزمنة إلاّ إذا أدخلنا هذا الموضوع ضمن عنوانٍ عامّ كان منطبقاً على هذا الموضوع سابقاً، ولكنّه غير موجودٍ حالياً، ومن ذلك مثلاً أن بيع وشراء الدم كان حراماً في السابق، وكان مصداقاً لأكل المال بالباطل، وأما اليوم فإنه بالالتفات إلى التغيُّر والتحوُّل الحاصل والمنافع العقلائية المحلّلة أصبح بيع الدم وشراؤه جائزاً؛ لأنه قد خرج عن عنوان أكل المال بالباطل. غاية ما هنالك أن الكلام يكمن في أنه هل يمكن لنا أن نتوسَّع في هذا المثال وتسريته حتّى إلى تلك المواضع التي ذكرها الشارع في خطابه بوصفها حكماً بعنوانٍ خاصّ؛ فلو قال الشارع مثلاً: «يحرم بيع الدم» هل يمكن لنا أن نقول ذلك أيضاً؟ والمثال الواضح على ذلك بحث الشطرنج، فقد تمّ النهي في الروايات عن اللعب بالشطرنج، ولدينا عنوانٌ عامّ يقوم بحرمة اللعب بآلات القمار، فهل يمكن القول: إن اللعب بالشطرنج الذي ورد النهي عنه في الروايات إنما يأتي من جهة كونه مصداقاً لآلات القمار. هذا هو رأي الإمام الخميني&. ويذهب بعض الفقهاء الآخرين ـ من أمثال: السيد السيستاني والشيخ التبريزي ـ إلى هذا الرأي أيضاً؛ حيث يقولون: إن الشطرنج إذا خرج عن كونه آلة قمارٍ فعندها يجوز اللعب بالشطرنج إذا لم يكن بشرط الربح والخسارة؛ بمعنى أن اللعب بالشطرنج لن تكون له موضوعيةٌ، مع أن الرواية تقول: إن اللعب بالشطرنج غير جائز. إلاّ أن السيد الخوئي كان يرى موضوعيةً للعب بالشطرنج، ولذلك فإن اللعب بالشطرنج سيبقى محرَّماً من وجهة نظره حتّى لو خرج عن كونه قماراً.

إن لهذه المسألة الكثير من الموارد المشابهة. فمثلاً: في باب الديات يتمّ طرح هذه المسألة كثيراً، ومن ذلك أن الروايات تحدِّد دية الجراحات في بعض الأحيان بعشرة دنانير، فهل هناك موضوعيةٌ لهذه الدنانير العشرة، أم أن المراد هو 1% من الدية الكاملة؟ فهل لهذا الدينار موضوعيةٌ؟ لا إشكال في عدم موضوعيّته في دية القتل قطعاً؛ إذ الجاني مخيَّرٌ في أصناف الدية بين مئة دينار وألف درهم أو غيرهما من الأصناف الأخرى. وأما في بعض الجراحات فقد تمّ تحديد خصوص الدينار، من قبيل: عشرة دنانير، أو مئة دينار. فهل للدينار في هذه الموارد موضوعيةٌ أم هو من باب ذكر صنفٍ من أصناف الدية، وعندها تكون الدنانير العشرة بمعنى 1% من الدية الكاملة، من أيّ صنفٍ نختاره؟ من الواضح أن تشخيص الظهور العُرْفي في هذه المسألة مؤثِّرٌ للغاية، بمعنى أننا نستظهر الموضوعية لهذا العنوان من الناحية العُرْفية، أو أن نقول: إن هذا العنوان ليس له موضوعيةٌ، وإنما هو مشيرٌ إلى عنوانٍ آخر.

ويشبه هذا المورد ما لو قال المولى: «أكرم هذا الجالس»، فإن عبارة هذا الجالس مجرَّد عنوانٍ مشير إلى مَنْ يجب إكرامه، بمعنى أنه لو قام هذا الجالس بعد ذلك بقي وجوب الإكرام شاملاً له؛ لأن الاستظهار العُرْفي يثبت أن هذا العنوان مشيرٌ. وأما في مثل قول المولى: «أكرم هذا العالم» فإنْ زال العلم عن هذا الشخص وأضحى جاهلاً، أو في مثل قوله: «أكرم هذا العادل» إنْ زالت عنه صفة العدل وأصبح فاسقاً أو ظالماً، لا يمكن القول: إن هذا من العنوان المشير، بل الظاهر منه هو الموضوعيّة.

وفي الاستظهار من الروايات علينا أن نرى هل الخطابات فيها على نحو القضية الخارجية أو القضية الحقيقية. من ذلك مثلاً أنه توجد روايتان في الباب الثاني والأربعين من أبواب الذبح في الوسائل: إحداهما: رواية محمد بن مسلم، عن الإمام الصادق×، قال فيها: «إنه نهى عن إخراج الأضاحي»([1])، فقد نهى الإمام× عن إخراج لحوم الأضاحي من مِنَى؛ وفي رواية أخرى عنه× أنه قال: «كنّا نقول: لا يخرج منها بشيءٍ؛ لحاجة الناس إليه [في مِنَى]، فأما اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه»([2]). لو أن الإمام× أمر أو نهى سيكون لذلك ظهور في القضية الخارجية، أو في القضية الحقيقية، أو يكون مجملاً، وإذا كان مجملاً سيكون القدر المتيقَّن منه هو القضية الخارجية، وعليه لا يكون الإطلاق ثابتاً؟

وهذا بحثٌ في غاية الأهمّية. جاء في الروايات: «لحوم حُمُر أهلية»([3]) أو الحمار الداجن. لماذا ظنّ أهل السنّة أن أكل لحم الحمار محرَّمٌ؟ جاء في الرواية أن النبيّ الأكرم| قد نهى في بعض الحروب عن ذبح «الحُمُر الأهلية»، فتصوَّر الناس في ذلك العصر أنه بصدد بيان قضيةٍ حقيقية، ولم يلتفتوا إلى أنهم في ظروف الحروب يحتاجون إلى الحُمُر الأهلية في نقل البضائع والمعدّات الحربية؛ فتكون الحاجة إلى ظهورها أكثر من الحاجة إلى لحومها، وكان نهي النبيّ عن ذبحها من هذه الناحية.

والرواية الأخرى ترتبط بالخضاب، وهي مذكورةٌ في نهج البلاغة. فقد ذكر الإمام× في تلك الرواية أن السبب الذي دعا النبيّ الأكرم| إلى أمر أصحابه بالخضاب أن عدد المسلمين في صدر الإسلام كان قليلاً، ولكي لا يظهر عليهم التقدُّم في السنّ فقد أمرهم بوضع الخضاب؛ كي يتصوّر الأعداء أنهم يواجهون عدداً من الشباب الأقوياء. ثمّ استطرد الإمام بعد ذلك قائلاً: «أما الآن وقد اتَّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار»([4]).

وعليه يتمّ طرح مسألتين هامتين في بحثنا هذا؛ إحداهما: الفصل بين العناوين التي لها ظهور في الموضوعية والعناوين التي لها ظهور في الطريقية والمشيرية؛ والأخرى: الفصل بين الروايات التي لها ظهور في القضايا الحقيقية والروايات التي لها ظهور في القضايا الخارجية أو الروايات المجملة. فإذا استظهرنا بعد هذه المراحل من قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179) مثلاً أن القضية ليست خارجية عندها لا يمكن القول: إن هذه المسألة كانت تحت عنوان الردع العام عن ارتكاب الجرائم. وعليه إذا كان القصاص في يومٍ ما عنصراً للحياة فإننا نقوم بالقصاص، وأما إذا كان القصاص عنصراً للتشجيع على القتل عندها سوف يكون المجتمع بحاجةٍ إلى نشر المحبّة قطعاً، وأنه يجب معاملة حتّى القاتل بالرفق والمحبّة، وبفعل هذا الأثر التربوي سوف تنخفض نسبة الجريمة في المجتمع، ونتّجه عندها إلى حظر عقوبة الإعدام. وكذلك لا يمكن القول: إن الجلد كان ذات يومٍ يشكِّل عاملاً رادعاً عن الزنا، وكان الآخرون يستوعبون ذلك ويرتدعون، أما اليوم فإن جلد الفتيات والفتيان الخاطئين لا يشكِّل رادعاً اجتماعياً، بل على العكس من ذلك يستوجب بُعْدَهم عن الدين والمعنويات؛ إذ من الواضح أن هذا الكلام غيرُ صحيحٍ؛ إذ يوجد هنا خطٌّ أحمر، ولا يمكننا تجاوزه.

_ إن محور سؤالي ليس بهذه السعة. وإنما مرادي هو مجرّد قرينية الظلم والعدل، بمعنى أن العدل والظلم إذا كانا على شكل القضية الحقيقية هل يمكن لهما أن يشكّلا قرينةً على تحليل هذا الموضوع أم لا؟

^ إن ذات ارتكاز نبذ الظلم من قِبَل الشارع يُشكّل قرينةً متّصلة على أن هذا الحكم ليست له موضوعيةٌ، ويقع تحت عنوانٍ عامّ؛ غاية ما هنالك أن سبب ذكر هذه الأمثلة هو أنه لا يمكن بحث هذه المسائل بشكلٍ تجريدي؛ إذ لا يُعلم المدى الذي سينتهي إليه هذا البحث. ويجب أن نفهم النتيجة التي سوف ينتهي لها هذا البحث. فهل نريد أن نحصل على نتيجة من هذا البحث؟ من ذلك أن حكم المرتد ـ على سبيل المثال كما ورد في رواياتنا ومسلَّمات فقهنا ـ هو القتل، وقد سبق أن قلنا ـ بطبيعة الحال ـ بعدم جواز قتل المرتدّ الفطري الجاهل القاصر أو المشكوك القصور، إلاّ أنه تجري عليه سائر أحكام الارتداد، مثل: انتقال أمواله إلى الورثة، وانفصال زوجته عنه. ولكنْ لا يحكم بقتله؛ لأن الظهور العُرْفي للقتل هو أن القتل عقوبةٌ دنيوية للمرتدّ، والارتكاز العقلائي عندما ينظر إليه بوصفه عقاباً سيجد أن معاقبة القاصر قبيحةٌ عقلاً؛ لأن هذا الارتكاز العُرْفي ـ في أن القتل عقوبةٌ وجزاء، وليس مجرّد تعبُّدٍ مَحْض ـ يؤدّي إلى عدم شمول قتل المرتدّ للمرتدّ الجاهل القاصر أو مشكوك القصور.

وأما إذا قلنا بأن الملاك في حكم قتل المرتدّ في عصر التشريع هو أن البعض كان يسعى إلى إضعاف روحية المسلمين؛ فيصبح مسلماً ويمسي كافراً، ومن هنا فقد أصدر الله حكم قتل هذا الصنف من المرتدّين؛ من أجل الحيلولة دون إضعاف الإسلام. عندها سيتّخذ حكم المرتدّ شرائط جديدة، وتكون الضابطة فيه هي المنع من إضعاف الإسلام. وحيث كان الطريق إلى الحيلولة دون إضعاف الإسلام في ذلك الوقت هو الإعدام فقط فقد صدر الحكم بقتل المرتدّ، وأما اليوم إذا كان قتل المرتدّ في حدّ ذاته يؤدّي إلى إضعاف الإسلام إذن لا يعود بالإمكان تطبيق هذا الحكم؛ لأن الناس بأجمعهم سوف يتّهمون الإسلام بعدم المنطق، وأنه يؤيِّد القتل والإعدام.

ونحن نعتقد ـ بطبيعة الحال ـ أن ظاهر الخطابات هو من قبيل: القضية الحقيقية. فإذن لو ارتدّ الرجل فإنه يُقتل، وإنْ ارتدّت المرأة فإنها تُحْبَس أبداً، وإذا كان مرتدّاً عن ملة فإنه يُستتاب، ثم يُقتل إنْ لم يتُبْ. وحكم المرتدّ الفطري هو القتل. وقد ورد في ذات هذه الروايات الأمر بحفظ هذه الأمور بالقول: «احتفظوا بكتبكم»([5]). وعليه يتّضح أن هذه الأمور هي من القضايا الحقيقية والثابتة إلى الأبد.

نعم، رُبَما تكون هناك مفسدةٌ كبيرة على تطبيق حكم المرتدّ في مرحلةٍ زمنيّة خاصة، وهذا يدخل عندها في العنوان الثانوي، وهو بحثٌ آخر.

_ إن الحكم الثانوي لا يزيل الحكم، وإنما يحول دون تنفيذه.

^ إن المراد من منع تطبيق حكم قتل المرتدّ هو العنوان الثانوي الذي يشكّل منشأً لحرمة قتل المرتدّ. وعندها إذا حكم القاضي بقتل هذا المرتدّ، وكان متعمّداً في إصدار هذا الحكم، كان حكمه حكماً بغير ما أنزل الله، كالذي يسرق مضطرّاً، ويحكم القاضي بقطع يده، غاية ما هنالك أن تشخيص العنوان الثانوي هو من اختصاص وليّ الأمر بالتشاور مع أهل الخبرة، ولا يمكن لكلّ مَنْ هبّ ودبّ أن يكون مرجعاً لتشخيص العنوان الثانوي، وإلاّ عمّ المجتمع الهرج والمرج.

الخطوط الحمر في تحليل موضوع الأحكام

_ لقد أشرتُم في كلامكم إلى أن بعض الأمور تمثِّل خطاً أحمر، ولا يمكن البحث فيها، من قبيل: القصاص والزنا. إذا كنتم تقولون في مورد الجهاد الابتدائي هناك أفهامٌ قد تطرح نفسها حالياً، وتعدّ ظلماً بشكلٍ وآخر، فأوّلاً: ما هو الدليل الذي يجعل من الممكن بيان هذه الأفهام والآثار الاجتماعية في مورد تلك الخطوط الحمر (القصاص والارتداد)، ولا يمكن بيانه في مورد الجهاد الابتدائي؟ وثانياً: هل هناك ضابطةٌ في تشخيص القضية الحقيقية والقضية الخارجية، أم هو مجرّد أمر استظهاري يوكل إلى الفقيه، أم هو شيءٌ وَسَط يتّضح من خلال القرائن؟ إذا كان الأمر كذلك يتّضح أن ذلك الخطّ الأحمر يتمثَّل في تلك الضوابط. ومن هنا لو أن فقيهاً توصّل طبقاً لتلك الضوابط ـ في الدائرة الفقهية، وليس خارجها ـ إلى أن لهذا العنوان في الرواية موضوعيةٌ وجب عليه أن يفتي على طبقها، ولا يمكنه الاستناد هنا إلى مجموع القرائن أو الاستظهار أو طبقاً للضوابط التي أسّسها لنفسه في علم الأصول، حيث يكون هنا للعنوان في الرواية طريقية، والإفتاء بذلك العنوان، وفي الحقيقة تكون هناك ضوابط لخطوطنا الحمر، وليس ذات هذه الموارد والأمثلة. نضيف إلى ذلك: إن عليكم أن لا تنظروا إلى أنكم تعتبرون هذه الأحكام عادلة، ويراها العُرْف ظالمة، ثمّ تريدون بعد ذلك إدخال العُرْف، وإنما نحن نفترض أن الارتكاز العقلائي للفقيه نفسه يرى ذلك ظلماً. وعليه كيف يستند الفقيه إلى ارتكازه العقلائي في اعتبار هذا الحكم ظالماً، ولكنّه مع ذلك لا يقوم بشيء ولا يقول: إن هذا الموضوع كان شيئاً آخر قطعاً؟

^ هل تقصدون أن الارتكاز العقلائي في عصر الشارع كان ظالماً؟

_ كلاّ، وإنما في العصر الراهن فقط يراه الفقيه ظلماً، وقد أفتى جميع الفقهاء على خلافه.

^ نحن لم نقُلْ ذلك، وإنّما قلنا: إن هذا الارتكاز العقلائي المستَحْدَث حول هذا الموضوع ـ الذي كان موجوداً في عصر الشارع أيضاً ـ لا اعتبار له، أي في موضوع واحد كان موجوداً في عصر الشارع، وهو موجودٌ حالياً أيضاً. وإنما ذكرتُ الجهاد الابتدائي بوصفه مثالاً؛ لكونه غير مقبول عند الارتكاز العقلائي الجديد.

_ بمعنى أن الفقيه يراه ظلماً، ولكنّ ارتكازه غير مقبول.

^ حتّى إذا اعتبره العقلاء ظلماً. إنهم ينظرون إلى الجهاد الابتدائي بوصفه فرضاً للرأي على الشعوب الأخرى بالإكراه وقوّة السيف، وهذا ينظر إليه بوصفه مخالفاً لحرّية الإنسان. وقد كان تمثيلي بالجهاد الابتدائي لأنه مرفوضٌ في الارتكاز العقلائي الجديد.

_ لو كان الارتكاز العقلائي للفقيه نفسه بشأن الجهاد الابتدائي في العصر الراهن هو كونه ظالماً، فكيف يفتي؟

^ يقوم الفرض على أنه لم يكن هناك أحدٌ في عصر الشارع يعتبر الجهاد الابتدائي بوصفه مفهوماً عقلائياً عامّاً أمراً ظالماً؛ وذلك لأن الاعتقاد بالله لم يكن قد اضمحلّ بين الناس إلى هذا المستوى، بحيث يعتبرون هذا الحكم ظالماً؛ بل كانوا يعتقدون أن لله كامل الحقّ في أن يرسل دينه بواسطة الأنبياء، ويبيِّنه للناس، وبعد التعريف به يحكم بقتل مَنْ يرفضه، أو إذا كان الكفّار من أهل الكتاب يجب فرض الجِزْية عليهم، إلاّ أن الناس في العصر الحاضر يعتبرون أنفسهم مستقلّين، أو يقولون: هل أنتم وكلاء عن الله عزَّ وجلَّ، أو يقولون: إن التكليف توأم الحقّ، وإذا كنّا مكلَّفين يجب أن يكون لنا حقّ الاختيار أيضاً، ولا معنى لأن يتمّ وضعنا أمام الأمر الواقع.

_ بمعنى أن الفقيه الذي يذكر مثل هذا المثال يجب أن يخطّئ نفسه، ويقول: إني وقعتُ تحت تأثير الثقافة المعاصرة؟

^ حتّى إذا أضحَتْ هذه الثقافة عامّةً لا يمكنها تغيير الخطابات الشرعية؛ لأن الخطابات الشرعية قد تبلورت في عصرها.

_ إن مثل هذا الفقيه يستظهر تكويناً أن الاجتهاد الابتدائي ليس له موضوعية، وأن الاجتهاد الابتدائي ليس واجباً.

^ في ما يتعلَّق بالاستظهار يجب القول: إنه عندما يتكلَّم المتكلِّم بكلامٍ فإن الشرائط الزمانية والمكانية لصدور الكلام تعتبر هامّةً في تبلور الظهور. إنكم تأخذون هذه الشرائط الزمانية والمكانية بنظر الاعتبار، ويكون الظهور منعقداً، وإن الارتكاز العقلائي الجديد يدخل في صراعٍ مع ذلك الخطاب والظهور. لا يمكن للفقيه أن يقول: إن ذلك الظهور ليس مراداً للإسلام، إلاّ إذا كانت هناك قرينة وبرهان عقلي، وهذا بحثٌ آخر. وأما إذا كان مجرّد ارتكازٍ عقلائي قابل للردع فإن ذلك الظهور المتبلور لا يمكن أن يُستَبْدَل بارتكازٍ عقلائي سوف يحدث في المستقبل؛ لأن الظهور ليس تابعاً لشرائط المستقبل الذي لا يمكن التكهُّن به، وإنما هو تابعٌ للشرائط الزمنية والمكانية لذات عصر صدور الخطاب، وقد تبلور هذا الظهور في ذلك العصر. رُبَما لو قُدِّر لآية الجهاد أن تنزل في الظرف الراهن لفهم منها العُرْف شيئاً آخر، ورُبَما فهم منها الجهاد السياسي؛ ومن ذلك مثلاً أن الظهور العُرْفي لكلام الإمام الخميني، حيث دعا إلى تصدير الثورة، ليس هو الحرب وسفك الدماء وقيام بلد بالهجوم على بلدٍ آخر، بل المراد هو التصدير السياسي للثورة، ولكنْ عندما صدر الحكم بالجهاد في عصر الشارع كان الظاهر منه هو الجهاد الابتدائي، ولا يمكن تبديل مصير هذا الظهور بواسطة الارتكازات التي سوف تتبلور في المستقبل. وقد ذكرتُ الجهاد الابتدائي مثالاً من هذا الباب، حيث لا يُحْدِث الارتكاز المستقبلي تغييراً فيه.

_ ما هو الملاك في هذه القضية، بغضّ النظر عن المثال؟

^ لدينا على الدوام مصاديق واضحة في هذه الموارد، لو تمّ التشكيك فيها بأجمعها، أو تكون لدينا ـ بحَسَب تعبيرات المعاصرين ـ قراءاتٌ مختلفة، فسوف يعمّ الهرج والمرج؛ كأنْ يُقال في بحث الرِّبا: إن الرِّبا ليس له خصوصيةٌ أبداً، وإنما المهمّ هو بحث الاستغلال. فإذا كانت الدولة تأخذ الرِّبا من المواطنين لا يكون ذلك من باب الاستغلال؛ لأن الدولة سوف تنفق هذه الأرباح على المواطنين. كما أن الرِّبا التجاري ليس من الاستغلال أيضاً؛ لأنك عندما تأخذ دَيْناً من شخصٍ وتعمل على استثماره في التجارة لماذا تنفرد بالحصول على الربح دون الدائن؟! إذن من العدل أن تشرك من أعطاك الدَّيْن في الربح أيضاً. وعندما يمكن تحليل الرِّبا بهذا التوضيح، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحجاب، حيث يُقال: إن الحكم بوجوب الحجاب كان بداعي الاحترام؛ إذ كان لا بُدَّ في ذلك العصر من الفصل والتمييز بين الإماء والحرائر؛ كي يعرف الناس أن هذه المرأة ليست أمةً، بل هي حرّةٌ، وإذا كانت أمةً فلا يجب عليها الحجاب؛ إذ لا يجب عليها ستر شعرها، حيث لم تكن تتمتَّع بمكانةٍ اجتماعية مرموقة. ومن الممكن على هذا الأساس أن نشهد في المستقبل في البلدان غير الإسلامية أو في بلدنا أو في بعض المناطق الأخرى اعتبار الحجاب ذاته ـ بشكلٍ عامّ ـ منافياً للاحترام. وفي ما يتعلَّق بالحدود قد يمكن القول أيضاً: إنها كانت مصاديق للردع عن ارتكاب الجرائم، وفي العصر الراهن يقوم علم الجريمة والحقوق بتشخيص العقوبة وما هو الجزاء الذي يتناسب مع كلّ جريمة؟ وعليه لا يعود الجلد والرجم مناسباً للزمن الحاضر، ولا يشكِّل رادعاً، بل رُبَما كان له تأثيرٌ عكسي وسلبي. وفي مورد القصاص نقول أيضاً: إن الملاك في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179) هو الردع عن ارتكاب القتل، فإذا أدّى القصاص في العصر الحاضر إلى العكس من ذلك، وفقد قدرته على الردع، فيجب التخلّي عن القصاص. وفي الحقيقة إن هذا النوع من التفسير للأحكام يجعلنا نعتقد بأن الإسلام ليس عقيدةً أو أيديولوجيا، وإنما الإسلام يشتمل على مجرّد مجموعة من القواعد العامّة التي تدعو إلى إقامة العدل، وأما ما هو العدل؟ هذا ما يقوم العلم بتحديده. وحتّى في صدر الإسلام ليس من الواضح أن يكون هذا هو حكم الإسلام، فرُبَما كان هو من ثقافة الناس في ذلك العصر، وقد تمَّ بيانه على لسان النبيّ الأكرم، وعليه لا يكون لهذه الأحكام موضوعيةٌ. لقد كان هذا هو الطريق إلى تحقيق العدالة آنذاك، وأما في الوقت الراهن فقد ظهرت طرقٌ جديدة ومختلفة لتحقيق العدالة. وعلينا اليوم أن نتّجه إلى العلم، ولا نأخذ من الإسلام سوى الدعوة إلى أصل العدالة؛ لأن الإسلام يمثِّل الغاية في تحقيق العدالة؛ إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90)، وأما ما هو العدل؟ فهذا ما يجب الحصول عليه من العلم. وعليه ما الذي يمكن أن يبقى من أحكام الدين الإسلامي بعد كلّ هذه التفسيرات والقراءات؟!

_ يُفْهَم من كلامكم أنكم تنظرون إلى النظريّات المطروحة في هذا الشأن وكأنّها لا تخلو من حالتين فقط؛ فهي إما بيضاء؛ أو سوداء، في حين أن هذه النظرة تجانب الصواب؛ إذ هناك الكثير من المساحات الرمادية في البين، وعليه لا يمكن القول: إما يجب تعطيل جميع الأحكام أو أن نبقي عليها بأجمعها كما هي دون تغييرٍ، حتّى إذا كان العُرْف يراها ظالمةً. وعليه يمكن وضع ضوابط على هذه الأحكام.

^ إذا قلنا ذلك فهذا يعني اضمحلال الدين. كما ورد في بعض الروايات أن القياس إذا استمرّ العمل به فسوف يؤدّي إلى مَحْق الدين والشريعة. إن نتيجة انتهاج هذا الأسلوب سوف تؤدّي بنا في مرحلةٍ من الزمن إلى اتّباع سياساتٍ اقتصادية متناغمة مع الأفكار الاشتراكية؛ لأن الظروف الحالية بحيث تعمّ المجتمع حالةٌ من مكافحة الرأسمالية والاستغلال، فنعمل في مرحلةٍ زمنية على بيان السياسات الاقتصادية للإسلام بشكلٍ ما، وفي مرحلةٍ زمنيةٍ أخرى نتّجه إلى تعديل الاقتصاد، وتغدو الرأسمالية نظاماً مقدّساً. وهذا يعني أن نتّخذ من الدين وسيلةً؛ فتارةً يكون شعارنا هو: ﴿لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39)؛ وتارةً أخر نحمل شعار: «الناس مسلَّطون على أموالهم»([6]). وفي مرحلةٍ زمنية نرفع رواية التشجيع على التجارة، وتارةً أخرى ننحاز إلى طبقة العمّال والفلاحين، ويكون شعارنا في ذلك الرواية التي تقول: «الزارعون كنوز الأنام»([7]). وهذا يعني سوء استغلال الدين.

إذن لدينا حدودٌ، وإذا لم نُراعِ تلك الحدود لن يبقى للدين من أَثَرٍ، ولرُبَما تمّ التخلّي حتّى عن الصلاة أيضاً؛ لأنها تضرّ بالعمل والإنتاجية الاجتماعية. ينقل عن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بو رقيبة أنه كان يقول: إن الإسلام يشجِّع على العمل، وحيث إن الصوم يقلِّل من كفاءة العمال في العمل فقد دعا العمّال إلى عدم الصوم. وهكذا يمكن القول بشأن الصلاة: حيث إنها ـ في الظروف الراهنة ـ لا تضرّ ببُعْدٍ من أبعاد الحياة فلا بأس بها؛ ولكنّها إذا أضرَّتْ في يومٍ ما بالمصالح الاقتصادية يمكن التخلّي عنها. إن هذا لا يعني سوى اضمحلال الدين. وكان دَوْر الأئمّة الأطهار^ يتمثَّل بمكافحة هذه الأفكار.

إن مذهب القياس والاستحسان يمثِّل جانباً صغيراً من هذه المدرسة، حيث يميل البعض حالياً إلى الانتصار لهذه المدرسة؛ غاية ما هنالك أني أقرّ بأن هناك سلسلةً من الموارد التي تُعَدّ من الشبهات المفهومية، بمعنى أنه من غير الواضح أن تكون هذه الرواية في الواقع قضية خارجية أم قضية حقيقية. وعلى هذا الأساس من الممكن في بعض الموارد أن نُشْكِل على هذه الأنواع من الجمود. من ذلك مثلاً: ما يرتبط بصلاة المسافر، حيث يمكن أن نستفيد من الرواية التي تحدِّد مسافة القصر بثمانية فراسخ أنها بصدد بيان مصداق لـ «مسيرة يوم»؛ لأن هذا المقدار كان هو المسار المتعارف ليومٍ في الأزمنة القديمة، أما في الوقت الراهن فرُبَما أمكن قطع ألف كيلومتر في يومٍ واحد، فيكون هذا هو المعيار المتَّبع حالياً. إن هذا النوع من المسائل قابلٌ للنقاش، ولا يدخل ضمن نطاق الخطوط الحمر وما إذ كانت من القضايا الخارجية أو من القضايا الحقيقية. ويمكن العثور على أمثال هذه الروايات في المعاملات والحدود أيضاً، ويمكن الخوض في البحث والنقاش حولها. وأما أن نعمل على الترويج لأصل مكافحة السنّة، وأن نأتي في كلّ يومٍ بشيء جديد، فهذا ما لا يصحّ.

لستُ بوارد تحويل هذا الحوار إلى ندوةٍ سياسية. ها أنتم اليوم ترَوْن أن بعض السادة قد عملوا ـ في هذه الحوزة ـ على تأصيل هذا الأسلوب، والقول بأن جعل دية المرأة نصف دية الرجل ظلمٌ. والقول في القصاص: إذا قتل رجلٌ امرأةً، وأراد أولياؤها الاقتصاص منه، وجب عليهم دفع نصف الدية لأولياء القاتل، كان هذا من الظلم أيضاً، بل يرَوْن حتّى اعتبار دية المرأة نصف دية الرجل ظلماً. والذي أقوله هو أن هذه الأساليب التي يتمّ طرحها خاطئةٌ، ولا يمكن لنا أن نوافق على هذه الأساليب، وأما تلك الموارد التي هي من الشبهات المفهومية فهي قابلةٌ للبحث والنقاش، ويجب عدم التشدُّد فيها.

وفي ما يتعلَّق بعدم صوابية هذه الأساليب التي يتمّ طرحها مؤخَّراً أشير إلى بعض الأمثلة. يقولون: إن عدم الاقتصاص من الأب إذا قتل ولده إنما هو لمناسبة الحكم والموضوع، بمعنى أن العاطفة الأبوية هي التي كانت السبب في قتل الأب لولده! وهذا أمرٌ عجيب حقاً. فهل يمكن القول في مثل: «إذا زنا والدٌ ببنته يُقْتَل»: إنها منصرفةٌ إلى حيث يكون زنا الوالد بفعل العواطف الأبويّة؟ إذ يرى أنه إذا لم يَزْنِ بهذه البنت فإنه سيتمّ اتّخاذها طعمةً سائغة! في مورد قصاص الأب في قتل ولده تقول مناسبات الحكم والموضوع: لماذا لا يتمّ الاقتصاص من الوالد إذا قتل ولده؟ لأنه أبٌ، لا أن منشأ القتل أنه أبوه. أو قالوا: إن هذه الرواية حتّى إذا كانت مطلقةً، ولكنْ حيث إن قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179) يأبى عن التخصيص يكون إطلاق هذه الرواية ساقطاً. لا يُقال: حيث يقوم الأب بقتل ولده بفعل العواطف الأبوية لقمتُ بتخصيص الآية؛ إذن كيف تقول: إن الآية تأبى عن التخصيص، يقول: حيث يتمّ الاقتصاص من الأب الذي يقتل ابنه من مطلق العواطف الأبوية لن يكون لهذا القصاص أيّ تأثيرٍ؛ لأن عواطف الأبوّة التي تؤدّي إلى قتل الأب لولده موجودةٌ أبداً، ولا يمكن للقصاص أن يقضي على هذه العواطف الأبوية المتأصِّلة. وأنا لا أدري موقع هذا الكلام من الأساليب الفقهية. وفي أيّ قسمٍ من قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ هنا إباءٌ عن التخصيص؟ وإذا كان يأبى عن التخصيص فيجب أن يتمّ نفي «لا يُقتل والدٌ بولده»([8])، لا أن نعمل على تبرير ذلك، ونحمله على الفرد النادر بالقول: إن الأب يقتل ولده من منطلق العواطف الأبوية. وأساساً ما هو الإشكال في أن يقول التخصيص: أيّها الناس، إن القصاص يمنحكم الحياة، ويقول بدليلٍ آخر: «لا يُقْتَل الحُرّ بالعبد»([9])، و«لا يُقْتَل المسلم بالكافر»([10])، و«لا يُقْتَل الوالد بالولد».

يبدو أن هذه الأساليب تقضي على أساس الأساليب الفقهية، وعليه لا يمكن القبول بهذه الأساليب. وعلى كلّ حالٍ نعود إلى البحث السابق. إن من بين الأمور التي يجب الالتفات إليها أن موضوع الحكم هل له موضوعيةٌ أم طريقية؟ ما هو الفرق بين هذين الأمرين؟ في الحديث الشريف: «أنهى أمّتي عن الزفن والمزمار، وعن الكوبت والكبارات»([11])، ينهى الإمام× عن استعمال الآلات الموسيقية، من قبيل: الناي والطبول الصغيرة والكبيرة. والإنصاف هو أن العُرْف يحمل هذا النهي على أن هذه الآلات الموسيقية من آلات اللهو. فإذا لم يكُنْ الطبل من آلات اللهو، وكان يستعمل في المناسبات العسكرية أو في مراسم العزاء، عندها لن يكون من أدوات اللهو المحرَّم. إن هذا النوع من الموارد قابلٌ للنقاش، ولرُبَما كان استظهاركم يختلف عن استظهاري، وهذا ما نقبله، ويمكن لنا أن نبحثه. وقد كان هذا الاختلاف في أوجه النظر موجوداً على الدوام، ولا يمكن ضبط هذا المقدار، فليس هناك مسطرةٌ يمكن لها أن تقيس هذه الأمور بدقّةٍ. وإن الاختلاف في الآراء موجودٌ حتّى في النظريات الحقوقية والطبية أيضاً.

والمسألة الثانية هي: هل هذه الروايات من القضايا الحقيقية أم من القضايا الخارجية؟ وهذه النقطة من بحثنا في غاية الأهمّية أيضاً.

_ يطرح البعض رأياً جديداً في مورد المرتكزات الجديدة والقديمة. يقول هؤلاء: إذا اعتبرنا مرتكزات عصر الشارع، وسلك المتشرِّعة بدَوْرهم وتكاملوا على أساس الشريعة، بحيث كان هذا التكامل ناشئاً عن سلوكهم الشرعي، وتبلورت لديهم مرتكزاتٌ جديدة، كانت هذه المرتكزات الجديدة مقدَّمة على مرتكزات عصر الشريعة، مثل: الطالب الذي ينتقل إلى الصفوف العليا، وتكون المعارف التي يحصل عليها في الصفوف العليا أدقّ من المعارف التي كان يحصل عليها في الصفوف الدنيا، فهل ما يُقال من أنه إذا كانت مرتكزات عصر الشارع قد تمّ إمضاؤها فإنها تردع مرتكزات العصور المتأخِّرة يشمل حتّى المرتكزات الناشئة عن السلوك المتشرِّعي لهم أيضاً؟

^ إن ما ذكرتموه من أن الإنسان كلّما ارتقى في المدارج العلمية أصبح أكثر فهما واستيعاباً للأمور قد ورد التأكيد عليه في الروايات أيضاً، ومن ذلك: ما ورد في الرواية من أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل سورة التوحيد للناس في آخر الزمان. وجاء في روايةٍ أخرى: «رُبَّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَنْ هو أفقه منه»([12]). ولكنْ يجب الالتفات إلى هذا الأمر أيضاً، وهو أن فهم مراد الشارع هو غير المرتكزات العقلائية للشخص نفسه، بمعنى أنه من الممكن أن تقول: إن الشارع قال كذا، ولكنّ هذا لا ينسجم مع مرتكزاتي.

_ إن مراد هؤلاء هو المرتكزات التي لها دَخْلٌ في ظهورات الألفاظ.

^ إذن لو أن شخصاً رأى أن الحكم الشرعي ـ على أساس ارتكازه ـ ناقضاً لحقوق الإنسان لا يكون ذلك دليلاً على أن فهمه للخطاب الشرعي يقع تحت تأثير هذا العنصر. فليس الأمر كذلك دائماً؛ لأن فهم هذا الخطاب له إطارٌ خاصّ بالكامل. قد يكون في نصّ القرآن ـ مثل: قوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: 45) ـ أمرٌ لا يتناغم مع المرتكز المتبلور في العصر الحاضر، إلاّ أن هذا غير اختلاف فهم الخطاب. إذن فالمهمّ هو فهم الخطاب؛ لأننا نريد العمل بحكم الشارع، وليس لمرتكزاتنا أيّ مولويّة بالنسبة لنا.

إننا نسعى إلى كشف مراد الشارع، ولو اعتبرنا المرتكزات العقلائية معياراً فإن ذلك إنما يكون من أجل الوصول إلى مراد الشارع، وإلاّ ليس لما يقوله العقلاء أو يفكِّرون فيه موضوعيّةٌ بالنسبة لنا؛ لأن فرضيتنا تقوم على إثبات أصول الدين بمقدّماتٍ أخرى، وتوصلنا إلى ضرورة الاعتقاد بما يقوله الإسلام والشارع المقدَّس. فإذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نرى ما هو مراد الشارع المقدّس من هذه الكلمات التي قالها؟ من الطبيعي أن لا تكون أفهامنا على وتيرةٍ واحدة، وأنها قد ترتقي في مرحلةٍ زمنية إلى فهمٍ أعمق. وبعبارةٍ أخرى: إننا نلتفت إلى الشرائط الزمانية والمكانية لصدور هذا الخطاب بشكلٍ أكبر، ومن ذلك مثلاً أننا قد لا نكون قبل ذلك قد التفتنا إلى أن هذه القضية هي قضية خارجية، وإنما كنا نتصوَّر أنها قضية حقيقية، في حين أنه بسبب الشرائط الاجتماعية المستَحْدَثة قد التفتنا إلى أن هذه القضية يمكن أن تكون قضيةً خارجية، أو كنا في السابق نتصوَّر أن النهي عن الشطرنج قضية حقيقية، إلاّ أن الشرائط الاجتماعية قد تركت بتأثيرها إلى حدٍّ ما، وقمنا بدَوْرنا ببَذْل المزيد من البحث والتتبُّع، فتوصَّلنا إلى أن هذه القضية يمكن أن تكون قضية خارجية أو عنواناً مشيراً إلى ذلك العنوان العامّ والكلّي لآلات القمار. ولا إشكال في ذلك.

ولكنْ قد نكون في مرحلةٍ زمنية بصدد تحميل مرتكزاتنا المعاصرة على ذلك الخطاب، ونقول: إن الناس في ذلك العصر كانوا على خطأ. وهنا لا يمكن قول ذلك؛ لما تحتويه هذه المسألة من القُبْح؛ إذ كيف يكون الشارع نفسه جزءاً من الناس في ذلك العصر، ومع ذلك يبيِّن خطابه بحيث يوقع الناس آنذاك في الخطأ، ويغريهم بالجهل. أجل، لو أن الشارع ألقى هذا الخطاب في عصرنا هذا لفهمناه بشكلٍ آخر؛ وذلك لاختلاف شرائط صدور الخطاب، ولكنْ حيث ألقاه في ذلك العصر فقد فهمه أبناء ذلك العصر بشكلٍ آخر، وعملوا على طبق فهمهم. ولذلك لا يسعني القول: إن فهمهم لا يكشف عن مراد الشارع. فلو كان فهمهم خاطئاً لما كان على الإمام× في الأساس أن يبيِّن الحكم بحيث يوقعهم في الخطأ في الفهم. لقد توصَّل الرأي العام آنذاك إلى هذا الفهم، وكلّ مَنْ يكون ضمن تلك الشرائط سوف يتوصَّل إلى ذات الفهم أيضاً. ليس هناك من شَكٍّ في أن المسلمين كانوا يفهمون من قوله تعالى: ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (المائدة: 38) هو قطع أربعة أصابع من اليد، فهل يمكن لأحدٍ أن يقول: إن المراد من قطع يد السارق هنا هو كفّ يده عن السرقة، بمعنى توفير الظروف الخاصّة له بحيث لا يعود إلى السرقة من تلقائه؟ فهل هذا هو معنى الآية؟ ولنغضّ الطرف هنا عن أن هذا الفهم لا ينسجم مع قوله: ﴿نَكَالاً مِنَ اللهِ﴾ (المائدة: 38)، ولكنْ لو أننا فهمنا الآن من ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ مثل هذا الفهم هل هناك من قيمةٍ لفهمنا هذا؟ في حين كان جميعُ أبناء ذلك العصر يفهمون من ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ القطع المادّي لأصابع اليد. لقد ذكر هذا الفهم في بعض الكتب، وقد رأيتُه لبعض الكتاب المصريّين، ولا أدري ما إذا كان في بلدنا مَنْ يذهب إلى مثل هذا الفهم أيضاً أم لا.

_ هناك من علماء الشيعة مَنْ يختار هذا التفسير للآية.

^ إن قوله تعالى: ﴿نَكَالاً مِنَ اللهِ﴾ يعني أنه انتقامٌ من قِبَل الله، فهل يمكن القول بأن الحيلولة دون وقوع السرقة انتقامٌ من قِبَل الله؟!

_ وفي ما يتعلَّق بقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ (النساء: 34) قالوا: إنه من قبيل: الضرب في الأرض، بمعنى أخذهنّ للسفر والسياحة والنزهة.

^ هناك من التفاسير ما يقف المرء عندها حائراً، لا يدري ما يقول! وأذكر شخصاً في بداية الثورة ـ وقد تغيَّر لاحقاً إلى حدٍّ كبير ـ كان يفسِّر آيات القرآن الكريم تفسيراً مادّياً. وقد سمعتُ أنه كان يقول: إن معنى قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (الأنعام: 72)([13]) هو وطِّدوا علاقاتكم الاجتماعية، وأحكموا وثاقها. وكان يفسِّر قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3) بمعنى الجهاد السرّي. إن هذا النوع من تفسير الآيات لا يعني ـ من الناحية العملية ـ شيئاً سوى التلاعب بالدين. وقد سُئل شخصٌ عن معنى قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ (النساء: 34)؟ فقال: إن المخاطب بهذه الآية هو المجتمع، لا أن يبادر الزوج إلى تأديب زوجته بيده كلّما رأى منها تمرُّداً وعصياناً، وإنما ينبغي أن يرفع شكوى عليها إلى المحكمة، فإنْ رأى القاضي أنها تستحقّ التعزير عزَّرَها. فهل هذا هو معنى الآية حقّاً؟!

_ من الواضح أن الذي يشكل بهذا الإشكال ينتمي إلى فئةٍ خاصّة. إن هؤلاء يفترضون بعض الأمور، ويرَوْن وجوب الإجابة عن هذه الافتراضات. يقولون: إن للشارع خطاباً، ولم يلاحظ عصره فقط. وبطبيعة الحال فإنه لاحظ أن الأشخاص يجب أن يخضعوا لتربيته، وعلى حدّ تعبير هذا المستشكل يجب أن يسلكوا سلوكاً شرعياً، وأن يخضعوا في مرحلةٍ من الزمن لتربية الأنبياء والأئمّة، وبفعل هذه التربية سوف تتغيَّر مرتكزاتهم، وإن الشارع بعد ملاحظة أنه سوف تتحقَّق مثل هذه الحالة المطلوبة يلقي خطابه. ولذلك فإن الارتكاز الجديد الناشئ عن هذه التربية الدينية سوف يكون حاكماً على الارتكاز القديم.

^ ولكنْ علينا أن لا نغفل عن هذه النقطة، وهي أن الذي يحصل على ارتكازٍ جديد يجب عليه أن يعلم أن هذه الآية لم تنزل في هذا العصر. فإذا قال اليوم شخصٌ: «عند زيد هاتفٌ» نفهم منه أنه يمتلك جهاز تلفون، ولكنّ الهاتف في السابق كان يطلق على معنىً آخر قبل ولادة جراهام بيل واختراع جهاز التلفون، فهل من المعقول والحال هذه أن نفهم من كلمة الهاتف الواردة في نصٍّ يرقى إلى ما قبل القرن التاسع عشر للميلاد هذا المعنى المعهود للتلفون؟! إن على السامع أن يكون عاقلاً، وأن ينتبه إلى هذه المسائل، وأن هذه المعاني المعاصرة لم تكن مقصودةً للمتكلِّم في عصر النصّ، وأنها تعود إلى قرونٍ سالفة. وإن الخطابات الصادرة عن الشارع المقدَّس من هذا القبيل. صحيح أن خطابات الإسلام تشمل الأجيال القادمة أيضاً، وقد جاء في الروايات: «القرآن يجري مجرى الشمس والقمر»([14])، وعن أهل البيت^ قولهم: «احتفظوا بكتبكم؛ فإنكم سوف تحتاجون إليها»([15])، إلاّ أن على الأجيال القادمة أن تأخذ بنظر اعتبارها أن هذا الخطاب قد صدر في زمانٍ ومكان خاصّين، وأنه إذا كان الـ «منّ» يعني في الأزمنة السابقة ستّة كيلوغرامات لا يمكن للمعاصرين أن يفسِّروه بأنه يعني ثلاثة كيلوغرامات، كما هو مصطلحٌ عندهم في الوقت الراهن.

_ إن هذه الأمثلة ليست جواباً مناسباً لهم. وأنا ـ للأسف الشديد ـ لم أسمع أمثلةً واضحة على كلامهم. وإن مدَّعياتهم في الغالب ذهنية. ولو أردْتُ أن أتحدَّث بالنيابة عنهم، ولصالحهم، لمثَّلْتُ بالأمر بصلاة الليل. أنتم تحملون هذا الأمر على الاستحباب؛ استناداً إلى بعض القرائن، ولكنْ كيف تكون صلاة الليل واجبةً على شخصيةٍ متكاملة، مثل: شخصية النبيّ الأكرم|؟ فهنا نقول: رُبَما يأتي على الناس يوم يصلون فيه بفعل هذه التعاليم إلى مرحلةٍ من التكامل بحيث يفهمون الوجوب من هذا الخطاب أيضاً.

^ إن القرآن الكريم حيث يقول: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ (الإسراء: 79) فإن النافلة تعني الزيادة، والزيادة ليست في مقابل عدم الوجوب، والمراد أنه لا تجب الزيادة على ما وجب من الفرائض على عموم المسلمين.

_ أكمل كلامي على النحو التالي: من الممكن للشخص العربيّ ـ الذي كان يعيش في العصر الجاهليّ، والذي لم يكن بَعْدُ قد تلقّى تربيةً دينية بالمقدار الكافي ـ أن يفهم الاستحباب من الأمر بصلاة الليل، بَيْدَ أن الإنسان المتكامل، الذي خضع لتربية الأنبياء لما يزيد على الألف سنة، عندما يواجه هذا الخطاب يفهم شيئاً آخر. فهو بالنسبة له قد تلقّى تلك المرتبة العالية من التربية الدينية، بحيث عندما يطلب الله منه شيئاً مستحبّاً فإنه يفهم منه الوجوب، كما فهمه رسول الله، وهذا من قبيل: «حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين»([16]).

^ بالتالي فإن ظاهر الخطاب المشتمل على أمرٍ هو الوجوب، فكيف لم يفهم المخاطبون في تلك المرحلة الزمنية الوجوب من هذا الأمر؟ لأنهم لم يتلقّوا تلك التربية الخاصّة. فكيف كان أن فهموا الوجوب من الأوامر في الموارد الأخرى؟ يتّضح من ذلك أن ارتكاز المتشرِّعة يقوم على عدم الوجوب. ومن بين نماذج الارتكازات المعاصرة لخطاب الشارع، والتي كان لها تأثيرٌ في انعقاد ظهور الخطابات، هو أنه عندما كان يُقال في تلك المرحلة الزمنية: «غسل الجمعة واجبٌ أم فريضة؟» كان الناس في ذلك العصر يفهمون الاستحباب المؤكَّد؛ لأن هذه المرتكزات تنشأ من مكانٍ آخر، من قبيل: أن تكون السيرة قائمةً على عدم الاهتمام بغسل الجمعة، ولم يكن الأئمة يُبْدُون امتعاضهم تجاه هذا الإهمال، فيتّضح من ذلك أن هذا الغسل لم يكن واجباً. إن هذا الارتكاز يمنع من انعقاد ظهور خطاب غسل الجمعة في الوجوب. ونحن نتّفق بدَوْرنا مع السيد الشهيد الصدر([17]) في أننا إذا شككنا في وجود مثل هذا الارتكاز العامّ في عصر صدور خطاب الشارع كان هذا شكاً في القرينة المتّصلة، وهذا يساوق عدم إحراز الظهور في الخطاب. ولذلك يجب علينا في هذه الموارد رفع اليد عن الخطاب بمجرّد الشكّ. وبشكلٍ عامّ حيث نحتمل في بعض الموارد وجود الارتكاز العقلائي أو المتشرِّعي في عصر الخطاب كان ذلك بمثابة القرينة اللبِّية المتّصلة. وفي هذه الموارد يكون نفس هذا الاحتمال كافياً في عدم التمكُّن من التمسُّك بالإطلاق أو العموم، إلاّ إذا فهم العرف المعاصر معنىً عامّاً من هذا الخطاب. بناءً على نظرية «أصالة الثبات في الظهور»، أو بحَسَب القول المشهور: «أصالة عدم النقل»، نتمسَّك بالاستصحاب القهقرائي، ونقول: كلّ ما نفهمه اليوم كان الناس يفهمونه في عصر صدور الخطاب أيضاً، وإلاّ فإنه بمجرَّد الشكّ في وجود الارتكاز المتشرِّعي أو العقلائي الذي يمنع من انعقاد الإطلاق أو العموم فإننا نواجه إشكالاً أمام هذا الخطاب. يمكن لنا أن نقول هذا الشيء.

وأما إذا لم يكن الارتكاز العُرْفي في عصر الشارع على خلاف العموم أو الإطلاق، وأحرزنا ذلك، إلاّ أنه تبلور ارتكازٌ جديد في العصر الحاضر، فإن هذا الارتكاز الجديد لا يمكنه أن يتدخَّل في فهم معاني ألفاظ الشارع. لنفترض أن الشارع قال: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾. إن الناس كانوا في حينها يفهمون قطع اليد، وكانوا من الناحية العملية بصدد تطبيق هذا الحكم في الحدّ الأدنى، ولا شأن لنا بما إذا طبَّقوه أم لا، فهذا بحثٌ آخر. فهل يمكن لنا أن نقول الآن: إنهم كانوا في هذا الفهم على خطأ؟ وهذا الفهم ليس فهم شخصٍ واحد أو عددٍ من الأشخاص، وإنما هو فهم عامّة الناس في ذلك العصر، وقد فهمنا اليوم من هذه الآية معنى مغايراً لما كانوا يفهمونه. إن هذا يمثِّل نوعاً من الهرج والمرج في القراءات. يمكن لنا أن نتقبَّل اختلاف القراءات إلى حدٍّ ما، ولكن ليس هناك مشرِّعٌ أو حقوقيّ يمكنه أن يتقبَّل حدوث الهرج والمرج في القراءات.

_ يبدو أن كلامهم كان يشتمل على قيدٍ، وذلك أوّلاً: إن التحوُّل والتكامل الموجود في الارتكاز الجديد هو تكاملٌ ناشئ عن التعبُّد بهذه الشريعة. وثانياً: إن هذا التكامل هو تكاملٌ عامّ، ولم يحصل لشخصٍ واحد فقط.

^ مع ذلك لا قيمة له؛ لأن شرائط صدور الخطاب هامّةٌ. إن الناس الذين كانوا يواجهون هذا الخطاب لم يفهموا بحَسَب مرتكزاتهم وجوب صلاة الليل، وإن هذا الخطاب لم يكتسب ظهوراً في الوجوب. غاية كلامكم هي القول: إني في الحقيقة أتوقَّع أن يوجب الله صلاة الليل، وهذا في الواقع يمثِّل نوعاً من فرض توقُّعاتنا على الدين. لو أن الإمام الصادق× سُئل في موردٍ عن الرمان أو الجبن، وأجاب عن الجبن بقوله: «إنه لطعامٌ يعجبني»([18])، هل هناك عُرْفٌ في ذلك الزمان يفهم من هذا الكلام أن الإسلام يشتمل على نظامٍ خاصّ بالتغذية العامّة؟! وحالياً هناك مَنْ يريد القول: إن الإسلام يشتمل على هندسةٍ خاصّة به، كما يشتمل على رياضيات وطبّ وغير ذلك من العلوم.

إن هذه المسألة غيرُ صحيحةٍ. فإذا ما استثنينا الإشكالات العقلية التي ينطوي عليها هذا الكلام، وهي أن العالم التكويني غيرُ خاضعٍ لتأثير العالم التشريعي، وبالتالي إن علاج هذا المرض تكويناً يتوقَّف على شرب الخمر مثلاً، فهل يكون شرب الخمر ـ في مثل هذه الحالة ـ حلالاً أم حراماً؟

_ هل هناك مسألةٌ تريدون إضافتها بشأن قاعدة العدالة؟

^ إن المسألة الرئيسة التي يجب قولها بشأن العدالة هي تشخيص ظهور العمومات في أيّ نوعٍ من أنواع العدالة؛ فهل هي ظاهرةٌ في العدالة العُرْفية أم في العدالة الشرعية؟ وبطبيعة الحال لم نحصل على فرصة شرح المراد من العدالة والظلم الواقعي؛ إذ إن الإشكال الذي يطرح نفسه هنا هو أن يُقال: ليس هناك في البين ظلمٌ واقعي أصلاً، وإن جميع أنواع الظلم نسبيةٌ. الظلم بحَسَب رؤية أيّ شخصٍ؟ هل هو بحَسَب رؤية العُرْف أو الشرع أو العقل؟ إذن ليس لدينا ظلمٌ واقعي أصلاً. فالظلم تابعٌ لمختلف الآراء والتوجُّهات أبداً. كما لو قلنا: «بيعٌ صحيح حقّاً»، فهذا الكلام لا معنى له؛ إذ لا معنى للصحّة الواقعية، وإنما الصحّة مسألةٌ اعتبارية، ولكنْ بحَسَب اعتبار أيّ معتبر؟ هذه الأمور في غاية الأهمّية، وهذا هو الإشكال الذي أردْتُ طرحه وأجيب عنه، ولكنّ الفرصة لم تسمَحْ بذلك.

المسألة الأخرى تعود إلى قاعدة لا ضَرَر، حيث لها أهمّية كبيرة في هذه الأبحاث. إنما نطرح قاعدة لا ضَرَر على أساس الرؤية الجديدة، ورُبَما أرَدْنا في بحثنا أن نقوم بهذا الشيء؛ كي نتمكَّن من الحصول على بعض الأحكام الوضعية من هذه القاعدة، وليس مجرَّد نفي الحكم الشرعي الذي يوجب الضَّرَر، بل إنه بالإضافة إلى ذلك قد يمكن له أن يثبت الضمان في سلسلةٍ من الموارد، غاية ما هنالك أنه يحتاج إلى توضيح. ومن الطبيعي أنه يجب طرح الإشكالات التي أثارها ـ في هذا الشأن ـ كبار العلماء، من أمثال: السيد الخوئي وأستاذنا الشيخ التبريزي، والإجابة عنها أيضاً.

إن ربط قاعدة لا ضَرَر بقاعدة العدالة يأتي من جهة أن الظلم يمثِّل نوعاً من أنواع الضرر وتضييع الحقّ، ومن الطبيعي أنه قد يمكن أن نعمل بواسطة قاعدة لا ضَرَر على حلّ المشاكل في سلسلة من الموارد التي يُنْتَزَع منها الظلم؛ غاية ما هنالك أن لهذا البحث إطارٌ خاصّ، ولم يعُدْ الوقت يتَّسع لمواصلة الكلام حولها.

 

الهوامش

(*) أستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا) في الحوزة العلميّة في مدينة قم.

([1]) انظر: الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الحجّ، الباب 42 من أبواب الذبح، ح1: «قال: سألتُه عن اللحم أيخرج من الحَرَم؟ فقال: لا يخرج منه بشيءٍ إلاّ السنام بعد ثلاثة أيام».

([2]) المصدر السابق، ح5.

([3]) الصدوق، علل الشرائع 2: 563، الباب 359.

([4]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 87، باب استحباب خضاب الشيب…، ح2.

([5]) الكليني، أصول الكافي 1: 52، باب رواية الكتب والحديث، ح10.

([6]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ 3: 208.

([7]) انظر: الكليني، أصول الكافي 5: 261.

([8]) الكليني، أصول الكافي 7: 141.

([9]) انظر: المصدر السابق 7: 304، باب الرجل الحُرّ يقتل…، ح1 و3 و4.

([10]) انظر: الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 124، الهامش رقم 1؛ تهذيب الأحكام 10: 190، ح745، «قلتُ: رجلٌ قتل رجلاً من أهل الذمّة؟ قال: لا يقتل به، إلا أن يكون متعوِّداً للقتل».

([11]) النوري، مستدرك الوسائل 13: 215، ح15160، عن الجعفريّات: «قال رسول الله|: أنهى أمّتي عن الزمر، والزمار، والكوبات، والكيوبات». ويبدو أن الكيوبات هي الكبرات.

([12]) الكليني، أصول الكافي 1: 403، باب ما أمر النبيّ| بالنصيحة…، ح1.

([13]) وانظر أيضاً: البقرة: 43، 83، 110، وغيرها.

([14]) لم نعثر على هذا النصّ في موضعٍ، ولكنّه ورد في بحار الأنوار ما يأتي على معناه، على النحو التالي: «القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض…». انظر: المجلسي، بحار الأنوار 24: 328.

([15]) الكليني، أصول الكافي 1: 52، باب رواية الكتب والحديث، ح10.

([16]) انظر: العجلوني، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1: 357، نقلاً عن ابن عساكر، عن أبي سعيد الخرّاز من كبار الصوفية(280هـ).

([17]) انظر: السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 270.

([18]) انظر: الكليني، أصول الكافي 6: 339، كتاب الأطعمة، باب الجبن، ح1.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً