أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

­­­­المدخل في تبيين إشكاليّة الموضوع

شهد الفقه الإسلامي في القرن الأخير تحوّلاتٍ كبيرة جداً، وحصلت فيه منعطفاتٌ ومسارات، وتضاربت فيه وجهات النظر في القضايا المِفصليّة التي تؤثّر في تقرير مصير هذا الفقه. وواحدة من هذه القضايا المفصليّة، هي مسألة «الفرد والجماعة في الاجتهاد»، فهل يكفي أن يتصدّى فقيهٌ واحد في جميع قضايا الإفتاء في الأمّة، أي في عشرات الآلاف من المسائل والمستجدّات، للجواب عن كلّ هذه الأسئلة وبطريقة مظنونة في غالبها، أو لابدّ من التفكير في وضعٍ آخر؟

من هنا، طرح بعض العلماء والباحثين في الفترة الأخيرة فكرةَ الاجتهاد الجماعي، وكان من أوائل من أثار بذور هذه الفكرة على المستوى الشيعي الشيخُ مرتضى مطهّري (1979م)، حيث طرح الاجتهادَ الجماعي انطلاقاً من تعقّد الأمور وتدفّق المسائل الجديدة، فذهب إلى أنّ فقيهاً واحداً لا يستطيع أن يُحيط بكلّ تفاصيل المسائل، ولهذا يجب علينا أن نجنّد مجموعةً من الفقهاء، لتندمج مع بعضها بعضاً، فتصبحَ بمثابة فقيهٍ واحد؛ لتكون لها القدرة على الإجابة على جميع المسائل والمستجدّات.

وإذا نظرنا إلى تطبيق هذه النظريّة على أرض الواقع رسميّاً، سنجد أنّ الاجتهاد السنّي كان أكثر تقدّماً من الاجتهاد الإمامي في تطبيق فكرة الاجتهاد الجماعي، حيث ظهرت عندهم المجامع الفقهيّة بشكلٍ رسمي، وذلك مثل:

1 ـ مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظّمة المؤتمر الإسلامي، والذي جاء تأسيسه عقب القرار الذي اتخذته المنظّمة في مؤتمرها عام 1981م.

2 ـ مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والذي تأسّس عام 1977م.

3 ـ مجمع البحوث الإسلاميّة التابع للأزهر، والذي تأسّس عام 1961م، وكان أوّل أمين عام له هو الدكتور محمود فتح الله حبّ الله الملقّب برائد الدبلوماسيّة الإسلاميّة.

4 ـ مجمع الفقه الإسلامي في الهند، والذي تأسّس عام 1988م.

5 ـ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والذي تأسّس عام 1997م.

وغير ذلك من المجامع والمجالس الفقهيّة.

طبعاً، واحدة من الإشكاليّات التي سُجّلت على المجامع الفقهيّة السنيّة، أنّها صارت رتيبة وتشريفيّة، فأصبحت اللقاءات فيها قليلة جداً، ممّا أدّى إلى عدم الوصول إلى النتائج المطلوبة منها. فهذه النظرية لها لوازمها الميدانيّة الكثيرة التي نحتاجها للوصول إلى مجالس فقهيّة حقيقيّة، إذ اللقاءات وأشكال التواصل بين أفراد هذه المجامع لا ينبغي أن تكون تشريفيّة، وإنّما هي جزء من عمليّة الإفتاء واستنباط الموقف الشرعي.

أمّا في الفضاء الإمامي، فلا نجد ـ حتى الآن ـ شيئاً من هذا القبيل على المستوى الرسمي، نعم هناك بعض اللقاءات العلمائيّة على نطاقٍ محدود، كبعض مجالس الاستفتاء لبعض المراجع الكبار، حيث يتناولون فيها الأبحاث الفقهيّة.. لكن على المستوى الرسمي، لا نجد تبنّي هذا الخيار، بل هناك إشكاليّاتٌ تواجهه، سوف نعالجها باختصار في نهاية كلامنا إن شاء الله تعالى.

هذا، وسوف نتناول هذا الموضوع المهمّ باختصارٍ شديد من أربعة جوانب:

المحور الأوّل: مبرّرات الاجتهاد الجماعي

جاءت فكرةُ الاجتهاد الجماعيّ ـ أو مجلس الإفتاء ـ في مقابل الفرد المجتهد أو المرجع الواحد؛ استجابةً لعدّة متطلّبات، وهي:

أ ـ تعقيدات الواقع

بما أنّ الاجتهاد في الحقيقة، إنّما هو عمليات استنباط أحكام الوقائع، لهذا فهو يتّسع تبعاً لاتّساع الوقائع. وإذا تابعنا اليوم واقعَ القضايا الفقهيّة، فسنجد أنّها صارت مسائل كثيرة ومعقّدة جداً.

وعلى سبيل المثال، موضوع الاستنساخ، إذ ليس هو موضوعاً بسيطاً يمكن تناوله في يومٍ أو يومين، بل يحتاج إلى متابعات علميّة كثيرة، لاسيما على طريقة دراسة ارتدادات وتأثيرات الفتاوى؛ لأنّ الحكم بجوازه أو عدمه يشغل مساحات قانونيّة كبيرة.

لقد صارت الفتاوى اليوم أكثر تشابكاً مع عشرات من الأمور الأخرى، فعلى الفقيه أن يأخذ بعين الاعتبار جميع هذه الأمور المتشابكة ليخرج بنتيجة فقهيّة صحيحة، الأمر الذي يحتاج إلى دراسةٍ أكثر وعياً بالواقع نفسه، وليس بالنصّ فقط.

أدّت هذه التعقيدات ـ للأسف الشديد ـ إلى أن تخرج بعض الفتاوى عن الموضوعيّة اللازمة وتتّسم بالبساطة. وعلى سبيل المثال، كشفت بعض المؤتمرات والندوات التي عقدت حول الاستنساخ، بل بعض الاستفتاءات أيضاً، كشفت عن أنّ المجيب أو المتكلّم لم يعرف حتّى الآن ما هو الاستنساخ؟ حتى أتى أحدهم وقال بالفعل: إذا قلنا بجواز الاستنساخ يحصل انهيارٌ قانوني في العالم؛ لأنّ الناس كلّها سوف يشبه بعضهم بعضاً! هكذا تصوّر الاستنساخَ فأفتى في ضوء ذلك بحرمته، بينما هذا التصوّر أجنبيّ تماماً عن مسألة الاستنساخ، وهذا معناه أنّ واقع القضيّة، وتأثيراتها على مستوى الواقع الخارجي ليست بسيطة.

ويزداد هذا الأمر وضوحاً عندما نأخذ بعين الاعتبار نظريّة الإمام الخميني في موضوع الزمان والمكان، وفقاً لبعض تفسيراتها، والتي تقول بأنّ نظريّة الزمان والمكان معناها أنّ قضيةً مّا قد تبدو ثابتة، لكنّها في ظلّ واقعنا المعاصر متحوّلة؛ لأنّ العناوين قد تتغيّر والإنسان يتصوّر أنّها ثابتة، وهذه تحتاج إلى الخبرة بالسياقات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، والمعرفة بتحوّلات المجتمعات، حتى نعرف أنّ القضيّة الفلانيّة لا تزال تسير على وتيرة واحدة، أو أنّها تعنونت بعنوانٍ جديد، فبعد أن كانت تحمل عنوان الحرمة صارت الآن تحمل عنوان الإباحة، الأمر الذي لا يُفهم إلا بعد التدقيق والدخول في تعقيدات الحياة لنعرف جميع العناوين التي تطرأ على المسائل، وهذا معنى تأثير الزمان والمكان في حركة الاجتهاد والفتوى، على حسب بعض التفسيرات لنظريّة الإمام الخميني في هذا الموضوع.

إذن، تعقيدات الواقع أعجزت الفقيه عن أن يتمكّن من الإمساك بكلّ هذه المساحة الضخمة من القضايا.

ب ـ تدفّق الواقع بمجموعة من الوقائع المستجدّة

إلى جانب تعقّد قضايا الواقع وتشابكها اليوم بحيث بات فهمُ صورة المسألة التي نريد الإفتاء فيها بالغَ الصعوبة، نلاحظ أنّها قد اتّسعت في مساحتها أيضاً، حيث يتدفّق الواقعُ كلّ يوم بمجموعة جديدة من الوقائع المستجدّة، وعلى الفقيه أن يخرج بنتيجة فقهيّة تجاه هذه المسائل العديدة، خاصّة على النظريّة السائدة في نطاق الشريعة، أي الشموليّة التفصيليّة بالنسبة إلى جميع وقائع الحياة.

لقد اهتمّ الفقه الإسلامي منذ قديم الأيام بالمسائل المستحدثة، فظهر ما يسمّى بـ«فقه النوازل» في الأوساط السنّية، و«فقه مستحدثات المسائل» في الأوساط الإماميّة، لكن هذه المسائل كانت في السابق محدودةً، وربما كان بإمكان الفقيه نفسه أن يستوعبها، أمّا اليوم فثمّة عددٌ هائل من مستحدثات المسائل التي تكثر يوماً بعد آخر، فإذا أخذنا اليوم الظاهرة البنكيّة والمصرفية وأسواق البورصة والعملات فقط، فسنجد أنّ هناك المئات من المسائل البنكيّة التي على الفقيه أن يتابعها ويجيب عنها باستمرار.

هل يستطيع فقيهٌ واحد أن يتابع جميع هذه المسائل العديدة متابعةً تفصيليّة دقيقة؟ أو كما يقول بعض الفقهاء المعاصرين ـ وهو السيد علي الخامنئي ـ: لا يكفي للإجابة عن مستحدثات المسائل أن نجلس ربع ساعة، ونتمسّك بعمومٍ قرآني هنا أو أصل عملي هناك وننتهي، بل لابدّ من التأمّل في الوجوه والأقوال، فلا يكفي فيها أن نتمسّك بأصل البراءة أو أصالة الإطلاق، بل لابدّ من تقليب وجهات النظر فيها، حتى نتمكّن من الوصول إلى النتيجة.

ج ـ تعقيدات الفقه الإسلامي نفسه

لقد تضخّم الفقه الإسلامي نفسه اليوم، حيث تراكمت جهود الكثير من العلماء والفقهاء طيلة قرابة أربعة عشر قرناً، فلم يعُد الفقه الإسلامي ذاك الفقهَ الذي كان في زمن الشيخ الطوسي (460هـ)، حيث كان يمكن للفقيه أن يكتب مجموعة (دورة) فقهيّة كاملة في مجلّداتٍ محدودة، بل إذا أردنا أن نكتب اليوم مجموعةً فقهيّة كاملة آخذين بعين الاعتبار مستحدثات المسائل، فلن يكفينا أربعمئة مجلّد.

هل يستطيع فقيهٌ واحد الآن أن يعالج كلّ هذه القضايا؟ وإذا فرضنا أنّه يستطيع أن يفعل ذلك، هل ما يفعله فقيهٌ واحد في معالجة هذه القضايا المعقّدة والكثيرة أكثر ضماناً وأمناً من قيام مجموعة من الفقهاء الكبار والمختصّين بها؟

إذن، هناك ثلاثة مبرّرات أساسيّة للذهاب نحو فكرة الاجتهاد الجماعي:

1 ـ تعقّد وتشابك وتواشج الظواهر الموجودة في الواقع المعاصر، على خلاف الحياة القديمة التي كانت الظواهر فيها بسيطةً.

2 ـ كثرة الظواهر والمستجدّات في عصرنا الحاضر بعد أن كانت بسيطة ومحدودة نسبيّاً في العصور السابقة.

3 ـ تطوّر الفقه وتوسّعه بشكلٍ كبير جداً بحيث قد يصبح الفقيه غيرَ قادر على أن يغطّي هذه المساحة الضخمة، وبطريقة تتّسم بجودة عالية في كلّ الأبواب الفقهيّة.

هذا كلّه يعني ـ كما يراه بعضٌ ـ صعوبةَ الاجتهاد المطلق الفقهي بعد هذا التوسّع الفعلي، حيث يمكن للفقيه أن يحصل على ملكة الاجتهاد المطلق، لكن لا يستطيع أن يمارس الاجتهاد المطلق فعليّاً في كلّ هذه المساحة الفقهيّة الهائلة وبجودة عالية.

من هنا، انبثقت فكرة الاجتهاد الجَماعي بالدعوة إلى تأسيس مجالس فقهيّة تضمّ مجموعة كبيرة من الفقهاء، تساندها مراكز دراسات ومختصّون في العلوم المختلفة من الطبّ والاقتصاد وغيرها، والذين يُردفون هذه المجالس بالتقارير اللازمة، ويوضّحون لهم موضوعات المسائل، لنخرج بنتائج فقهيّة أكثر ضماناً وسلامة من نتائج الاجتهاد الفردي.

المحور الثاني: صيغ الاجتهاد الجماعي

هناك عدّة صيغ لتصوير الاجتهاد الجماعي، ينبغي عدم الخلط بينها، وهي:

1 ـ تقسيم الفقه على الفقهاء.

2 ـ تقسيم جوانب المسألة بين الفقهاء.

3 ـ دراسة جميع المسائل من جميع الزوايا بالمشاركة.

الصيغة الأولى: تقسيم الفقه على الفقهاء

الطريقة الأولى لفكرة الاجتهاد الجماعي، هي أن نُقسّم الموضوعات والأبواب الفقهيّة بين الفقهاء، فبدل أن يكون هناك فقيهٌ واحد يجتهد في جميع الأبواب الفقهيّة، لكي تتوزّع طاقاته على كلّ أبواب الفقه.. نجعل عشر فقهاء مثلاً ونقسّم الأبحاث فيما بينهم، ونوزّع الأبواب الفقهيّة عليهم، ونخصّ كلّ واحد بمجالٍ محدّد يمثل اختصاصاً عالياً له، فبدل أن يشتغل على مساحة واسعة فتتلاشى طاقاته ويضعف عمقه وسيطرته على الموضوع.. نعطيه مجالاً أضيق ليبحث فيه، وهذه إشارة طرحها الشيخ المطهري في حينه.

وتبعاً لهذه الصيغة يكون كلّ فقيه في مجاله هو المرجع الذي نرجع إليه في هذا المجال، بل نتيجة تخصّصه هذا يتوقّع منه أن يكون أعلم من سائر الفقهاء في تناوله هذا الملفّ أو ذاك؛ لانشغاله به زمناً طويلاً واستغراقه في أعماق البحوث التفصيلية المرتبطة به، وهكذا.

وهذه الصيغة هي تعبيرٌ آخر عن الدعوة للتخصّص في الفقه، بمعنى تحويل الفقه من علم واحد إلى سلسلة من الاختصاصات التي تدور حول عناوين متنوّعة يحتويها الفقه الإسلامي، مثل الفقه السياسي، والفقه العبادي، والفقه الاقتصادي، والفقه الاُسري، والفقه الجنائي، والفقه الجزائي، وغير ذلك.

ومن الطبيعي أن تكون هناك مساحة متداخلة بين هذه الاختصاصات، كما ومن الطبيعي أن جميع هذه الاختصاصات تحتاج إلى دراسة أصوليّة تحتية ومعرفة بَيْنِيَّة تمكّن الفقيه من التخصّص في هذا المجال أو ذاك زائداً على طبيعة الجانب التخصّصي الذي عنده، مثل البحوث اللغوية والأصولية والفهم الفقهي العام وغير ذلك.

الصيغة الثانية: تقسيم جوانب المسألة بين الفقهاء

الصيغة الثانيّة التي تُتصوّر في الاجتهاد الجماعي، هي أن يتداول هذا المجلسُ الفقهي كلّ المسائل الفقهيّة، بحيث يشارك كلّ عضو من أعضاء هذا المجلس في دراسة جميع المسائل الفقهيّة، غاية الأمر بما أنّ هذه المسائل الفقهيّة لها جوانب متعدّدة، نوكِل لكلّ فقيه ـ حسب تخصّصه ـ دراسة جانب معين من جوانب هذه المسائل.

وعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نبحث في مسألة معيّنة، علينا أن نذهب إلى الآيات والروايات وأسانيدها ومدى صحّتها وتعارض الروايات مع بعضها، ومقتضيات الاصول العمليّة فيها ونحو ذلك، فهناك مساحة متنوّعة من الأبحاث، فبدل أن يأتي فقيهٌ واحد ويبحث في كلّ هذه الجوانب للمسألة الواحدة، نكلّف كلّ شخص بجانب من جوانب المسألة، فيقوم فقيهٌ بدراسة الروايات الصحيحة، والثاني يهتمُّ بحلّ التعارض بين الروايات، والثالث يتمحّض في مجال الفقه القرآني ليُخرج رؤيةً قرآنيّة في تلك المسألة لنعرُض الروايات عليها، ورابع يدرس مقتضى الأصول العمليّة في المسألة، وبهذا الطريقة يتمّ توزيع الأدوار، لكن في جميع المسائل.

الصيغة الثالثة: دراسة جميع المسائل من جميع الزوايا بالمشاركة

تعني هذه الصيغة أن يتداول المجلسُ الفقهي كلَّ المسائل على سياقٍ واحد، لكنّهم يشاركون في الخروج بالنتيجة النهائيّة، فالعقل الجمعي هو الذي يخرج بنتيجة معيّنة في كلّ المسائل، وهذا يعني أنّ مجموعة من الفقهاء الذين لهم آراء في المسألة يتناولون المسألة الفقهيّة من جميع الزوايا، ويتناقشون فيها، ثم يضعون نتيجة نهائيّة تخرج باسم المجمع الفقهيّ كلّه، من خلال ما تفرزه المناقشات وتقدّمه المعطيات.

اللجنة الاستشاريّة للمرجع خارج نطاق فكرة الاجتهاد الجماعي

الشيء الذي أودّ توضيحه هنا هو أنّ فكرة الاجتهاد الجماعي التي نتحدّث عنها هنا، لا علاقة لها بفكرة المجلس الاستشاري الإفتائي المتداولة عند عدد من مراجع الدين في الوسط الإمامي وغيره؛ لأنّ فكرة المجلس الاستشاري البحثي تعني أنّ المرجع يتناقش في الجوانب العلميّة للمسألة التي يريد الإفتاء بها، لكنّه في نهاية المطاف يكون هو المفتي الوحيد، وإذا لم يقتنع بأيّ من المناقشات التي يقدّمها المجلس الاستشاري المحيط به، فهو غير ملزم بها، بل عليه اتّباع قناعاته الخاصّة التي تمثل الحجّة بينه وبين ربّه تعالى؛ لأنّ هذه الشورى غير ملزمة له؛ انطلاقاً من أنّها لم تقع في سياق إداري، بل في سياق معرفي علمي.

ومن ثمّ، ففكرة المجلس الفقهي الاستشاري وإن كانت فكرةً مهمّة جداً ومطلوبة دوماً، بل هي قائمة في أكثر من مكان، لكنّها لا تساوي فكرة الاجتهاد الجماعي التي نتحدّث عنها هنا كما صار واضحاً الآن، بل فكرة الاجتهاد الجماعي تفضي لمرجعيّة متعدّدة بمعنى أنّ الفقه يصبح المرجع فيه مجموعة من الفقهاء، وليس فقيهاً واحداً، وأنّ هذا المجموع أو أغلبيّة هذا الجمع هم المرجع النهائي للأمّة في مجمل المسائل الفقهيّة.

المحور الثالث: من مستندات الاجتهاد الجماعي

استند الذين انتصروا لمسألة الاجتهاد الجماعي إلى أدلّة مختلفة، نستعرض أهمّها دون أن نتبنّاها أو نرفضها حالياً، ومنها:

القرآن الكريم: إنّ الآيات التي تدلّ على الأمر بالشورى، تؤيّد فكرة الاجتهاد الجماعي، حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاَةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(الشورى: 38)، حيث اعتبرت أنّ أمر المؤمنين يتحقّق من خلال الشورى، ومن مصاديق أمر المؤمنين الاجتهاداتُ الفقهيّة التي بها قوامهم في التشريعات الإسلاميّة.

وكذلك يأمر الله نبيّه‘ أنّ يُشاورَ أمّته، حيث قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159).

وبهذا استنتجوا أنّ النصوص القرآنية ترشدنا في كليّاتها وقواعدها إلى حُسن، بل ضرورة الشورى، التي تتجلّى في الاجتهاد الجماعي.

النصوص الحديثيّة: ثمّة كثير من النصوص الحديثيّة التي تدلّ على حُسن المشاورة، وعلى رجاحة عقل الإنسان عندما يتشاور مع الآخرين، فلماذا لا يكون هناك مجلسٌ فقهيّ أعلى، وهو الذي يتصدّى للإفتاء ويتشاور الفقهاء فيما بينهم فيه، ثمّ يُنضجون الرأيَ ويُعطون نتيجةً فقهيّة معيّنة؟

العقل والسيرة العقلائيّة: إضافةً إلى كون مبدأ الشورى مبدأ شرعي حثّت عليه النصوص الدينيّة، لكنّه في ذاته مبدأ عقلائي وعقلي أيضاً في الوقت نفسه، حيث يحكم العقلُ بحُسنه. وقد استمرّت سيرة العقلاء عليه منذ قديم الأيام، فالاجتهاد الجماعي اجتهادٌ أضمن من حيث النتائج؛ لأنّه عندما تتشارك عقولٌ متعدّدة في المسائل يمكن أن نتوصّل إلى شيءٍ أقرب إلى الواقع أو أوفق بإجراء القواعد وأكثر دقّةً في ذلك.

بل قد يقال بأنّ فكرة الاجتهاد الجماعي إذا رصدنا نحن البشر حسناتها وسيّئاتها، وتوصّلنا بخبراتنا البشريّة إلى كونها خياراً أفضل في إدارة عمليّة الاجتهاد والإفتاء، ولو في زماننا هذا على الأقلّ، فهذا كاف لمنحها الترجيح ما دام لا يوجد دليلٌ شرعيّ أو عقليّ نافٍ لها أو مانع عن اختيارها.

المحور الرابع: من إشكاليّات الاجتهاد الجماعي

في المقابل هناك عدّة إشكاليّات أمام فكرة الاجتهاد الجماعي، وعلى أنصار هذه الفكرة أن يقدّموا حلولاً منطقيّة لتجاوزها، ومنها:

1 ـ الاجتهاد الجماعي وإشكاليّة الحجيّة.

2 ـ الاجتهاد الجماعي ومناقضته لنظريّة وجوب تقليد الأعلم.

3 ـ الاجتهاد الجماعي والإشكاليّات العمليّة.

أوّلاً: الاجتهاد الجماعي وإشكاليّة الحجيّة

أهمّ إشكاليّة تواجه هذا الموضوع، هي حجيّة نتائج الاجتهاد الجماعي، الأمر الذي يزداد أشكلةً عندما اختلاف أعضاء المجلس الفقهي في الحكم على القضايا الفقهيّة، فما هو معيار حجيّة الأحكام الصادرة عن هذه المجامع الفقهيّة؟ وما هي الآليّة التي تستخدمُها المجالس الفقهيّة في المسائل الخلافيّة للخروج بنتائج فقهيّة؟

إذا تناول المجلس الفقهيّ القضايا الفقهيّة واختلف الأعضاء فيما بينهم، والاختلاف حالةٌ طبيعيّة في القضايا الفكريّة، فما هو الحلّ؟ فمن الذي يستطيع أن يحدّد الشكل الرسمي للفتوى الصادرة عن هذا المجمع الفقهي أو ذاك؟

إذا أخذنا بمعيار الترجيح بالأغلبيّة، فما هو الدليل على حجيّة قول الأغلبيّة في هذا الموضوع؟ ثمّ بالنسبة إلى الآخرين الذين يريدون تقليد هذا المرجع؛ لأنّ المجلس سيصبح بمثابة المرجع للتقليد، ما هو الدليل على أنّهم لابدّ أن يقلّدوا الأغلبيّة؟ ربما يكون في الأقلّية من هو في العلم أكثر من سائر المشاركين في مجلس الإفتاء هذا، أو تكون فتوى الأغلبيّة على خلاف قاعدة التيسير، فما هو الدليل على ضرورة أن نقلّد الأغلبيّة حينئذ؟ فتكون هناك مشكلة في حجيّة الأحكام الصادرة عن مجالس الإفتاء، لتكون لها مرجعيّة ذات طابع رسمي بحيث تقدر على أن تصدر الفتوى، وتُتبنّى فتاواها على مستوى الدولة والقوانين أو على مستوى الرأي العام.

لكنّ هذه الإشكالية إنّما ترد على الصيغة الثالثة من صيغ الاجتهاد الجماعي فقط؛ حيث يجتمع الفقهاء ويشاركون الرأي في جميع المسائل الفقهيّة ومن جميع جوانبها، أمّا على الصيغة الأولى والثانيّة فلا تأتي هذه الإشكاليّة من الأساس؛ لأنّ الصيغة الأولى افترضت أنّ كلّ فقيه يعمل في موضوع معيّن، فهو لا يتدخّل في عمل سائر الفقهاء لنتحدّث عن فرض الاختلاف، وكذلك في الصيغة الثانيّة، حيث يتناول كلّ فقيه جانباً معيّناً من المسألة تاركاً دراسة بقية الجوانب على عاتق الآخرين.

وبصرف النظر عن الإشكاليّة الثانية الآتية، إلا أنّ بإمكان قائلٍ أن يقول: لسنا بحاجة إلى دليلٍ خاصّ على شرعيّة تقليد الأغلبيّة، بل هذه الشرعيّة تأتي من قِبَل دليل حجيّة الفتوى نفسه، إذ هذه الأغلبيّة تتضمّن مجموعةً من الفقهاء، فإذا كان يمكن تقليد واحدٍ منهم فإنّه من الطبيعي أن يمكن تقليد مجموعتهم، ما دامت هذه المجموعة تمثل الأغلبيّة وتعتمد موقفاً واحداً.

لكنّ القضيّة كلّها في حصر مرجعيّة الإفتاء في موقف الأغلبيّة، بحيث يُقال للناس: لا يجوز تقليد غير الأغلبيّة في هذا المجلس، وهذا يعني أنّ حجيّة فتوى الأغلبية في المجمع الفقهي قائمة ولا مشكلة فيها، لكنّ المشكلة تكمن في حصر الحجيّة في فتوى الأغلبيّة، وهناك فرق بينهما، فإذا مال الجمهور بشكلٍ طبيعي للأخذ بقول الأغلبيّة من حيث اطمئنانه أكثر بذلك، كفى هذا الأمر في جعل قرار الأغلبيّة ذا قيمة موضوعيّة في الخارج وعلى المستوى العملي.

ويبقى أنّ التمييز في الحجيّة بين أصل الحجيّة وحصر الحجيّة يمكن أن ينفع على المستوى الفردي، بحيث يكون المكلّف ـ في غير حصر الحجيّة ـ قادراً على تبنّي فتوى المجلس الفقهي، لكن كيف هي الحال عندما نتناول القضايا الفقهيّة على مستوى المحاكم الشرعيّة وشؤون الدولة وتنظيم الأحوال الشخصيّة وغير ذلك؟ إنّ الأمر هنا لا يمكن ـ عمليّاً ـ أن نجعله فوضوياً، بل لابدّ من إطار يحكم عمل الوظائف هذه. وهنا يمكن الاستناد لحكم وليّ الأمر أو لإجماع المجلس الفقهي على لزوم العمل بقول أغلبيّته في الدوائر الرسميّة.

وطبعاً هذه تفاصيل تحتاج كلّها لملاحقات فقهيّة مطوّلة، لكنّنا نعرضها هنا لفتح نوافذ للتفكير والمراجعة.

ثانياً: الاجتهاد الجماعي ومناقضة نظريّة تقليد الأعلم

ثمّة نظريّة مطروحة بين مشهور فقهاء الإماميّة المتأخّرين، وهي لزوم تقليد الأعلم، فلو أخذنا بهذه النظريّة، كيف نستطيع أن نُرجع الناس إلى هذا المجمع الفقهي؛ لأنّ المفروض وجوب تقليد الأعلم، والأعلمُ لا يصدق إلا على فردٍ واحد، فيجب أن نبحث عن فردٍ واحد أعلم في هذه المجموعة، فكيف يجوز أن نترك هذا الأعلم من بينهم، ثمّ نذهب إلى رأي أكثرهم، أو إلى ما يصدر عن هذا المجلس بشكلٍ رسمي دون أن نحدّد رأي الأعلم فيه، فهناك مشكلة في شرعيّة مثل هذا المجمع إذا قُصد منه أن يحلّ محلّ مرجعيّة الإفتاء، أمّا إذا قُصد منه مجرّد سلسلة من اللقاءات البحثيّة التشاوريّة بهدف مساعدة المرجع الأعلم، وبعد ذلك يذهب المرجعُ الأعلم نفسه فيفتي، فهذا لا بأس به؛ لأنّه في الحقيقة تقليدٌ لذاك المجتهد الأعلم.

لكن إذا قُصد منها أن يحلَّ المجلسُ الفقهي هذا محلَّ الفقيه الفرد بحيث نتجاوز ظاهرة المرجع الفرد إلى ظاهرة المجالس المرجعيّة، فهذا ما سيكون على حساب نظريّة تقليد الأعلم التي ذهب إليها مشهور فقهاء الإماميّة المتأخّرين، بل ثمّة فقهاء كبار قديماً من أهل السنّة كانوا يميلون لشيء من ذلك ولو نسبيّاً، إذاً بأيّ وجهٍ نُلزم الناسَ بأن يرجعوا إلى هذا المجمع؟!

لا أريد أن أدخل في بحثٍ فقهي هنا، لكن للإثارة أشير إلى نقطة وهي: قد يقال في جواب هذه المناقضة بين الاجتهاد الجماعي ونظريّة تقليد الأعلم بأنّ الاجتهاد الجماعي لا يناقض روح نظريّة تقليد الأعلم، وإنّما يناقض الصورة الظاهريّة لهذه النظريّة، فعندما نراجع أقوال العلماء لنرى أدلّتهم على وجوب تقليد الأعلم، فمن عُمدة ما نجد في العادة منطلقان أساسيّان:

المنطلق الأوّل: أقربيّة تقليد الأعلم إلى الواقع.

المنطلق الثاني: قيام سيرة العقلاء على اتّباع الأعلم عند وقوع الاختلاف.

والاجتهادُ الجماعي لا يناقض أيّاً من هذين المنطلقين؛ لأنّ تقليد المجمع الفقهي أقرب إلى الواقع حتى من تقليد الأعلم الفرد وفقاً لحسابات الذين يستندون لفكرة الأقربيّة، ولا أقلّ من عدم وضوح أقربيّة قول الأعلم قياساً بقول الأغلبيّة في المجمع الفقهي، غاية الأمر أنّ علينا أن نشرط في أعضاء المجلس الفقهي أن يكونوا كبار فقهاء الأمّة أو من كبارهم، وليسوا مجرّد مجموعة من الباحثين أو الفضلاء البارزين في الحوزات العلميّة والمعاهد الدينيّة.

بل إنّ القول بنظريّة تقليد الأعلم/الطبقة، وليس الأعلم/الفرد، والتي ذهب إليها أمثال اُستاذنا السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (2018م) رضوان الله تعالى عليه، تمكّننا من حلّ معضل حجيّة فتوى الأغلبيّة ـ بصرف النظر عن موضوع الحصر الذي أشرنا له قبل قليل ـ لأنّ مرجع فكرة أعلميّة الطبقة هو أنّ الأعلم بالنسبة إلى غيره هو من يكون الفاصل بينه وبين غيره كبيراً وليس صغيراً، ومن ثم فالفواصل العلميّة الصغيرة بين كبار الفقهاء تعني أنّ تقليدَ أيّ واحدٍ منهم هو مبرئ للذمّة بحكم أنّ الطبقة صارت هي الأعلم، ولهذا يقول اُستاذنا الهاشمي: «ولابدّ وأن يُعلم أنّ مقصودنا من الأعلميّة من يكون الفاصل العلمي بينه وبين غيره معتدّاً به وكبيراً ومؤثراً في عمليّة الاستنباط الفقهي»([2]). وبهذه الطريقة نفرض أن المجلس يجب أن يحتوي كبار فقهاء الأمّة الذي يمثلون الأعلم/الطبقة، أو يكونون مشمولين لأعلميّة الطبقة، ومن ثمّ فتقليد أغلبيّتهم لا يناقض تقليد الأعلم.

وكذلك الحال في قضيّة قيام سيرة العقلاء على اتّباع الأعلم، إذ هي ليست مسألة تعبّديّة في حياة العقلاء، بل هي تنطلق من كون الرجوع للأعلم أضمن وأكثر طمأنينة بالنسبة إليهم؛ وعليه فهذا ما نجده في تقليد المجامع الفقهيّة التي تحتوي مجموعة من كبار الفقهاء من ذوي الرّتب العالية في العلم والتجربة، خاصّة مع قيام سيرة العقلاء كذلك على استخدام الشورى في أمورهم الكثيرة وتحسينها.

وهذا كلّه يعني أنّ نظريّة تقليد الأعلم إنّما عرفناها بصورتها النمطيّة المألوفة التي تلاحظ الحالة الفرديّة في الأعلم، ولو أنّنا تخلّينا عن صورتها الشكليّة وذهبنا لروح النظريّة، فإنّ مجال النقاش في تنزيلها بعينها على فكرة المجمع الفقهي ضمن شروط تُفرض في المشاركين بهذا المجمع، لن يكون عمليّة عسيرة جداً، بل ممكنة للغاية.

وعليه، فإذا كان ذهاب الفقهاء إلى نظريّة وجوب تقليد الأعلم من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وأنّ الناس عندما يختلف إثنان من أهل الاختصاص يرجعون إلى من هو الأعلم والأجدر والأقدر، فليس هذا إلا من جهة كون الرجوع إليه أقرب إلى الواقع وأكثر ضماناً من تقليد الفرد غير الأعلم، وربّما كان الفقهاء غير ملتفتين إلى صورة الاجتهاد الجماعي؛ لعدم كونها مثارة في عصرهم السابق، وكان نظرهم مقتصراً على حالات الاجتهاد الفردي الذي يدور أمره بين تقليد الأعلم وتقليد غيره.

فماذا يفعل العقلاء إذا رأوا الفقيه/الفرد الأعلم أعطى رأياً، وخالف فيه خمسين من كبار الفقهاء الآخرين في عصره والمشاركين في مجلس الإفتاء (وأنا هنا أسأل عن العقلاء بما هم عقلاء، بعيداً عن كونهم متأثرين بأيّ نظرية فقهيّة أو تربّوا على فضاء ديني معيّن)؟ هل يذهبون إلى تقليد الأعلم الفرد أو يرون أنّ قول الأغلبيّة يكون أقرب إلى الواقع وأكثر طمأنينة ما دام الفاصل العلمي بينه وبين هؤلاء المخالفين له ليس كبيراً، بل هم معه ضمن طبقة واحدة؟

ولنأخذ مثالاً عمليّاً: لو قال طبيبٌ حاذق ـ هو أعلم من غيره ـ شيئاً، لكن خالفه في الرأي خمسون طبيباً من كبار الأطباء المختصّين، فماذا يفعل العقلاء؟ هل يذهبون إلى رأي هذا الفرد، حتة لو كان أعلم منهم برتبة بسيطة؟ وإذا ذهبوا إليه هل يرون الذهاب إلى خيار تقليد الخمسين الآخرين مذموماً بحيث يَسلبون عن هذا الرجوع إلى الخمسين الاعتبارَ والحجيّة؟! ويكفيني الشكّ هنا حتى لا تجري قاعدة لزوم تقليد الأعلم في هذه الحال.

من هنا، قد يدّعي أحدٌ بأنّ الاجتهاد الجماعي يقدَّم على تقليد الفرد لو توفّرت مثل هذه المجامع، من حيث كونه أقرب إلى مطابقة الواقع نوعاً وأكثر ضماناً وسلامة وطمأنينة، ويكفي كونه مشروعاً حتى لو لم نُثبت كونه متعيّناً؛ لأنّ الغرض في هذه المرحلة هو فتح كوّة في جدار التحفّظ على فكرة المجمع الفقهيّ.

هذا كلّه على فرض صحّة نظريّة وجوب تقليد الأعلم مبدئياً، أمّا لو ناقشنا في أصل هذه النظريّة من الأساس، فلا يبقى وجهٌ لهذا الإشكال.

وربما يمكن طرح وجهة نظر متواضعة هنا في مسألة تقليد الأعلم ـ والمقام ليس مقام البحث التفصيلي ـ وهي أنّ العقلاء لا يعرفون شيئاً ـ بعنوانه وعلى نحو الموضوعيّة ـ اسمُه تقليد الأعلم، كلّ ما في الأمر أنّ العقلاء بطبيعتهم يبحثون عن تحقيق الاطمئنان المعرفي والسلوكي، كما شرحنا ذلك مراراً في كتبنا حول حجيّة الحديث، ولهذا فعندما نراهم يرجعون للأعلم أحياناً، فليس من باب وجود عنوان موضوعي قائم بنفسه عندهم اسمه وجوب تقليد الأعلم، بل من باب حصول الاطمئنان لهم بالرجوع إليه وعدم حصول هذا الاطمئنان بالرجوع إلى غيره عند الاختلاف، الأمر الذي يجعل مسألة الرجوع للأعلم من صغريات مسألة حجيّة الوثوق والاطمئنان لا غير، وهذا يعني أنّ علينا ونحن نبحث قضيّة تقليد الأعلم أن لا ننسى الأصل الذي قامت عليه، ومن ثَمّ فليس لنا الإفتاء بوجوب تقليد الأعلم بقول مطلق، بل علينا تغيير شكل الفتوى لتصبح على الشكل الآتي: يجب في المرجع الذي يتمّ تقليده في هذه المسألة أو تلك أو في مجموع المسائل الفقهيّة أن يكون المكلّف بحيث يحصل له نوع سكون نفس في الرجوع إليه، فلو لم يشعر بالطمأنينة في ذلك ـ لسببٍ أو لآخر ـ فلا يلزمه تقليده في المسألة التي لا يطمئنّ لعلمه فيها أو في مجموع المسائل لو كان عدم اطمئنانه شاملاً لكلّ بحوثه وآرائه التي يختلف فيها مع غيره. وقد حقّقنا في محلّه([3]) أنّ حجية قول أهل الخبرة مشروطة بحصول الوثوق والاطمئنان الشخصي في هذا الرجوع، وفاقاً لغير واحدٍ من العلماء في هذه القضيّة (قول أهل الخبرة).

وتفصيل بحث تقليد الأعلم نَكِله إلى فرصة أخرى، خاصّة لجهة حالة فقدان الإنسان أحياناً الوثوق والطمأنينة بقول من الأقوال ودخوله في مرحلة الحيرة أو عدم القدرة على اتخاذ موقف، فهل المرجعيّة هنا ـ حيث لا تقليد لمعيّنٍ بعدُ ولا اجتهاد عند المكلّف ـ هي للاحتياط، كما عليه مشهور المتأخّرين، أو للتخيير والتبعيض ونحو ذلك انطلاقاً من بعض الوجوه التي لا مجال لبحثها هنا..؟ هذا كلّه يحتاج إلى بحث وفيه كلام كثير.

وبناء عليه، فالمكلّف الذي يرى عدم حصول اطمئنان عنده بقول الأعلم، وهو يخالف في قوله خمسين من كبار الفقهاء في عصره مثلاً، ليس لنا إلزامه بالأخذ بقول الأعلم هنا انطلاقاً من وجهة النظر هذه.

ثالثاً: الإشكاليّة العمليّة، الإمكانات والظروف والمخاطر

كانت الإشكاليّتان السابقتان تتركّزان على أصل وجه الحجيّة في فتوى المجمع الفقهي تارةً، وخصوصيّة مناقضتها لوجوب تقليد الأعلم تارةً أخرى، ومن ثم فمرجع الإشكاليّتين المتقدّمتين إلى جانبٍ نظري في الحجيّة، وإلى عنصر المشروعيّة في الإفتاء القائم على المجالس الفقهيّة.

أمّا هنا فلا نريد طرح شيء من هذا القبيل، بل إنّ الهواجس التي تطرحها الإشكاليّة الثالثة هي هواجس ومشكلات ميدانيّة، ومن ثم فهي مؤقّتة في العادة وتتبع طبيعة السياقات الزمكانيّة وظروف المجتمعات الإسلاميّة.

فمن هذه الهواجس والمشاكل:

أ ـ هاجس تعيين أعضاء المجلس الفقهيّ (قلق المصادرة وهمّ الحريّات)

فمن الذي يعيّن هؤلاء الأعضاء؟ ولماذا يدخل في عضويّة هذا المجمع الفقهي زيدٌ ولا يدخله عمرو؟ وهل أنّ فكرةً من هذا القبيل سوف تضع الإفتاء والمرجعيّة تحت سلطة التيّار النافذ في المؤسّسة الدينيّة أو في النظام السياسي في البلد أو لا؟ وهل سيعني هذا المجمع نهاية عصر التنوّع في الفتوى، وهو التنوّع الذي يفتح الطريق في كثير من الأحيان على المكلّفين ويجعلهم في فسحة من أمرهم ما دامت هذه كلّها اجتهادات مشروعة؟ هل تحويل الإفتاء والمرجعيّة إلى مؤسّسة يمكن أن يُنهي عصر الإبداعات الفرديّة ويكون على حساب تنمية الطاقات الفرديّة، خاصّة وأنّ الشرقَ يُعرف بكونه مُنْتِجَاً للعمالقة الأفراد وليس لمؤسّسات عملاقة مبدعة؟

ب ـ هاجس الاختلاف بين المجالس الفقهية لو تعدّدت

الهاجس الأوّل كان في الغالب متركّزاً على حالة حصر المرجعيّة العالميّة بمجمع فقهي واحد، أمّا الآن فنفرض تعدّد المجامع الفقهيّة، وهنا ثمّة أسئلة من نوع: ما هو الموقف من اختلاف المجامع الفقهيّة؟ وما الخاصية الإضافيّة التي يمكن أن تكون هذه المجامع قد حقّقتها وهي بنفسها اليوم تختلف وتعيد تكرار اختلاف الفقهاء الأفراد؟ فما هو الجديد في الأمر على مستوى الفتاوى والإفتاء، ولا نتكلّم على مستوى البحث العلمي فقط؟

ج ـ المجمع الفقهي ومشكلة التفكير المثالي

تسجّل ـ خاصّة في الوسط الإمامي ـ إشكاليّة هنا تدور حول مدى إمكان تحقّق مثل هذه المجامع الفقهيّة في ظلّ نظام مرجعي فردي مهيمن، فهل مناصرو الاجتهاد الجماعي والمجمع الفقهي الإفتائي خياليّون مثاليّون يفكّرون خارج التاريخ الحاضر ولا يلاحظون حجم التناقضات والتجاذبات والمشكلات التي نواجهها، بحيث إنّ اُمنياتٍ أقلّ من ذلك بكثير نحن نشعر أنّها أشبه بالمستحيلة في مجال التحقّق العيني..؟! فهل ينبغي أن نضيّع أوقاتنا ببحوث وموضوعات لا تملك فرصَ التحقّق العملي في لحظتنا أو الأفضل أن نفكّر في معالجات موضعيّة تردم حفرةً هنا وتُغلق كوّةً هناك؟

إلى غير ذلك من الإشكاليّات الميدانيّة التي يمكن أن تخطر في بالنا ونحن ندرس هذا الموضوع.

لكنّني رغم قناعتي بأنّ الوضع الميداني بالغ الصعوبة، غير أنّ ذلك لا يمنع من طرح مثل هذه الأفكار في الأوساط العلميّة والدينيّة، تمهيداً للتفكير في حلول لتفادي المشاكل الميدانيّة، بل هذه الإشكاليّات الميدانيّة بعينها يمكن أن تكون مادّة للبحث والتأمّل في كيفيّة التفكير في تخطّيها ولو بعد مدّة زمنيّة، فالأفكار التغييريّة الكبرى تبدأ من أفكار صغيرة تبدو وكأنّها تغرّد خارج السرب لكنّها لا تغيب عن الواقع، بل تسير معه بالتدريج.. علماً أنّ طرح مثل هذه الحلول ثم مناقشتها هو في نفسه أفضل من الانشغال بما لا طائل من ورائه من البحوث التي تحوّل العقل الإسلامي إلى عقل غارق في غيبوبة عن قضاياه المعاصرة، فعلينا أن نفكّر في هذه الحلول وندرس التجربة السنيّة التي مضى عليها قرابة نصف قرن حتى الآن، ونقوّمها، ثم نتخذ موقفاً من فكرة المجامع الفقهيّة سلباً أو إيجاباً، لنذهب لفكرة أخرى قد تكون أنضج إن شاء الله تعالى([4]).

خلاصة ونتائج

إنّ فكرة الاجتهاد الجماعي طُرحت نتيجة عدّة متطلّبات، منها: تعقيدات واقع القضايا الفقهيّة، وتدفّق المسائل المستحدثة وكثرتها، إضافةً إلى تضخّم الفقه الإسلامي نفسه.

وقد قدّمت عدّة صيغ لنظريّة الاجتهاد الجماعي:

أنّ نقسّم الأبواب الفقهيّة بين الفقهاء

أن نقسّم دراسة الجوانب المختلفة للمسائل بينهم

أن يتشاركوا في جميع المسائل ومن جميع الزوايا.

كما أنّ المستند الأساس لنظريّة الاجتهاد الجماعي يكمن في مبدأ الشورى الذي اعتبر عقليّاً وعقلائيّاً وفي الوقت نفسه دينياً وشرعيّاً حثّت عليه النصوص، هذا إلى جانب ما تقدّمه المجامع الفقهيّة ـ ولو نظريّاً ـ من خدمات في تطوير الدراسة والبحث الفقهي، لتكوين فتاوى أكثر دقّةً.

طبعاً هذه النظريّة كأكثر النظريّات الفكريّة، أمامها إشكاليّات عليها أن تتجاوزها، وعلى رأسها دينيّاً: إشكاليّة الحجيّة في الشرعيّة والانحصار، وإشكاليّة التصادم مع نظريّة تقليد الأعلم، إضافة لإشكاليات ميدانيّة متنوّعة.

هذا، وأقترح ـ أخيراً ـ على الاجتهاد الإسلامي أن ينطلق نحو «دراسة جدوى» لهذه المشاريع التي قد يقال بأنّها تستطيع أن تقدّم الاجتهاد إلى الأمام، فيمحّصها تمحيصاً واعياً، بعيداً عن التحيّزات الطائفيّة، والمنافع الشخصيّة، والقبليات المسبقة، والهواجس المتنوّعة، والشعارات الحماسيّة، والآمال الوهميّة غير الواقعيّة.. بل علينا التفكير بإمكان تخطّيها والذهاب نحو تطويرٍ أبعد منها يتخطّى نقاط ضعفها، وفي الوقت نفسه يعالج مشاكل الحالة القائمة بالفعل بيننا.

______________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في ندوة عقدت في قاعة المحاضرات في مسجد البهبهاني في الكويت عام 2013م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والإضافات والتوضيحات.

([2]) محمود الهاشمي، منهاج الصالحين 1: 11، الطبعة الثانية، 2011م.

([3]) راجع: حيدر حبّ الله، منطق النقد السندي 1: 94 ـ 98.

([4]) اُشير أخيراً إلى أنّ الكثير ممّا سجّل اليوم في الرسائل العمليّة على صيغة فتاوى فقهيّة ليس إلا تشخيص موضوعات، وكما صرّح الفقهاء أنفسهم، لا يجب، بل قد لا يجوز التقليد في الموضوعات غير المستنبطة.

وعلى سبيل المثال يقول السيد كاظم اليزدي: «محلّ التقليد ومورده هو الأحكام الفرعيّة العمليّة،‌ فلا يجري في أصول الدين، وفي مسائل أصول الفقه، ولا في مبادي الاستنباط‌ من النحو والصرف ونحوهما، ولا في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللغوية، ولا في الموضوعات الصرفة، فلو شكّ المقلّد في مائع أنّه خمرٌ أو خلّ مثلاً وقال المجتهد: إنّه خمر، لا يجوز له تقليده. نعم من حيث إنّه مخبرٌ عادل يُقبل قوله، كما في إخبار العامي العادل، وهكذا. وأما الموضوعات المستنبطة الشرعيّة كالصلاة و الصوم ونحوهما، فيجري التقليد فيها كالأحكام العمليّة». العروة الوثقى 1: 24.

والموضوعات على أربعة أقسام:

1 ـ الموضوعات الخارجيّة الصرفة: وهي الموضوعات الخارجيّة التي لا يحتاج تشخيصها وتعيينها إلى أيّ استنباط فقهي، فيتساوى فيها المكلّف والمرجع، مثل تشخيص الدم في الخارج، فإنّ الحكم الشرعي ليس إلا حرمة أكل الدم، أما تعيين الدم خارجاً فهو لا يحتاج إلى استنباط شرعي، كي نرجع إلى المجتهد فيه، بل ربّما يكون المكلّف أولى بتشخيصه إذا كان يتعلّق باختصاصه ولم يكن المرجع من أهل ذاك الاختصاص، فلا يجب بل قد لا يجوز التقليد في مثل هذه الموضوعات.

2 ـ الموضوعات اللغويّة: وهي الموضوعات التي تحتاج معرفتها إلى جهد لغوي، فهو أيضاً خارج عن اختصاص الفقيه، فلا موضع لتقليد الفقيه فيه، إلا إذا كان الفقيه نفسه من علماء اللغة أيضاً.

3 ـ الموضوعات المستنبطة عرفاً: وهي الموضوعات التي تحتاج معرفتها إلى الرجوع إلى أهل العرف، كمفهوم «الوطن»، وهذه ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب التقليد فيها، فيما ذهب آخرون إلى عدم ذلك.

4 ـ الموضوعات المستنبطة شرعاً: وهي الموضوعات التي تحتاج معرفتها إلى استنباط شرعي، فهي مورد التقليد بالاتّفاق، مثل مفهوم «الصلاة» أو «الصوم» فيجب التقليد فيها.

فلا نخلطنّ بين الفتاوى الفقهيّة وبين تشخيص الموضوعات الصرفة؛ إذ يجب التقليد في الأوّل دون الثاني، وكثير من الأحكام التي نراها اليوم في الرسائل العمليّة ليست إلا تشخيص موضوع، وعلى سبيل المثال: إنّ الحكم المستنبط من النصوص الشرعيّة هو عدم جواز السجود على المأكول والملبوس، لكن يأتي الفقيه ليقول في رسالته العمليّة: يجوز (أو لا) يجوز السجود على ورق الشاي، لكنّ هذا ليس إلا تشخيصاً لموضوع خارجي صرف، حيث لا يكون وارداً في كتابٍ أو سنّة.

نعم، لا يحقّ للمكلّف أن يستعجل، فيستنكف عن العمل بالفتاوى الموجودة في الرسائل العمليّة، بذريعة أنّها من قبيل تشخيص الموضوعات، بل يحتاج إلى خبرة وسؤال؛ ليميّز الفتاوى التي من هذا النوع عن تلك التي من النوع الآخر، فالخبير المطّلع على هذه المدارك، يستطيع أن يميّز الفتاوى الفقهيّة عن تشخيص الموضوعات، فإذا كانت المواقف الموجودة في الرسائل العمليّة من قبيل تشخيص الموضوعات الخارجيّة مثلاً، فمن حقّ المكلّف أن يختلف مع الفقيه فيها.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً