أحدث المقالات

دراسة نقدية لآراء «خلف الله» حول «القصة الأسطورة»

السيد محمود طيّب الحسيني(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

مقدمة ــــــ

يعتبر الدكتور محمد أحمد خلف الله أول من طرح قضية أسطورية بعض القصص القرآني، وذلك في مقام دفاعه عن القرآن الكريم أمام شبهات المستشرقين ورد قولهم بعدم صدق وعدم واقعية الكثير من الوقائع التاريخية التي أتى بها القرآن في ما أشارت إليه من أسماء أو أحداث.

قد يكون محمد خلف الله أول من طرح هذه القضية بهذا الشكل الواضح والمكثف، حيث طرحها في رسالته لنيل درجة الدكتوراه تحت عنوان «الفن القصصي في القرآن»، لكن القضية تجد لها جذوراً في الكثير من كتب المفسِّرين، أمثال: الفخر الرازي في تفسيره، وأبو مسلم بحر الأصفهاني في أقواله، وكلٌّ من النيشابوري في غرائب القرآن، والشيخ عبده في تفسير المنار.

يخلص محمد خلف الله بعد تحليله الأدبي للآيات التسع التي وردت فيها عبارة «أساطير الأولين»، وبالاستعانة بما طرحه أمين الخولي في تفسيره، إلى أن استعمال القرآن واستعانته بالأسطورة أو القصة الأسطورة بنسج أحداث وصنع شخصيات لا واقعية لها غير مردود عليه، وليس يمس بصدقه؛ لأن غرض القصص القرآني في كليته هو الهداية والتربية والإرشاد إلى الطريق والمعتقد الصحيح، وما دام القصص الأسطوري أسلوباً في التربية ورد العقول إلى رشدها فهو مبرر ومعتبر.

ولم تلقَ هذه النظرية بالجملة قبولاً ولا استحساناً في أوساط علماء الدين والمهتمين بالدراسات القرآنية، حيث وجَّه فهد الرومي انتقادات طالت شخص خلف الله في كتابه «اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر»، كما تعرض لها بالتحليل كلٌّ من عبد الكريم الخطيب، ضمن فصل خاص في كتابه «القصص القرآني في مفهومه ومنطوقه»، وكذا عبد الجواد الحمص، في «أباطيل الخصوم حول القصص القرآني»، كما كانت ضمن أبحاث باللغة الفارسية للعديد من المهتمين، أهمها: انتقادات السيد أبو القاسم الجرف في ثنايا كتابه «مبانى هنرى قصه هاى قرآن».

والمقالة الحاضرة تسعى إلى مناقشة نظرية خلف الله انطلاقاً من نفس المنهج الذي اتبعه، أي التحليل الأدبي للآيات، من دون استثناء ما اعتمده من مراجع وما استند عليه من منابع، مع محاولة تجنب نقد النظرية من وجهات وأساليب أخرى مع كثرتها.

د. خلف الله والبعد الأدبي في القصص القرآني ــــــ

طرح خلف الله فكرته حول أسطورية القصص القرآني ضمن الفصل الثاني من كتابه تحت عنوان «ما هي القصة؟ وهل في القرآن قصة فنية؟».

وقبل الخوض في تقسيمات القصة، وبيان أنواعها، سارع إلى التأكيد على أن القصص القرآني بالمطلق أدبي، ومحاولاً تعريف القصص الأدبي قائلاً: «إنه حينما نقرأ أو نطالع الفن والقصص الأدبي لا نحصر اهتمامنا في صدق وواقعية الأحداث والشخصيات والخطاب، ولكن المهم في هذا النوع من القصص هو عمل الراوي في حبك القصة، كيف يقوم البطل، الذي قد يكون غير حقيقي، وعرض فقط في الخيال، بالإيفاء بالدور الرئيس في القصة، أو كيف تعامل البطل الذي يكون قد وجد في الواقع لكنه في القصة قد وضع ضمن أحداث ووقائع خيالية، أو قد تكون الوقائع واقعية ولكن داخل القصة سبكت بطريقة فنية بحيث قدمت قطعة على أخرى، أو تم حذف بعض الأحداث التي لا تنسجم أدبياً مع القصة، أو تم المبالغة في عرض أحداث لدرجة تحول شخصيات القصة من أناس عاديين إلى أسطورة تصعد بالقارئ إلى مقامات عالية في الخيال».

إذاً فحين نقول: القصص الأدبي ــ بشكل عام ـ يكون هذا هو المراد، وكذلك ــ وبشكل خاص ــ يكون القصص الأدبي في القرآن، لذا فما يجب البحث عنه ـ حسب رأي خلف الله ــ في القصص القرآني هو: هل يوجد هذا القصد وهذا المعنى الذي يسري على جميع القصص الأدبي في القصص القرآني أو ينعدم فيه؟ وبأسلوب أوضح: هل القرآن في نقله للقصص أراد نفس الغرض الذي يطرحه أيُّ قصّاص وراوٍ أدبي أو أراد شيئاً آخر؟ هل أراد القرآن من خلال القصص أن يخاطب الوجدان والجانب العاطفي فيه وأن يجعل مشاعره تتحرك وتتأثر أو أراد أن يخاطب عقله، وبالتالي يقيم عليه الحجة والدليل؟([1]).

وينتقل خلف الله بعد هذا إلى بيان أنواع وأقسام القصة، فيقسمها إلى: تاريخية؛ وتمثيلية؛ وأسطورية، ويعرف الأسطورة بقوله: إنها القصة التي تقوم على الأسطورة من أجل شرح هدف علمي أو تفسير ظاهرة وجودية أو تقريب مسألة صعبة إلى الأذهان، لا يمكن أن يستوعبها العقل إلا عن طريق العرض الأسطوري، بمعنى أن الأسطورة ليست هدفاً في القصة في حد ذاته، بل مجرد وسيلة وآلية من الآليات([2]).

ويعتقد خلف الله أن الأقسام تتفاوت مع بعضها، بحيث إن الأسطورة ليست هي القصة التاريخية، وكذلك ليست هي القصة التمثيلية، فالمادة الأدبية في القصة التاريخية تقوم على أحداث ووقائع قد جرت فعلاً في التاريخ، والقرآن في القصص التاريخي يعرض تلك الوقائع والأحداث، وينظمها بشكل يفي بالغرض من ذكرها؛ بينما المادة الأدبية في القصة التمثيلية تكون غير تاريخية، وبالتالي غير واقعية، وهذا هو السبب الذي يدفعنا إلى تسميتها بالقصة الخيالية أو الافتراضية، والقرآن ــ حسب رأيه ــ كما استفاد من القصص التاريخي استفاد من القصص التمثيلي؛ ليصل إلى أهدافه. بينما القصة الأسطورية هي قصة في كل أطوارها وفي كل مادتها الأدبية.

ويضيف خلف الله أن المفسرين يجمعون على تواجد القصص التاريخي في القرآن بلا منازع، وكذلك هناك بعض من المفسرين يعترف بوجود القصص التمثيلي في القرآن، بينما لا نجد لهم رأي مثبت حول وجود الأسطورة في القرآن، بل منهم من نفى تواجد هذا النوع من القصص الأدبي، ومن المعاصرين من تنصَّل من طرح الموضوع، فلم يتعرض حتى للفظ الأسطورة الموجود في القرآن([3]).

وحتى الآن لم يورد خلف الله تعريفاً جامعاً مانعاً للأسطورة، فقد اكتفى بما قاله آنفاً، ولم يتتبع التعريفات اللغوية والاستعمالات للفظ الأسطورة عند العرب في كتب اللغة، والتي تجمع على أن لفظ الأسطورة يعني مجرد الأباطيل، والكلام الأجوف الذي يفتقد إلى دليل وبينة، وكذلك الكلام غير المنظم والذي لا ترجى منه منفعة([4])، وكأنه اكتفى بتعريف الأسطورة في الأدبيات الغربية، حيث تعتبر الأسطورة في الأدبيات المعاصرة في الغرب من أهم الأنواع الأدبية التي تحظى بغطاء مقدَّس تبعاً لأهدافها ومقاصدها، ونجد لها تعريفات متعددة لدى محقِّقي الغرب، حيث يقول أحدهم: «إن الأسطورة في اللغة اليونانية القديمة أن كل قصة أو شبيه القصة مما ليس له أية علقة بالأسطورة يطلقون عليه «mythos»، ولا يعيرون اهتماماً لصدقها أو كذبها؛ أما اليوم فإن لفظ «myth» يراد به القصة التي تبتني على قوانين وخصوصيات تعارف عليها ما يسمى بعلم الأسطورة أو «الميثولوجيا» (mythology)، وهو اصطلاح يطلق ويراد به مجموعة من القصص أو الأفكار القديمة والموروثة والمتجانسة مع بعضها، والتي يعتقد في بعض الأوساط أنها حقيقة وليست خيالاً. ووظيفة هذه المجموعة من القصص تركيز المعتقد الديني خصوصاً في جانبه الغيبي أو ما يصطلحون عليه بما وراء الطبيعة: من أين أتى هذا العالم وما يرتبط به من ظواهر وكائنات؟، كما أنها تجيب وتوضح بعض الاعتقادات أو العادات الاجتماعية أو الأفكار الفلسفية([5]).

وعرفها آخر بقوله: إنها ــ أي الأسطورة ــ قصص تناقلتها الأجيال بشكل شفاهي تحمل في طياتها توضيحاً وتبييناً للظواهر الطبيعية، كما أنها توضح وبشكل بسيط المعتقدات والموروث الديني بشكل عام([6]).

وقيل في تعريفها أيضاً: «إنه لا يهم مدى صحة أو عدم صحة الأحداث التاريخية التي تحكيها، ولكن يكفي ما حملته من مفاهيم اعتقادية لأصحابها»([7]).

ومن خلال كل هذا نستطيع القول: إن محمد أحمد خلف الله أراد بالأسطورة نفس ما حملته هذه التعريفات، يعني أن الأسطورة لا وجود لها في العالم الخارجي، وإنما تحققت في الخيال، وتناقلتها الألسن، وكان الهدف والغرض من حبكها وصناعتها مقدس، ويتطابق والثقافة الدينية والمعتقدات السائدة في قوم من الأقوام، وبرأي خلف الله فإن الأسطورة لها وجود في القرآن الكريم.

أدلة الدكتور خلف الله على وجود الأسطورة في القرآن الكريم ــــــ

من أهم الأدلة التي استدل بها خلف الله على نظريته في وجود الأسطورة في القرآن تلك الآيات التي وردت فيها عبارة «أساطير الأولين»، حيث ذكر جميع تلك الآيات، وعرض ما يمكن أن يستنتج منها، وتلك الآيات هي:

1ــ {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25).

2ــ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (الأنفال: 31).

3ــ {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (النحل: 24).

4ــ {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 83).

5ـ { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 5 ـ 6).

6ـ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (النمل: 67 ـ 68).

7ـ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأحقاف: 17).

8 ـ {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (القلم: 10 ـ 15).

9ـ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إلاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (المطففين: 10 ـ 13).

استنتاجات من الآيات الكريمة ــــــ

1ــ عدد الآيات التي أتت فيها عبارة «أساطير الأولين» تسع آيات في كل من السور التالية: الأنعام، الأنفال، النحل، المؤمنون، الفرقان، النمل، الأحقاف، القلم، المطففين.

2ــ جميع السور التي نزلت فيها هذه الآيات مكية، وحتى سورة الأنفال التي نزلت في المدينة فإنه بحسب المصحف الملكي([8]) فإن الآيات 30 إلى 36 نزلت في مكة.

3ــ من خلال كون جميع السور التي حوت تلك الآيات مكية أو نزلت في مكة يتضح لنا أن ادعاء أسطورية القرآن كان من طرف أهل مكة ومشركي مكة، أما القرآن في مرحلة المدينة فإنه لم يُشِرْ إلى أي ادعاء من هذا القبيل، وهي مسألة تستدعي التأمل والكثير من التفكر.

4ــ تفحص الآيات يجرّنا إلى استنتاج كون الذين نعتوا القرآن بالأسطورة كانوا ممن ينكرون البعث، ولا يؤمنون بالقيامة والنشور، وهذا ملاحظ في كل من الآيات التي وردت في سورة المؤمنون، النمل، الأحقاف، والمطففين، وهذه المسألة تدعو إلى التأمل الجاد أيضاً.

5ــ توضِّح وقفة تأمل للآيات أن دعوى المشركين بأسطورية القرآن كانت من خلال اعتقاد جاد ومن منطلق القطع، فهم ذهبوا إلى النبي الأكرم ‘، واستمعوا إلى ما يتلوه من الآيات، ولكنهم وجدوه مجرد أساطير، وتكراراً للادعاءات الخرافية التي وصلتهم من قبل.

يقول خلف الله: إنه من خلال ما سبق يتبين أن الإشارة إلى القرآن بأنه أساطير مسألة جدية وشبهة قوية واجهوا بها النبي الأكرم ‘، وطرحوها أمامه، وفي زمن نزول الوحي، وسورة الأنفال تقرّبنا كثيراً من أحاسيس المشركين آنذاك، فهم قطعوا بأسطورية القرآن، ولم تكن مسألة لعب أو نابعة من عبثهم وحقدهم، وإلا ما كانوا ليطلبوا من الله أن يمطرهم بحجارة من عذاب ويعرضوا أنفسهم للتهلكة حتى يتضح لهم نقيض دعواهم.

إذاً فالاعتقاد بأسطورية القرآن من طرف مشركي مكة كانت مسألة لا جدال فيها ولا مراء، مما يعني من جهة أخرى أن لديهم حجة قوية استندوا إليها في جزمهم هذا.

ويتجدد الأمر في سورة الأحقاف، حيث لم يستطع هذا الشاب إلا أن يعتقد بأسطورية القرآن في ما يخص ادعاءه بعودة الحياة للأموات بعد أن تلاشت أبدانهم واندثرت.

لنصل إلى كون القرآن قد بين في أكثر من موقع إحساس المشركين تجاه الآيات التي تذكر الحياة بعد الموت، وتجاه كل الآيات التي تتحدث عن البعث والنشور والقيامة والحساب والجنة والنار. إذاً ما سر هذا الاعتقاد وتكراره أكثر من مرة ومن أكثر من نفر لو لم يكن في القرآن فعلاً شيءٌ يدعو إلى هذا الادعاء؟

6ــ من خلال التأمل في تلك الآيات المشتملة على الاتهام بأسطورية القرآن لم نجد في القرآن، وبجانب تلك الآيات، آيات أخرى ترفع هذا الاتهام وتدحضه وتنفي الأسطورة عن القرآن، بل كل ما يرد معها هو السعي إلى التأكيد الشديد على أن هذا القرآن ــ الذي تدعون أنه أسطوري ــ ليس من صنع محمد ‘، بل هو من عند الله، وحتى تصبح الفكرة أقرب إلى الأذهان نراجع الآيات التسع، كلاًّ على حدة:

أ ــ في سورة الأنفال، المؤمنون، النحل، والأحقاف، ذكرت الآيات قول المشركين بأسطورية القرآن من غير أي نفي أو رد عليهم.

ب ــ في سورة الأنعام والمطففين، وبعد أن ذكرت الآيات ادعاء المشركين وجود الأسطورة في القرآن، نجد الآيات التي تلتها تكتفي بتهديد منكري البعث والقيامة وتتوعدهم بالعذاب الشديد؛ لمنعهم الناس من الإيمان برسالة النبي الخاتم ‘، من غير أن تشير إلى موضوع الأسطورة.

ج ــ في سورة الفرقان، حيث قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 5 ـ 6)، لم تردّ الآية الشريفة على ادعائهم ورميهم القرآن بالأسطورة، بل ذهبت لتنفي وجود أي أحد ممن سولت لهم أنفسهم يستطيع أن يتلو هذا القرآن على النبي الأكرم ‘، بل القرآن بما فيه من أسطورة أنزل من عند الله الذي يعلم سر السموات وسر الأرض، ولا ملازمة بين الأسطورة وما نفته الآية، فبدل أن يكون جواب الشبهة ملازم لموضوع الآية انتقلت إلى موضوع آخر، وهو نفي أن يملي القرآن أحدٌ على رسول الله، ويقوم بعد ذلك بكتابته([9]).

وبناءً على ما سبق نطرح المسألة في نقطتين: أولها: كون المشركين وأهالي مكة يعتقدون بشكل راسخ بوجود الأسطورة في القرآن؛ وثانيها: كون القرآن لم يصدر منه ما ينفي الأسطورة عن القرآن، بل رفض كونه من عند غير الله، وكون النبي هو من صنعه أو كتبه بعدما أملي عليه، مما يعني القول: إن وجود الأسطورة في القرآن شيء أثبتته الآيات نفسها، ولم يرِدْ من القرآن ما ينفيه، بعد أن عرض عليه في أكثر من آية. ومن هنا يخلص خلف الله إلى سؤالين يجد لهما جواباً من خلال القرآن نفسه:

السؤال الأول: لماذا ينعت منكرو البعث والقيامة القرآن بالأسطورة؟

السؤال الثاني: لماذا اقتصرت هذه التهمة وهذا الادعاء على مشركي مكة، وعلى القرآن المكي دون المدني؟

وللإجابة عن هذين السؤالين يذهب خلف الله إلى استحضار قصتين ورد ذكرهما في القرآن في سورة البقرة، وهما: قصة عزير النبي؛ وقصة إحياء الطيور الأربعة على يدي إبراهيم ×: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هذه اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أولَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 259 ـ 260).

والآيتان تعرضان مسألة الإحياء بعد الموت بطريقة عملية في حين يعتبر المشركون هذه المسألة مجرد خرافة وأسطورة. وإذا ما أضفنا استدلال بعض المستشرقين على أن قصة أهل الكهف لا حقيقة لها، وأنها مجرد خرافة وخيال، نصل إلى السبب في إصرار منكري البعث على أن الحياة بعد الموت خرافة وهراء، وقد كانوا كلهم مكيين، ولم يطرح أهل المدينة أصلاً أسطورية القرآن. واذا ما نبشنا في ذاكرة التاريخ نعرف أن أهل المدينة كانوا معاشرين لأهل الكتاب من اليهود الذين استفاد كتابهم المنزل كثيراً من الأسطورة في تقريب المعتقد من العقول، لذا فهم مشبعون بثقافة الأسطورة، ولا يجدون في وجودها في القرآن أيّ حرج أو أمراً يستلزم كل ذلك الإنكار؛ بينما كان أهل مكة والمحيط المكي بعيداً طوال فترة النزول الأولى عن ثقافة أهل الكتاب، ووجدت الأسطورة لديه فراغاً ثقافياً ومعرفياً، لذا سعى بشدة إلى شجبها ومعايرة القرآن بها، بل كان هذا الجهل الثقافي سبباً في ردّهم لدعوة القرآن وجحودها.

ومن خلال كل ما سبق يخلص خلف الله إلى أن دخول الأسطورة إلى الوسط المكي كأسلوب أدبي جديد لم يلقَ القبول لديهم؛ لعدم إلفتهم به، وهذا ما سبب لهم إنكار الدعوة كلياً. لذا فإن إدخال الأسطورة ضمن أسلوب الدعوة في القرآن من بين نقاط الإعجاز التي تحدى القرآن بها مشركي مكة، وكانت خطوة جديدة في انفتاح الأدب العربي على هذا الفن.

ومن هذا المنطلق يصبح الإشكال واقعاً على من أنكر وجود القصة الأسطورة في القرآن؛ لأن هذا يعني عدم الفهم الصحيح لنصوص القرآن، وعدم القدرة على إدراك مقاصد الآيات في استعمال هذا الفن الأدبي. وكذلك ــ بعد كل هذا التحليل ــ تصبح إيراداتُ المستشرقين بأن بعض القصص القرآني لا واقعية لها عاريةً من كل قيمة ما دامت جل الكتب السماوية والكتابات الأدبية العالمية ترى في الأسطورة فناً أدبياً يفي بالغرض المقدس له. ومن افتخارات الأمة الإسلامية كون القرآن أول من أسس قواعد هذا الفن الأدبي في ساحة الأدب العربي، وليس غيره.

نظرية خلف الله، نقد وتحليل ــــــ

إن أهم دليل اعتمده خلف الله في إثبات أسطورية بعض القصص القرآني هو تركيزه على الآيات التسع، وخلوصه إلى فكرة أن عدم رد القرآن وعدم دحضه لمدّعى أهل ومشركي مكة دليل على وجودها فعلاً، وإنما راح القرآن في كل مرة يشار إليه بالأسطورة إلى إثبات أن القرآن بكل ما يحمل، ومن ضمنها الأسطورة، هو من عند الله، ولا ملازمة بين إثبات أن القرآن من عند الله وبين نفي أو إنكار الأسطورة.

لكن دعوى خلف الله غير تامة من جهات متعددة، أهمها:

أولاً: الادعاء الناقص؛ لأن منهج خلف الله نفسه كان هو التفسير الأدبي، وما قام به من تفسير للآيات التسع السالفة الذكر يغاير هذا المنهج؛ لأن هذا يبتني على نقاط أساسية ثلاث:

أ ــ إن الآيات القرآنية تفسر من خلال موضوعها، أي يعتمد على التفسير الموضوعي للآيات.

ب ــ يراعي في الآيات قيد الدرس ترتيب نزولها، الأولى ثم الأولى، كما يراعي فيها مكان وزمان نزولها.

ج ــ ينظر إلى الكلمات والألفاظ القرآنية بما كانت تحمله من معنى في عصر النزول، وليس ما أصبحت تعنيه في الزمن المعاصر، بل لابد من الرجوع إلى كتب اللغة القديمة والمنابع اللغوية الأم.

وحسب ما ذهب إليه خلف الله في تفسيره للآيات التسع السابقة فإنه لم يُراعِ أيّ بند من البنود الثلاثة السابقة، وان كان البند الثالث يتطلب بحثاً مستقلاً؛ فإن الاقتصار على البندين الأولين يفتح المجال واسعاً أمام بيان ضعف استدلال خلف الله. لذا نرى من حيث ترتيب نزول الآيات أن السور تأتي بهذا النحو: الأولى: الآية من سورة القلم، الثانية: الآية من سورة الفرقان، الثالثة: الآية من سورة النمل، الرابعة: الآية من سورة الأنعام، الخامسة: الآية من سورة الأحقاف، السادسة: الآية من سورة النحل، السابعة: الآية من سورة المؤمنون، الثامنة: الآية من سورة المطففين، وتأتي أخيراً في الرتبة التاسعة الآية من سورة الأنفال.

وإذا نظرنا إلى كل آية على حدة نجد:

1ــ أول آية هي الآية 15 من سورة القلم، وذكرت بعض الروايات أن السورة هي الثانية من حيث تسلسل النزول، ويلاحظ أن الآيات التي سبقت الآية موضوع البحث ليس فيها شيء عن البعث والحياة بعد الموت، كما أن السورة لم تحمل أيّ نوع من القصص، بل كانت السورة في آياتها تدعو الناس إلى الإيمان بما أُنزل إليهم.

2ــ الآية الثانية هي الآية 5 من سورة الفرقان، يعني أنها أتت في السورة الواحدة والأربعين من حيث ترتيب النزول، والآيات التي وردت في سياقها «أساطير الأولين» لم تكن تتعلق بالبعث ولا الحياة الآخرة، بل جاءت بعد اتهامه للرسول بالإفك والكذب، وأن القرآن كان يُملى على النبي الأكرم ‘ من طرف أحد الأشخاص، وكان ‘ يكتبه ويخطه بيمينه، واعتبروا الآيات بجملتها مجرد أسطورة من هذا الباب، فأتت الآيات بعدها تنكر كونه من عند غير الله.

كما أن الآيات والسور التي نزلت قبل هذه السورة لم تكن متضمنة لآية قصة من القصص القرآني التي تتحدث عن المعاد والحياة بعد الموت والفناء، مما يدفع إلى القول: إن المراد بالأساطير شيء آخر غير القصص غير الواقعية!

3ــ في الآية 68 من سورة النمل، يعني السورة السابعة والأربعون من حيث ترتيب النزول، كانت المرة الأولى التي يأتي تعبير «أساطير الأولين» بعد ذكر المعاد وإحياء الموتى في الآخرة، وحتى هذا لا يعتبر في سياق القصة عن عملية الإحياء، بل الموضوع ينحصر في ذكر أن هناك حياة أخرى بعد الموت وأن الموتى سيحييهم الله بعد موتهم، وهو ليس بالموضوع الجديد عليهم، بحيث إن ما سبقه من الرسالات السماوية لم تخلُ سطورها من هذا الموضوع البتة.

وبالرجوع إلى السورة التي استدل بها خلف الله على كونها تحدثت عن عملية الإحياء بعد الموت، والتي اعتبرها أسطورة، وهي سورة الكهف، وهي من حيث تسلسل النزول تأتي في المرتبة التاسعة والستين، أي بعد خمس مرات من ورود الآية «أساطير الأولين»، وبعد أن نسب المشركون الأسطورة للقرآن الكريم في سورة البقرة التي نزلت في المدينة، وكما سبق فإن خلف الله حصر تهمة المشركين للقرآن بالأسطورة في القرآن المكي دون المدني، مما يعني أنه حتى على فرض أن القرآن لم يدفع عن نفسه تهمة الأسطورة فإن التهمة لم ترد في مقام القصة في كل الآيات التسعة السابقة.

ثانياً: ادعاء خلف الله ضعيف حين رأى أن القرآن لم ينكر في أيٍّ من الآيات التسع تهمة المشركين ولم يردها؛ لأن القرآن في الآيات التسع كلها أنكر ادعاء المشركين ورده بشدة، ويتّضح هذا جلياً بالرجوع للآيات نفسها، مثلاً:

1ــ في الآية: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (القلم: 15) تم إسناد الآيات إلى الله سبحانه، وفي هذا الإسناد الذي يقابل الأساطير نوع من الإنكار، أي إن الآيات هي من عند الله، وليست أساطير وخرافات.

2ــ في الآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) كان الرد والإنكار عبر قوله تعالى مباشرة بعدها: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، يعني أن هذا القرآن الذي ترمونه بالأسطورة، كما ترمون ما قبله من الرسالات، وتدّعون أن النبي الأكرم نقلها أو أُمليت عليه، هو من عند الله الذي يعلم السموات والأرض، يعني أنّ القرآن ليس أسطورة.

قال خلف الله ضمن هذه الآية: إن الرد والإنكار كان مختصاً بالإملاء والاكتتاب، ولم يرفع دعوى الأسطورة.

وهذا غير صحيح من وجهين:

أ ــ الإنكار هنا جاء على نحو الإطلاق، مما يعني أنه غير مختصّ بواحد دون الآخر.

ب ــ لا يمكن التفكيك بين أساطير الأولين وبين اكتتاب النبي لها بحسب ادعائهم، يعني أن الدعوى جاءت في شكل قضية منطقية: القرآن ليس نازلاً من عند الله، بل أُملي على النبي ‘ واكتتبه، فهو أسطورة، لكنه نازل من عند الله، فتكون النتيجة إذاً أنه ليس أسطورة.

فيلاحظ من خلال هذا الطرح المنطقي عكس ما ذهب إليه خلف الله، وهو أن القرآن كان في صدد نفي الأسطورة عن القرآن الكريم.

ثالثاً: موضوع الآيتين 24 ــ 25 من سورة النحل هو أن القرآن في صدد توضيح أن المستكبرين الذين لم يؤمنوا حين تسألهم عن الآخرة: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُم} يكون جوابهم: {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين}، وتوضح الآية أن حكمهم هذا ناتج عن جهلهم وعدم معرفتهم بحقيقة القرآن {بِغَيْرِِ عِلْمٍ}، فيتحمّلون أوزارهم وأوزار من ضلوا بهذا الجهل والتعصب الأعمى يوم القيامة. والآية إنكار لاذع لجواب الكفار والمشركين حول ادعائهم أسطورة القرآن، وفي جهلهم وإضلالهم للناس وصدّهم عن الإيمان.

رابعاً: الآية 13 من سورة المطففين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} واضحة في أن رميهم بالأسطورة جاءت لهذا الذي يُتلى عليهم، فإما أن يكون من عند الله؛ وإما أن يكون أسطورة كما يدعون، ولا يمكن إلا أن يكون واحداً منهما، وما دام الله سبحانه وتعالى قد نسبها إلى ذاته المقدسة فلم يعد هناك مجال لأن تكون أسطورة، وإنما جاءت هذه التهم منهم لسيطرة أهوائهم، وقد سيطر الصدأ على قلوبهم، بحيث لم يعد لديهم فسحة للتفكر والتأمل، فلفظ «كلا» يجعل إنكار الأسطورية عن القرآن شديداً وقوياً، ولم يعد معه مجال للتردد والحيرة.

خامساً: الآية 25 من سورة الأنعام توضح أن كلّ آية تأتي هؤلاء القوم من طرف الله فهم فيه نوعان: إما أن يؤمنوا به ويصدقوه؛ وإما أن ينكروه ويكذبوه، ويلجؤون إلى دعواهم أسطوريته؛ للتغطية عن هذا الموقف السلبي؛ ولتبرير سيطرة العمى والضلال على قلوبهم؛ وحتى يمنعوا الناس الآخرين من الإيمان، وهي دعوى بدون حجة وبينة، فالآية تضع الآيات في مقابل الأسطورة؛ فإما أن تكون آيات حقاً؛ وإما أن تكون أسطورة، وهو إنكار واضح لا يمكن التغافل عنه.

سادساً: ويختص بالآية 31 من سورة الأنفال، حيث ادعى خلف الله مكيتها، ومن ثم خرج بنظرية أن أهل المدينة في حركة رفضهم للقرآن لم يصدر منهم حكم عليه بالأسطورة؛ نظراً لكون الأسطورة من الثقافات المألوفة عندهم؛ لاعتيادهم سماع الكتب الأخرى من توراة وإنجيل، وهي الكتب التي ما فتئت تستعمل الأسطورة كأسلوب في التربية والإرشاد([10]).

والناظر في كتب التفاسير يلاحظ أن لا دليل قوي يُرجِّح كون السورة مكية، اللهم إلا بعض الروايات التي رجّحت كونها مكية بلحاظ موضوعها([11])، حيث نقلت روايات تقول: إن الآية نزلت بحقّ النضر بن الحارث الذي أكثر من السفر إلى بلاد فارس والحيرة، وأكثر من الاستماع إلى قصص الرهبان وقصص الإنجيل وأخبار رستم وإسفنديار، وكان ينقلها إلى المشركين والكفار من أهل مكة، حتى يمنعوا الناس باللحاق بركب الإسلام والإيمان([12])، كما تحاول تلك الروايات أن تخص الآية {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ} بالنضر أو أبو جهل أو كفار قريش([13])، وهو الشيء الذي دفع بهؤلاء المفسِّرين إلى الاعتقاد بمكية السورة.

ولكن بالرجوع إلى سياق الآيات في السورة، سواء السياق الداخلي أم الخارجي، يجعل السورة مدنية، وتحديداً أنها نزلت بعد غزوة بدر الكبرى([14])، فسياق سورة الأنفال يوضح لنا أن الآيات قيد البحث تعكس لنا حالة المسلمين بعد المعركة وقُبيل تقسيم وتوزيع الغنائم والخوض في مسألة الأسرى، وهي المعركة التي قتل فيها أبو جهل، وأسر فيها النضر بن الحارث، وما تبعها من أحداث، فنزلت هذه الآيات تذكر المسلمين بما كانوا عليه في الماضي، وقد استعملت الآية في بدايتها أداة «إذ» لترجع بذاكرتهم إلى الماضي، مما يحتمل معه أن هذه الآيات (30 ــ 32 من سورة الأنفال) قد نزلت بعد غزوة بدر؛ لعطفها على سبق من الآيات {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (الأنفال: 6)، وتعني: واذكروا إذ.

والآيات هي خطاب للمؤمنين والمسلمين لتثبيت قلوبهم وطمأنتها، وهي في نفس الوقت خطاب للكفار، يعرِّض بهم، ويذكِّرهم بما كانوا يقولونه لمّا كان النبيّ الأكرم بين ظهرانيهم يتلو عليهم الآيات القرآنية، فكانوا يقولون مستهزئين: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ}، فالموضوع لم يكن في حال تلاوة أو قصّ قصة من القصص القرآني البتّة. كما أن قول الكفار: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، حيث رأى خلف الله أن ادعاءهم أسطورية القرآن لم يكن من جانب الجحود والتعنت، بل كان لعدم حصول القطع لديهم، وإلا ما كانوا ليطلبوا مثل هذا الطلب الذي يحمل في ذاته الفناء لهم. لكن الصحيح ــ وتبعاً لسياق الآية في السورة ــ أن الآيات تذكِّرهم بما كانوا يقولونه، وكيف وجدوا ما لحق بهم في غزوة بدر من الهزيمة، وتعريض منزلتهم للاستخفاف والاستهزاء([15]). والله يبين في نفس الآيات سبب تأخير العذاب عليهم؛ وذلك لأن الرسول الكريم ‘ كان بينهم، وكذلك لو كانوا أهل الاستغفار لما كان من المناسب أن ينزل عليهم العذاب.

إذاً نستطيع الجزم بأن الآيات، سواءٌ من جهة معانيها أو من جهة زمن ومكان النزول، وتقابل الأسطورة للآيات، كانت في صدد إنكار كون القرآن أسطورة، وتنكر كل ما يمس بحقانيتها، وأنها من عند الله؛ بل تعتبر أن ما حصل في المدينة أثناء وبعد غزوة بدر دليلاً ملموساً غير قابل للشك على إلهية القرآن، وأنه ليس أسطورة وأساطير.

والنتيجة أن لا دلالة في آية من الآيات التسع التي وردت في هذه المقالة، والتي كانت محور استدلال خلف الله، على أن القرآن يثبت ولا ينفي كون القرآن أسطورة، بل الآيات جميعها كانت في مقام الدفاع، بل الإنكار الواضح لأسطورية القرآن، وإثبات أن القرآن آيات تنزلت على النبي الأكرم من الله تعالى.

خلاصة واستنتاج ــــــ

في هذه المقالة تم عرض أهم الأدلة التي بنى عليها محمد أحمد خلف الله نظريته بوجود الأسطورة في القرآن، وأن القرآن لم ينكر ذلك أو يشجبه. لكن؛ باعتماد التفسير الأدبي الذي يعتبر خلف الله أحد رواده والداعين إليه؛ وبالسير ضمن قواعده وخطواته، والتي من أهمها: ترتيب الآيات حسب تسلسل النزول؛ واعتماد التفسير الموضوعي في أخذ النتائج، اتضح أن الآيات كانت كلها تدافع عن صدق وإلهية القرآن، وتنفي فيها كلها أسطورية القرآن أو وجود الأسطورة في القرآن بشكل مطلق. وحتى لو لم يفهم من الآيات أنها تنكر وتنفي الأسطورة عن القرآن فيكفي أن لا آية من تلك الآيات كانت في موقع سرد قصة من القصص الذي ورد في القرآن الكريم، وأن دعوى الكفار والمشركين بأن القرآن «أساطير الأولين» كانت قبل الآيات التي تحدثت عن عملية الإحياء بعد الموت، كما ذكر في سورة البقرة من خلال قصة عزير النبي ×، ومن خلال إحياء الطير على يدي إبراهيم ×، وهما القصتان اللتان اعتمدهما خلف الله في دعم دليله، كما تبين من خلال مراعاة ترتيب النزول أنهما نزلتا بالمدينة، ولم يكن هناك حديث عن الأسطورة، كما ذكر خلف الله، الذي حصر القول بالأسطورة فقط في مكة؛ لغرابة الموضوع عن الأذهان، وانتفى بالمدينة؛ لاستئناس أهل المدينة بثقافة الأسطورة، وعدّهم إياها أسلوباً في التربية والتوجيه.

الهوامش

(*) باحث متخصّص في علوم القرآن الكريم.

([1]) محمد خلف الله، الفن القصصي: 152.

([2]) نفسه: 153.

([3]) نفسه: 199.

([4]) ابن منظور، لسان العرب 4: 363.

([5]) للاطلاع أكثر على مفهوم الأسطورة راجع: سيروس شيما، أنواع القص الأدبي: 87 ــ 89، الطبعة الثالثة، طهران، إصدارات الفردوسي، 1383.

([6]) عبد الحسين زرين كوب، در قلمرو وجدان: 405 ــ 406، طهران، إصدارات العلمي، 1365.

([7]) جان هينلز، شناخت أساطير جهان: 22، ترجمة: جاله آموزكار وأحمد التفضلي.

([8]) المراد به المصحف الذي طبع بتاريخ العاشر من ربيع الثاني لسنة 1337هـ ، الموافق لتاريخ 13/1/1919م، بمصر، وهو بقراءة حفص بن سليمان الكوفي، ويعتقد أنه يرجع إلى عثمان وعلي ×، وهو مصحف وضعت فيه السور بحسب تسلسل النـزول، ويرى الدكتور راميار أنه ترتيب السور فيه معتبرة وقريبة جداً من الواقع (انظر: راميار، تاريخ القرآن: 662).

([9]) محمد خلف الله، الفن القصصي: 203.

([10]) نفسه: 202 ــ 206.

([11]) نفسه: 205 ــ 206.

([12]) نفسه: 209.

([13]) نفسه: 31.

([14]) نفسه: 201.

([15]) نفسه: 32.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً