أحدث المقالات

ترجمة: حيدر حب الله

تمهيد ــــــــــ

الاجتهاد واحد من أبرز الامتيازات البالغة الأهمية في الحوزات الشيعية، إلى جانب حضور العلوم الفلسفية، فالاجتهاد يعني الاستقلال بالرأي ـ إيجابياً ـ في الموضوعات المتناولة، ولطالما كان على الدوام سنّةً جارية، وظاهرةً لاقت أهميةً خاصة، وحظيت باعتبار ممتاز.

إلاّ أنّ هذه الظاهرة سرعان ما ضاقت لتنحصر في مجال الفقه ودائرة الأحكام الفقهية، فالذين يبلغون هناك مرحلة الاجتهاد لا يقلّدون أحداً، وما لم تصل آراؤهم الشخصية وأنظارهم المستقلة لنتيجةٍ ما ـ بعد الفحص التام والتأمّل الكافي في الأدلّة والمصادر، أي يحصل عندهم استفراغ الوسع كما يقال ـ لا يقبلون بهذه النتيجة ولا بغيرها، ومن ثم لا تقع الآراء مقبولةً لديهم بمجرّد أن كبيراً أو عظيماً قالها أو تبنّاها، وإلاّ فإن اجتهادهم سوف يتحوّل إلى تقليد، وتنقلب الوقائع بالنسبة إليهم.

وللمنهج الاجتهادي أهمية بالغة، ويمكن القول: إن هذه الظاهرة على ما هي عليه اليوم في المعاهد والحوزات الدينية الشيعية تمثل مفخرةً عظيمة وامتيازاً قلّ نظيره ـ بل ربما انعدم ـ على بعض المستويات.

الفقر الاجتهادي في الدرس الفلسفي ــــــــــ

إلاّ أنّ السؤال هنا: لماذا لم يَسُد هذا المنهج أو يُتداول في مجالي الفلسفة والعرفان؟! ففي الفقه يبدي الفقيه نظره الاجتهادي أو يقدّم المجتهد رؤيته الفقهية بوصفها نتاجاً حاسماً ونهائياً من وجهة نظره، اعتماداً على أساسيّاته العلمية ونظرياته التحتيّة، إلاّ أنّ الحال في الفلسفة يبدو مختلفاً، إذ يترائى ـ في الغالب ـ أن ما قاله العظماء الماضون هو الموقف النهائي، وآخر الكلام، وفصل الخطاب، وهذا ما جعل الفلاسفة والمتفلسفين المسلمين وعبر ثمانمائة عام يصرّون على قضايا جمدوا عليها من نوع: أصالة الماهية، وعدم اتحاد العاقل والمعقول، واستحالة الحركة الجوهرية، وروحانية حدوث النفس، لتتلوها أربعمائة سنة أخرى هيمنت فيها المدرسة الصدرائية mالحكمة المتعاليةn، مقدّمةً آراء مختلفة وموضوعات متنوّعة، إلاّ أنّ أزمة حضور الشخصيات ذات الهيمنة الفكرية ظلّت حاضرةً على الدوام في الحقبتين معاً، وما تزال، وهذا ما جعل الاستدلال الحاصل في الفلسفة، والجهود البحثية الفاعلة، استدلالاً داخل النظام المهيمن، يتجه دائماً لمصلحة نظريّته وناحيتها، مما أفقد الفلسفة قراءةً من الخارج تُعمِل معاول النقد فيها، نعم، إنّ هذا هو الجوّ الغالب، ولا نقول: إنّه دائمي أو شامل على الإطلاق.

على أي حال، فقد هيمنت على الفلسفة طوال تاريخها الإسلامي مدارس فلسفية ثلاث أو نظم ثلاثة من المعرفة والتفكير، وهي نظم لم تتلاقى على ما يبدو: أحدها: النظام الفلسفي المشائي، وهو النظام الذي هيمن ثمانمائة عام على العقل الفلسفي كما اتضح، وثانيها: النظام الفلسفي، العرفاني الصدرائي، المعروف بمدرسة الحكمة المتعالية، وهي المدرسة التي سيطرت على العقول الفلسفية لأربعة قرون، ابتداءً بالقرن الحادي عشر الهجري، وسوف نبيّن أن الفلسفة بطبيعتها يفترض أن تكون غاصّةً بألوان الحراك لا السكونية، محكومةً لنظام الاجتهاد والإبداع لا التقليد والاتّباع، نازعةً نحو الانتقاد لا النقل والانتقال المحض.

يعني الاجتهاد في اللغة الجهد والسعي، وبذل الطاقة برمّتها للوصول إلى أمرٍ أو مسألة، والمصدر المجرّد للكلمة هو: جَهْد، والذي يدلّ على السعي حتى التعب والنفاد، تقول: جَهَدَ، يَجْهُدُ، جَهْداً في الأمر: جدّ وتعِب، يقول ابن منظور: mالاجتهاد والتجاهد: بذلُ الوسعِ والمجهودn([1])، ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ زوائد باب الافتعال (الهمزة والتاء) تخضع لقانون: mزيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنىn، ومن ثم تضيف دلالةً أكبر على المعنى، ومعنى ذلك أنّ كلمة الاجتهاد تعني بذل الجهد الكبير والسعي الحثيث، بما يزيد عمّا نفهمه من المصدر المجرّد للكلمة: mجهدn، والذي يدلّ هو الآخر على السعي حتى التعب والإجهاد.

ومن هذه المادّة كلمة الجهاد، الذي ينشطر إلى أصغر، وأكبر، والجهاد الأصغر يتطلّب هو الآخر سعياً جهيداً وثقيلاً، تماماً كما قاله الراغب الإصفهاني: mالجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدوّn([2]).

كان ذلك توضيحاً مختصراً للمعنى اللغوي لكلمة: اجتهاد، وأصلها اللغوي وجذرها الكلامي، أمّا معناها المصطلح والفقهي فهو معروف أيضاً، وقد أشرنا إليه آنفاً، إلاّ أنّه يمكن القول بشكل عام: إن الاجتهاد يعني السعي قدر المكنة للوصول إلى رأي مستقل في موضوعٍ ما، مقابلاً التقليد والاتباع للغير..

ويحظى الاجتهاد بسابقة طويلة في المحافل العلمية التقليدية، حتى صار سنّةً ومنهجاً، كما يملك أهميةً عظيمةً وقيمةً سامقة، فالروح العلمية الحاكمة على الحوزات الشيعية هي روح الفهم الاجتهادي، روح البحث والتحقيق، أي أنّ طلبة العلوم الدينية يسعون ـ حتى على الصعيد اللغوي والمقدّمي ـ لممارسة فهمٍ دقيق لأيّ مسألةٍ يواجهونها، سواء في المتن أو الحاشية، مطالبين أو باحثين ـ دوماً ـ عن الدليل لبلوغه ونيله.

إنّ هذا المشهد الذي عرضناه، يمكن أن يسمّى بالاجتهاد عندما يمارس بصورته الدقيقة في مجال علم الفقه، فالمجتهد هو الذي ينال في بحثه ضمن قضايا الفقه رأياً استدلالياً مستقلاً، ومن ثم لا يقلّد غيره أو يتبعه، لا بل إن التقليد من مثله عمل غير لائق، ولا محمود، إنّه يقوم بنفسه في أي موضوع يريد تناوله علمياً بإعمال المنهج الاجتهادي في استنباط الأحكام في المصادر الأربعة: الكتاب، والسنّة، والعقل، والإجماع.

هذا في الفقه، إلاّ أننا نريد هنا الحديث عن الحال في الفلسفة وعلم المعقول، فهل عرفت الفلسفة هذا اللون من الاجتهاد والإبداع بكلّ أبعاده ومضامينه ومحتوياته ونزعاته نحو الحرية، بوصفه بناءً تُشاد عليه الدروس الفلسفية والأبحاث العقلية؟ الجواب: إن ذلك لم يحصل، نعم، من الممكن أن يقال: إن الدروس العقلية والبحوث الفلسفية كانت على الدوام تحتوي كمّاً من الأدلّة والبراهين، وتستفيد من علم المنطق والمنهج البرهاني، وهذا ما يكفي الفلسفة ويردّ لها اعتبارها، كما يستدعي منّا معالجةً أكثر عمقاً للموضوع، إلاّ أننا نشير لذلك ـ اختصاراً ـ هنا.

تمايز الظاهرة الاستدلالية عن الظاهرة الاجتهادية ــــــــــ

إن الاستدلال غير الاجتهاد، وبعبارةٍ أخرى: الاستدلال أعمّ من الاجتهاد الشخصي، فمن الممكن أن يستدلّ الإنسان على مسألة أو فنّ أو موضوع ويعدّد له أدلّةً وشواهد، إلاّ أنّه لا يكون مجتهداً في هذا الموضوع أو الفنّ، بل يكون استدلاله تعبيراً آخر عن أدلّة الآخرين وتقليداً لهم، أي إعادة تصوير محتوى كلام الآخرين، فهذا الإنسان يعرف الأدلّة التي تشاد على نظريةٍ ما مثل: أصالة الماهية أو أصالة الوجود، لكنه يعرفها داخل الأطر البنائية لصاحب هذه النظرية نفسه، فيقوم ببيانها وتقريرها، وهو وإن بدا مجتهداً إلاّ أنّه ليس سوى مقلّد لصاحب تلك المدرسة أو مبدعِ تلك النظرية، وهذا أمر دقيق، وفي الوقت عينه واضح.

وبناءً عليه، فالاجتهاد تخط لحدود معرفة النظريات وأدلّتها، ووصول إلى تكوين نظريةٍ خاصة، ودليل شخصي، واستدلال مستقل، واستقلال تام في الرأي.

ولا بأس هنا بذكر مثال هام يوضح فكرتنا ويجليها: فبعد أن أدخل الفيلسوف الكبير صدر المتألّهين الشيرازي (1050هـ) بحث المعاد الجسماني في الدراسات الفلسفية، وهو ما لم يفعله من قبل الفارابي وابن سينا، مثبتاً معاداً مثالياً شاده على الأصول الفلسفية ـ العرفانية المتداولة في فلسفته… تابعه على ذلك ـ على الدوام ـ شخصيات كبيرة عالمة بالفلسفة وواعية بمضمونها، ذاكرين أفكاره وآراءه بجدارة وقوّة، كاتبين في هذا المجال الأوراق والصفحات، مقرّرين مبادئه وأساسياته، بل ساعين لشرح أدلّته وتأكيدها والدفاع عنها…

لكن رغم ذلك كلّه، لم نجد قراءةً نقديةً أو اجتهادية عند هذا الفريق، لقد كان ذلك هو الغالب على المشتغلين بالفلسفة ولا نقول: إنهم جميعاً كذلك، بل السائد عليهم ذلك، سيما منهم المعتقدين بالفلسفة العرفانية الصدرائية، إلى أن جاء فريق لاحق، مارس اجتهاداً حقيقيّاً في الموضوع، وأبدى رؤى إبداعية استدلالية متحرّرة، فانتقد النظرية الصدرائية إجمالاً أو تفصيلاً، واعتبرها مخالفةً للمعاد الجسماني العنصري القرآني، وسوف نشير إلى هؤلاء قريباً.

واحدٌ من هؤلاء الاجتهاديين القلقين والمنتقدين الحيويين آغا علي حكيم (1307هـ)، والذي ظهر ـ بوصفه فيلسوفاً كبيراً ـ بعد حوالي 250 عاماً من صدر المتألهين، لقد وصفه بعض الأساتذة بالمؤسّس، نعم، لقد عكف آغا حكيم على دراسة نظرية المعاد الصدرائية دراسةً اجتهادية حقيقية، فقرأها من خارجها، مسلّطاً معاول النقد والتمحيص عليها، فرآها ناقصةً عاجزة، لهذا قام بنفسه بتقديم تصوّر جديد مختلف حول المعاد الجسماني، وهو تصوّرٌ نراه الأكثر قرباً للمعاد الجسماني الحقيقي ممّا طرحه صدر الدين الشيرازي([3]).

إن هذه الظاهرة الفلسفية يمكننا اعتبارها الأنموذج البارز للاجتهاد الفلسفي، وهو اجتهاد يقع على مرتبةٍ أسمى من مجرّد الاستدلال الفلسفي([4])، إنّ هذه الظاهرة هي التي نطالب بإعمالها في الفلسفة، وجعلها الأصل الأصيل الذي تقام الفلسفة عليه، وعبر هذا الحراك العقلي والفلسفي يمكن لعلماء الفلسفة، ومتكلّميها، وكتّابها، وقرّائها، أن يقدّموا نتاجاً أثمر، ليخرجوا من إطار التقليد في الاستدلال إلى الاستقلال فيه، فينالوا في كلّ قضيةٍ يدرسونها الاجتهاد الشخصي، ويكون لهم رأيٌ خاصّ بهم، وعليهم أن يتجنّبوا الاعتراف المتساهل بالأفكار، أو التعامل غير العلمي معها، أو الخوف منها والتهيّب، بل يرون أنفسهم ـ كل واحد ـ مكان فيلسوفٍ كبير، فينظروا القضايا كما ينظرها هو، فإذا حصل ذلك لهم كان هناك أملٌ في أن تخطو الفلسفة التراثية التاريخية (مع إقرارنا بكونها فلسفات قوية ومقتدرة لا كغيرها من الفلسفات) لتكوين فلسفة عصرية إسلامية، ونيل فلسفة حيوية ناضرة، وبهذا نحرّر عقول بحّاثي الفلسفة من آلاف الفلسفات السطحية، غير المنظمة، تلك الشبيهة بالفلسفات الضحلة الهزيلةِ البناء.

بين الاجتهاد التقليدي والاجتهاد التحقيقي ــــــــــ

ولكي تتضح صورة المسألة وتنفذ أكثر فأكثر إلى عقول الفضلاء ووعيهم، ليروا أن حضور الاستدلال وإعمال المنطق في فلسفتهم ليس شيئاً مقنعاً ولا كافياً. نزيد توضيح جوانب الموضوع، لهذا أعرض تصوّراتي الخاصّة حول الاجتهاد: حقيقته، وأنواعه.

يقع الاجتهاد ـ في الحقيقة ـ على نوعين:

1 ـ الاجتهاد التقليدي.

2 ـ الاجتهاد التحقيقي البحثي.

وشرح هاتين المقولتين صار واضحاً مما أسلفناه، فالاجتهاد التقليدي يعني أن يعيَ الباحث الحصيف نظرية فيلسوفٍ ما، ويبيّن استدلالاته، ثم يبحث داخل هذه النظرية وتحت ظلّها، بما يحقق لها النفع ويدرّ عليها الخير، فينشغل بالاستدلال لها، تماماً كما يقال: إن شأن الفلسفة الاستدلال، إلاّ أن هذا الباحث لا يحاول النظر بعين النقد لتلك النظرية بعد الانفصال عن المنظومة الفلسفية التي تحكمها، أو أنه لا يلتفت إلى أنّ هذه النظرية يمكن أن يطالها النقد والتفنيد، سواء على مباني هذا الفيلسوف نفسه أو وفقاً لأصول غيره من الفلاسفة، أي إن هذا الباحث الفلسفي قلّما يضع في اهتماماته أو أولوياته ممارسة نقدٍ للنظرية، لا على المبنى، ولا مبنائي، كما أنّه لا يواجه الانتقادات التي سجّلها الآخرون عليها بروح البحث الفكري، وطبقاً للمنهج العلمي.

ونماذج هذا اللون من معارضة حركة النقد الفلسفي بالغة الكثرة في القضايا الفلسفية، من قبيل الأدلّة التي يقيمها أكثر أنصار الفلسفات على مسائل فلسفتهم وقضاياها، إن هذا النوع من الاستدلال يمكننا تسميته بالاستدلال التابع أو
التقليدي.

إلاّ أنّه، وفي مقابل هذا اللون من الاجتهاد، ثمّة اجتهاد بحثي تحقيقي مستقلّ، واستدلال حرّ وفعّال، يقوم على الإطلال على أيّ نظريةٍ فلسفية من خارج مناخها المعترف به فيها، فتقرأ من هناك وفقاً لمناهج البحث العلمي الممنهج والمستقلّ، كما لا بدّ أن يقرّ سلفاً بأن هذه النظرية غير عصيّةٍ على النقد، ولا متعالية عن المساءلة، ويؤكّد هذا الاجتهاد أيضاً على أن الأسس الشهودية الكشفية العرفانية التي لا تملك بحدّ نفسها حجيةً عامّةً بل خاصّة بصاحبها، لابد من فصلها تماماً عن الأصول العقلية الصرفة، ومن ثم تمييز البراهين النظرية عن تلك الأوليّة الأساسية، إن هذا النمط من الاجتهاد لا يمكن تحقيقه إلاّ عبر التأمل العميق في صورة البرهان ومادته، فإذا ما رأى البرهان تامّاً أخذ به وقبله، وإلاّ رفضه وطرحه، إنه يستبدل نظريةً بأخرى عندما يتوصّل بالدليل إليها، فيطرحها ويدافع عنها، تماماً كما فعل الآغا حكيم في نظرية المعاد المثالي.

وما أحسن أن نستشهد بصدر الدين الشيرازي نفسه في نظرية أصالة الماهية، حيث تخلّى عنها بعد سنوات طوال من الاعتقاد بها والدفاع عنها، وذلك عندما وجدها ناقصةً خائرة، طبقاً للأصول الفلسفية التي تبنّاها فيما بعد، فأخذته الجرأة للتخلّي، وتبنّي نظرية أصالة الوجود العرفانية ـ الفلسفية([5])، كما صرّح بذلك هو نفسه في بدايات mالأسفار الأربعةn([6]).

ويمكن التمثيل أيضاً بنظرية الملا صدرا في المعاد الجسماني، فبعد تبنّيه أصالة الوجود، وتأليفه كتاب mالأسفار الأربعةn، وإثباته المعاد المثالي؛ انطلاقاً من أصوله الفلسفية والفكرية، متحمّلاً مشاقاً مضنية وأثماناً باهظة في هذا المجال، لاحظنا أنه يصرّح في عددٍ من نتاجاته الأخرى بعنصرية المعاد لا مثاليّته، مؤكّداً ـ بوضوح النص ـ أن المعاد الوارد في القرآن الكريم والأحاديث هو المعاد العنصري، وأن آيات المعاد ورواياته آبيةٌ عن التأويل وعصية عن التطويع، بل لا حاجة بها لهما، ذلك أنّها لا تستلزم أيّ محذورٍ إطلاقاً.

يقول الملا صدرا: m.. ثم اعلم أنّ إعادة النفس إلى بدنٍٍ مثل بدنها الذي كان لها في الدنيا، مخلوقٍ من سنخ هذا البدن، بعد مفارقتها عنه ـ في القيامة ـ كما نطقت به الشريعة من نصوص التنزيل، وروايات كثيرةٍ متضافرة لأصحاب العصمة والهداية، غيرُ قابلةٍ للتأويل، كقوله تعالى: >مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ<، أمر ممكن غير مستحيل، فوجب التصديق بها؛ لكونها من ضروريات الدين، وإنكارها كفر مبين، ولا استبعاد فيها..n([7]).

إن هذا الموقف عظيم جداً، فهو بنفسه مظهرٌ من مظاهر الاجتهاد الكبير والبحث الكامل المستوعب الأصيل، وقد سبق أن أوضحت هذا الأمر ـ أي الخطوة التفكيكيّة لصدر المتألهين بين الموقف الفلسفي والموقف القائم على الوحي ـ في دراستي حول mالمعاد الجسماني في الحكمة المتعاليةn.

أساسيّات في التعليم الفلسفي ـــــــــــ

ونذكّر ـ بعد هذه الإشارات والتنبيهات ـ بأن تعليم الفلسفة وتعلّمها يجب أن يأخذ في الحسبان غائيّة وهدفيّة الاجتهاد التحقيقي الحقيقي، أي أنّ الهدف يكمن في نقد الآراء لا مجرّد نقلها، ذلك أن جوهر التعليم والتعلّم في الفلسفة قائم على هذا المنهج([8])، والمعلّم الحقيقي هو ذاك الذي يبلغ بتلميذه هذه المرحلة، حتى لو طالت المدّة وتمادى الزمن.

نعم، إن نقل الموضوعات الفلسفية والمصطلحات والأدلّة إلى عقول الطلاب يجب أن يُفترض مرحلةً تعليميةً ابتدائية، فيما تغدو المراحل العليا منحَ الأستاذ تلميذه قدرة النقد وملكة الاجتهاد البحثي الواقعي، فمن الممكن أن يكون الإنسان عالماً إلاّ أنه أعجز عن أن يكون معلّماً، فبعض الأساتذة من علماء الفلسفة ومتكلّميها إلاّ أنهم لا يصلحون للتربية والتنشئة، أي إنهم لا يبلغون عمق المطالب والأفكار التي يفترض بهم بلوغها، ولا يحفرون للوصول إلى كنه البرهان، ولا يصرفون وجوههم ناحية المواضع القابلة للنقد، ولا يفكرون في بلوغ مرحلةٍ من التفكير المستقل، الحيوي، المنطلق، ذلك كلّه لغرقهم في الإعجاب بكلمات غيرهم وأصولهم ومبادئهم، وحبّ الشيء يعمي ويصمّ، بل لخوفهم وتهيّبهم من العظماء والكبراء، وانجذابهم ـ كالمعوقين ـ لآرائهم ونظرياتهم، والنتيجة: حرمانهم من امتلاك فكر نابض وتأسيسي، بل حرمانهم غيرهم ممن يستفيد منهم أيضاً، فيبقى الجميع حبيس تكديس الأفكار والمعلومات في خزانة الذاكرة، دون تجاوز هذه المرحلة لبلوغ مرحلة تفجّر التفكير وانطلاقته.

لهذا نجد هؤلاء عاجزين عن تربية مجتهدين متحرّرين؛ يفكّرون بحريّةٍ واستقلال في مجالات تحكم عليها أنماط التفكير المحض والتعقل الأصيل الخالص، رغم أنهم بارعون في نقل العلوم والفنون إلى غيرهم وطلابهم، إنهم بذلك لا يفسحون في المجال للمؤهّلين من ذوي الكفاءات والطاقات كي يتجاوزوا مرحلة فهم الفلسفة، وهي مرحلة قيمة تقدّر وتحترم، إلى مرحلة نقدها وإعادة إنتاجها.

إن أهمية الفلسفة والعلوم العقلية القائمة على أصول ومبادئ تكمن في أنها تقرأ وفقاً لاجتهاد من نوع الاجتهاد التحقيقي لا التقليدي، إنها لا تفهم إلاّ عبر هذا النمط من القراءة، تماماً كان عليه حال كبار رجالات الفلسفة، ممّن أشرنا سابقاً إلى بعضهم، وما كلّ تلك الاختلافات والامتيازات التي نشاهدها في الأسس والمسائل الفلسفية، في تمام فروع الفلسفة وأقسامها، حتى على مستوى الإثبات والإنكار المتقابلين تقابلاً تاماً مثل أصالة الماهية أو الوجود، واتحاد العاقل والمعقول وعدمه، وإثبات الحركة الجوهرية ورفضها، وروحانية حدوث النفس أو جسمانيته، وعشرات المسائل الأخرى.. ما ذلك كلّه إلاّ لأن رجالات الفلسفة قد استساغوا منهج الاجتهاد في مسائلها، بل وعملوا به وأجروه، نعم، يجب أن يكون هذا هو المنهج المتبع على الدوام.

ولابد هنا من الالتفات إلى أن في الفلسفة أفكاراً وأصولاً ومبادئ يمكن لفهمها جيداً وتفهيمها كذلك، أن يؤمن لنا اجتهاداً في الفلسفة من النوع الأول التقليدي، أي أنه تقام الأدلّة وتشاد البراهين القائمة على الأصول المعتبرة لإثبات موضوعات فلسفية من داخل النظام الفلسفي الخاص، مثل النظام القائم على أصالة الماهية أو الآخر المبني على أصالة الوجود، لا أن تكون هذه النظريات مأخذوةً مفروضات مفروغاً عنها وأصولاً مسكوتاً عن بحثها، وهذا هو ما يحقق استدلالاً وبحثاً وفق النوع الأول المشار إليه، فمثلاً يتركّز الجهد على إثبات أصالة الماهية أو نفيها، وكذا إثبات الحركة الجوهرية أو ردّها، والحال كذلك في اتحاد العاقل والمعقول و.. وذلك من داخل الأصول المعترف بها في نظام فلسفي خاص، ومن هنا، يعمد إلى تمهيد مقدّمات وإقامة برهان، أو الاعتماد على الكشف العرفاني ـ وهو ذو حجية خاصة ـ دون أن يكون المعلّم أو المتعلّم من أهل الكشف أو هذه المرحلة منه.

إن هذا الوضع هو عين الاجتهاد التقليدي، الاجتهاد في التقليد والتقليد في الاجتهاد، أي فهم مدرسة أو اتجاه أو مشربٍ وفقاً لأدلّته، لا محاكمة هذه الأدلّة ووضعها تحت مجهر النقد العلمي، والذي يفترض أن يكون المهمة الأساس والبنيوية للفلسفة برمّتها، أي الاجتهاد في التحقيق والبحث، والبحث والتحقيق في الاجتهاد.

إن الفلسفة ـ كما في الاصطلاح ـ مرصد لمعرفة حقائق العالم، بل لابد من القول: لفهم عوالم الوجود برمّته، وعليه، لا يمكن أن يكتفى في مسائلها بالاجتهاد التقليدي ذي النوع الأول، إن عظماء الفلاسفة شخصيات كبيرة بالتأكيد، لكن لا ينبغي الإحساس بالرعب والرهاب تجاههم، وأن تبذل الجهود برمّتها لا لشيء سوى لفهم كلامهم وفقط، فلو أن هؤلاء العظماء اكتفوا بفهم آراء من سبقهم لما شاهدنا اليوم أيّ طرح أو إثارة لعددٍ كبير من المسائل الجديدة في الفلسفة، ولما شاهدنا التحوّلات الكبرى في تاريخ الفلسفة الإسلامية، من الفلسفة المشائية إلى الإشراقية، ومن الإشراقية إلى الصدرائية، ومع ذلك ما زلنا نشاهد قديماً وحديثاً أنّ هذه الاتجاهات الثلاثة ـ سيما منها الأوّل والثالث ـ باتت مسلّمات لدى المشتغلين بالفلسفة، تماماً كالوحي المنزل، وغدت تمام براهينها براهين أوّلية، ولهذا لم نجد أي تفكير ـ إلاّ في بعض الحالات ـ في التجديد والابتكار، وعلى افتراض حدوث مظاهر لذلك فإن العقول المأنوسة بتلك الفلسفات لا ترحّب بها أو تشجّع عليها([9]).

الفلسفة بين الواقعية والتجريديّة ــــــــــ

ولعلّه يمكن القول: إنّ هذا المسير الذي خضع له إطار الفلسفة الإسلامية، رغم كلّ غناها، هو الذي أعاقها عن التجديد الضروري والاستبدال المطلوب لبنيتها باستمرار تبعاً للتحوّلات الثقافية العالمية والتاريخية، كما هو المفترض أن يكون بها، ولهذا لم يهتمّ بل لم يُعنَ الفلاسفة المسلمون بما دعا إليه القرآن من النزعة الواقعية، وتمظهر بشكل واسع النطاق في نهج البلاغة، بل ظلّوا منحصرين محاصرين بالعقلية الذهنية التجريدية اليونانية، والاسكندرانية، والهندية, والغنوصية.

لابد في تدريس الفلسفة ـ قديمها وحديثها ـ بل في تحصيل أي علم ومعرفة من مراعاة أصول التربية العلمية، أي السعي الجادّ لخلق عقول متحرّرة مفكّرة ذات نظر مستقلّ ورأي خاص، لا تكوين عقول مقلّدة متّبعة، على الفلسفة تربية الفيلسوف، والقارئ، والكاتب فيها، بحيث يتمتع بكل مظاهر التفكير الحر، لا أن تخرّج لنا أرقّاء عقليين، ومقلّدة متبعين.

نعم، يجب أن يكون العالم والفيلسوف مهيمناً ومشرفاً على العلم والفلسفة لا أن تكون هي المهيمنة عليه والمسيطرة على أركانه وتفكيره، عليه أن يكون نقّاداً للمفاهيم والآراء لا نقّالاً، فإذا نجح هذا العالم أو ذاك الفيلسوف في الهيمنة على العلم والفلسفة فستغدو الفلسفة ـ ومعها العلم ـ أدوات طيّعة في يده، وإلاّ كان أداةً في يدها تحرّكه كيفما شاءت.

ألوان النقد الفلسفي ــــــــــ

وأرى هنا ـ لوجود مناسبةٍ ـ أن أسرد أقسام النقد الفلسفي، على نحو الإشارة إليها فحسب، فلهذا النقد أقسام وأنواع لابدّ من الالتفات إليها، وتفكيكها عن بعضها، وإعادة فهمها بشكل أدق حتى يمكن وضعها في مكانها المناسب، ونحاول هنا تعداد بعض أقسام النقد الفلسفي على الشكل التالي:

1 ـ النقد التوافقي العام أو النقد التطابقي: ونعني به دراسة تطابق الفلسفة بشكل عام مع الوحي وعدمه.

2 ـ النقد التوافقي الخاص أو النقد التطابقي كذلك: ونعني به دراسة مَدَيات التطابق بين الفلسفة والوحي في قضية المعاد الفلسفي والمعاد الديني المستند إلى النص.

3 ـ النقد المقارن العام، بين الفلسفات المختلفة.

4 ـ النقد المقارن الخاص، بين فلسفتين بعينهما.

5 ـ النقد المبنائي العام، أي مبنى أصالة الوجود، وأصالة الماهية.

6 ـ النقد المبنائي الخاص، أي نظرية جسمانية حدوث النفس.

7 ـ النقد ـ على المبنى ـ العام، مع الأخذ بأصالة الماهية أو أصالة الوجود، ونقد المسائل القائمة عليهما.

8 ـ النقد ـ على المبنى ـ الخاص، مع الإقرار بالمبنى الفلسفي، ونقد مسائل خاصّة داخل المنظومة الفلسفية.

9 ـ النقد التناظري: أ ـ الفلسفة ـ العرفان. ب ـ الفلسفة ـ الكلام.

10 ـ نقد المعطيات الفلسفية من وجهة نظر الوحي..

وحيث كان الكلام في الاجتهاد التحقيقي دون التقليدي، فمن الضرورة الإشارة إلى أن نقد النظريات العلمية والفلسفية لابدّ أن يركّز فيه ـ بعمقٍ ودقّة ـ على مراحل ست هي:

1 ـ قراءة النظرية خارج مناخها الفلسفي الخاص.

2 ـ قراءة النظرية مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ إمكانية نقدها.

3 ـ قراءة النظرية مع متابعة الانتقادات المسجّلة عليها.

4 ـ دراسة الأجوبة المسجّلة على الانتقادات.

5 ـ رصد الأسس التحتية لأدلّة النظرية:

            أ ـ الأسس العقلية الصرفة (الفلسفية).

            ب ـ فصل الأدلّة العقلية النظرية والأوّلية.

            ج ـ المنطلقات العرفانية الكشفية.

د ـ الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الكشف الشهودي من حيث مبدأ الاعتبار والقيمة، وذلك بعد صحّة المقدّمات والنتائج.

6 ـ ممارسة اجتهاد حرّ في المسألة بأطرافها.

لقد ذكرت في كتاب mالمدرسة التفكيكيةn، في الملحق الثالث، وتحت عنوان mالمبنى العلميn ما يقرب من أربعين أمراً، اعتبرتها مناهج علمية ـ أصلية وفرعية ـ ضرورية في أي ممارسة بحثية علمية، وهي على ارتباط وثيق بموضوعنا هنا، أي الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، لهذا يرجى مراجعته بدقّة([10]).

حركة النقد الفلسفي في القرن الأخير ــــــــــ

أعتقد أنه كان من المفترض بنا أن نكون قد خطونا مشروع النقد الفلسفي قبل هذا الوقت، كما فعل الآخرون بنقدهم المنطق (الأرسطي) الصوري، والفلسفة اليونانية والمدرسية، لا سيما مع ما عندنا من ذخائر قرآنية ومن تعاليم نبوية وولوية، نعم، لقد فكّر جمع من الكبار بهذا الأمر، إلاّ أنّه لم يحظ بترحيب عام، مع كامل الأسف([11])، لقد تصدّى جمع من الأكابر في القرن الرابع عشر الهجري لممارسة أشكال من جرأة النقد الفلسفي، وهو ما يظهر في آثارهم ونتاجاتهم التي تركوها لنا، ولهذا يمكن القول: إنّ القرن الرابع عشر الهجري قد شهد ظهور جيلٍ بارز من النقّاد في هذا الخصوص.

وقد تمثلت هذه المواجهة النقدية للفلسفة بتيارين اثنين هما:

1 ـ تيار حوزة خراسان.

2 ـ التيار الحوزوي خارج خراسان.

أما التيار الأوّل فنشرع به من الآغا بزرك حكيم الشهيدي المشهدي (1355هـ)، فهذا الفيلسوف المعروف كان علَماً للفلسفة والمعقول في حوزة مشهد المقدّسة، في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الهجري، كما نقلنا في كتابنا mمكتب تفكيك أو المدرسة التفكيكيةn عن أحد تلامذته المبرّزين([12])، لقد درّس آغا حكيم الفلسفة على نسق أبحاث الخارج، أي أنه مارس درساً نقدياً واجتهادياً لها، وقد استمرّت حركة التدريس الاجتهادي النقدي للفلسفة في حوزة خراسان أربعين سنةً بعده على يد تلميذه المقرّب الشيخ مجتبى القزويني الخراساني (1346هـ)([13]).

ولا بدّ هنا من التذكير بأن الشيخ مجتبى القزويني كان قد نهل من علم العلامة ذي الفنون، الإنسان الكبير، والناقد الفلسفي القدير المغفور له السيد موسى الزرآبادي (1353هـ)، وذلك قبل تشرّفه بالحضور عند الآغا بزرك حكيم، وقد عمل هذا الأستاذ المنقطع النظير، وهو الناقد البارز للفلسفة (حيث كان من المنشغلين بنقدها في المرحلة الأولى لدى دخوله مدينة طهران وحضور درس الميرزا جلوه)، عمل على تعريف تلميذه القزويني بالاتجاه النقدي للفلسفة، زارعاً فيه بذور هذه النزعة.

ونتوقع ـ بعد النقاط المشار إليها ـ أن يكون القارئ قد أطلّ على حركة النقد الفلسفي التي شهدت في الحقبة المعاصرة اهتماماً من جانب بعض الأساتذة والفضلاء([14])، هذه الحركة التي انتظمت في حوزة مشهد العلمية قبل ما يقارب الثمانين عاماً، كما ساهم فيها العلامة الشيخ محمد صالح الحائري المازندراني (العلامة السمناني)، منذ ما يقرب من ستين عاماً، وذلك بتأليفه كتاب mحكمت بو علي سيناn، ونتاجات أخرى أيضاً.

الفلسفة وتطوّرات العلوم التجريبية والإنسانية المعاصرة ــــــــــ

من ناحية أخرى هامّة، لابد من تسليط الضوء على مشروع النقد الفلسفي، والاعتراف بهذه المرحلة الجديدة، وتجنّب أشكال الجمود والتحجّر، والجانب الأبرز الذي نطلّ على هذا المشروع من خلاله يكمن في التطوّر الواسع والانشعابات العلمية الكبرى بعد عصر النهضة في أوروبا، لا سيما في النصف الثاني من القرن الأخير، فقد شهدت العلوم الإنسانية اليوم ـ كالعلوم التجريبية ـ تطوّراً مذهلاً، فأضيفت إلى الاختصاصات العلمية فيها اختصاصات أخرى جديدة، كما قدّمت الكثير من الدراسات في المجالات المختلفة، فأعيد ترجمة النصوص الفلسفية الإغريقية القديمة من جديد، وما أكثر ما تكون هذه الترجمات محتويةً على تعديلات في الترجمة نفسها، ما يستدعي تفاسير جديدة للفلسفة اليونانية.

من هنا، لابد من الاهتمام الجادّ بهذه المسائل وأخذها على الدوام بعين الاعتبار، ومتابعة تطوّراتها، كما والاطلاع على الفلسفات الجديدة الحادثة، ومن ثم لا يصحّ أن نحصر جهدنا ونشاطنا العلمي بالفلسفات التي غدت جزءاً من تاريخ الفكر الإنساني.

ثمّة علوم كثيرة جداً أبدت ارتباطاً عضوياً متيناً بالفلسفة، فصار لابد للأخيرة من إبداء وجهة نظر تتعلّق بها، من هنا نلاحظ أن الفلاسفة القدماء لم يحصروا نطاق الفلسفة بالإلهيات الخاصّة (الإلهيات بالمعنى الأخص)، بل بعد أن عمدوا إلى تقسيم الفلسفة إلى فلسفةٍ نظريةٍ وأخرى عملية، قاموا بوضع جملةٍ من الاختصاصات والفروع داخل الفلسفة النظرية، لتشمل مثل الطبيعيات، والرياضيات والدراسات الفلكية و.. مدمجين هذه العلوم في المعارف القديمة، حتى أنّهم نظموا نظرية العقول العشرة لإثباتها متواشجةً مع مقولة الأفلاك التسعة، تلك المقولة التي عصفت اليوم بها رياح النقد والتفنيد.

هل يمكن اليوم دراسة مثل هذه الموضوعات المشار إليها بالطراز نفسه الذي كانت تدرس فيه قبل حوالي الألفي عام؟ مسائل من نوع كيفية تركّب الأجسام، عدد العناصر، حصول القوّة والاستعداد في المواد، الحركة، الأعراض وكيفية حصولها، كائنات الجوّ والسماء، وبعض المسائل المنطقية والرياضية و.. لقد تجاوز علم الفلسفة الإسلامية حركة الوضع التي هو عليها الآن للدخول في مرحلة جديدة، نسميها حركة الانتقال، إن على الفلسفة أن تطلّ على موضوعاتها من خلال هذا الحال، فتقدّم أجوبةً جديدة للأسئلة الجديدة.

إن علينا التفكير بفلسفة جديدة نضرة، كما علينا ممارسة التجديد في لغتنا وفكرنا، ونحوُ كتابتنا وتأليفنا، وأن لا نضع الفرص التجديدية تحت تصرّف من هم خارج نطاق العالم الإسلامي([15])، بل يفترض توظيف الفكر الجديد والمنحى العصري في الدفاع عن المحكمات الإسلامية ودعم الركائز الفلسفية الخاصّة بنا، لكي نبيّن غنى المعارف الإسلامية في أبعادها المختلفة، مستخدمين هذه المرّة اللغة العالمية للفلسفة، دون أن نجمد على لغة القدماء، ونهجهم، وتفكيرهم، مهما كانوا كباراً، في الوقت الذي نكنّ لهم فيه كبير الاحترام والإجلال.

علينا إعادة قراءة مضمون الفلسفة الإسلامية من جهات ثلاث هي: 1 ـ النقد. 2 ـ التجديد. 3 ـ التكميل.

أما الجهة الأولى، فعلينا تشييد مشروع نقد الفلسفة على غرار الخطوة التي خطاها التفكيكيون الخراسانيون، أما الجهة الثانية فعلينا فيها أن نجدّ لتكوين بناء فلسفي جديد، أما الجهة الثالثة، فعلينا إكمال نواقص فلسفتنا عبر الأخذ بعين الاعتبار تطوّر العلوم، وانشعاب الدراسات، وظهور الكشوفات، وما استحكم من الأسس والبناءات الفلسفية، إننا نعتبر الفلسفة الحكمةَ البحثية، والبحث بطبيعته يستدعي النقد والنظر، إننا قادرون في هذه المراحل الثلاث: النقد، والتجديد، والتكميل على توظيف نصوص الوحي وتعاليم الأوصياء بما تحويه من معارف خاصّة؛ للاستفادة منها، بل لابدّ لنا ـ من حيث الأساس ـ من معرفة أن نقد الفلسفات المختلفة: الشرقية، والغربية، القديمة، والجديدة، يمكنه بنفسه أن يكون خطوةً تمهيدية مدخلية لبلوغ المعرفة النهائية المتمثلة بالمحكمات الوحيانية.

وعليه، يفترض أن نعيد رؤيتنا للملفّ الفلسفي، وإلاّ أخضعنا العقل لمدار مقفل الجهات منغلق، كما أضعنا الفرص، ومنحنا خطوة التحوّل الخلاق والمتجدد للآخرين، وهما أمران ملموسةٌ أضرارهما واضحةٌ مفاسدهما، إن علينا أن نمنح أصحاب الرأي ورجال الفكر فرصة إبداء وجهات نظرهم الخاصة، وأن لا نختلق الأزمات ونلهب الأوضاع في مواجهة هذا الأمر الذي يلعب دوراً مصيرياً على مستوى العقل، والتفكير، والحضارة، وأن لا نلجأ لأنواع المغالطات الكاسدة، ولا نسمّي مناهضة الجمود وعدم النقد مناهضةً للعقل نفسه.

إذا بقينا أسرى الفلسفات فإننا لن نتخطّى الفلسفة التاريخية الغابرة فحسب، بل لن نبلغ فلسفةً جديدة معطاءة، والأنكى أننا سنقف متأخرين عن كشف الحقائق الجديدة الإلهية: >سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ< فصّلت: 53، إن الإنسان محتاج لمعارف نهائية حاسمة، وعليه أن يعدو الفلسفات المتحوّلة المختلف فيها (وهي التي تحظى بأدلّة متقابلة) ليبلغ فلسفات حاسمة ونهائية يصل بها برّ الأمان، إن الخلاف الواسع النطاق في مختلف المسائل الفلسفية ما بين الفلاسفة بألوانهم: شرقيهم وغربيهم، إسلاميهم وغير إسلاميهم… يدفعنا إلى اتباع سياسة الفلسفة الاجتهادية والاجتهاد في الفلسفة، فإن التقليد في الفلسفة والقضايا العقلية، حتى لو كان تقليداً للعظماء، لا يمكنه أن يقدّم لنا حلولاً مناسبة وصحيحة أو يفصل بين النزاعات الفلسفية المضمونية.

إن ما قيل حول العلوم الإنسانية وشعبها، والعلوم التجريبية واختصاصاتها، والدراسات المختلفة المتصلة بالتاريخ وفلسفته، علم اللغة، تفسير النصوص، الجبر والاختيار، العلم الإلهي وأمثال هذه البحوث التي عرضت فيها آراء عديدة في الفترة الأخيرة وما تزال.. يقع كلّه داخل دائرة المختلف فيه لدى أصحاب الرأي في هذه العلوم والاختصاصات، وهكذا الحال في الانتقادات التي سجّلت على المنطق واللغة المنطقية، ذلك أنّها غير بعيدة عن مجال الاختلاف المذكور، وما يمنحنا موقعيةً ومكانة وموقفاً راسخاً في هذه القضايا، ويسمح لنا بعرض فلسفتنا على الصعيد العالمي إنما هو الاجتهاد التحقيقي في الفلسفة ومباحثها، فالفلسفة بطبيعتها ومكوّنها تستدعي أن تكون ـ على الدوام ـ متواشجةً مع زمانها، فهي ـ بمعنى من المعاني ـ نوع من اللغة، ومن ثم على لغة الفلسفة أن تكون لغة عصرها لا لغة الماضي.

وبناءً عليه، تغدو الفلسفة ملزمةً ـ دوماً وفي كل عصر ـ باستمداد عناصرها المكوّنة لها ومادّتها الأساسية من مجموعة الوعي الإنساني المعاصر، ومن التجربة والعقل البشري الراهن، رغم أن المطلوب منها ـ على الخطّ الآخر ـ أن لا تقوم بتنحية الموروث الفلسفي جانباً دون أيّ استفادةٍ منه.

على المفكّرين المسلمين في كل عصر وزمان تقديم فلسفة تتناسب وذلك العصر، ذات لغة فكرية وفلسفية راهنة، حتى تكون بذلك قادرةً على الحدّ من انجذاب العقول الفلسفية أو الفاهمة للفلسفة ناحيةَ الفلسفات الباطلة أو شبهها، كي لا يقدر المشروع الاستعماري أيضاً على توظيف الفلسفات أو شبه الفلسفات الأخرى لكي يتقدّم عبرها صوب تحقيق أهدافه الاستعمارية، ومقاصده المضادة للإسلام.

إنّ ما قلناه عن ضرورة تخطّي الفلسفة التقليدَ ناحية إعمال الاجتهاد في الدرس الفلسفي، لا يختصّ بالفلسفة الإسلامية أو الشرقية، بل يشمل أيضاً الفلسفات الغربية، إذ عليها هي الأخرى وعلينا تجاهها ممارسة الاجتهاد على الدوام وعيش حركة النقد الدائب، لا بل إن هذه الفلسفات بحاجةٍ أكثر لهذا الأمر، فقد يقبل بعض الأشخاص المتوسطي الفهم ـ رغم كونه أحياناً من أهل الفضل والعلم ـ كلمات تعبّر عن حصيلة من تصوّرات فكرية غربية، إلاّ أن أهل المعرفة ليسوا كذلك أبداً.

العقل العام والعقل الخاصّ ــــــــــ

يفترض رعاية أمرٍ كنّا أشرنا إليه في موضعٍ آخر، وهو أن الفلسفات ـ مع اختلافها في المستوى ـ اتخذت العقل ووظّفته على الدوام، لكن على مستوى سطحي منه، ولم تلامس أعماقه، أو على حدّ تعبير الإمام عليB: mدفائن العقولn([16])، ولهذا لا ينبغي التردّد في قراءة المعطيات الفلسفية قراءة نقدية اجتهادية.

إن هذا التأكيد الشديد في القرآن الكريم والأحاديث على الاستفادة من العقل واستخدامه ليس إلاّ لأجل ذلك، أي لأجل الاستفادة منه في أعماقه، وإلاّ فإن العقل بمستوياته السطحية مستخدم استخداماً بشرياً عاماً، فحتى أبسط الناس يقومون بذلك بمن فيهم الشباب والمراهقون، إن الناس تعيش دوماً مع العقل في أمورها كلّها وأعمالها كذلك، وفي صناعاتها وعلاقاتها المختلفة و.. إنهم يوظّفونه ويظهرون به مجتمعات وثقافات، إن ذلك بأجمعه ناتج عن الاستفادة العامة من العقل([17])، وما يحظى لدى خواصّ الناس ورجال الفكر بالأهمية المضاعفة إنما هو السعي لتوظيف العقل توظيفاً خاصاً وكاملاً، أكثر عمقاً، وأوسع دائرةً من مستوى العقل العام.

نعم، إنّ البلوغ بالإنسان هذه المرتبة ليس عمل العقل والعقلاء وحدهم، بل هو عمل الوحي وتعاليمه، إلا أن العلاقة الاجتهادية العميقة مع الفلسفات من شأنها أن تكون مقدّمةً لدخول الإنسان حريم المعالم الوحيانية وتعاليم الأوصياء الرفيعة، وبهذا النوع من الورود يبلغ الإنسان دفائن العقول ومخزونها، ويغدو سبيل الاستفادة من هذه الدفائن مفتوحاً مشرّعاً، فيعبر الإنسان العقل الصوري لينال العقل النوري.

وبعبارةٍ أخرى، للعقل حركة وضعية وأخرى انتقالية، فالرؤية الإطلاقية للفلسفات، والجمود والركود داخل نطاق فلسفةٍ ما هو ما نعبّر عنه بالحركة الوضعية للعقل، أي إنها حركة لا سكون، بيد أنّها وضع واستقرار لا سيرورة وانتقال، أما الحركة الانتقالية العقلية التي تقع في نطاق الاجتهاد الفلسفي والإقرار بإمكان نقد الفلسفة وتفكيكها، بغية كشف النقاط المخفية غير النهائية ـ أي العالقة ـ أو تلك التي تقع محلّ الخلاف والنزاع.. فهي تهدف الوصول إلى حريم الحقائق النهائية الحاسمة.

ينقل القرآن الكريم عن لسان الكافرين قولهم: >لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ< الملك: 10، إن القرآن في هذه الآية يعتبر تعطيل العقل وتجميد حركة التفكير في المسموعات والمكتوبات والمقولات ذنباً، إنه ذنب يستوجب جهنم، وتفعيل العقل يختلف حاله وتتنوّع آثاره لدى الفئات المختلفة من بني الإنسان، فهو فعل اجتهادي نقدي لدى أهل الفكر والنظر، أي نقدٌ للآراء والنظريات الفلسفية والعلمية، لممارسة اجتهادٍ فيها، ومن ثم ترك ألوان التقليد والاتّباع والتعبد في مجال العقليات، ونتيجة هذا الاجتهاد في الفلسفة وضع العقل موضع المركز الذي تنطلق منه تمام النشاطات المنفتحة، أما لو تعاطينا مع الفلسفة بمنطق إطلاقي فإن معنى ذلك جعل العقل داخل مدار منغلق، يدور تلقائياً حول الذات.

إن على الإنسان اعتماد العقل في استفادته من العلوم المختلفة، وعليه أيضاً أن يدرك مراتبها ودرجاتها، ونحن نعلم أن معرفة درجات العلوم وتقدير مراتبها، كما ركّز عليه الفارابي في mإحصاء العلومn، تملك أهميةً فائقة في الكسب السليم للمعرفة، وفي فرز (وإعادة فهم) المعطيات النهائية عن غيرها، وذلك لتحديد دورها الحقيقي ونطاقه.

العقل والافتقار إلى مرجعية ثانية ــــــــــ

ويحتاج العقل في تمام العلوم المختلفة إلى عنصر خارجي منفصل عنه، وإلاّ ما أمكنه بلوغ تلك العلوم، ففي العلوم الحسيّة يحتاج إلى الحواس، وفي العلوم التاريخية يحتاج إلى الوثائق والمسموعات والمنقولات، وكذا الحال في العلوم التجريبية، إذ نراه بحاجةٍ إلى التجربة والاختبار، أما العلوم الاستقرائية فالحاجة ماسّة فيها إلى الإحصاء والاستقراء، وفي العلوم الفلسفية تتأكّد الحاجة إلى المنطق وقواعده، فيما تتركّز في العلوم العرفانية والكشفية والإشراقية على الكشف والإشراق والشهود، أما العلوم الوحيانية فاعتمادها الخارجي على الوحي والتنزيل.

وعليه، فإذا اعترف شخصٌ بحاجة العقل إلى غيره للوصول إلى المعطيات فلا يكون منكراً أو مخالفاً للعقل، ومعه، كيف يتهم من يقول: إن العقل بحاجة في بلوغ المعارف العالية في المبدأ والمعاد إلى مدد، وأنه غير قادر لوحده على إدراك موضوعات تلك المعارف ومراحلها كافّة، كما يشهد العقل نفسه بذلك، ويصرّح به رموز العلم وكبار رجالاته، كيف يتهم بأنه مخالف للعقل، معارض له؟! إن ذلك غفلة أو تغافل أو مغالطة؛ فالعقل بحاجة إلى الوحي وعلومه، وكذلك إلى الإرشادات والتوجيهات التنزيلية في الوقت نفسه الذي تحفظ فيه مكانته وأهميته وحجيته، وأنه الرسول الباطني. وحيث كان الرأسمال الأساسي والأبدي للعقل تلك المعارف العالية المذكورة، كان لزاماً عليه أن يجعل همّه الوصولَ إليها، ليأخذ معونته ودعمه من الوحي، ويخضع تمام المعطيات العقلية الجزئية البشرية لقانون الملاحقة والتأمّل والمحاكمة، ومن ثم لا يقدم على تأويل المعطيات القادمة من الوحي السماوي بالفلسفة، أي فلسفةٍ، أو بأي طراز من التفكير: الشرقي أو الغربي، القديم أو الجديد، بل عليه ـ كما يحكم بذلك هو نفسه طبقاً للمنهج العلمي ـ أن يمارس تفكيكاً في هذا المجال، لينال المعارف الخالصة النهائية البعيدة عن أشكال الاختلاف والصيرورة، وليعلم أن القرآن الكريم تجلٍّ إلهي لا عصارة أنظار بشرية.. أليس بين هذين امتياز أو اختلاف؟!([18]).

وعليه، فالتفكيك ما بين المعطيات العلمية والمعرفة المختلفة والمتنوعة من حيث المنشأ وظيفة العقل نفسه، وهو بذاته شكل من أشكال الحركة العقلية، ونزعة من النزعات المنهجية، واتباع للأسس العلمية والمناهج الدقيقة والأبحاث العميقة.

لقد جاء الوحي لإيجاد بناء معرفي صحيح في إطار التلقي العقلاني الفطري للإنسان، ونزل بوصفه معلّماً كاملاً للإنسان >عَلَّمَ الْإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ< العلق: 5، جاعلاً البنية التحتية للإدراك الإنساني، أي الفطرة >فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا< الروم: 30، مركزاً لنفوذه وموطناً لفعاليته، ذلك كلّه، عندما نستطيع نحن البشر فهم الحقائق السماوية وتعاليم الوحي من ظواهر القرآن والحديث، طبقاً للبناء العقلائي للبشر كافّة، وللسيرة العملية اليومية لأفراد الإنسان، وما يقوله الكبار والعلماء ويصرّحون به، ولا نغفل عن حجية الظواهر الثابتة عقلاً وشرعاً وعرفاً، ولا نأخذ بغير الوحي الإلهي والمصادر الراجعة إليه بوصفه مطلقاً، ذلك أن علوم الوحي ـ كما يقول العلماء الكبار ـ علوم أولية غير قابلة للخطأ، أما علوم غيره فهي علوم نظرية تقبله([19])، كما يقولون أيضاً: إن تمثيل الوحي بمثابة قياس أولي، وليس قياساً نظرياً([20]).

إن ما يقوله بعض العظماء من أن دراسة الفلسفة تساعد على تفتح الطاقات الكامنة وبروزها في معالجة الموضوعات والمسائل أمر صحيح، إلا أنّ هناك قيداً وشرطاً له من جهة، وملحقاً وتابعاً من جهة أخرى، أما الشرط فهو أن تتوفر هناك مواصفات ضرورية ولازمة ومناسبة، يلزم وجودها في طالب الفلسفة ـ وحتى مدرّسها ـ كما أكّد على ذلك العديد من العلماء الكبار مصرّحين به، وأما الملحق فأن عليهم أن يعرفوا أن القراءة الاجتهادية النقدية الحرّة للفلسفة هي أفضل وأرقى وأسمى مرحلة لتفتح الطاقات وتفجير الإمكانات، لا اتّباع القراءة التقليدية التلقينية الحفظية، حتى لو كان ذلك تقليداً في الاستدلال، وهذا أمر واضح وجلي.

وحيث كان العقل أعمّ بمراتب عدّة من الفلسفة، والنقل من التفلسف كذلك، كانت طاقات العقل وإمكاناته مما لا يجوز حصره في التفلسف، كما لا يصحّ حصر التفلسف ببعض الصور والأشكال، بحيث نعدّه ـ بعد ذلك ـ غير قابل للنقد والملاحقة، إن هذا المسار والمسير كلّه مخالف للمنهج العلمي الرصين.

إن الاجتهاد في الفلسفة وقراءتها قراءةً نقدية، كما فعله عدد كبير من الفلاسفة الإسلاميين، يمثل امتيازاً عقلياً وعلمياً هاماً، تماماً كما قالوا عن أبي ريحان البيروني (440هـ) من أن اعتراضاته النقدية على فلسفة أرسطو صنعت منه رجلاً متمايزاً، بل وأفضل من معاصريه وأقرانه، لا بل يصرّح الشهيد مرتضى مطهري أن الاعتراضات التي سجّلها تلامذة ابن سينا وأنصاره على الفلسفة الأرسطية وعلم النفس الأرسطي، مما تبدّى في كتاب mالمباحثاتn الذي سطره ابن سينا نفسه.. هذه الاعتراضات لم تكن أقلّ أهميةً من انتقادات البيروني نفسه، كما يذكر المطهري أيضاً بأنّ ابن سينا رغم أنّه لم يُبد من نفسه معارضةً ظاهرةً لمعلّم الصناعة أرسطو إلاّ أنه لم يتابعه في الكثير من أفكار مدرسته وآرائها([21]).

أما الخواجة نصير الدين الطوسي فكان هو الآخر ناقداً فلسفياً كبيراً، فقد اشتهر نقده المعروف على قاعدة الواحد اليونانية: mالواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحدn، وكذلك على موضوع العقول العشرة، وقد استُخدم لقب ناقد الفلسفة اليونانية وماهد الحكمة الحقّة اليمانية في حقّ مير محمد باقر الداماد (1040هـ) أيضاً([22])، إلى غير ذلك من العديد من الشخصيات البارزة الأخرى في أوساط المسلمين ممّن كان في نفسه مفكّراً قديراً، كما كان نقّاداً جريئاً للفلسفة وموضوعاتها.

إذا أردنا إلباس الفلسفة لبوس الإطلاق والتعميم، فماذا نقول حول الطبيعيات؟! وكذلك الحال فيما يتعلّق بكائنات الجو، والعالم، والفلك وعلم السماء مما سقط اليوم وتداعي بصورة عامة وكلية، والملفت أننا نشاهد مؤرخاً معروفاً، وهو المسعودي (345هـ) يقول: إن نظريات الفلاسفة حول بحر الهند، والبحر الأبيض المتوسط مخالف لما يقوله ربّان السفن عن حسّ وتجربة([23])، وهذا معناه أن كلمات الفلسفة ومعطياتها قابلةٌ للنقد والتفنيد من البحار حتى الأفلاك.

الفلسفة بين النقد والإسقاط ــــــــــ

والجدير إيضاحه هنا أن نقد الفلسفة وانتقادها لا يعني إسقاطها عن الأهميّة، كما لا يصحّ خلط البناءات الفلسفية والوحيانية بعضها ببعضها الآخر، ونشير هنا إلى وجود اختلافات أيضاً في الإلهيات بالمعنى الأعم كلّها تفسح المجال لممارسات نقدية، أما الإلهيات بالمعنى الأخص فهي تخرج عن مدار النقد هذا، نظراً لاستقائها من تعاليم الوحي وعدم امتيازها عن مضمونه ومحتواه، وبالأخص ما هو داخل في إطار الفلسفة الإسلامية، ولا سيما مع مراعاة حجية الظواهر وترك التأويلات التعسفية التي لا معنى لها، مما صرّح به الأعلام بأجمعهم.

وعليه، فضرورة التعقّل الذي حث عليه الكتاب والسنّة شديداً لا تنحصر بالاتجاهات الفلسفية، وإطلاق كل إنسان فلسفةً ما يجعلها فوق النقد والمساءلة، ففي هذا التعقل يؤخذ بعين الاعتبار العقل البشري العام لا عقل أفراد معدودين من المفكّرين والفلاسفة في كل عصر.

إن الجمود على فلسفةٍ ـ أي فلسفة ـ يعني الحكم بإطلاقية نتائجها ونهائية معطياتها، وليس هناك من فلسفة حتى اليوم في شرق الأرض أو غربها، في قديم الزمان أو في العصور الجديدة.. تزعم حتمية معطياتها ونتائجها، نعم، قد يكون هناك مجال لنفوذ مثل هذا التفكير في بعض الموضوعات الفلسفية، إلاّ أن الحال مختلف تماماً في مجمل المعطيات الفلسفية ذات المنشأ البشري، والأساس الإنساني في رؤاه المختلفة، وعليه، لا يمكن للفلسفات ـ ودون استعانةٍ بالوحي ـ أن تقدّم كلاماً حاسماً ونهائياً لا كلام بعده حول تمام الحقائق الماضية والحاضرة والمستقبلة للوجود وكائنات العالم، إن الاختلاف الفاحش والكبير في المضمون الفلسفي شاهد صارخ وكبير على هذا المدّعى.

اللغة الفلسفية واللغة الفطرية ــــــــــ

على صعيد آخر، يجدر الالتفات إلى أن اللغة الاصطلاحية ليست لغةً فطرية، بل صناعية منحوتة، فيما يفترض للوصول إلى الحقائق استخدامُ اللغة الفطرية، أي لغة الوحي والتنزيل، فواحدةٌ من أبرز نتائج الترجمات في التاريخ الإسلامي وشياع الأفكار المشتتة والمختلفة، ورواج المصطلحات المتعارضة المتنوّعة، من أقاصي اليونان وحتى أقاصي الهند.. سيطرة النسيان على اللغة الفطرية لدى عدد كبير من الفضلاء المسلمين، لتحلّ محلّها لغة المصطلحات، بما فيها من اختلافات صورية، ومضمونية، وأصولية، وبنائية، وجذرية، وأقصد من الإشارة إلى هذا الأمر الوصول إلى مقصد آخر، وهو أننا قادرون على ولوج عالم النقد الفلسفي عبر سبيلين:

الأول: سبيل اللغة الفطرية.

الثاني: سبيل اللغة الصناعية الاصطلاحية.

أي أننا قادرون على نقد المعطيات الفلسفية من خلال عرضها على الوحي الإلهي، كما نقدر على ممارسة النقد نفسه بإجراء مقارنات داخل نظم الفلسفات المختلفة، وعلينا في نهاية المطاف أن نعرف أن العالم أعلى من مستوى الإدراك البشري، وأن مجرّد العقل غير كافٍ في الهداية إلى الصراط المستقيم، فعليه ـ أي العقل ـ أن يسارع ناحية الوحي، ويعيَ بدقة مكانته ضمن منظومة: >عَلَّمَ الْإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ< العلق: 5، ولا يحرم نفسه من نعمة هذا الإدراك للحقيقة والفهم للواقع الذي هو فيه، فيتحرّر من أن يكون أسير هذا الفكر أو ذاك، أو فكر هذا أو ذاك.

لقد تعرّض العديد من الأعلام، من قديم الأيام إلى جديدها، لمحدودية العقل وطاقاته، بل إن العقل نفسه لا يحكم بغير هذا الحكم على ذاته، فالغلوّ في العقل والعقلانية مخالف بنفسه للعقل، كما أن احترام الفلسفة والفلاسفة لا يعني بوجهٍ من الوجوه غلواً في العقل وقدراته أو دعوةً للتخلّي عن نقد الفلسفة وممارسة الاجتهاد الواعي في مباحثها وموضوعاتها، إنني أعتقد بضرورة احترام الفلسفة والفلاسفة وتقديرهم، لا بل إنني قضيت شطراً كبيراً من دراستي وانشغالاتي العلمية بدراسة الفلسفة وما أزال، وكلّي إيمان بأن نقد الفلسفة والاجتهاد في مسائلها وموضوعاتها لا يستدعي ـ إطلاقاً ـ احتقار الأعلام والعظماء أو الإنقاص من شأنهم أو التقليل من قدرهم ومكانتهم، إنما نهدف منهجاً علمياً تصاعدياً يفترض طرحه بجدّ على بساط التداول.

نعم، لقد كان القرن الرابع عشر الهجري الإسلامي، حتى خارج إطار الحوزة العلمية الخراسانية التفكيكية، قرنَ الناقدين الفلسفيين الكبار، ممّن شاد نقده المتنوّع على أساس القدرة العلمية والحرية الفكرية، ونذكر من بينهم: الآغا علي حكيم (1307هـ)، والميرزا أبا الحسن جلوه (1314هـ)، والعلامة الحائري المازندراني (العلامة السمناني) (1350هـ.ش)، والشيخ محمد تقي الآملي (1391هـ)، والميرزا أحمد الآشتياني (1395هـ)، والعلامة الرفيعي القزويني (1395هـ)، والعلامة محمد حسين الطباطبائي (1402هـ).

*    *     *

الهوامش



(*) صاحب كتاب mالحياةn، أهم شخصية تفكيكية معاصرة، له كتب عدّة منها: علم المسلمين، والمدرسة التفكيكية، والاجتهاد والتقليد في الفلسفة و..



[1] ــــ ابن منظور، لسان العرب، مادّة: جهد.

[2] ــــ الراغب الإصفهاني، المفردات: 101.

[3] ــــ اعتقد العلامة السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني (1395هـ) أن المعاد المثالي الصدرائي mمخالف ـ بالقطع واليقين ـ لظواهر الكثير من الآيات، كما ومباين لصريح الأخبار المعتبرةn، لكنه عندما اطلع على نظرية آغا حكيم قال: mإن هذا الكلام هو المذهب الحق، وهو المطابق للشرع الأنوار…n، راجع: مجموعة رسائل ومقالات فلسفي: 83.

[4] ــــ رغم أننا في الفلسفة الصدرائية نستدلّ على ذاك المعاد أيضاً، فالفلسفة بدون الاستدلال ليست فلسفةً، لكن الأهم من محض الاستدلال الفلسفي هو ممارسة الاجتهاد الفلسفي.

[5] ــــ يقوم تبنّي صدر المتألهين لأصالة الوجود على الكشف والشهود بالدرجة الأولى، ومن المعلوم أن عنصر الكشف ليس عنصراً اجتهادياً ولا ممنهجاً، بل شخصياً وروحياً، ومن المؤكّد أن هذا النقد على المنهج الشهودي يعود لسنوات طويلة، لكن مع ذلك، فإن هذا التحوّل في الاتجاه عند صدر المتألهين يمكنه أن يشكل شاهداً من نوعٍ ما على عدم اتباعه ولا تقليده للمناخات المحيطة به، وأنه كان يفكّر بطريقة مستقلّة ومتحرّرة إلى حدّ ما.

[6] ــــ صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة 1: 49، طبعة شركة دار المعارف الإسلامية؛ وراجع له أيضاً: المشاعر: 45، الطبعة الثانية، كتابخانه طهوري، طهران، 1984م.

[7] ــ صدر الدين الشيرازي، شرح الهداية الأثيرية: 381.

[8] ــ أي ذاك المنهج الذي سارت عليه المدرسة التفكيكية الخراسانية، واستخدمته منهجاً علمياً، فالاجتهاد في الفلسفة مبدأ رئيس في هذه المدرسة، والمهم المثار عندها هو ممارسة النقد الفلسفي الجادّ، لا مجرّد نقل المفاهيم والاصطلاحات وانتقالها.

[9] ــ مثل نظرية المعاد التي طرحها الآغا علي حكيم، رغم أنّها أقرب إلى المعاد القرآني، كما مرّت الإشارة إليه.

[10] ــ المدرسة التفكيكية (مكتب تفكيك) بالفارسية: 334 ـ 339، الطبعة الثالثة.

[11] ــ جاء في مجلّة mحوزةn، العدد 93، 1999م، العدد الثاني الخاص بصدر المتألهين، مقالة مفصّلة وغنية بالأفكار حملت عنوان: mناقدو الحكمة المتعالية والمنتقدون للملا صدراn، وذلك في الصفحات: 208 ـ 366 من المجلّة المذكورة، وهي مقالة يمكن عدّها رسالة بحثية ممتازة، كان كتبها هادي مكارم، وقد استعرضت هذه المقالة وجوهاً كبيرةً وبارزة في القرون الهجرية الأربعة الأخيرة مارست أشكال النقد الفلسفي، والفلسفة الاجتهادية، والاجتهاد التحقيقي، وهذه الدراسة تؤكّد أن حركة النقد الفلسفي أو الاجتهاد في الفلسفة لم تكن شهدت ركوداً وسباتاً كما هي عليه الحال اليوم في بعض الأوساط.

[12] ــ الحكيمي، مكتب تفكيك: 249.

[13] ــ تجدر الإشارة إلى أنّ هذا المنهج العلمي مازال، والحمد لله، سارياً في الحوزة العلمية في مدينة مشهد المقدّسة، وذلك على يد التلميذ المباشر للشيخ مجتبى القزويني، وتلميذ الآغا بزرك حكيم بالواسطة، ألا وهو آية الله، العالم الفاضل، والنقّاد الفلسفي المحقق، أستاذ المعارف القرآنية جناب الحاج السيد جعفر سيّدان الخراساني، إذ يعتمد سيدان في نقده على موروث أساتذة متحرّرين، كانوا نقاداً كبار، وجهوده في هذا المضمار مفيدة مغتنمة، كما أن رسائله يمكن الاستفادة منها بقوّة، وعلى المولين الفعلَ الفلسفي النقدي أهميّتَه أن لا يغفلوا عن مراجعتها وهي: 1 ـ رسالة معيار المعرفة. 2 ـ رسالة الحدوث والقدم. 3 ـ رسالة اتحاد العاقل والمعقول. 4 ـ رسالة فاعلية المبدأ المتعال. 5 ـ رسالة العلم والإرادة في المبدأ المتعال. 6 ـ رسالة ردّ السنخية (بين الخالق والمخلوق). 7 ـ رسالة لقاء الله (بحث في التجلّي والفناء في الله). 8 ـ رسالة الجبر والاختيار. 9 ـ رسالة البداء. 10 ـ رسالة نقد أصالة الوجود. 11 ـ رسالة نقد المعاد المثالي (في الأسفار الأربعة). 12 ـ رسالة نقد قاعدة الواحد. 13 ـ رسالة منهج التفسير (العرفاني، الكلامي، الأخباري و..). 14 ـ رسالة نقد نقاط في تفسير الميزان الشريف (للعلامة الطباطبائي)..

[14] ــ راجع: كيهان فرهنكي، العدد 7، السنة الثامنة (1991م): 20 ـ 23، مقال: انتقاد الملا صدرا في عصرنا؛ وأيضاً: خردنامه صدرا، العدد الرابع، 1996: 97 ـ 103، مقال: mنكاهي به أولين سمينار نقد فلسفيn؛ و: 104 ـ 108، مقال: فلسفة نقد ونقد فلسفي، وأيضاً: كتاب: نيايش فيلسوف (مناجاة الفيلسوف): 448 ـ 452، نكاهي منتقدانه به فلسفه صدر المتألهين؛ والمقالة المذكورة سابقاً في مجلّة mحوزهn.

توضيح: حيث كانت mالحكمة المتعاليةn أهمّ فلسفة في المحيط الإسلامي في القرون الأربعة الأخيرة، كانت أغلب الانتقادات والإثارات مركّزةً عليها، بوصفها نظاماً فلسفياً.

[15] ــ حتى يفرضوا على العقول ما يريدون، فيصلوا بذلك إلى أهدافٍ تخالف مصالح الإسلام والمسلمين.

[16] ــ نهج البلاغة: 33، شرح محمد عبده، ج1: 17.

[17] ــ إن نطاق الفعل العقلي الإنساني لا ينحصر بالفلسفات على أنواعها، بل يطال مختلف العلوم، والفنون، والصناعات، ويتعدّاها أيضاً.

[18] ــ يراجع في ذلك بعض ما روي عن الإمام الصادق A في هذا المجال.

[19] ــ مير فندرسكي، الرسالة الصناعية.

[20] ــ الملا عبدالرزاق اللاهيجي، كزيده كَوهر مراد.

[21] ــ مرتضى مطهري، بررسيهاي درباره ابو ريحان بمناسبت هزاره ولادت أو: 62 ـ 64، طبعة طهران، 1973م.

[22] ــ شرعة التسمية: 23، طبعة مهدية ميرداماد، إصفهان، 1409هـ.

[23] ــ تاريخ الأدب الجغرافي العربي 2: 566.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً