أحدث المقالات

الشيخ محمد عالم زاده نوري(*)

ترجمة: مرقال هاشم

المقدّمة

إن لعلم الفقه والأخلاق ـ بوصفهما علمين متوازيين ومعترفاً بهما رسمياً، بناء على التفسير المعروف للحديث القائل: «إنما العلم ثلاثة…»([1]) ـ مصادر مشتركة وهواجس مختلفة([2]). وفي ما يلي سوف نشير إلى بعض خصائص هذين العلمين في الحالة الراهنة. وقد أخذنا الفقه في هذه الدراسة بمعناه العلمي المصطلح ـ أي فهم الأحكام الشرعية التكليفية من المصادر الدينية والأدلة التفصيلية ـ، وأخذنا الأخلاق بمعنى العلم الذي يتكفّل ببيان منظومة القِيَم الإنسانية. وعلى هذا الأساس يمكن القول في المقارنة بين هذين العلمين ما يلي:

الاختلاف في الموضوع: إن علم الفقه يتحدّث عن فعل المكلّف (الاختياري وغير الاختياري)، وأما علم الأخلاق فيتحدّث عن المَلَكة والفعل الاختياري (للمكلّف أو غير المكلّف)؛ وبذلك فإنهما يشتركان في الأفعال الاختيارية للمكلّفين.

الاختلاف في المحمول: إن القضية الفقهية والقضية الأخلاقية تشتركان في الجانب القِيَمي، ولكنهما تختلفان في المحمول؛ وذلك لأن المحمول في القضايا الفقهية هي الأحكام التكليفية الخمسة: (الوجوب والاستحباب والإباحة والكراهة والحرمة)، والمحمول في القضايا الأخلاقية هو الحَسَن والقبيح، وما ينبغي ولا ينبغي، والصائب وغير الصائب.

الاختلاف في المنشأ: إن للقضايا الفقهية جعلاً واعتباراً شرعياً من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وإن الفقيه يعمل على اكتشاف هذا الجعل الشرعي من خلال التفقُّه؛ في حين أن القضايا الأخلاقية لا تنطوي على إنشاءٍ قانوني إلهي أو جعلٍ واعتبار شرعي، وإنما هي تقوم على مجرّد الحُسْن والقُبْح الواقعيين. إن منشأ مشروعية الأحكام الفقهية هو الإرادة التشريعية للشارع، والتي يتمّ إنشاؤها على شكل جعلٍ واعتبارٍ قانوني شرعي، وهي تقوم ـ بطبيعة الحال ـ على المصالح والمفاسد التكوينية والذاتية، في حين أن منشأ الأحكام الأخلاقية مجرّد الإرادة التكوينية للخالق تعالى فقط؛ بمعنى أن الحكم الأخلاقي يعمل على بيان العلاقة التكوينية بين الفعل أو الصفة وبين الكمال الإنساني. ونحن في علم الفقه إنما نسعى إلى الكشف عن الوظيفة الإلهية، في حين أننا في علم الأخلاق بصدد البحث عن الوظيفة الواقعية العقلانية أو العقلائية([3]).

وبذلك يكون الإلزام والواجب الفقهي مختلفاً عن الإلزام والواجب الأخلاقي؛ فالإلزام الفقهي حكمٌ شرعي، والحكم الشرعي يستتبع استحقاقاً للثواب والعقاب؛ وأما الإلزام الأخلاقي فيحمل هاجس السعادة، دون استحقاق الثواب والعقاب؛ وعلى هذا الأساس قد لا يكون الشيء مُلْزِماً من الناحية الفقهية، ويكون جائزاً، ولكنه من الناحية الأخلاقية يكون قبيحاً، وينطوي على إلزامٍ بالترك؛ بمعنى أنه ـ بناءً على بعض المصالح ـ لم يُرْصَد له عقابٌ، ولكنه مع ذلك يشكّل مانعاً دون وصول الإنسان إلى السعادة والكمال.

وإن الفقهاء بدَوْرهم يستعملون مصطلح «الحكم الأخلاقي» في مقابل «الحكم الإلزامي والوجوب الفقهي»، ويعملون على توظيفه حيث لا وجود للوجوب والحرمة الشرعية، وإنما يُفهم منه نوعٌ من التوصية والإرشاد. ويُستشفّ من كلماتهم أن الأمر الأخلاقي متعلّقٌ بالآداب، أو أنه أمرٌ إنساني يُعَدّ من وجهة نظر العقل أمراً حَسَناً.

وفي امتداد الجعل الشرعي والاعتبار القانوني يقع موضوع الامتثال ورفع التكليف، ومن هنا فإن الفقيه يحمل هاجس الامتثال، والبراءة، ورفع التكليف، والمنجّزية، والمعذّرية، والطاعة، والعصيان، وتَبَعاً لذلك يحمل هموم الخلاص من العقاب؛ في حين أن عالم الأخلاق يحمل هاجس السعادة، والكمال، والتعالي، والتكامل الروحي، والارتقاء الوجودي، والفلاح في الأبعاد الفردية والاجتماعية؛ ومن هنا فإن عدم امتثال الأحكام الفقهية يُعَدّ إثماً وعصياناً، إلاّ أن عدم امتثال الأحكام الأخلاقية إنما يحول دون الوصول إلى الكمال، ولا يُعَدّ تمرُّداً على الباري تعالى.

وبالالتفات إلى أن الحلال والحرام الفقهي ناشئٌ من المصالح والمفاسد الواقعية، وأن نظام التشريع تابعٌ لنظام التكوين [الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية]، يمكن من بيان الواجب والحرام اكتشاف الحُسْن والقُبْح الواقعي. وبعبارةٍ أخرى: هناك بين «الواجب والمستحبّ» وبين «الحُسْن»، وكذلك بين «الحرام والمكروه» وبين «القُبْح»، نوعٌ من الاستلزام. إن كلّ قضية فقهية تدلّ بالدلالة المطابقية على الأحكام التكليفية، وبالدلالة الالتزامية على الحُسْن والقُبْح الأخلاقي والمصالح والمفاسد الواقعية.

وإن نفس اعتبار وجعل القانون تابعٌ لبعض المصالح. فقد يكون الشيء حَسَناً أو قبيحاً من الناحية التكوينية، ولكنْ بناء على بعض المصالح ـ من قبيل: مصلحة التسهيل أو الترخيص ـ يُرْصَد له اعتبارٌ شرعيّ. وفي مثل هذه الحالة يكون لذلك الموضوع حكمٌ أخلاقيّ، ولكنْ ليس له حكمٌ فقهيّ، أو أن يكون له ـ بحَسَب البيان الأصولي ـ حكمٌ إرشاديّ، ولكنْ ليس له حكمٌ مولويّ([4]). وعلى هذا الأساس لن يُستنبط من الحُسْن والقُبْح الأخلاقي حكمٌ فقهيّ، ولن يُستنبط من المباح الفقهي حُسْنٌ وقُبْحٌ أخلاقيّ، وإن الجواز الفقهي أعمّ من الجواز الأخلاقي. وفي مقام الحصول على الحكم الفقهي لا يكون اكتشاف المصالح والمفاسد الواقعية كافياً. ويجب بذل جُهْدٍ آخر للكشف عن الاعتبار الشرعي والاستناد القطعي إلى الشارع.

وباختصارٍ فإننا في الأخلاق نسعى إلى اكتشاف التأثير الواقعي لـ «السلوك أو الأوصاف الاختيارية للإنسان على كماله»؛ بمعنى أننا حتّى عندما نبحث في النصوص الدينية إنما نبحث عن التوصيفات والتحليلات الذاتية، دون الجعل والإنشاء الشرعي. كما يمكن في هذا المسار ـ خلافاً للأحكام الفقهية ـ الاستعانة بالعقل والتجربة إلى حدٍّ كبير، حتّى أن الإمام الخميني& قد اعتبر مجال المعارف والأخلاق من مختصّات العقل وحقوقه الصِّرْفة. ومن هنا يمكن القول:

أوّلاً: إن القضايا الوحيانية في الأحكام الأخلاقية ـ وفي جميع الموضوعات التي تقتضي معرفة كشفية ـ تلعب دَوْراً إرشادياً ومحرِّكاً.

وثانياً: إن الاستلزامات العقلية معتبرةٌ وجديرة بالاهتمام، وأما في الفقه فإن اعتبار الاستلزامات إنما يكون في الحدود المعروفة.

وثالثاً: إن الأحكام الأخلاقية إنما تبيّن العلاقة بين الفعل وغايته (كمال الإنسان)، وليس النسبة بين الفعل والباري تعالى.

كما أن هذا الاختلاف الرئيس بين الفقه والأخلاق يستلزم بدَوْره موضوعين آخرين، وهما:

أوّلاً: إن الجعل الشرعي والاعتبار القانوني العامّ يحتاج إلى تعيين الصيغة والحدود والإطار التنفيذي. إن البحث عن قوالب وصورة الأعمال الشرعية يقع على عاتق الفقه، والبحث عن أصل العدم ـ دون لحاظ شكله العملي ـ يقع على عاتق الأخلاق؛ فإن كون «الارتباط بالله وذكره أمراً حَسَناً» مثلاً أمرٌ أخلاقي، وأما أن يكون هذا الارتباط بالله على شكل الصلاة بشرائطها الخاصّة فهو موضوعٌ فقهي. وبذلك يكون الفقه تجسيداً وتطبيقاً للأصول الأخلاقية.

وثانياً: إن الأحكام الفقهية حقائق قِيَميّة تواطؤية ذات حدَّيْن؛ فهي تدور مدار وجود وعدم الموضوع (الأسود والأبيض، والصفر والواحد)؛ بمعنى أن الحكم الفقهي هو بالنسبة إلى موضوعه إما موجودٌ أو غير موجود. فالموضوع الفقهي إما واجبٌ أو غير واجب، وإما حرامٌ أو غير حرام. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المستحبّ والمكروه الفقهي أيضاً. فإن الصلاة من وجهة النظر الفقهية واجبة، وكلما كانت كيفية الصلاة أحسن لن يؤثِّر ذلك في تشديد وجوبها، كما لا يمكن القول بأن الصلاة الواجبة أصبحت مستحبّةً أو أشدّ استحباباً! أي إن الحكم الفقهي لا يشتدّ، وإنما مع زيادة الكيفية يكون إلى جانبه موضوعٌ جديد، وله بطبيعة الحال حكمٌ جديد.

أما الموضوعات الأخلاقية فهي مفاهيم تشكيكية، وإن الأحكام الأخلاقية تحتوي على مراتب طولية ـ بمعنى أن لها سلسلة من مراتب الحُسْن والقُبْح ـ حيث يُدْعى الأفراد أبداً من المرتبة التي هم فيها إلى الارتقاء نحو المراتب الأعلى: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين». ومن هذه الناحية فإن للأحكام الفقهية عمومية أكبر، ولا ترتفع إلا في حالات الاضطرار؛ إذ يجب تدوين القانون بشكلٍ عامّ، وأما القِيَم الأخلاقية فهي ذات طبيعية فردية وخاصّة، وتتناسب مع الأفراد والظروف. إن عمومية الأحكام الفقهية يتمّ ضمانها بتغليب المصلحة والمفسدة في الحدّ الأقصى؛ فإذا كانت هناك مصلحة غالبة كان الحكم واجباً أو مستحباً، وإذا كانت المفسدة هي الغالبة كان الحكم حراماً أو مكروهاً، وعلى هذا الأساس ما لم تبلغ المصلحة والمفسدة حدّ النصاب وتتجاوز حدّاً ما لا يصدر حكمٌ فقهيّ ـ سواء أكان إلزامياً أو غير إلزامي ـ. وأما في الأحكام الأخلاقية فإن نفس المصلحة والمفسدة تشكّل دليلاً على الاقتضاء أو المانعية في مسار الكمال، وحيث إن الأخلاق تتّجه إلى السعادة الأخيرة، والمرتبة العليا من الكمال، فليس فيها حدٌّ تقف عنده، بمعنى أن الحكم الأخلاقي موجود في درجةٍ ومرتبة يتمّ فيها اكتشاف التأثير الواقعي. ونعلم ـ بطبيعة الحال ـ أن الأخلاق لا تعدم أحكاماً عامّة، كما لا يعدم الفقه من بعض الأحكام الخاصّة، إلاّ أن لسان الفقه هو لسان القانون العامّ، ولسان الأخلاق هو لسان السعادة الخاصّة. إن الحكم الأخلاقي يصدر بما يتناسب ونوع الشخصية والظرفيات الفردية، وأما الحكم الفقهي فيصدر بشكلٍ واحد على الجميع، وفي كافّة الأعصار والأمصار. وفي الأخلاق يتمّ الالتفات إلى الخصائص الشخصية للأفراد، وأما في الإطار الفقهي فلا يتمّ الالتفات إلى هذه الاختلافات. إن هذا الموضوع يُحْدِث اختلافاً ماهوياً في أسلوب الاجتهاد الأخلاقي والفقهي؛ وذلك لأن التعقيدات الظاهرية للنصوص الدينية في مجال الأخلاق أكثر بكثيرٍ من الأحكام الفقهية.

وبالالتفات إلى هذه الاختلافات بين الفقه والأخلاق فإن الاجتهاد ـ بطبيعة الحال ـ سيكون على نوعين؛ فأحياناً نسعى في العمليات الاجتهادية إلى التشريع الإلهي؛ وفي بعض الأحيان نعمل على اكتشاف مطلوبية أو عدم مطلوبية شيء، دون أن نتوصّل إلى الجعل والتشريع الإلهي. وقد مثَّل الشيخ جوادي الآملي للاجتهاد من النوع الثاني بمسيرة يوم القدس العالمي، وأسبوع الوحدة، ويوم التشجير. إن هذا الاجتهاد من النوع الثاني هو اجتهادٌ أخلاقيّ، أو هو من فقه الأخلاق([5]).

 

ما وراء الحلال الفقهي

لو افترضنا أن أمراً ما كان حلالاً من الناحية الفقهية يبقى هناك متَّسع للسؤال عن حُسْنه وقُبْحه؛ وذلك لأن الواجبات والمحرّمات الأخلاقية تفوق الحلّية والحرمة. وعلى هذا فإن اكتشاف حدّ الحلال والحرام الفقهي في موضوعٍ ما لا يمثِّل نهاية الدراسة الإسلامية له، ولا يعني كفاية الأبحاث فيه. ومن ذلك مثلاً أن ارتداء قطعة صغيرة من الثياب يُعَدّ من الناحية الفقهية ساتراً للحدّ الشرعي الواجب؛ ولكنْ لا يمكن أن يوصى بهذا النوع من الساتر، والترويج له بشكلٍ عامّ؛ وكذلك المرأة في بيت زوجها غير مكلَّفة بالقيام بأيّ شأنٍ من شؤون المنزل، بما في ذلك إرضاع طفلها، ويجوز لها أن تأخذ أجراً على هذه الأمور، ولكنْ لا يجب الأمر والترويج لهذا الأمر «الجائز». وعلى هذه الشاكلة لا يمكن الاكتفاء بالرسائل العملية في مقام بناء الثقافة والمجتمع والترويج لأسلوب الحياة الإسلامية، ويجب الانتقال من الحدود الفقهية إلى التعاليم والقِيَم الأخلاقية.

إن مراعاة الواجب والحرام الشرعي هو حدّ الإسلام، وهو أقلّ ما يتوقّعه الله تعالى من المؤمنين، ولا يعني الكمال، وإنما غايته نجاة الإنسان من عذاب الجحيم، وهذا يشبه حصول الطالب على درجة نجاحٍ متدنّية، ولا يستتبع عقاباً، ولكنه مع ذلك يستحقّ اللوم والتأنيب. إن حلِّية الشيء لا يلازم إسلاميته. إن المثال والنموذج في السلوك الإسلامي أخصّ من المثال والنموذج الحلال الذي نجده عادةً في الرسائل العملية. وعليه إذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً علينا الترويج لمفاهيم أوسع من الحدود الفقهية، ولا يمكننا الاكتفاء بالرسائل العملية.

وباكتشاف حكم الإباحة لا يمكن اعتبار البحث الإسلامي منتهياً، وإنْ كان البحث الفقهي يُعَدّ منتهياً. هناك في دائرة المباحات الفقهية ما هو حَسَنٌ وقبيحٌ أيضاً؛ بمعنى أنه حيث لم يُجعل حكمٌ فقهي ـ إلزامي أو ترجيحي ـ فإن المؤمن يشعر بقيودٍ تثقل كاهله على أساس المعايير الأخلاقية. وفي الأساس إن شطراً من الأخلاق (الحَسَن والقبيح) يختصّ بدائرة المباحات الفقهية ومنطقة فراغ الأحكام الشرعية.

 

النماذج

ليس هناك قانونٌ في موارد الجعل الشرعي؛ ولكنْ يمكن تصوُّر الحُسْن والقُبْح الأخلاقي. ومن ذلك مثلاً أن الأفعال غير الأخلاقية الصادرة عن الأطفال غير البالغين لا تنطوي ـ من وجهة نظر بعض الفقهاء ـ على حكمٍ قانوني شرعي حتّى على مستوى الكراهة، في حين أنها قبيحةٌ دون أدنى شكٍّ.

وفي بعض الموارد يكون وجود الحكم الشرعي مشكوكاً، بمعنى أنه لا يمكن إحراز الجعل القانوني بضرسٍ قاطع. ومن ذلك مثلاً أنه لا يمكن الادّعاء بأن الأمور أدناه مستحبّة بشكلٍ مؤكّد، ولكنْ يمكن القول: إنها أفعالٌ حَسَنة، ومن ذلك: إعراض أمير المؤمنين× عن عمرو بن العاص وبُسْر بن إرطأة بعد الكشف عن سوأتَيْهما في معركة صفّين، وعدم شرب أبي الفضل العباس الماء بعد أن ورد العلقمي ـ الأمر الذي يعبِّر عن شدّة مروءته ووفائه ـ، ومعرفة النفس وبناء الذات، وأكل الأطعمة المفيدة، والتعرُّف يومياً على أحدث المستجدّات السياسية، والاستراحة لعددٍ من الساعات في اليوم والليلة، واكتساب صفة الشجاعة، وتوفير الكتب النافعة وجعلها في متناول الجميع، رفع الإمكانات وتعلّم الفنون، وممارسة الرياضة، وإعداد مستلزمات الحياة، وإطفاء الأجهزة الكهربائية في ساعات الذَّرْوة، والاحتفاء بصور العلماء الربّانيين، وما إلى ذلك من الأمور الأخرى.

وكذلك إذا افترضنا أن ذكر بعض الخصائص المذكورة في الروايات لبعض الأطعمة إنما هو من باب الإرشاد وبيان الواقع لا يُفهم منه الحكم بالاستحباب الشرعي المستلزم للثواب والعقاب.

وعلى هذه الشاكلة لا يمكن الادّعاء صراحةً وبضرسٍ قاطع أن الأفعال أدناه مكروهةٌ، بَيْدَ أن إثبات عدم صوابيتها ـ دون ادّعاء وجود حكمٍ شرعي قانوني ـ ليس صعباً: عدم امتلاك الشخص لبرنامجٍ في الحياة، وخلع الثياب في عزاء الإمام الحسين×، وإزجاء الوقت في الألعاب الإلكترونية، وإخراج النفايات من البيت إلى الشارع في غير الأوقات الخاصّة، والحضور في الحفلات الموسيقية، وبناء الأبراج في المدن، ورياضة الملاكمة، والدعاية للبضائع الاستهلاكية، واختلاق الموضات الحديثة من أجل مفاقمة الظاهرة الاستهلاكية، وما إلى ذلك من الأمور الأخرى.

العناوين الحاكمة

في ما يتعلَّق بالأبحاث الفقهية من أجل الكشف عن حكم موضوعٍ ما ـ ولا سيَّما الموضوعات الجديدة ـ يتمّ البحث عن العنواين الكلّية الحاكمة على ذلك الموضوع. إن الأحكام الفقهية يتمّ حملها على العناوين الكلّية والعامّة، ويقع كلّ موضوعٍ مصداقاً لعنوانٍ أو عدد من العناوين الكلّية. يُقال عادةً: إن تشخيص مصداق العناوين الفقهية يقع على عاتق المكلَّف. إن هذا التشخيص للمصداق يكون على قسمين: فأحياناً يكون شخصياً وجزئياً بالكامل، بمعنى أنه لا يصدق في الحياة إلاّ على شخصٍ واحد أو عددٍ معدود من الأشخاص، ولا يتحقَّق نوعاً ما بالنسبة إلى الآخرين؛ ويكون في بعض الأحيان كلّياً واجتماعياً، بمعنى أنه يقع لجمهور الناس ويكون أمراً شائعاً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إذا أردنا أن نستنبط الحكم الفقهي لـ «ممارسة الرياضة» يجب علينا أن نكتشف العناوين العامّة والكلّية الحاكمة عليها، ومن ذلك مثلاً أن الحفاظ على الصحّة والحيلولة أو الوقاية من تضرُّر الجسم واجبٌ، ولمّا كان هذا العنوان منطبقاً على الرياضة، بمعنى أن «الرياضة» تعمل على تحقيق هذا العنوان وتشكِّل مصداقاً له، فسوف تكون الرياضة واجبةً. وهذا التطبيق يكون على نوعين: فتارةً يكون شخصياً وفردياً بالكامل، كأنْ تكون الرياضة مصداقاً للحفاظ على السلامة والوقاية من الأمراض بالنسبة إلى شخصٍ واحد فقط، عندها تكون الرياضة واجبةً على هذا الشخص وحده فقط، دون الآخرين؛ وتارةً تكون عامّة؛ ففي العصر الراهن مثلاً؛ بالالتفات إلى قلّة نشاط الأشخاص، تكون الرياضة نافعةً لعامّة الناس، حيث تحول دون الأضرار المحتملة بالنسبة إليهم. وعندها تكون هناك ملازمةٌ غالبة بين العنوان الفقهي للواجب (الحفاظ على الصحة الجسدية أو الوقاية من الأمراض) وبين الرياضة.

وعليه هل يمكن للفقيه الآن أن يحكم بوجوب الرياضة شرعاً بالنسبة إلى الناس الذين يعيشون في المدن أم لا يزال تشخيص الموضوع في هذا المورد عائداً إلى المكلّف؟

لو أمكن إثبات التأثير الكامل لهذه الموضوعات بالنسبة إلى تلك التَّبِعات (العلّية التامّة) لما تردَّد الفقيه في الإعلان عن الحكم القطعي لهذه الموضوعات؛ إلاّ أن المشكلة تكمن في أن هذه الموضوعات المعقّدة إنما تلعب دَوْر المقتضي في ظهور تلك التَّبِعات، بمعنى أنها تحتوي على تلك الآثار لولا المانع وبصورةٍ نوعية، وأنها لا تؤدّي في بعض الموارد إلى تلك الآثار، أو إذا كان لها علّية فعلّيتها غير قابلة للإثبات.

كما يَرِدُ ذات هذا السؤال حول توظيف النساء في المجتمع، وامتلاك القنوات الفضائية، والترويج للموسيقى، وإقامة دُور للعَجَزة، ورفع أعداد مراكز اللهو واللعب، والإنتاج الكبير للأفلام الساخرة، ورصد الجوائز المليونية، والدعاية للأطعمة الضارّة، وبناء المطابخ المفتوحة في المنازل، وبناء الأبراج وناطحات السحاب، وما إلى ذلك أيضاً. فإن هذه الأمور وإنْ كانت مباحةً في حدّ ذاتها، إلاّ أنها لا تنطوي في الحياة الراهنة على نتائج اجتماعية إيجابية؛ فإن امتلاك الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية ـ مثلاً ـ رُبَما يكون ملازماً للوقوع في الحرام بمقدار 80%؛ وإن ممارسة النساء للعمل في المجتمع قد يؤدّي إلى تأخُّر الزواج حتّى أعمار متأخّرة، الأمر الذي يتنافى مع الوظائف الأُسَرية؛ وإن بناء دُور العَجَزة وكبار السنّ يؤدّي بشكلٍ عامّ إلى الجفاء والإجحاف بحقّ الوالدين؛ وإن وضع الجوائز المليونية يؤدّي إلى التشجيع على الطمع وتعزيز ظاهرة حبّ الدنيا، وما إلى ذلك.

وكما نلاحظ فإن أمام الفقه الراهن طريقاً شاقّاً حتّى إصدار الحكم الإلهي لهذه الموضوعات، في حين أن إحراز حُسْنها وقُبْحها بالالتفات إلى المصالح والمفاسد النوعية لا ينطوي على عناءٍ. وبعبارةٍ أخرى: إن علماء الدين ينصحون بهذه الأحكام دون ادّعاء وجود حكمٍ شرعي واعتبار قانونيّ يستلزم الثواب والعقاب الإلهي؛ وذلك لأن هذه الأمور هي في الغالب في مظانّ الوصول إلى المستحبّات الشرعية، وأنها بشكلٍ عامّ تمهِّد السبيل لتحقيق الغايات الدينية. إن هذه الملازمة الغالبة إنما تكتشف من خلال الأبحاث العقلائية أو التحقيقات الموضوعية المختصّة، وقد تتغيَّر بحَسَب الشرائط باختلاف الأزمنة.

وبعبارةٍ أخرى: في الظروف العادية يكون لكلّ حكمٍ في مقام التطبيق على الموضوعات ـ ولكلّ مفهوم في مقام التطبيق على المصاديق ـ ثلاث حالات: فإما أن يتطابق مع الموضوع على نحو القطع واليقين؛ أو لا يتطابق مع الموضوع على نحو القطع واليقين؛ أو لا يكون الحكم واضحاً، ونشكّ في تطابق وعدم تطابق الحكم مع الموضوع. ويطلق على هذه الطائفة من الموضوعات مصطلح «المصاديق الرمادية»، كما يطلق على هذا الشكّ والترديد مصطلح «الشبهة المصداقية». ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن مفهوم «الماء» يصدق يقيناً على ماء الإسالة المنزلية، وماء النهر، وماء الحوض، ولا يصدق يقيناً على العصير والكحول وماء الرمان، كما أن صدق عنوان «الماء» على الماء القليل المشوب بشيءٍ قليل من الطين موضعُ شكٍّ وترديد.

وفي الوهلة الأولى لا يبدو للنظر احتمالٌ آخر غير هذه الاحتمالات الثلاثة، ولكنْ مع شيءٍ من التدقيق وإمعان النظر يمكن لنا أن نشاهد مصاديق أخرى ضمن تضاعيف هذا الطَّيْف أيضاً، فمثلاً: في ما يتعلَّق بالموارد التي هي ليست من مصاديق ذلك الحكم على نحو القطع واليقين، ولا هي من غير مصاديقه على نحو القطع واليقين، بل هي من مصاديقه غالباً، أو أنها تصبح من مصاديقه بعد عدّة مرّات من التكرار، فمثلاً: لا يمكن القول: «إن إقامة مراكز اللهو واللعب» هي على الدوام من مصاديق عناوين الحرام أو المكروه؛ بَيْدَ أننا نعلم أن كثرة هذه المراكز وإمكان الوصول السهل إليها يؤدّي بالتدريج إلى تبلور ظاهرة الاعتياد على القصف والمتعة، ويبتلي الكثير من الشباب بهذه الآفة؛ في حين أن تأسيس المراكز العلمية، والمنتديات الفنّية، والمؤسّسات التعليمية النافعة، وما إليها، يزيد بالتدريج من الدوافع والحوافز العلمية، وتنتج عاداتٍ إيجابية جيّدة، وتهدي نسبةً كبيرة من الشباب إلى مسار العلم والكمال. وعليه لا يمكن إثبات صدق هذا العنوان دائماً، ولا يمكن نفيه دائماً وبشكلٍ مطلق، وإنما يثبت مجرَّد نوعٍ من الاقتضاء، بحيث يكون صادقاً ـ عند عدم المانع ـ بنسبة 80%؛ حيث يحظى هذا الأثر طويل الأمد والتدريجي بالاهتمام في الأحكام الأخلاقية، في حين لا يكون له موضعٌ في الرؤية الفقهية الراهنة.

يمكن بيان هذا السؤال بلغةٍ فقهية أيضاً؛ بمعنى أن القيام ببعض الأعمال يرفع من احتمال الوقوع في الحرام، فهل تكون هذه الأعمال محرَّمةً؟ كما أن القيام ببعض الأعمال يرفع من احتمال وقوع المكروه، أو يقضي على فرصة القيام بأمرٍ مستحبّ، فهل يمكن اعتبار هذه الأعمال مكروهةً؟ وفي المقابل هناك ظواهر أو نماذج تزيد من المحافظة على الواجب أو المستحبّ الشرعي فهل يمكن اعتبارها واجبةً أو مستحبّةً؟ ومن ذلك أن ارتداء العباءة السوداء ـ مثلاً ـ مفيدٌ جدّاً في الحفاظ على الواجب الشرعي للحجاب على النساء، ويرفع من احتمال تحقُّقه؛ بمعنى أنه يشكِّل وسيلةً وأسلوباً للضمان النسبي للالتزام بالواجب، رغم أنه من المكن أن يكون له بديلٌ أيضاً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى إخراج النفايات من البيت في تمام الساعة التاسعة ليلاً، فإنه يحقِّق أو يضمن بعض التعاليم الشرعية، من قبيل: استحباب رعاية النظافة، أو وجوب اجتناب إيذاء الآخرين، فهل يمكن بيان الحكم الشرعي بالوجوب أو الاستحباب عليه؟ يبدو أننا إذا قلنا باستحباب ارتداء العباءة السوداء للنساء أو إخراج النفايات في تمام الساعة التاسعة ليلاً نكون قد أضَفْنا قيوداً إلى الأحكام الشرعية؛ وذلك لأن هذه الأحكام ليست عامّةً، ويمكن أن يكون لها بديلٌ، بمعنى أنها مجرّد أساليب وطرق تنفيذية ونَمَط من الالتزام بالحكم الشرعي، وهي قابلةٌ للتغيير.

النتيجة

كان ما تقدّم سَعْياً في إطار بيان الاختلاف بين علم الفقه وعلم الأخلاق. ومن الممكن أن لا يقبل شخصٌ بهذا الرأي، ويرى أن الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ذات طرفين؛ بمعنى «كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع»([6])، وفي مثل هذه الحالة فإن كلّ حكمٍ أخلاقي يتمّ اكتشافه على أساس المصلحة أو المفسدة الواقعية يعبِّر مباشرةً عن وجود مستحب ومكروه أو واجب وحرام فقهي، وإن جميع الأحكام الإرشادية سوف تغدو مولوية أيضاً. كما يمكن أن يكون الشخص موافقاً على هذا الرأي، ولكنّه يَعُدّ الموارد الباقية للأخلاق ـ أي الموارد التي لم يجعل فيها الحكم الشرعي ـ قليلةً جدّاً واستثنائية وغير جديرة بالاهتمام.

فما الذي يجب قوله على أساس هذين الافتراضين؟ والحقيقة أننا لا ننكر الظرفية الكبيرة للفقه في الحصول على نظام قِيَميّ إسلامي، إلاّ أنه لا يمكن لنا ـ من ناحيةٍ أخرى ـ أن ننكر أن «الفقه الراهن» لم يعمل في هذا الشأن حتّى الآن بشكلٍ كامل، وكان في الغالب ناظراً إلى الأحكام الإلزامية. لو أن الفقه يرتقي إلى المكانة الجدير بها، ويمارس مهمّته في الكشف عن المستحبات والمكروهات، وكذلك درجات استحبابها وكراهتها، بشكلٍ كامل، فإن النظام القِيَمي للإسلام سوف يتجلّى بشكلٍ أكبر، وتنجلي الكثير من الإبهامات. ومن هنا نقترح أن يتواصل العمل على استنباط المكروه والمستحبّ الفقهي، والكشف عن القِيَم الأخلاقية بشكلٍ تخصُّصي، والاهتمام بهذا الشأن بشكلٍ مستقلّ.

وبطبيعة الحال فإن الأبحاث والتحقيقات التخصُّصية الموضوعية في الكشف عن القِيَم الأخلاقية سوف تشكِّل مقدّمة لإصدار الحكم الفقهي الشرعي، بمعنى أن هذه الدراسات التجريبية والأحكام العقلانية تشكّل مقدّمةً للاجتهاد الفقهي، ويقوم عليها استنباط الحكم الشرعي. وعلى هذه الشاكلة سوف يتبلور علم الأخلاق الإسلامية في أحضان «الفقه المنشود»، وسوف يتوسَّع دَوْر العقل في الفقه، وسوف يتمّ الاعتراف رسميّاً بالواجبات والمحرّمات الأخلاقية وأحكام العقل العملي، وسوف يصبح العقل واحداً من مصادر الفقه حقيقةً، وليس بحَسَب التسمية فقط.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في مجال الأخلاق في مركز أبحاث العلوم والثقافة الإسلامية.

([1]) انظر: السيد روح الله الخميني، شرح چهل حديث (الأربعون حديثاً) 24: 385، مركز نشر فرهنگي رجاء، 1368هـ.ش؛ محمد صالح المازندراني، شرح الكافي 2: 26، تحقيق وتصحيح: أبو الحسن الشعراني، المكتبة الإسلامية، طهران، 1382هـ؛ محمد محسن الفيض الكاشاني، الوافي 1: 134، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ×، 1406هـ؛ صدر الدين الشيرازي (صدر المتألهين)، شرح أصول الكافي 2: 37، مركز أبحاث العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، طهران، 1383هـ.ش.

([2]) للمزيد من الاطلاع انظر: محمد هدايتي، مناسبات فقه وأخلاق در گفت وگوي أنديشه وران (العلاقة بين الفقه والأخلاق، في حوار مع المفكِّرين)، مركز أبحاث العلوم والثقافة الإسلامية، 1392هـ.ش؛ مهدي أحمد پور، فقه وأخلاق إسلامي: مقايسه إي علم شناختي (الفقه والأخلاق الإسلامية، مقارنة معرفية)، مركز أبحاث العلوم والثقافة الإسلامية، قم، 1392هـ.ش؛ محمد تقي إسلامي، أخلاق إسلامي وكاربست قاعده تسامح در أدله سنن (الأخلاق الإسلامية وتطبيقات قاعدة التسامح في أدلة السنن): 115 ـ 130، مركز أبحاث العلوم والثقافة الإسلامية، قم، 1390هـ.ش. (مصادر فارسية).

([3]) انظر: السيد محمد الصدر، فقه الأخلاق 1: 7، أنوار الهدى، 1380هـ.ش.

([4]) للمزيد من الاطلاع انظر: الآخوند الخراساني، فوائد الأصول: 127 ـ 131، سازمان چاپ وانتشارات وزارت إرشاد إسلامي، طهران، 1407 هـ؛ محمد حسين النائيني، فوائد الأصول 3: 60 ـ 64، تحرير: محمد علي الكاظمي الخراساني، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية بقم، قم، 1409هـ.

([5]) انظر: عبد الله جوادي الآملي: 51 ـ 53، 1391هـ.ش.

([6]) انظر: محمد رضا المظفَّر، أصول الفقه 1: 236 ـ 240، انتشارات إسماعيليان، قم، 1375هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً