أحدث المقالات

وقفة نقدية مع خطوة د. سروش

 

د. عطاء الله مهاجراني (*)

ترجمة: السيد حسن مطر

 

هل يصحّ اختزال نظرية خطيرة في حوار صحفي موجز؟! ــــــ

عرض المفكر القدير الدكتور عبد الكريم سروش رأيه حول مقولة الوحي وانتسابها إلى النبي الأكرم، الأمر الذي خلق مناخاً لبحث هذه المسألة المهمة من جديد. وإن الانتقادات التي كُتبت وستكتب على كلامه لاشك في عدم خلوها من بعض العبارات غير اللائقة والناشزة، إلا أن هذا النشاز سرعان ما يزول، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، وهي عبارات من قبيل: (عدو القرآن)، و(الخروج عن ربقة الإسلام والمسلمين)، وما هذه العبارات إلا بمنزلة سيوف مجردة أمسك بها حاملوها من شفارها، وانهالوا بقبضاتها ضرباً على سروش، فلم تُدْمِ إلا أكفّ حامليها!…ولكن هل ما يقوله سروش مقنع وصحيح؟

قبل الخوض في أصل كلامه يجدر بنا القول بأن طرح موضوع بمثل هذه الأهمية والحساسية في مقابلة قصيرة مع صحفي له غايات سياسية لم يتورَّع عن إظهارها في مقدمته تستدعي بالضرورة مثل هذه الانتقادات والآراء. إن مسائل من هذا النوع يجب بحثها وكتابتها بعد تفكير ورويّة واستشارة ذوي الاختصاص من أهل الفن، وقراءة النصّ مراراً، ومراجعة مفرداته تكراراً، كما حصل قبل سنوات بالنسبة لكتاب (نهاد نا آرام جهان)، حيث اطلع عليه الشيخ حائري يزدي والشيخ المطهري قبل نشره. وقد صرح الدكتور سروش بأن هذا الكتاب مدين في نجاحه لهذين العلمين. وهذا الإقرار والتصريح يرفع من قيمة الكتاب، ويشجع الأفراد على قراءته بثقة كاملة. وأرى أن الحديث حول القرآن المجيد تحت عنوان «كلام محمد‘»، و«الدور المحوري للنبي في خلق القرآن»، و«عدم مصونية القسم التاريخي والطبيعي من القرآن»، يحظى بأهمية وحساسية أكبر من أهمية وحساسية نظرية (نهاد نا آرام جهان). وبعيداً عن الضوضاء التي تثار عادة بعد طرح رأي جديد علينا أن نشكر سروش الذي أثار الأذهان ونشّطها من خلال طرح هذه المسألة؛ إذ لو لم يعمد الدكتور سروش إلى إثارة هذا الموضوع لما شهدنا هذه الحركة النقدية في بلادنا، ولما برز الناقدون ليدلوا ببضاعتهم. أما أنا فأتعرض لنظرية سروش بالنقد من زاوية أُخرى، فلا أعتبره معادياً للقرآن، ولا خارجاً عن ربقة الإسلام والمسلمين، فإن الذين يعرفون سروش لا يمكنهم حرمان أنفسهم من بريق معنويته وشغفه بالإسلام والقرآن. فقبل حوالي أربعين سنة كنت يافعاً، وقد ذهبت حينها في الصباح الباكر إلى دارة الحاج (إبراهيم حسين خاني) لحضور دعاء الندبة، وقد تحول منزله حالياً إلى مدرسة نموذجية، وقد تحدث سروش بعد الدعاء عن قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ…}، وردد بيتاً لحافظ الشيرازي الذي يقول فيه: (عجزت السماء عن حمل الأمانة)، ولا زلت أشعر الأثر العميق الذي تركه عليَّ ذلك الحديث…، وبعد عقد من الزمن حصلت على نسخة من كتاب (نهاد نا آرام جهان)، وكنت حينها طالباً في جامعة شيرازي، وذلك في عام 1356، أي قبل ثلاثين سنة بالتحديد، وقد ترك عليّ نفس الأثر والانطباع…. وعندما رأيت سروش توقعت أن أتناول شراباً قرآنياً صافياً بعد انقضاء الأربعين، حيث يحلو الشراب بعد تعتيقه أربعين يوماً.

ولكن خاب ظني فقد وجدت هذا الكلام وهذا الشراب كدراً ومكدَّراً، وإنْ كان سروش قد بادر في الوقت المناسب إلى توضيح كلامه وتبريره، وسمعت أنه ينوي كتابة مقال تفصيلي بهذا الصدد، ولكنني لم أستطع كبح نفسي من كتابة رأيي ونقدي بوصفي محباً له، قد أكون مخطئاً في فهمي، ولكنني؛ لما يشدني ويربطني بالقرآن الكريم، أجد نفسي مضطراً إلى إبداء رأيي.

ولست أشك في أن سروش لا يرى أفكاره فوق النقد، وأنها مصونة من الخطأ. إن لصدر المتألهين في بداية الجزء السابع ـ الجزء الثاني من السفر الثالث ـ من كتاب الأسفار بحثاً مفصّلاً بشأن القرآن الكريم. ومن العجيب أنّه لم يتطرق أيٌّ من الناقدين لآراء سروش في الحوزة والجامعة إلى ما كتبه صدر المتألهين. إن صدر المتألهين ذكر مسألة في غاية القوّة والرصانة، حيث قال: «ربّ أديب عاقل فصيح عارف بعلم اللغة والنحو والبلاغة، متكلم قادر على فن المناظرة مع الخصام والإلزام في علم الكلام، لم يسمع حرفاً من حروف القرآن، ولا فهم كلمة واحدة من كتاب الله النازل على عبده».

فلماذا نجد مثل هذا العالم الأديب العارف بعلم اللغة، والمتكلم الذي يفحم خصومه، لم يسمع من القرآن حرفاً، ولم يفهم منه كلمة؟ لماذا احتقر صدر المتألهين مثل هذا العالم المفترض، واعتبر القرآن عظيماً لا يبلغ شأوه؟ كيف كان صدر المتألهين ينظر إلى كلام الله؟ بأية عين كان ينظر إلى القرآن حيث قال: «وفي كلّ حرفٍ من حروفه ألفُ رمز وإشارة وغنج ودلال وجلب للعشاق المشتاقين إلى روح الوصال»([1]).

«هيهات، نحن وأمثالنا لا نشاهد من القرآن إلا سواداً؛ لكوننا في عالم الظلمة والسواد وما حدث فيه من مدّ هذا المداد»([2]).

 

هل الوحي إلهام؟! ــــــ

(الوحي إلهام)، هذه هي عبارة سروش التي أثارت حفيظة الناقدين، هل يدل هذا التعبير على وجود تشابه في المعنى بين مفردة (الوحي) و(الإلهام)؟ وبعد هذه العبارة القصيرة والأساسية في الوقت نفسه ذهب سروش إلى أن التجربة النبوية شبيهة بالتجربة الشعرية، وان كانت بدرجة أسمى وأرقى، وقد روى عن فيلسوف مسلم لم يُسَمِّه قوله: «إن الوحي أعلى درجات الشعر». وعليه يمكننا تلخيص كلام سروش بالقول: إن الوحي إلهام، وإن النبيّ شاعر، وإن آيات القرآن الكريم شعر.

ولإثبات ذلك لم يقدم أي برهان، بل ولم يُشِرْ إلى اسم ذلك الفيلسوف المسلم لنتمكن من البحث عن أصل الكلام، لنجد ما إذا كان ذلك الفيلسوف قد أقام دليلاً على مدَّعاه!

ومن جهة أخرى لم يتم بيان معنى (الإلهام) و(الوحي) و(الشاعرية) بشكل صحيح؛ ليكون أمامنا أفق واضح. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: لو فرضنا أن القرآن الكريم كلام رسول الله! فهل هناك إشارة أو دليل عليه؟ فمتى قال النبي: إن كلامه شعر، وإن حصيلة الإلهام شعرية؟ وأساساً هل يمكن الاستناد إلى القرآن في مثل هذا البحث والاستشهاد به؟ وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر: من هو المخاطب بهذا الكلام؟ وما هي مباني وأساليب الكلام؟ إلى من وجّه سروش كلامه في هذا اللقاء؟ هل أراد سروش أن يفسر القرآن ومفهوم الوحي باللغة الإنگليزية في إطار المفاهيم التي يمكن استيعابها للناطقين باللغة الإنگليزية؟ وبعبارة أخرى: إنما يبدو لنا كلامه مكدراً؛ لأنه أراد له أن يكون مفهوماً للآخرين الذين يحملون ثقافة تختلف عن ثقافتنا، ولكن ميزة عالمنا المعاصر هي أن الكلام إذا انتشر لم يعد بالإمكان وضع القيود عليه، حيث يغدو مثل طائر يحلق فوق سماء جميع السطوح، ويصل الأمر حتى بالفنان السينمائي الشهير أن يجرد سيف التكفير من غمد الفن المتخصص فيه، وعندها سيجد المتكلم نفسه مضطراً إلى تبرير كلامه تباعاً.

وفي ما يلي نستعرض الأمور التالية:

أولاً: إن الوحي يختلف عن الإلهام، ومرادي من الوحي تلك الظاهرة التي نشأ عنها القرآن. إن منشأ الوحي خارجي، في حين أن منشأ الإلهام داخلي وباطني. فالإلهام نتاج ثورة في نفس الشاعر، فالشاعر هو الذي ينتقي المفردة، أما في الوحي فلا دخل للنبي في اختيار مضامين الكلمات، وإنما تستعد مرآة نفسه الصافية لتقبل كلام الله، وكما يقول ابن عربي: «يغدو قلب النبي منزلاً لكلام الله»، حيث قال: «اعلم أن الله أنزل هذا القرآن حروفاً، وجعله كلمات، وآيات، وسوراً، ونوراً، وهدىً، وضياءً، وشفاءً، ورحمةً، وذكراً، عربياً، ومبيناً، وحقاً، وكتاباً، ومحكماً، ومتشابهاً، ومفصلاً، ولكل اسمٍ ونعتٍ من هذه الأسماء معنىً ليس للآخر، وكله كلام الله، ولما كان جامعاً لهذه الحقائق وأمثالها استحق اسم القرآن»([3]).

إذا أردنا أن نتحدث عن القرآن بأسلوب عرفاني فمن هو الأجدر في ذلك من ابن عربي وصدر المتألهين والعلامة الطباطبائي؟ يقول ابن عربي: إن القرآن قد أوحيَ إلى النبي بهذه الحروف والمفردات واللغة العربية. وبعبارة أخرى: إن النبي وعاء للقرآن، وليس منتجاً له. وفي الإلهام يكون الشعر نتاجاً للشاعر، مهما كانت درجة هذا الإلهام عالية، كما هو الأمر بالنسبة لأشعار حافظ أو المولوي. كان السيد إمامي خوانساري يقول: «أنا أقدّر وأجلّ ديوان المولوي؛ لما يحتويه من قصص إباحية في ظاهرها»، كنت أقرأ هذه القصص بمذاق الفضول الصبياني، وكنت أحياناً أحمرّ خجلاً مخافة أن يمسك بي شخص متلبساً بقراءة تلك الصفحة المتضمنة لتلك القصص…. سألته: بسبب قصص من قبيل جحا والجارية؟ فقال: إنه إنما ذكر هذه القصص في أشعاره بهذا الأسلوب المكشوف كي لا يشك أحد في أن هذا الكتاب قد كتبه إنسان مثل المولوي على ما يتمتع به من الكمال، فلولا هذه القصص ربما زالت الحدود بين الوحي والإلهام، فقد سحق المولوي على كرامته، وأنشد هذه القصص على هذا النحو المكشوف.

[ونكتفي بهذا القدر من التعليق، ونترك التفصيل إلى موضعه].

 

الهوامش:

(*) أحد وجوه الثقافة، ورئيس مركز حوار الحضارات في إيران.

([1]) صدر المتألهين، الحكمة المتعالية 7: 44، الفصل 13.

([2]) المصدر السابق: 33، الفصل 9.

([3]) ابن عربي، الفتوحات المكية: 2059، الباب: 325، في معرفة منـزل القرآن من الحضرة المحمدية، الوراق.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً