أحدث المقالات

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: حسن الهاشمي

لو فكَّر كلُّ واحدٍ منا على نمطٍ واحد لما فكّر أيُّ واحدٍ منّا. (فولتير ليبمان).

1ـ مدخلٌ

بحثنا في موضعٍ آخر طرق الحلّ التقليدية المقترحة لتحسين قابلية وفاعلية الفقه في مواجهة تحدِّيات العصر الجديد، ولم يكن أيٌّ منها ناجعاً وتامّاً. وكما ذكرنا فإن عدم جدوائية وعدم تمامية هذه الحلول إنما تنشأ عن أنها تأخذ العقلانية الفقهية القائمة أمراً مفروغاً عنه، حيث يقوم التصوُّر على أنها خالية من كلّ عيبٍ أو نقص أو شائبة. وقد أمَطْنا اللثام عن بعض أهمّ نقاط الضعف التي تعاني منها العقلانية الفقهية الراهنة. ونرى أن العلاج الصحيح في هذا الشأن يكمن في العودة إلى العقلانية العُرْفية، وإعادة النظر في معايير العقلانية الفقهية، والعمل على تصحيحها في ظلّ العقلانية العُرْفية. وبعبارةٍ أخرى: نرى أن المشكلة التي يواجهها الفقه في العصر الراهن تنبثق من المباني والقواعد المعرفية أو أخلاق الاجتهاد أو أخلاق التحقيق والبحث الفقهي، ومن هنا فإن حلّ هذه المشكلة رَهْنٌ بإصلاح تلك المباني والأخلاق. وهنا سوف نبحث في بعض الحلول الحديثة أيضاً. وإن من أهمّ هذه الحلول الهامة: «القبض والبسط النظري للفقه»، و«بسط تجربة الفقه النبوي»، و«الترجمة الثقافية للنصوص الدينية». إن هذه الحلول في الحقيقة مستفادةٌ من ثلاث نظريات مختلفة، تمّ عرضها أو شرحها وبسطها من قبل بعض المفكِّرين الجُدُد في الشأن الديني، وخاصّة الدكتور عبد الكريم سروش. وبطبيعة الحال إن دائرة هذه النظريات أوسع من الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة، بمعنى «الشريعة» و«الفقه»، وتشمل مجموع الدين والمعرفة الدينية، إلاّ أننا سوف نقتصر هنا على مجرّد بحث نتائج تطبيق هذه النظريات على خصوص الفقه والشريعة. وسوف نبحث هذه النظريات الثلاث.

إن نظرية القبض والبسط النظري للشريعة، أو نظرية تكامل المعرفة الدينية، نظرية في مجال تحوُّل أو تكامل المعرفة الدينية. منذ نشر مقالات القبض والبسط وحتى الآن تمّ نشر الكثير من الكتب والمقالات في نقد هذه النظرية. إن القبض والبسط نظريةٌ بشرية، ولذلك فهي قابلةٌ للنقد والإصلاح والتشذيب. وقد صرّح الدكتور سروش بأن هذه النظرية تشمل نفسها أيضاً؛ إذ يمكن أن تكون لهذه النظرية أفهامٌ وتفسيرات مختلفة، وأن تكون لها إدراكاتٌ سطحية وعميقة وأكثر عمقاً([1]). إن لهذه النظرية فرضيات كثيرة، وإن دراستها بأجمعها يحتاج إلى متَّسع لا يستوعبه هذا البحث. وسوف نسعى هنا في البداية إلى تقديم تقريرٍ مختصر لهذه النظرية، ومن ثم نخوض في بيان بعض الملاحظات والانتقادات التي يمكن طرحها على هذه النظرية من وجهة نظرنا. إن نقدنا لنظرية القبض والبسط نقدٌ متعاطف، فنحن في المجموع نوافق هذه النظرية، وفي الوقت نفسه نعتقد بأن هذه النظرية تشتمل على بعض موارد الغموض، فهي بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الشرح والبسط والتنقيح والتكميل.

2ـ إطلالةٌ على نظرية القبض والبسط

لخَّص الدكتور سروش ادّعاء القبض والبسط في الأصول الثلاثة التالية:

1ـ إن الفهم (الصحيح أو السقيم) للشريعة مُستفادٌ ومُستَمَدٌّ بأجمعه من المعارف البشرية، ومتناسب معها. وإن بين المعرفة الدينية وغير الدينية تعاطياً وحواراً متواصلاً (أصل التزويد والتناسب).

2ـ لو تعرّضت المعارف البشرية للقبض والبسط فإن فهمنا للشريعة، تَبَعاً لذلك، سيتعرَّض للقبض والبسط أيضاً.

3ـ تتعرَّض المعارف البشرية (فهم الإنسان للطبيعة والوجود والعلم والفلسفة) للتحوّل والقبض والبسط (أصل التحوّل)([2]).

وفي هذا القسم سوف تكون لنا جولةٌ سريعة على أهمّ فرضيات وأركان نظرية القبض والبسط. إن لهذه النظرية ـ من وجهة نظرنا ـ «ذاتيات» و«عرضيات». ويبدو أن تفكيكها نافعٌ وضروري. لا نهدف في هذا المقام إلى بيان صورةٍ جامعة وكاملة لنظرية القبض والبسط، وإنما سنكتفي بشكلٍ خاص بتلك الأبعاد والزوايا التي تبدو قابلةً للنقد من هذه النظرية، والتي تبدو بحاجةٍ إلى المزيد من الدراسة والبحث والتمحيص([3]).

أـ الدافع من طرح نظرية القبض والبسط

إن دراسة الدافع الكامن وراء بيان نظريةٍ ما تساعد على فهمها الصحيح أو الأفضل والأعمق؛ لأن كلّ نظريةٍ يُراد منها حلّ مسألةٍ، ولا شَكَّ في أن إدراك تلك المسألة سوف يساعد على الفهم الصحيح أو الأفضل. من هنا فإن الخوض في دوافع طرح النظرية إذا كان من أجل الإدراك الصحيح أو الأفضل لن يستلزم ذلك الخلط بين «الدافع» و«الحكم» بشأن صحّة وخطأ أو حُسْن وقُبْح «الحكم» على أساس «الدافع» (مقام الفهم والتصوّر هو غير مقام الحكم والتصديق).

ذهب الدكتور سروش، من خلال إطلالته على المسيرة التاريخية لإحياء الدين في العالم الإسلامي، ودراسة النظريات الجديدة، إلى نتيجةٍ مفادُها أن المجدِّدين التقليديين كانوا بصدد إعادة الحياة لجوهر الدين، ورفع الدين إلى منزلته اللائقة، إلاّ أن الهمّ الرئيس الذي يشغل بال المجدِّدين في عصر الحداثة يكمن في الجمع بين «الثابت» و«المتغيِّر»، أو على حدِّ تعبير إقبال اللاهوري: «التوفيق والمواءمة بين الخلود والتغيير»([4]). يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن المجدِّدين المعاصرين يواجهون مشكلةً كبيرة، وهي على حدِّ تعبيرنا عبارةٌ عن: «مفارقة التجديد».

ويمكن تقرير مفارقة التجديد في إطار قضية شرطية منفصلة تقول: إما أن يكون الدين ناقصاً، وعندها يكون تجديده عَبَثاً، وإن إحياءه هو من شؤون الأنبياء، وليس من شؤون المجدِّدين، لأن وظيفة المجدِّد هي التفسير، دون التشريع؛ أو أن يكون كاملاً، فيكون تجديده وإحياؤه في هذه الحالة من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع، وتَبَعاً لذلك لن يكون هناك من معنىً معقول لمفهوم التجديد الديني.

إن دافع الدكتور سروش من وراء طرح نظرية القبض والبسط في الحقيقة هو بيان الحلّ المناسب لهذه المفارقة؛ إذ يقول: «إن التوفيق بين الأبدية والتغيير، والمقدّس وغير المقدّس، والفصل بين الثابت والمتغيّر، والظرف والمظروف، وإحياء الاجتهاد، والعثور على الفقهاء المندفعين، وإحداث نقلة في الفقه وحفظ الروح وتغيير الصورة، والتوفيق بين الإسلام والعصر، والتأسيس لكلامٍ جديد، كان ولا يزال غاية مطمح لعموم المصلحين. أقول: إن هذا التوفيق بحاجةٍ إلى نظرية معرفية، وهذا هو ما يمكن لنظرية القبض والبسط النظري للشريعة أن تضعه بين أيدي المصلحين والمجدِّدين بكلّ تواضعٍ. إن الحلقة المفقودة في جهودهم تكمن في أنهم لم يكونوا يرَوْن فرقاً بين الدين والمعرفة الدينية، ولم يكونوا يعتبرون المعرفة الدينية معرفةً بشرية، كسائر المعارف الأخرى، وهذا الأمر هو الذي كان يؤدّي بأحكامهم إلى الوقوع في مطبّات التعارض أحياناً، أو أن يزوغ الحلّ المطلوب من بين أيديهم»([5]).

وبعبارةٍ أخرى: إن حلّ مفارقة التجديد رَهْنٌ بفصل «الدين» عن «المعرفة الدينية». ومن خلال هذا الفصل يمكن للمجدِّدين أن يبيِّنوا أن موضوع ودائرة التجديد المنشود لهم ليس هو ذات الدين، وإنما هو المعرفة الدينية، بمعنى أن المعرفة الدينية هي التي تتعرَّض للنقص والانحطاط، وتكون بحاجةٍ إلى الإصلاح والتجديد والتكميل، وليس ذات الدين. إن الدين أمرٌ مقدَّس وسماوي وثابت وأبديّ ومنزَّه من العيب والنقص، أما المعرفة الدينية فهي أمرٌ أرضيّ وبشريّ ومتغيِّر وناقص، وبحاجة إلى تجديد وإعادة نظر وتشذيب وإصلاح مستمرّ.

وعليه فإن الإصلاح الديني لا يعني إصلاح ذات الدين، بل يعني إصلاح المعرفة الدينية. بَيْدَ أن إصلاح المعرفة الدينية إنما يكون معقولاً ومنطقياً فيما إذا اعتبرنا هذه المعرفة «ناقصة وغير خالصة وغير كافية ومتأثِّرة بالثقافات»، وباختصارٍ: «بشرية» و«تاريخية»، وليست «مقدَّسة» و«ما فوق تاريخية»([6]). إن المجدِّدين، «وهم خبراء مخلصون في الشأن الديني، يرجِّحون فهماً للدين على فهمٍ آخر (لا أنهم يرجِّحون كلمتهم على كلمة الدين). ومن خلال القول بخلود الكتاب والسنّة نجعل معرفتنا للدين متجدِّدة ومتكاملة، والذي يكون ثابتاً هو الدين، وأما المتغيِّر فهي معرفتنا الدينية، وهكذا تحدث المواءمة بين الأبدية والتغيير»([7]).

ب ـ فصل «الدين» عن «المعرفة الدينية»

إن نقطة انطلاق نظرية القبض والبسط تبدأ من طرح «الفصل بين الدين والمعرفة الدينية». إن هذا الفصل يمثِّل أحد أهمّ مقدّمات أو ذاتيات نظرية القبض والبسط. وقد عمد الدكتور سروش في فصل الدين عن المعرفة الدينية إلى التأكيد على اختلاف خصائص وآثار وعلامات هذين الأمرين([8]).

وإن هذه الخصائص والآثار عبارةٌ عن:

1ـ خلوّ الدين من الاختلاف والتعارض والتناقض، بينما المعرفة الدينية مفعمةٌ بهذه الأمور.

2ـ اشتمال الدين على كلّ ما هو حقٌّ، واختلاط المعرفة الدينية بالحقّ والباطل.

3ـ اكتمال الدين، ونقصان المعرفة الدينية.

ينطلق الدكتور سروش من اختلاف الخصائص والآثار الدينية والمعرفة الدينية، وكون الدين ذا منشأٍ إلهيّ وقدسي، بينما مناشئ المعرفة الدينية بشرية بَحْتة، ليستنتج أن الدين «ثابت» والمعرفة الدينية «متغيِّرة»([9]).

إن لاعتبار «الدين» و«المعرفة الدينية» شيئاً واحداً، وتسرية أحكام وآثار الدين إلى المعرفة الدينية، عللاً وأسباباً متنوِّعة، تناول الدكتور سروش بعضها في كتاب القبض والبسط بالدراسة والتحليل. ومن بينها يمكن الإشارة إلى الأمور التالية:

1ـ انعدام الرؤية التاريخية.

2ـ العجز عن الرؤية الخارجية للدين والماوَرادينية؛ بسبب الجهل بالمعرفة التاريخية.

3ـ القول بالواقعية المجرَّدة بفعل الفهم الخاطئ لطبيعة الحقيقة، والتشكيك، والنسبية، والواقعية، والبنية الإدراكية للإنسان، وآلية عمل القوّة العاقلة.

4ـ الفهم الخاطئ لحجّية الظنون.

5ـ الغفلة عن هندسة وجغرافيا المعرفة.

6ـ الفهم الخاطئ لصفاء وخلوص الفكر الديني.

7ـ تجاهل الركن الخارجي من المعرفة الدينية، وإنكار سكوت الشريعة.

8ـ الحَتْمية والاستبداد المعرفي.

ولكنْ، مضافاً إلى هذه العناصر ذات الصبغة المعرفية، هناك عوامل أخرى أيضاً مؤثِّرة في هذا الشأن، هي أوّلاً وبالذات ذات صبغة «أنطولوجية»، بمعنى أنها تتحدّث عن ذات الدين، وليس عن المعرفة الدينية، وإنْ كان الفهم الخاطئ لهذه الأمور يترك تأثيراً مباشراً على المعرفة الدينية للفرد. وإن بعض هذه العناصر على النحو التالي:

1ـ الفهم الخاطئ لكمال الدين وخلوده.

2ـ الفهم الخاطئ للمساحة الدينية، واعتبارها مطلقة، وتقسيم كلّ شيء إلى: ديني؛ وغير ديني، أو إلى: إسلامي؛ وغير إسلامي.

3ـ الفهم الخاطئ للخاتمية.

4ـ الفهم الخاطئ للعصمة.

5ـ الفهم الخاطئ لسرّ حاجة الإنسان إلى الدين.

6ـ تجاهل الناحية البشرية والتاريخية من الدين وأولياء الدين.

ج ـ أنواع المعرفة

إن من بين المسائل الدخيلة في تصوُّر وتصديق نظرية القبض والبسط التفكيك بين أنواع المعرفة. وإن هذا التفكيك يمثِّل في حقيقته واحداً من مبادئ أو مقدّمات نظرية القبض والبسط. وقد عمل الدكتور سروش على الفصل والتفكيك بين نوعين من أنواع المعرفة، وهما:

1ـ المعرفة السابقة.

2ـ المعرفة اللاحقة.

إن هذين النوعين من المعرفة يختلفان عن بعضهما من جهاتٍ متعدّدة. يستخدم الدكتور سروش مصطلح المعرفة السابقة للإشارة إلى جانبٍ من «الميتافيزيقا» أو «ما بعد الطبيعة»، التي يتمّ فيها بحث «وجود» و«ماهية» العلم، وطريقة ظهور التصوُّرات والتصديقات في ذهن الإنسان. إن موضوع المعرفة السابقة هو العلم بمعنى الصورة الذهنية الموجودة في ذهن آحاد الأفراد. يمكن تسمية هذا النوع من المعرفة بـ «أنطولوجيا العلم» أو «ميتافيزيقا العلم». أما الحكماء والفلاسفة من المسلمين فيبحثون هذا النوع من المعرفة ضمن عنواني: «الوجود الذهني»؛ و«اتحاد العاقل والمعقول»، وأما في العالم الراهن فيتمّ تداول هذه المباحث في «السيكولوجيا الإدراكية»([10])، و«العلوم المعرفية»([11])، و«فلسفة الذهن»([12]).

إن الأسئلة المحورية التي تخضع لتحقيق هذا النوع من المعرفة عبارةٌ عن: «هل العلم موجودٌ في ذهننا؟»، أي «هل يمكن من الناحية الميتافيزيقية تقسيم الوجود إلى: وجود عيني؛ ووجود ذهني؟»، و«هل العلم جوهرٌ أم عرض (كيفية نفسانية أو إضافية) أم هو فاقدٌ للماهية أصلاً وفوق مقولة أو شكل من الوجود؟»، و«ما هي نسبة الوجود الذهني (المعلوم بالذات) إلى الشيء الخارجي (المعلوم بالعرض)؟»، أي «هل العلم بشيء يعني حضور ماهية ذلك الشيء في ذهن العالم، أم بمعنى حضور شبحه، أم بمعنى مجرّد إقامة نسبة معه؟»([13])، و«هل الصور الذهنية مجرّدة أم مادّية؟»، و«ما هي النسبة القائمة بين العلم والعالم والمعلوم؟».

إن المعرفة السابقة تبحث كذلك في سيكولوجيا المعرفة، بمعنى كيفية ظهور وتبلور التصوُّرات والتصديقات في الذهن أيضاً، وتعمل على إدراج المفاهيم الموجودة في الذهن ضمن مختلف المقولات([14]). إن اعتبار هذا النوع من المعرفة سابقاً يعني عدم وجود دَوْر فيها لمعرفة «تاريخ العلم»، «علم الاجتماع المعرفي»؛ لأن التحقيق في مجال وجود وماهية العلم بالمعنى المذكور لا يتوقَّف على الازدهار التاريخي للمعرفة، وتبلور الهوية القائمة والجماعية للعلم بفعل التعاطي بين العلماء. ومن هذه الناحية يمكن اعتبار هذا النوع من المعرفة نوعَ معرفةٍ من الدرجة الأولى.

ومن ناحية أخرى فإن الدكتور سروش يستعمل مصطلح المعرفة اللاحقة للإشارة إلى جانبٍ أو فرع من الفلسفة الحديثة، التي يُبْحَث فيها عن الهوية القائمة والجامعية للعلم، وربط الفروع العلمية المختلفة ببعضها، وبحث «هندسة» و«جغرافيا» المعرفة. إن هذا النوع من المعرفة يستند إلى «تاريخ العلم» تماماً، ويُعَدّ من المعارف الثانويّة. إن المعرفة اللاحقة تمثِّل أحد أهمّ فروع الفلسفة التحليلية في الغرب، وليس لها سابقةٌ في الفلسفة الإسلامية.

إن الموضوع الذي يُبْحَث في علم المعرفة اللاحقة ليس هو العلم بمعنى الصورة الذهنية، وإنما هو العلم بوصفه فرعاً علمياً يشمل مجموعة من آراء العلماء وأقوالهم الصحيحة والباطلة، وهي هويّةٌ جماعية قائمة ومستقلّة عن آحاد العلماء([15]). في هذا النوع من المعرفة يُعَدّ الرجوع إلى تاريخ العلم والتحقيق في مجال سلوك العلماء وأسلوبهم في الأخذ والعطاء ضرورةً حيويّة؛ لأن هذا النوع من المعرفة مسبوقٌ بالتحقُّق العيني للفرع العلمي مورد البحث، بمعنى أنه لولا الولادة والنموّ التاريخي للفرع العلمي ستكون المعرفة اللاحقة الناظرة له سالبةً بانتفاء الموضوع([16]). يُضاف إلى ذلك أن بعض فلاسفة العلم يذهبون إلى القول بأن المعرفة اللاحقة إنما هي في الحقيقة إصلاحٌ عقلاني لتاريخ العلم.

تكمن أهمّية الفصل والتفكيك بين هذين النوعين من المعرفة أوّلاً: في أن نظرية القبض والبسط ترتبط بدائرة المعرفة اللاحقة. وثانياً: لا يمكن الحكم بشأن صحّة أو خطأ هذه النظرية من خلال ما قاله الحكماء والفلاسفة المسلمون في مجال المعرفة اللاحقة. إن موضوع نظرية القبض والبسط هو المعرفة الدينية بوصفها فرعاً من فروع المعرفة، وليس آحاد القضايا المتعلِّقة بالمعرفة الدينية، ولا حتّى مجموع الآراء الحقّة أو الآراء الحقّة والباطلة المقبولة لعالمٍ دينيّ بعينه. إن المراد من المعرفة الدينية في نظرية القبض والبسط معرفة ممنهجة ومضبوطة لها هويّةٌ قائمة وجماعية، وهي خليطٌ من القضايا الصادقة والكاذبة. إن نظرية القبض والبسط ناظرةٌ إلى «هندسة» و«جغرافيا» هذه المعرفة، وتعمل على فحص وبيان الربط والنسبة القائمة بين هذا الفرع من المعرفة وسائر فروع المعرفة الأخرى.

أما التفكيك والفصل الهامّ الآخر الذي يتعيَّن علينا الإشارة إليه هنا فهو عبارةٌ عن: فصل «العلم في مقام التعريف» أو «العلم كما يجب أن يكون» عن «العلم في مقام التحقق» أو «العلم كما هو». إن العلم في مقام التعريف (أو مقام الوجوب) يتمتَّع بالخصائص التالية: «كامل»، و«حقّ مَحْض»، و«خالص» (مجموعة من القضايا الصادقة). وعلى هذا الأساس فإن العلم في مقام التعريف ـ كسائر الأمور الكاملة الأخرى ـ لا يقبل التحوُّل والتكامل، أما العلم في مقام التحقُّق (أو مقام الكينونة) فهو شيء «ناقص»، و«غير خالص» (خليط من الحقّ والباطل)، و«تاريخي»، وهو في حالة من التحوّل والتكامل المستمر. والمعرفة الدينية لا تستثنى من هذه القاعدة. بالالتفات إلى هذا التفكيك يمكن القول: إن موضوع نظرية القبض والبسط معرفة دينية في مقام التحقّق، وليست معرفة دينية في مقام التعريف([17]).

وبالإضافة إلى هذا فإن الدكتور سروش يفصل بين «مقام الحكم»([18]) و«مقام الكشف»([19]) أو «مقام الجمع»([20]). إن هذين المقامين موجودان في جميع فروع المعرفة. وإن المراد من أسلوب التحقيق في فرعٍ علميّ إنما هو في الحقيقة أسلوب التبرير أو الحكم والتقييم، وليس أسلوب جمع المواد الخامّ والمعطيات والنظريات. «إن إحدى ملاكات التكامل في أيّ معرفة التكامل في أساليب أحكامها»([21]). وعلى أيّ حالٍ إن الارتباط المعرفي للعلوم لا ينحصر بمقام الحكم، وإن مختلف فروع المعرفة تتعاطى فيما بينها في مقام الكشف والجمع.

د ـ أركان نظرية القبض والبسط

إن لنظرية القبض والبسط ثلاثة أركان رئيسة، وهي:

1ـ التوصيف.

2ـ التفسير.

3ـ التوصية.

إن ركن التوصيف يُثبت، من خلال الاستناد إلى الشواهد التاريخية المفصّلة، أن المعرفة الدينية طوال تاريخها كانت في حالة قبضٍ وبسط، وتحوُّل وتكامل. وأما ركن التفسير فيسعى إلى استكناه سرّ هذا التحوُّل والتكامل؛ ليقدِّم تفسيراً معرفياً لهذه الظاهرة. وبالتالي فإن الركن الثالث من هذه النظرية، وهو ركن التوصية، يقترح على المختصين والباحثين في الشأن الديني ـ انطلاقاً من ذلك التفسير ـ أنهم إذا أرادوا تنقيح وتكميل وعصرنة معرفتهم الدينية فعليهم شحذ الهِمَم من أجل تنقيح وتكميل وعصرنة المعلومات الماوَرادينية.

1ـ ركن التوصيف

لقد تمّ شرح وبيان ركن التوصيف من نظرية القبض والبسط بالحدّ الكافي. وهناك من الناقدين مَنْ خالف القبض والبسط على ما ادّعاه الدكتور سروش «برمّته» في باب تحوّل المعرفة الدينية، أي إن هؤلاء رفضوا توصيفه لتاريخ المعرفة الدينية؛ إذ يرَوْن أنه بالإمكان إثبات أن بعض أجزاء المعرفة الدينية (القطعيات) قد بقيت ثابتةً طوال التاريخ، وهذا يُمثِّل من وجهة نظرهم شاهداً نقضيّاً على تعميميّة ركن التوصيف من نظرية القبض والبسط.

بَيْدَ أن الدكتور سروش يجيب عن هذا الإشكال بجوابين:

الأوّل: إن الهدف الرئيس من نظرية القبض والبسط يكمن في بيان استناد وتَبَعية المعرفة الدينية للمعرفة غير الدينية، بمعنى أن المدّعى الجوهري لهذه النظرية عبارة عن أن المعرفة الدينية بشقَّيْها (الثابت والمتغيِّر) تابعةٌ في ثباتها وتغيُّرها لثبات وتغيُّر المعارف غير الدينية. وعليه فإن بقاء جزءٍ من المعرفة الدينية على ثباته ـ لو سلَّمنا به ـ لا ينقض ما تدَّعيه نظرية القبض والبسط؛ لأن ثبات فهم الدين لا يدلّ على استقلال واكتفاء المعرفة الدينية بذاتها، وعدم حاجتها إلى المبادئ الخارجية([22]). إن الخبير المعرفي يفسِّر سبب ثبات وتحوّل المعرفة، وليس بصدد إيجاد التحوُّل في المعرفة، أو الحفاظ على ثباتها([23]).

الثاني: إن المراد من التحوّل في الفهم ليس مجرّد «الانتقال من الحقّانية إلى البطلان، أو من البطلان إلى الحقّانية»([24]). وعلى هذا الأساس يمكن للقطعيات والضروريات والبديهيات الدينية والعلمية والرياضية والفلسفية أن تكون «ثابتةً»، إلا أن «فهمنا» لها هو الذي يتعرًّض للتغيُّر والتحوُّل. إن التأثير الذي يتركه تحوّل المعارف غير الدينية على المعرفة الدينية لا ينحصر في الإثبات (أو التأييد) والإبطال التصديقي، وإنما يشمل حتّى فهم وتصوّر الدعاوى الدينية أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إن ثبات التصديق ينسجم مع تحوّل الفهم، وإن المراد من التحوّل في نظرية القبض والبسط هو الأعمّ من التحوُّل التصديقي والتحوُّل التصوُّري. يمكن لنا أن نحصل على إدراكات سطحية وعميقة وأكثر عمقاً لقضيةٍ ما، وإن الإدراكات الطولية لمفردات قضيةٍ ما يمكن أن تجتمع مع ثبات تصديق تلك القضية. «إن الصدق والكذب ليس ذا مراتب، ولكنْ يمكن لفهم كلٍّ من القضية الصادقة أو الكاذبة أن يكون ذا مراتب»([25]).

2ـ ركن التفسير

إن ركن التفسير من نظرية القبض والبسط عبارةٌ عن: إصلاح عقلانية تاريخ المعرفة الدينية. وفي هذا الجانب يسعى الدكتور سروش إلى اكتشاف منطق التحوّل والقبض والبسط في المعرفة الدينية، وأن يعمل من خلال عرض مختلف الشواهد والأدلة على تأييد هذا المدَّعى القائل بأن ثبات وتحوُّل المعرفة الدينية يستند بشكلٍ كامل إلى ثبات وتحوُّل المعارف والعلوم البشرية وغير الدينية. يذكر الدكتور سروش مختلف العلاقات والروابط القائمة بين مختلف أنواع المعرفة. إن الربط أمرٌ معقول ونظري، وليس محسوساً ولا مشهوداً، وإن إنكاره وتصديقه إنما يمكن في ظلّ النظرية والخلفية المعرفية. وعلى هذا الأساس لا يمكن إبطال دعوى الربط من خلال التمثيل بنماذج لا يكون ربطُها مشهوداً. فلإبطال هذا المدَّعى يجب إثبات عدم وجود ربطٍ في تلك الموارد، أو عدم إمكان وجوده أصلاً([26]). إن مجرّد «عدم رؤية» الربط لا يصلح دليلاً لإثبات هذا المدَّعى القائل بـ «عدم وجود الربط».

يُضاف إلى ذلك أن ربط أمرين ببعضهما لا ينحصر بالربط الثبوتي (العلّي والمعلولي) والربط الإنتاجي (القياسي ـ المنطقي). وإن تمايز موضوعات العلوم من بعضها ووجود الحائل المنطقي بين مختلف فروع المعرفة لا ينفي وجود أنواع الروابط المعرفية بين فرعين علميّين.

أـ أنواع الارتباط بين مختلف فروع المعرفة

إن أحد أهمّ العلاقات القائمة بين مختلف العلوم عبارةٌ عن: «المنهج المعرفي»، وهي علاقةٌ غير قياسية، وغير منطقية، وتقع في مقام الإثبات، دون مقام الثبوت؛ فإن تصديق وتكذيب الدعاوى العلمية يقوم على مقدّمات معرفية، وهذه المقدّمات المعرفية مشتركة بين مختلف العلوم([27]). إن هذا النوع من العلاقة والربط شبيهٌ بالعلاقة والربط القائم بين البضائع المتنوِّعة التي يتمّ وزنها بميزانٍ واحد([28]). فليس هناك أيّ علاقةٍ أو نسبة ثبوتية وعينية أو قياسية ـ منطقية بين وزن البضائع المختلفة، وإن العلاقة والربط الوحيد الذي يمكن أن ندَّعيه هنا هو الربط المعرفي القائم بين علمنا بوزن البضاعة (أ)، وعلمنا بوزن البضاعة (ب) استناداً إلى ميزانٍ واحد. ليس هناك بين أوزان البضائع علاقة علّية ومعلولية، ولا يمكن من خلال القياس المنطقي أن نستنتج وزن البضاعة (ب) من خلال علمنا بوزن البضاعة (أ)، غير أن علمنا بوزن هاتين البضاعتين يستند إلى ميزانٍ واحد.

يرى الدكتور سروش أن تقسيم العلوم بحَسَب الموضوع ناظرٌ إلى مقام الثبوت، ومتعلِّقٌ بالمعرفة السابقة، في حين أن تقسيم العلوم بحَسَب الأسلوب ناظرٌ إلى مقام الإثبات، ومتعلِّقٌ بالمعرفة اللاحقة([29]). وهنا يعمل الدكتور سروش على فصل العلوم الحقيقية عن العلوم الاعتبارية، ويقسِّم العلوم الحقيقية إلى ثلاثة أقسام: «تاريخية» «نقلية»؛ و«تجريبية» «استقرائية»؛ و«عقلية»([30]). إن هذا التقسيم يأتي من حيث «أسلوب الحكم». إن وحدة الأسلوب تستوجب في مقام الإثبات أن ترتبط العلوم النقلية ببعضها، وأن ترتبط العلوم العقلية ببعضها، وأن ترتبط العلوم التجريبية ببعضها. «هناك ثلاثة موازين لقياس ثلاث مجموعات من المسائل. وإن أجزاء كلّ واحد من هذه المسائل ترتبط ببعضها بشكلٍ كامل؛ بسببٍ من وحدة المقياس»([31]).

إلاّ أن ارتباط العلوم ببعضها لا يقتصر على هذا المقدار، وإن العلوم النقلية والعقلية والتجريبية، رغم التمايز المعرفي فيما بينها، تتعاطى مع بعضها باستمرارٍ([32]). يمكن القول بمعنىً من المعاني: إن جميع العلوم مرتبطةٌ ببعضها من الناحية المعرفية. وإن هذا الترابط والاتحاد يتمّ عبر النظريات المعرفية الرابطة([33]). إن من شأن المعرفة الرابطة أن «تنظِّر في العقل والحسّ والمنطق واللغة والمنهج والحقيقة واليقين والإدراك والمعرفة، وأن تحكم من خلال تلك النظريات بشأن مختلف المعارف البشرية، وموقع كلّ واحدةٍ منها، وبيان جنسها، وأصناف النِّسَب والتبادل القائم بينها، وحجم إظهارها للواقع، ومستوى الوثوق بها والاعتماد عليها»([34])، وهذا هو معنى «اندراج وتناغم المعارف البشرية تحت نظريةٍ معرفية واحدة»([35]).

إن الربط المعرفي بين العلوم، في عين كونه ربطاً «منطقياً»، ليس «إنتاجياً»، ولا «قياسياً»، بمعنى أن استنتاج قضية علمية من المقدّمات الفلسفية الخالصة، وبالعكس، لا يزال مستحيلاً، وهكذا. وعلى هذا الأساس، وعلى الرغم من وجود الحائل المنطقي بين فروع المعرفة المختلفة، يمكن من خلال تركيب مقدّمات نقلية أو تجريبية مع مقدّمات عقلية، أو بالعكس، التوصُّل إلى نتائج جديدة، تعتبر من الناحية المنطقية مبرَّرة ومعتبرة، ولا تنقض الحائل المنطقي القائم بين الفروع المعرفية المختلفة. ومضافاً إلى ذلك هناك أنواع أخرى من التأثير والتأثُّر بين مختلف فروع المعرفة التي تمَّتْ دراستها وبحثها في القبض والبسط بالتفصيل.

إن للربط المعرفي أنواعاً مختلفة. وإن أحد هذه الأنواع هو الربط الإنتاجي ـ الاستهلاكي القائم بين العلوم «الاستهلاكية» والعلوم «الإنتاجية». في ظلّ هذا الربط يتمّ استهلاك بعض المقدّمات التي يتمّ إثباتها في فرعٍ من الفروع العلمية من قِبَل فرعٍ آخر، وإن القضية التي تعتبر مسألة في علمٍ تعتبر فرضية في علمٍ آخر. وعليه؛ بالالتفات إلى هذه العلاقة والربط، يمكن تقسيم العلوم إلى قسمين: العلوم «المنتجة» (الولودة)؛ والعلوم «المستهلكة» (المستوعبة). وإن الارتباط والاتحاد بين العلوم المنتجة والعلوم المستهلكة يتمّ عبر ثلاث طرق. وبعبارةٍ أخرى: يمكن لنا الفصل والتمييز بين ثلاثة أنواع من الإنتاجية وبين ثلاثة أنواع من الاستهلاكية:

النوع الأوّل: من طريق «توسيع دائرة الرؤية والتساؤل».

النوع الثاني: من طريق «توسيع وتضييق المعنى، وتوجيه فهم النصوص».

النوع الثالث: من طريق «فرض القيود، عبر تجاهل بعض الاحتمالات»([36]).

النوع الآخر من الربط المعرفي هو الربط «الحواري». وهذا الربط هو ذات الربط القائم بين السؤال والجواب. يمكن لنا أن نقدِّم عدّة إجاباتٍ عن سؤالٍ واحد، ففي الوقت الواحد يمكن أن نعطي لسؤالٍ واحد إجابات مرتبطة، وفي الوقت نفسه مختلفة. هناك من العلوم ما كأنه يُجيب عن تساؤلات العلوم الأخرى، ولذلك فإن هذه العلوم تؤثِّر في بعضها من حيث القبض والبسط، دون أن يكون هناك ارتباطٌ إنتاجي أو قياسي بينها([37]).

النوع الآخر من الربط بين مختلف فروع المعرفة هو الربط من خلال إثارة المسائل. فالعلوم المختلفة تعمل على إثارة المسائل لبعضها الآخر. فإن تطوّر كلّ علمٍ إلى حدٍّ ما رَهْنٌ بمواجهة ذلك العلم للمسائل الجديدة. وهذا غير الإجابة عن الأسئلة أو تلبية حاجة سائر العلوم. إلاّ أن المسائل الجديدة لا تنبثق من نفس العلم فقط([38]).

وهناك نوعٌ خاص من الارتباط المعرفي يرى الدكتور سروش أنه قائمٌ بين القضايا العلمية التجريبية فقط. وطبقاً لهذا الارتباط تكون القضايا، التي تبدو بحَسَب الظاهر غير مرتبطة، مرتبطةً في الحقيقة، وتؤيِّد بعضها. إن هذا الارتباط يتمّ بحثه في فلسفة العلم تحت عنوان «مفارقة التأييد»([39]).

وأخيراً هناك نوعٌ آخر من الارتباط بين جميع العلوم، وهو النوع الذي يقوم على قاعدة امتناع التناقض، ولزوم رفع التعارض([40]). إن اكتشاف مورد جديد، وهو المورد الذي يبدو بحَسَب الظاهر مبطلاً في واحدٍ من العلوم، من الممكن من الناحية المنطقية أن يسري إلى المبادئ البعيدة لذلك الفرع العلمي، والتي هي مبادئ لعلومٍ أخرى أيضاً، وقد يضطرّ العلماء؛ لرفع التعارض، إلى التصرّف في المبادئ البعيدة لعلمهم. وبطبيعة الحال فإن «أصل المحافظة» يُعَدّ واحداً من أركان المنهج العلمي، ولكنْ لإثبات وجود مثل هذا الربط يكفي أن نثبت أن إبطال المبادئ البعيدة والمشتركة بين تلك العلوم «ممكنٌ».

إن لجميع هذا الروابط طبيعةً معرفية، وليست من سنخ الروابط النفسية (تداعي المعاني)([41]). وإن كشف هذه الروابط إنما يتمّ عبر «المشاهدات المعرفية». ولكي نصل إلى هذه المشاهدات نضطرّ إلى النظر إلى الموضوع من «الزاوية المعرفية»([42]). إن حجّية التجربة (الاستقراء) والقياس والتواتر (وخبر الواحد) آراء معرفية؛ حيث إن المقدمات المنهجية في كلّ علمٍ متقدّمة عليه، فإن علم المعرفة متقدّم على فروع المعرفة الأخرى (الأعمّ من العقلية والنقلية والتجريبية). هناك بين فروع مختلف المعرفة حوائل منطقية، إلاّ أن هذه الحوائل لا تبطل الارتباط المعرفي بين العلوم([43]).

3ـ ركن التوصية

إن الركن الثالث من أركان نظرية القبض والبسط عبارةٌ عن ركن التوصية. وبالمقارنة مع الركنين الآخرين، اللذين تمّ البحث عنهما في القبض والبسط بشكلٍ مشبع ومسهب، لم يتمّ البحث في ركن التوصية إلاّ بشكلٍ محدود جدّاً. وفي هذا الشأن يقول الدكتور سروش: لو قبلنا بأن فهم الدين يستند إلى المباني الخارجية، وأن المعرفة الدينية تقوم على ركنين: داخلي؛ وخارجي، لا مندوحة لنا من القول بأن الفهم الصحيح للدين رهنٌ بتنقيح المبادئ الخارجية، بمعنى تنقيح مقدّمات فهم الكتاب والسنّة، والتي تؤخذ من خارج الدين، أي من العلم والفلسفة وما إلى ذلك، ويتمّ استهلاكها في المعرفة الدينية. إلاّ أن هذه التوصية لا تقوم على مغالطة «الوجوب» و«الكينونة»؛ لأن هذا الوجوب ليس «وجوباً» اعتبارياً، بل هو «وجوبٌ» «منطقي» و«منهجي». وإن «الواجبات» من النوع الثاني تستنتج من «الكينونات» الحقيقية([44]).

هـ ـ تبرير نظرية القبض والبسط

وفي ما يلي حان الوقت كي نرى ما هو التبرير أو التبريرات التي يمكن لنا أن نسوقها لصالح نظرية القبض والبسط.

إن ركن التوصيف من نظرية القبض والبسط لا يمكن تبريره أو تأييده إلاّ من خلال الشواهد التاريخية. إلاّ أن الدكتور سروش يتمسّك لإثبات ركن التفسير من هذه النظرية بمختلف الأدلة؛ إذ يقول: «إن الحوار المستمرّ بين مختلف أنواع المعارف البشرية ـ بما فيها المعرفة الدينية ـ، واستجابتها للمتغيّرات الحاصلة في بعضها، ومشاركتها في إيجابيات وسلبيات بعضها، وتناغمها وانسجامها المتواصل، وباختصارٍ: إن الهوية المشتركة للمعارف البشرية، أمرٌ قابل للتأييد والإثبات من الناحية المنطقية والاستقرائية»([45]).

إن مراد الدكتور سروش من «التأييد المنطقي» هنا عبارة عن تأييد المدَّعى من خلال التمسُّك بالقواعد المنطقية. إن المعلومات والمعطيات الجديدة التي تدخل إلى الذهن تكون نسبتها إلى المعلومات السابقة على ثلاثة أنحاء مختلفة، وهي:

1ـ الإبطال والتعارض.

2ـ التأييد.

3ـ الحياد.

إن المعطيات المؤيّدة للمعلومات السابقة تؤيّدها على المستوى المنطقي. والمعطيات المعارضة (والمبطلة) إما أن تستوجب رفع اليد عن المعلومات السابقة؛ أو أن تعمل على تغيير فهمها وتفسيرها. وهذا الأمر يقوم على أصلٍ منطقي، وهو الأصل القائل بامتناع واستحالة التناقض.

وكما هو واضحٌ فإن هذين الموردين إنما يؤيّدان دعوى القبض والبسط على نحوٍ «جزئي». وإن الدكتور سروش؛ لكي يثبت مدّعاه ونظريته بشكلٍ كامل، مضطرٌّ إلى إثبات أن المعطيات التي تبدو في ظاهرها حيادية إنما هي في واقعها مرتبطةٌ بالمعلومات السابقة. ولكي يثبت هذا الارتباط يعمد الدكتور سروش إلى الاستفادة من مفارقتين، وهما: «مفارقة التأييد»؛ و«مفارقة الرهان».

وفي ما يتعلَّق بمفارقة التأييد قال الدكتور سروش: «إن المنطق يعلمنا أن الحيادي ليس حيادياً، وإن فهمنا الراهن للأمور يترقَّب على الدوام ما الذي سيقوله المستقبل»([46]). وهذه المفارقة تقوم على قاعدةٍ منطقية في باب عكس النقيض. تقول هذه القاعدة: من الناحية المنطقية «تكون القضايا الحملية مساويةً (أو في قوّة) عكس نقيضها»([47])، أي إن نفي وإثبات وتأييد كلّ شيء يعادل نفي وإثبات وتأييد الآخر. وحيث إن الأمثلة التي تبدو في ظاهرها حيادية وغير ذات صلة مصداقٌ لعكس النقيض فإن تأييدها يكون تأييداً للقضية الأصل، والعكس كذلك أيضاً.

على سبيل المثال: إن عكس نقيض «كلّ ورقة خضراء» عبارةٌ عن: «كل ما ليس أخضر ليس بورقة». وعليه فإن العثور على مصداقٍ جديد للورقة الخضراء بحَسَب الظاهر لا ربط له بمعلوماتنا السابقة بشأن القضايا التي تتحدَّث عن «صفرة الأبقار» و«حمرة الأزهار» و«بياض الطيور» و«سواد الغربان»، ويبدو أنها حيادية بالنسبة إليها، بمعنى أنها بحَسَب الظاهر لا تؤيِّدها ولا تبطلها. بَيْدَ أن واقع الأمر ليس كذلك؛ لأن تأييد القضية القائلة: «كلّ ورقة خضراء» هو تأييدٌ لعكس نقيضها القائل: «كلّ ما ليس أخضر ليس بورقة» أيضاً، وإن تأييد «كلّ غير أخضر غير ورقة» يُعَدّ من الناحية المنطقية تأييداً للقضية القائلة: «كلّ بقرة صفراء»، و«كلّ حمامة بيضاء»، وما إلى ذلك، وهكذا العكس أيضاً.

وعليه فإن الأمور التي تبدو بحَسَب «الظاهر» غير ذات صلة هي في «الواقع» ذات صلةٍ.

إن النتيجة التي يصل إليها الدكتور سروش من هذا البحث هي أن القضايا التي يتمّ تحقيقها في مختلف فروع العلوم التجريبية لها ارتباطٌ خفيّ، وإن تأييد قضيةٍ في واحد من العلوم التجريبية يؤدّي إلى تأييد القضايا غير ذات الصلة بحَسَب الظاهر في سائر العلوم التجريبية.

كما يدعم الدكتور سروش هذا الادّعاء من خلال التمسّك بأصل العلّية أيضاً؛ إذ يقول: إن أصل العلّية يقول لنا: «إن صيرورة الورقة خضراء مرتبطٌ مئة بالمئة بصيرورة الأزهار حمراء، وصيرورة الأبقار صفراء، وصيرورة الطيور بيضاء، وصيرورة الغربان سوداء»([48]).

إن هذه العلاقة والارتباط من وجهة نظر الدكتور سروش إنما تقوم بين القضايا التجريبية فقط، والتي هي نوعٌ خاصّ من القضايا الحقيقية، لا بين القضايا التجريبية وغير التجريبية (العقلية أو النقلية)، ولا بين القضايا الحقيقية والاعتبارية. وعلى هذا الأساس؛ لكي ينسحب هذا التأييد في خارج دائرة العلوم التجريبية إلى القبض والبسط أيضاً، يجب أن نضمّ إليها أنواعاً أخرى من الروابط المعرفية، وهي الروابط الموجودة بين جميع القضايا.

كما أن «مفارقة الرهان»، أو «أحجية الاستقراء الجديدة»، شاهدٌ آخر على كلّية وشمولية مدَّعى القبض والبسط. إن هذه المفارقة تثبت بدَوْرها أن الأمور التي تبدو غير ذات صلة قد تصبح ذات صلةٍ فيما بعد؛ لأن عدم الارتباط أمرٌ نسبي وغير ثابت؛ إذ يُحتَمَل أن يكون للعالم فصول مثل: فصول السنة، وإذا كان الأمر كذلك فإن القوانين التي تحكي عن هذه البنية ستكون فصلية أيضاً، وإن ما يُعتَبَر اليوم مصداقاً لمفهومٍ كلّي، ومحكوماً لقانونٍ علمي، قد لا يكون كذلك في الفصول الأخرى، وهذا يعني حصول إدراكٍ جديد للعالم والإنسان. فعلى سبيل المثال: إن الحكم بأن «الورقة خضراء» و«الماء سائل» ناشئٌ عن استمرار وتواصل فصل الصيف، وإن انقضاء هذا الفصل وحلول الشتاء سوف يحوِّل الورقة التي كانت خضراء إلى صفراء، ويحوِّل الماء الذي كان سائلاً إلى شيءٍ متجمِّد»([49]).

أما الدليل الثالث الذي يسوقه الدكتور سروش؛ لإثبات ركن التفسير من القبض والبسط، فهو الأمثلة والنماذج التاريخية ـ الاستقرائية([50]).

إلاّ أن التمسّك بالنماذج التاريخية ـ الاستقرائية لتأييد وإثبات نظرية القبض والبسط يواجه الإشكال والغموض من جهتين:

الأولى: إن الدكتور سروش يرى أن معضلة الاستقراء غير قابلةٍ للحلّ، وإن الاستقراء عقيمٌ. وهذا يعني أننا لا نستطيع إثبات الأحكام الضرورية والكلّية من خلال الاستقراء([51]).

والثانية: ليس من المعلوم أصلاً أن تكون نظرية القبض والبسط نظريةً علمية أو نظرية فلسفية. أما في الحالة الأولى فإن ذكر الشواهد والأمثلة التاريخية ـ الاستقرائية غير مُجْدٍ؛ فإنه بمجرّد العثور على مثالٍ واحد مبطل يجب التخلّي عن هذه النظرية. وأما في الحالة الثانية فإن التمسّك بمثل هذه الشواهد والأمثلة يُعَدّ من الأساس أمراً اعتباطياً؛ لأن تأييد أو إثبات النظريات الفلسفية من هذا الطريق أمرٌ مستحيل.

يقول الدكتور سروش في جوابه عن هذا الإشكال:

أوّلاً: إن أدنى ما تقدِّمه لنا النماذج والأمثلة الاستقرائية هو أنها تضع بين أيدينا فرضية لم يتمّ إبطالها. وعليه ليست نظرية القبض والبسط فرضيةً غير باطلة فحَسْب، بل هناك شواهد لصالحها. و«إن أكثر المعلومات البشرية لا تعدو أن تكون مجرّد فرضيات»([52]). ويمكن القول في تأييد هذا الكلام: في الأساس لا وجود في مجال العلم لفرضيةٍ ثابتة على نحو القطع واليقين، بحيث يُعتَبَر الشكّ والترديد بشأنها ضرباً من المحال. وإن الأسلوب العلمي يقتضي من العلماء في مثل هذه الحالة أن يعملوا من بين الفرضيات بما كان يتمتَّع بأفضل تفسير متوفِّر لديهم، ما لم يتمّ الكشف عن فرضيةٍ أخرى، تخلو من نقاط ضعف وسلبيات هذه الفرضية، أو تتمتَّع بمزايا أفضل منها. وفي ما نحن فيه يمكن القول: إن نظرية القبض والبسط أفضل فرضيةٍ وتفسير نمتلكه حالياً عن كيفية ارتباط الفروع المعرفية المختلفة، أو عن كيفية ارتباط المعرفة الدينية بسائر الفروع المعرفية الأخرى.

ولكنْ يَرِدُ هنا إشكالٌ على هذا المدَّعى؛ إذ يبدو أنه يتنافى مع المباني التي يذهب إليها الدكتور سروش نفسه في مجال الاختلاف بين العلم والفلسفة، ومعيار الفصل بين المدَّعيات العلمية والمدَّعيات الفلسفية؛ إذ طبقاً لهذه المباني لا بُدَّ أوّلاً من إثبات أن القبض والبسط نظرية علمية؛ كي يمكن لنا أن نبلور مثل هذا الفهم بشأنها، في حين أن الأمر ليس كذلك؛ إذ إن القبض والبسط نظريّةٌ معرفية أو فلسفية، وليس نظريّةً علمية.

يُضاف إلى ذلك أن الدكتور سروش يذعن بأن نظرية القبض والبسط «قابلةٌ للإبطال»، وأنه لو «قدَّم شخصٌ مثالاً واحداً لفهم الكتاب والسنّة لا يستند إلى المعلومات الخارجية (ولو مثالاً واحداً لا غير) فإن هذه النظرية ستكون باطلةً بطبيعة الحال»([53]).

إلاّ أن هذا الادّعاء يبدو بدَوْره متنافياً أيضاً مع المباني التي يلتزم بها سماحته في ما يتعلَّق بالفصل بين العلم والفلسفة.

كما يذكر الدكتور سروش دليلاً آخر على تمسُّكه بالنماذج والأمثلة الاستقرائية لتأييد نظرية القبض والبسط. وطبقاً لهذا الدليل لا تُعَدّ هذه الأمثلة والنماذج في الأساس استقرائية. يقول الدكتور سروش: «تعتبر كثرة النماذج… ذات موضوعية» في الاستقراء، و«إن الاستقراء عقيمٌ؛ إذ لا وجود لنموذج خالص (أو الفرد بالذات بحَسَب المصطلح الفلسفي) في العالم». إلاّ أن النماذج المذكورة في القبض والبسط ليست نماذج استقرائية، بل هي نماذج خالصةٌ أو من الفرد بالذات، وفي هذه الحالة يكفي نموذجٌ واحد لإثبات الحكم الكلّي. إن مشكلة الاستقراء تكمن في أننا لا نستطيع من خلاله الوصول إلى الفرد بالذات أو النموذج الخالص. وحيث إن كلّ فردٍ مصداقٌ للكثير من الكلّيات لا يمكن من طريق الاستقراء الكشف عن أن الخصوصية والتأثير المنشود «مستندٌ إلى أيّ واحد من تلك الكلّيات»، ولذلك لا يمكن تعميم حكم الفرد على الكلّي، ومن الكلّي إلى سائر الأفراد([54]). يذهب الدكتور سروش إلى القول بأن العثور على الفرد بالذات في ما يتعلَّق بالمعرفة وإنْ كان ممكناً في الرياضات والمنطق، ولكنه مستحيلٌ بالنسبة إلى العلوم التجريبية. يقول الدكتور سروش: «…ليس هناك أيّ وثوقٍ واطمئنان في ما يتعلَّق بالأمور الطبيعية الخارجية، بحيث نستطيع التوصّل إلى طبيعة الشيء. لا يمكن لأيّ شخص أن يدّعي أنه توصّل إلى حقيقة الماء، أو أنه فهم حقيقة النور، حتّى إذا رأى أثراً في شعاع نور أمكن له القول بأن جميع الأشعة النورية لها ذات الأثر أيضاً. ليس لدينا طريق للتعرُّف على طبائع الأشياء، ولكنْ عندما نكون نحن الصانعين فإن الوقوف على ماهية شيءٍ سوف يكون أيسر، كما هو الحال بالنسبة إلى الفنّ والصناعة وما إلى ذلك، أو في بعض العلوم التي هي عقليةٌ مَحْضَة، أو التي تعود في نهاية المطاف إلى ظواهر تكرار المعاني. فعندما نرسم مثلّثاً لا نعني به مثلّثاً بعينه (وعلى حدّ تعبير باركلي: إنه خاصٌّ ننظر إليه بنظرةٍ عامّة)، بمعنى أننا إذا أثبتنا حكماً في هذا المثلّث سيكون صادقاً بحقّ كلّ مثلّث، وما ذلك إلاّ لأننا لا نلاحظ في هذا المثلّث سوى المثلّثية (المثلّث الخالص). وهذا إنما يكون بالنسبة إلى بعض الفنون، لا دائماً… وفي العلوم الطبيعية يتعذَّر العثور على مثل هذا الفرد الخالص»([55]).

3ـ دراسة ونقد نظرية القبض والبسط

في هذا العنوان نسعى إلى نقد نظرية القبض والبسط. بَيْدَ أننا لا نهدف من ذلك إلى إبطال هذه النظرية، وإنما غايتنا بسطها، وإزالة بعض الغموض عنها. ويبدو في الوقت الراهن أن هذه النظرية تمثِّل أفضل تفسير لطبيعة المعرفة الدينية، وارتباطها ونسبتها إلى سائر الفروع المعرفية. وإن مسؤوليتنا العقلانية تقتضي منا الالتزام بها، ما لم نعثر على نظريةٍ أخرى، تشتمل على محاسنها، وتخلو من عيوبها.

أـ مفارقة الإصلاح

إذا كانت نظرية القبض والبسط ناظرةً إلى حلّ مفارقة التجديد ـ وهي كذلك ـ ففي هذه الحالة لن تكون بديلةً عن سائر النظريات الإصلاحية الأخرى، وإنما تكون متمِّمةً لها، بمعنى أنها توفِّر المبنى والأرضية المعرفية لها، وتمكِّن المصلحين الدينيين من الدفاع عن أعمالهم دفاعاً عقلانياً، وأن يخلِّصوا أذهانهم وأذهان مخاطبيهم من التشويش والاضطراب. وبطبييعة الحال فإن هذا الكلام لا يعني أن نظرية القبض والبسط منسجمةٌ وقابلة للجمع مع كافّة النظريات الإصلاحية الأخرى. إنما الادّعاء أن هذه النظرية لا تغنينا عن النظريات الأخرى.

وعلى الرغم من ذلك يمكن لنا أن ندّعي أن نظرية القبض والبسط هي في وقتٍ واحد نظريةٌ معرفية، ونظريةٌ إصلاحية أيضاً.

فمن الناحية المعرفية تعتبر هذه النظرية هي «الحلقة المفقودة» لمساعي المصلحين الدينيين؛ لأن هؤلاء ما لم يتمكَّنوا من الفصل بين الدين والمعرفة الدينية، وما لم يعترفوا ببشرية وتاريخية المعرفة الدينية، وامتزاجها بالثقافات البشرية، وارتباطها الوثيق بسائر الفروع المعرفية الأخرى، لن يتمكَّنوا من المضيّ في مشاريعهم الإصلاحية قُدُماً، بل إن أصل الإصلاح الديني بمعزلٍ عن هذه النظرية سيكون عرضةً للتشكيك([56]).

إلاّ أن نظرية القبض والبسط في الوقت نفسه نظريةٌ إصلاحية؛ لأن عدم فصل الدين عن المعرفة الدينية يعني سريان الأوصاف الدينية إلى المعرفة الدينية، وتوهُّم استقلال المعرفة الدينية عن سائر المعارف البشرية، والغفلة عن الركن الخارجي لفهم الدين، ممّا يُعَدّ في حدّ ذاته من أهم الآفات التي تطال الفكر الديني. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الإصلاح المنشود لنظرية القبض والبسط تتقدَّم على سائر أنواع الإصلاح في المجتمع الديني. وإن من بين الأدلة التي يمكن إقامتها لصالح هذا التقدُّم أن الآفات المذكورة لا تقتصر على جمهور المؤمنين فحَسْب، بل تطال حتّى المصلحين والمجدِّدين الدينيين بشكلٍ وآخر.

وعلى أيّ حال، وكما تقدَّم، فإن إصلاح المجتمع الديني لا يبدو ممكناً إلاّ من خلال الإصلاح الديني، وإن الإصلاح الديني يعني إصلاح التفكير الديني، وإن إصلاح التفكير الديني لا يمكن إلاّ من خلال إصلاح الأسس والقواعد المعرفية والأخلاقية المهيمنة على هذا التفكير (العقلانية). وهذا موضوعٌ هامّ يتجاهله الكثير من المصلحين الدينيين، ولذلك نجد النظريات الإصلاحية التي يقدِّمونها، والوصفات التي يكتبونها؛ لعلاج المشكلة وإصلاح الفساد، تقوم على إدراكٍ ناقص لأسباب الآفات والمفاسد. ولذلك لا تكون هذه الوصفات مشتملةً على الإتقان والاعتبار اللازم، وإن العمل بها يعطي نتائج معكوسة، بل وكارثية أحياناً([57]).

ب ـ ثبات الدين وتحوُّل المعرفة الدينية

كما ذكرنا فإن الدكتور سروش يرى أن أحد مفردات الاختلاف بين الدين والمعرفة الدينية تكمن في «ثبات» الأوّل، وتحوُّل وتغيُّر «الثاني». يقول الدكتور سروش في نظرية القبض والبسط: حيث إن للدين منشأً إلهياً فهو ثابتٌ، وحيث إن للمعرفة الدينية منشأً بشرياً فهي متغيِّرة.

ولكنْ في تقديرنا لا وجود لأيّ ملازمةٍ هنا؛ إذ يمكن أن يكون للدين منشأ إلهي ومع ذلك يكون متغيِّراً، كما يمكن للمعرفة الدينية أن تكون بشرية ومع ذلك تكون ثابتةً، بمعنى أن ثباتها ليس مستحيلاً، رغم أن تاريخ المعرفة الدينية يشهد على تغيُّرها. كما أن قدسية الدين إنما تعني أنه حقٌّ، وأنه يخلو من التعارض والتناقض، لا أنه ثابتٌ وغير متغيِّر. وإن كمال الدين ـ كما صرَّح الدكتور سروش في موضعٍ آخر ـ إنما هو كمالٌ في حدّه الأدنى([58]).

تأتي أهمّية هذا الأمر من أن الدكتور سروش يصل إلى نظرية «بسط التجربة النبوية» في إطار تحوّله الفكري، وهي ناظرةٌ إلى قبض وبسط ذات الدين. وقد تحدَّث في توصيف هذا الأمر الذي ينشأ من اختلاف هاتين النظريتين، قائلاً: «في ما يتعلَّق بالقبض والبسط النظري للشريعة كان يتمّ الحديث عن بشرية وتاريخية وأرضية المعرفة الدينية، وأما هنا (في بسط التجربة النبوية) فيتمّ الحديث عن بشرية وتاريخية ذات الدين والتجربة الدينية»([59]).

من هنا فإن الدكتور سروش في بسط التجربة النبوية يُعيد النظر في «ثبات» الدين، بعد أن كان من فرضيّات نظرية القبض والبسط. يمكن التساؤل: «هل يشكِّل نفي ثبات الدين مشكلةً لنظرية القبض والبسط أم لا؟».

في النظرة الأولى تبدو الإجابة عن هذا السؤال محسومةً بالإيجاب؛ لأن نظرية القبض والبسط أخذت ثبات الدين بوصفه أمراً مفروغاً عنه، واعتبر ذلك في الحقيقة طريقاً لحلّ مفارقة التجديد والتوفيق بين الأبدية والتغيير.

ولكنّ إعادة النظر هذه لا تضرّ من وجهة نظرنا بصدق نظرية القبض والبسط؛ لأن «ثبات الدين» واحدٌ من عَرَضيات نظرية القبض والبسط، وليس من ذاتيّاتها. إن الأفق الرئيس لنظرية القبض والبسط؛ بوصفها نظريةً معرفية، عبارةٌ عن تفسير طبيعة المعرفة الدينية، وبيان ربطها ونسبتها إلى المعارف غير الدينية. وعلى هذا الأساس ليس من اللازم لصدق هذه النظرية أن نفترض ثبات الدين. إن هذه النظرية تتعلَّق بقبض وبسط «المعرفة» الدينية، ويمكن للمعرفة الدينية أن تشمل القبض والبسط، سواء أكان الدين ثابتاً أم متغيّراً. وفي الوقت نفسه هناك مسائل هامّة يجدر التأكيد عليها.

لو لم يكن الدين أو جزءٌ منه ثابتاً، وكان مشمولاً للقبض والبسط، يطرح هذا السؤال نفسه: ما هو الدَّوْر الذي يمكن أو يجب أن يلعبه قبض وبسط الدين في قبض وبسط المعرفة الدينية؟ وبعبارةٍ أخرى يمكن القول: إن القبض والبسط في المعرفة الدينية يمكن أن ينبثق عن منشأين مختلفين: أحدهما: قبض وبسط المعارف غير الدينية؛ والآخر: قبض وبسط ذات الدين. وفي هذه الحالة لا بُدَّ للنظرية الجامعة في باب منشأ تحوُّل وتكامل المعرفة الدينية أن تشتمل على تفسير وبيان لكلا هذين النوعين من القبض والبسط، في حين أن نظرية القبض والبسط إنما تفسِّر مجرّد القبض والبسط الحاصل إثر قبض وبسط المعارف غير الدينية في المعرفة الدينية. وبعبارةٍ أخرى: إن نظرية القبض والبسط إنما هي بصدد تفسير وتوضيح القبض والبسط الحاصل بفعل تحوُّل «الركن الخارجي» للمعرفة الدينية في المعرفة الدينية، في حين أن «الركن الداخلي» من المعرفة الدينية قد يتعرَّض للتحوُّل والتغيير، وإن تأثير هذا التحوُّل والتغيير في المعرفة الدينية بحاجةٍ إلى التوضيح والتفسير أيضاً.

إن هذا الأمر لا يتضمَّن ـ بطبيعة الحال ـ انتقاداً لنظرية القبض والبسط؛ لأن هذه النظرية لا تشتمل على ادّعاءٍ في هذا المورد. إن مرادنا هنا هو مجرّد التأكيد على أننا بحاجةٍ إلى نظريةٍ أخرى أيضاً لتبيِّن لنا القبض والبسط الحاصل ـ تَبَعاً لقبض وبسط ذات الدين ـ في المعرفة الدينية، وفي تصوُّرنا أن روايةً جديدة لنظرية بسط التجربة النبوية يمكنها أن تقدِّم لنا مثل هذا التفسير([60]).

يؤكِّد الدكتور سروش في الكثير من المواضع على أن «ثبات الدين» هو اعتقادٌ يتبنّاه المؤمنون. وهذا التأكيد ضروريٌّ من جهتين:

الأولى: إن نظرية القبض والبسط نظريةٌ معرفية، والعالم المعرفي يأخذ عقائد المؤمنين أمراً مفروغاً عنه، ولا يكشف عن متبنياته الدينية([61]).

والأخرى: إن مفارقة الإصلاح والتجديد إنما هي في الحقيقة اعتراض يُطْرَح من قِبَل المؤمنين المخلصين تجاه المصلحين الدينيين، فهؤلاء؛ حيث يعتقدون أن الدين ثابتٌ وكامل، يُشْكِلون على المصلحين الدينيين، ولا يطيقون أفكارهم الإصلاحية.

في اعتقادنا، وبالالتفات إلى نظرية بسط التجربة النبوية، يمكن القول: إن حلّ مفارقة التجديد والإصلاح ليس رَهْناً بالقول بثبات الدين. يمكن القول: إن الإصلاح والتجديد يعني بسط التجربة النبوية في جميع أبعادها، والدين في عالم الثبوت([62]) يتألَّف من قسمين: ثابت (المُحْكَمات أو الذاتيات)؛ ومتغيِّر (المتشابِهات أو العَرَضيات)([63])، ومن الناحية الثبوتية في حالة انبساطٍ تدريجي. وبعبارةٍ أخرى: لحلّ مفارقة الإصلاح والتجديد يكفي مجرّد الفصل والتفكيك بين الدين والمعرفة الدينية، بمعنى أنه يكفي لحلّ هذه المفارقة أن نثبت أن الإصلاح ناظرٌ إلى التفكير الديني، وأن التفكير الديني يتغيّر أو يجب أن يتغيّر، سواء أكان الدين نفسه ثابتاً أم متغيّراً.

إن الشيء الذي يجب التأكيد عليه هو أن ثبات الدين لا يستلزم ولا يقتضي ثبات المعرفة الدينية، كما يمكن أن تكون هناك إدراكاتٌ مختلفة ومتغيِّرة للثوابت الدينية. وهذا هو الشيء الذي نجحت نظرية القبض والبسط في بيانه بشكلٍ جيّد. إلاّ أن تغيير الدين في اللوح المحفوظ يقتضي أيضاً نوعاً آخر من التغيير في المعرفة الدينية، ولم يَرِدْ كلامٌ عن هذا الموضوع في القبض والبسط. ويبدو أن تأكيد الدكتور سروش في القبض والبسط على ثبات الدين يحمل في الغالب صبغةً دفاعية، أي إنه يأتي في سياق دفع توهُّم المنتقدين. وينشأ هذا التوهُّم من فرضية خاطئة مفادها أن ثبات وتحوُّل «الدين» وثبات وتحوّل «المعرفة الدينية» متلازمان من الناحية الأنطولوجية أو المنطقية، بمعنى أنه لا يمكن أن يحدث تغيّر في المعرفة الدينية دون أن يحدث تغيّر وتحوّل في ذات الدين. هناك الكثير ممَّنْ يتصوّر أنه حيث كان للدين منشأٌ إلهي وسماويّ فإنه يكون ثابتاً، ولا يطاله التغيُّر والتحوُّل، وحيث كان الدين ثابتاً لا محالة تكون المعرفة الدينية ثابتة أيضاً، وستبقى ثابتة إلى الأبد؛ لأن ثبات وتحوُّل العلم يتفرّع عن ثبات وتحوُّل المعلوم.

ولكنْ لدفع هذا التوهُّم، ونفي هذه الملازمة، ليس من الضروري أن نفترض ثبات الدين. وإنما الشيء الذي نحتاج إليه لدفع هذا التوهّم هو تأييد هذه القضية القائلة: «سواء أكان الدين ثابتاً أم متغيّراً من الممكن للمعرفة الدينية أن تتغيّر وتتحوّل»([64]). إن الشواهد التاريخية التي تشهد على «وقوع» التغيُّر والتحوُّل في المعرفة الدينية إنما تدلّ ـ في الحقيقة ـ على «إمكان» تغيُّر وتحوُّل المعرفة الدينية. وبعبارةٍ أخرى: إن توهّم ثبات المعرفة الدينية ينشأ من عدم رؤية أو تجاهل الركن الخارجي من المعرفة الدينية، وعليه لا بُدَّ لدفع هذا التوهُّم من إثبات وجود هذا الركن وتأثيره وأهمّيته في المعرفة الدينية.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) لقد تمّ التأكيد على هذا الموضوع في مواضع مختلفة من كتاب القبض والبسط، ومن بينها انظر: سروش، «قبض وبسط تئوريك شريعت، نظرية تكامل معرفت ديني»: 116، 136، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([2]) انظر: المصدر السابق: 347.

([3]) لقد قدَّم الدكتور النراقي في «لبّ لباب نظريه قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني»: 429 ـ 491 (انتشار صراط، طهران) خلاصة دقيقة وجامعة وواضحة عن نظرية القبض والبسط.

([4]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 47 ـ 51، 493 ـ 501، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([5]) المصدر السابق: 51 ـ 52.

([6]) انظر: المصدر السابق: 53.

([7]) انظر: المصدر السابق: 55. يؤكِّد الدكتور سروش في الكثير من الموارد على ثبات الدين والشريعة، انظر على سبيل المثال: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني ، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط: 179، 203، 206، 495، 503، 510.

([8]) انظر: المصدر السابق: 502 ـ 503.

([9]) انظر: المصدر السابق: 248، 503.

([10]) cognitive psychology.

([11]) cognitive science.

([12]) philosophy of mind.

([13]) يبدو أن القول بالشبح في مجال الصور الذهنية ينسجم مع المباني المعرفية الحديثة والواقعية المعقدة، ويؤدي إلى التواضع العقلاني، في حين أن القول بالماهية لا ينسجم مع هذه المباني. إن هذه الرؤية تمثل فرضية للواقعية المجرّدة، وتؤدّي إلى الجمود والحتمية الجازمة.

([14]) في نصوص الفلسفة الإسلامية التقليدية يتمّ تداول بعض المباحث المعرفية الجديدة بشكلٍ باهت للغاية ضمن البحوث المرتبطة بأبحاث الأنطولوجيا المعرفية. فإن الفلاسفة المسلمين مثلاً يعرِّفون «العلم الحصولي» بـ «حضور ماهية المعلوم في ذهن العالم»، ويعرِّفون «إظهار الواقع» أو «الصدق» بـ «المطابقة الماهوية للصورة الذهنية مع عالم الخارج»، ويرى هؤلاء أن الطريق الوحيد لمعالجة التشكيك يكون من خلال إحراق المشكّكين.

([15]) إن العلم بالمعنى الأول (الصورة الذهني) يتعلَّق بالعالم (1)، والعلم بالمعنى الثاني (الفرع العلمي) يتعلق بالعالم (3)، لبوبر.

([16]) للوقوف على سائر الاختلافات بين هذين النوعين من أنواع المعرفة انظر: نراقي، «لب لباب نظريه قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني»: 430 ـ 437، انتشار صراط، طهران.

([17]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني»: 96 ـ 99، 400، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([18]) context of justification.

([19]) context of discovery.

([20]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 93 ـ 96، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران.

([21]) المصدر السابق: 95.

([22]) انظر: المصدر السابق: 362.

([23]) انظر: المصدر السابق: 330، 361 ـ 362.

([24]) انظر: المصدر السابق: 279.

([25]) المصدر السابق: 118، 335 ـ 338. وبطبيعة الحال فإن القول بعدم وجود مراتب للصدق والكذب لا ينسجم مع الرأي القائل بالتقرّب إلى الحقيقة. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ العزيز مصطفى ملكيان على هذا التنويه.

([26]) انظر: المصدر السابق: 375 ـ 379.

([27]) انظر: المصدر السابق: 379.

([28]) انظر: المصدر السابق: 380.

([29]) انظر: المصدر السابق: 382. يبدو أن هناك شيئاً من الغموض في هذا الكلام؛ إذ يرى الدكتور سروش أن المعرفة السابقة تخوض في «وجود العلم»، وموضوعها هو العلم بما هو حالة ذهنية / نفسية (knowledge)، في حين أن موضوع تقسيم العلوم، سواء أكان هذا التقسيم ناظراً إلى مقام الإثبات أو إلى مقام الثبوت، عبارةٌ عن فرع علمي (discipline). وإن ربط ونسبة تقسيم العلوم إلى معرفة وجود العلم غير واضحة. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على بيان هذا الإشكال.

([30]) انظر: المصدر نفسه.

([31]) المصدر السابق: 383.

([32]) انظر: المصدر نفسه.

([33]) انظر: المصدر السابق: 410.

([34]) انظر: المصدر السابق: 411 ـ 412.

([35]) انظر: المصدر السابق: 411.

([36]) انظر: المصدر السابق: 424 ـ 425.

([37]) انظر: المصدر السابق: 418 ـ 419، 505.

([38]) انظر: المصدر السابق: 420 ـ 424.

([39]) انظر: المصدر السابق: 213 ـ 215، 418.

([40]) انظر: المصدر السابق: 418؛ نراقي، «لبّ لباب نظريه قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني»: 475 ـ 477، انتشار صراط، طهران.

([41]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 385، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([42]) انظر: المصدر السابق: 386.

([43]) انظر: المصدر السابق: 165.

([44]) انظر: المصدر السابق: 363.

([45]) المصدر السابق: 212.

([46]) المصدر السابق: 213.

([47]) المصدر نفسه.

([48]) المصدر السابق: 214.

([49]) انظر: المصدر نفسه.

([50]) انظر: المصدر السابق: 215 ـ 244.

([51]) انظر في هذا الشأن:

ـ سروش، «مباني منطقي استقراء أز نظر شهيد آية الله محمد باقر صدر»، در تفرّج صنع، گفتارهايي در مقولات أخلاق وصنعت وعلم إنساني: 426 ـ 467 (طهران، انتشارات سروش).

ـ سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 151 ـ 521، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([52]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 151.

([53]) انظر: المصدر نفسه.

([54]) انظر: المصدر السابق: 515 ـ 516.

([55]) المصدر السابق: 519 ـ 520.

([56]) يقول الدكتور سروش: «إن لهذا الأمر [الفصل بين الدين والمعرفة الدينية] توابع ولوازم كثيرة، وإن الشجاعة في إحياء التفكير الديني تنبثق في واقع الأمر من هذا الشيء الهامّ. وأنا أرى أن بؤرة المشاكل تكمن في إخفاق البعض في التفكيك بين هذين الأمرين، أو لأنهم لم يؤمنوا أساساً بوجود مثل هذا الفصل والتمايز». (انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 504، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط).

([57]) إن أدلجة الدين، ومزجه الخاطئ بالسياسة والسلفية في عام الإسلام، من نماذج وأمثلة هذا النوع من الجهود الإصلاحية. لنقد أدلجة الدين انظر:

ـ سروش، «عقيده وآزمون»، وذلك في: فربه تر أز إيديولوژي.

ـ سروش، سقف معيشت بر ستون شريعت، وذلك في: مدارا ومديريت: 47 ـ 63.

وقد تعرَّضت لنقد الأفهام الخاطئة لربط الدين بالسياسة في (أخلاق دينداري). إن السلفية أو الأصولية الدينية تفترض تقدُّم الدين على الأخلاق، أو إحلال الفقه محلّ الأخلاق الاجتماعية. بغية النقد التفصيلي لهذه الفرضية انظر كتابنا: «دين در ترازوي أخلاق» (الدين في ميزان الأخلاق).

([58]) انظر:

ـ سروش، «بسط تجربه نبوي»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 24 ـ 25.

ـ سروش، «دين أقلي وأكثري»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 83 ـ 112.

ومن الواضح أنه ما لم يتمّ التعرّف على مقولة ما بعد الطبيعية، مثل: «الدين»، و«القبض»، و«البسط»، و«الثبات»، و«التغيّر»، لا يكون ادّعاء القبض والبسط والثبات والتغيّر قابلاً للنفي والإثبات. هل الدين خصيصة (property) أم نسبة (relation) أم واقعة (event) أم مسار (process) أم مجموعة (set) أم دلالة ونصّ (text) أم ليس دلالة ولا نصّاً أم هو أمر آفاقي أم أنفسي أم…؟ إن مقولة الدين، وكذلك الأوصاف التي تنسب إلى الدين، يجب أن تكون واضحةً كيما يمكن إدراك أن الأوصاف التي يراها الشخص للدين قابلةً للإسناد إلى تلك المقولة أم لا؟ مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على طرح هذا السؤال. في تصوّري يمكن طرح هذا السؤال بشأن الدين بالمعنى العام للكلمة، كما يمكن طرحه بشأن الدين بالمعنى الخاص للكلمة (الشريعة التي هي موضع دراسة الفقه). وهنا سوف أسعى إلى بيان رؤيتي في مقولة ما بعد الطبيعة للشريعة؛ لأن موضوع هذا الكتاب وهذا الفصل هو الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة يعني الشريعة. إن الشريعة عبارةٌ عن مجموعة المعايير الدينية (الواجبات والمحرّمات والمستحبات والمكروهات والمباحات) التي إما أن تنبثق عن إرادة الإله الشارع أوّلاً وبالذات (الأحكام التأسيسية) أو أن تكون مورداً لتأييده وإمضائه (الأحكام الإمضائية). وعلى هذا الأساس فإن الشريعة «مجموعة» من الأحكام الاعتبارية. إن مرادنا من القبض والبسط في هذه المجموعة هو تغيير أفراد هذه المجموعة، وإن هذا التغيير ينشأ من تغيير الإرادة التشريعية للإله المشرِّع. وإن المراد من ثبات وتغيُّر الدين هنا هو ثبات وتغيُّر أفراد هذه المجموعة على طول الشريط الزمني. فلو أُضيف حكم إلى هذه المجموعة الاعتبارية، أو تخلّى حكم من هذه المجموعة عن مكانه لصالح حكم آخر، يكون قد حدث تغيّر في هذه المجموعة، وتكون قد تعرّضت للقبض والبسط.

([59]) سروش: 24 ـ 25؛ وبطبيعة الحال فإن كلام الدكتور سروش هنا ناظرٌ إلى توصيف كتاب «بسط التجربة النبوية»، وليس ناظراً إلى توصيف نظرية بسط التجربة النبوية، بَيْدَ أنه يمكن الادّعاء أن سائر المقالات الموجودة في هذا الكتاب تبحث بنحوٍ من الأنحاء مختلف جوانب التجربة النبوية وشخصية النبي، التي يرى الدكتور سروش أن حقيقة الدين تنبثق منها، وإن كل واحدة من تلك المقالات تسعى إلى بيان بشرية وتاريخية الدين نفسه. وعلى أيّ حال فإن هذا التوصيف صادق بشأن نظرية بسط التجربة النبوية أيضاً.

([60]) كان الدكتور سروش في فترة كتابته لمقالات القبض والبسط يذهب إلى الاعتقاد بأن «الشريعة الإلهية لا تحتاج إلى إصلاح؛ فهي من صنع الخبير العليم». (انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 249، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط). ولكنْ ـ كما سنرى في الفصل القادم ـ فإنّ الشريعة الإلهية تحتاج بدَوْرها إلى إصلاح أيضاً، رغم أن الذي يقوم بهذه العملية الإصلاحية هو الله العليم الذي أوجدها، وهذا الادّعاء هو مضمون قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39).

([61]) انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.

([62]) إن المراد من الدين في عالم الثبوت هو الدين في ظرف تحقّقه. إن الدين بهذا المعنى هو موضوع المعرفة الدينية، وبذلك لا يكون مرتبطاً بمعرفة الناس، بمعنى أنه يتمتّع بنوع من العينية الأنطولوجية والمعرفية. إن الدين بهذا المعنى مستقلٌّ عن النصوص الدينية أيضاً، بمعنى أن النصوص الدينية قناة لاكتشاف ومعرفة الدين، وليست عين الدين. يُضاف إلى ذلك أن الدين مستقلٌّ عن الوحي أيضاً، بمعنى أن الوحي أيضاً مجرّد قناة إلى كشف ومعرفة الدين، وليس هو نفس الدين، رغم أن ظرف تحقق الدين هو ذاته ظرف نزول الوحي. وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار «الإسلام» هو عين النصوص المقدّسة للدين الإسلامي؛ فالإسلام شيءٌ يمكن فهمه من خلال هذه النصوص.

إن التعبير الذي يتمّ استعماله في الثقافة الإسلامية للإشارة إلى الدين في نفس الأمر أو عالم الثبوت، عبارة عن «الدين في اللوح المحفوظ». وعليه لو قبلنا بالتقسيم الثلاثي للإسلام: الإسلام (1)؛ والإسلام (2)؛ والإسلام (3)، فعلينا القول في مثل هذه الحالة: إن «الإسلام» لا يساوق «الإسلام (1)»، بل هو شيء وراء ذلك، بمعنى أن مفاد النصوص الإسلامية المقدسة الذي يتمّ التعبير عنه بـ «الإسلام (1)» قد يكون مطابقاً لـ «لإسلام»؛ وقد يكون «مخالفاً» له. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على إثارة هذا التساؤل بشأن ميتافيزيقا اللوح المحفوظ، وما هو الدليل على وجوده؟ أو ما هي الإلزامات المترتِّبة على افتراض وجوده؟ الأمر الذي استدعى ضرورة إضافة هذا التنويه.

([63]) إن دليلي على اعتبار «المحكمات والمتشابهات» و«الذاتيات والعرضيات» أمراً واحداً آية من القرآن الكريم. هناك اختلاف بين المفسِّرين في تفسير هذه الآية، ولكن يبدو أن عبارة «أمّ الكتاب» التي نسبت إلى المحكمات تعتبر قرينةً صالحة للقول بأن المراد من المحكمات هو الذاتيات أو الأصول الثابتة في الدين، والمراد من المتشابِهات تطبيق تلك الأصول على الأوضاع والأحوال الخاصة. مع جزيل الشكر للأستاذ مصطفى ملكيان على مطالبته بالدليل على هاتين المعادلتين.

([64]) سوف يأتي نقد القول بثبات الدين ولوازمة وتبعاته المرفوضة في الفصل القادم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً