أحدث المقالات

 سبل التعايش وأزمة الانتماء المعرفي

حوار مع د. حسن عباسي(*)

ترجمة: محمد عبدالرزاق

الطبقات الاجتماعية الأربع وعلاقة طبقة النخبة داخلها ـــــــ

_ ما يواجهنا في دراستنا لموضوعة الوحدة بين الحوزة والجامعة هذه الأيام هو البُعد الثقافي للقضية، فأين هي مكانة هذا البعد الثقافي من استراتيجيات الثقافة في بلدنا؟

^ الإستراتيجية الثقافية واحدة من الإستراتيجيات الأربع لكلّ دولة، إلى جانب الإستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومن مجموع هذه الأربع تتحقق إستراتيجية الأمن القومي لدى كل شعب؛ لذا فأمن الشعوب والمجتمعات بات رهيناً بإمكانيات هذه الأعمدة الأربعة من كيان الدولة؛ من هنا نحن أمام أربع طبقات ثقافية في كل مجتمع: 1 ـ ثقافة النخبة (وهي ما يسمى بالثقافة المختصّة أيضاً). 2 ـ الثقافة العامّة (General Couture). 3 ـ الثقافة الجماهيرية (ثقافة عامّة الناس ـ  Public Couture  .. أو الثقافة المنتشرة ـ Culture mass). 4 ـ الثقافة الشخصية (Personality Culture).

فثقافة الخواص والنخبة ثقافة محدّدة ومختصّة بأفراد معينين، وهذا ما يمكن تلمّسه عملياً في آثارهم وانطباعاتهم عن الأمور. وتبقى نتاجات هذه الطبقة نتاجات محدودة؛ نظراً للمشقّة والصعاب التي تعترض طريقهم، وما تفرضه خصائص تلك الثقافة؛ إذاً فثقافة النخبة ثقافة مختصّة لا يمكن تعميمها على سائر أفراد المجتمع، ولهذا كانت الإحصائيات لأفراد هذه الطبقة في المجتمعات ذات أرقام قليلة جداً.

_ إذن، يمكن القول بأن ثقافة ووعي النخبة لا تمثل إلا فئة الأقلية بين مكونات المجتمع، وهي بذلك تقابل طبقة الثقافة العامة.

^ لا، ليس كذلك، فكما أسلفت هناك ثلاث طبقات إلى جانب هذه الطبقة، وهي الثقافة العامة والجماهيرية والشخصية. وسأبيّن لك ذلك؛ فالطبقة الثانية تمثّل الثقافة العامّة ذات الطابع الشمولي (Universality) والتي ينضوي تحت مفهومها سائر أفراد المجتمع، من قبيل إجماعهم على أن الضوء المروري الأحمر علامة للتوقف عن السير، أو أن على من يصل سنّ البلوغ يجب عليه الصلاة وواجبات أخرى. تأسيساً على ذلك، يصدق هذا النوع من الثقافة على جميع الأفراد في عرض واحد، فالحاجة له لا تختلف عن حاجة الكائنات في وجودها للهواء.

أما الثقافة الجماهيرية، فهي وعي الجماهير من العامّة في مقابل ثقافة الخواص أو النخبة؛ ولهذا لن تكون نتاجات هذه الثقافة غرضاً للعقلانية التي بصددها طبقة النخبة؛ إذ إن الثقافة الجماهيرية قائمة على أساس العواطف والأحاسيس، بينما بنيت ثقافة النخبة على أساس العقلانية المحضة، فأنت تشاهد الثقافة الجماهيرية تحشد (120) ألفاً من الشباب في ملعب لكرة القدم، أو تجرّ ملايين المعجبين وراء عازف أو مطرب ما، ورياضي من الرياضيين، حتى أصبح لاعب كزين الدين زيدان يتقاضى (67) مليون دولار مقابل اللعب لنادي ريال مدريد مدة ثلاث سنوات فقط، وهو رقم يفوق ما يتقاضاه رئيس الجمهورية أو وزير من الوزراء وأساتذة الجامعات و..

_ هل يعني كلامك أن الثقافة الجماهيرية مضادّة للعقلانية، ولا علاقة لها بأقلية النخبة؟

^ ما أقصده هو أن العواطف هي المهيمن الأول على الثقافة الجماهيرية، أما العقلانية فدورها نادر تقريباً، وطبيعي أن ترغب ثقافة الجماهير عن تطوّر أعضائها؛ وتسعى في إبقائهم على وعيهم الجماهيري؛ وعليه، لو نظرنا للمسألة من هذه الزاوية ستتضح لنا معالم ثقافة العوام بوصفها الأكثرية، بينما تبقى ثقافة النخبة للقلّة النادرة.

 

_ ذكرت الثقافة الشخصية. فماذا تعني بذلك؟ وما هي العلاقة بينها وبين الثقافات الأخرى؟

^ الطبقة الرابعة تمثّل الثقافة الشخصية بما تنطوي عليه الخصائص الفردية. ونعني بالطابع الشخصي كل تلك الخصائص الوجودية والسلوكية لدى الفرد بعينه، وهنا يمكن أن يتسبّب المكوّن الأساس للشخصية ببروز حالات من النفاق؛ كما لو كان ظاهري أمامك في شكل، ثم كما يقول الشاعر: «وإذا خلوتُ تغيّرت أفعالي». بعبارة أخرى إن ظاهرنا يختلف أمام الملأ عما هو عليه في السريرة، وكلما تزايدت حالات النفاق في المجتمع تردّى واقع ثقافته وتفاقمت مشاكله. وكلما اتحد ظاهر أفراد المجتمع مع بواطنهم حظيت ثقافته بالانسجام المطلوب. وهذه قضية قد تكون وجدت مخرجها في المجتمع الغربي؛ ذلك لأنهم أنكروا الأخلاق الاجتماعية (Morality)، بعبارة أخرى بات كل شيء بيد الثقافة الغربية بعد أن اكتست بحلّة الليبرالية.

إن الثقافة الليبرالية تعتمد في جوهرها على الإباحية والانحلال الخلقي؛ أي ذلك الموضع الذي لا يُنهى فيه عن المحرمات أو المكروهات، ولا يؤمر فيه بأداء الواجبات أو المستحبات، وإنما ثمة منطقة وسطى لا تقضي سوى بإباحة كل الأمور. إذاً فأساس الليبرالية كامن في «أصالة الإباحة». وقد وقع خطأ في الترجمة الفارسية لمفردة الليبرالية عندما فسّرها بعضٌ بـ «الحرية»، ولم يواجه الغرب مشكلة الثقافة الشخصية؛ لأنه أقصى الأخلاق الاجتماعية برمتها، وأوكل للإنسان كل المقدرات، فصار هو الملاك في تحديد الجيد والرديء، ووفقاً لاجتهاداته سيعيّن مصيره بنفسه، وبهذا يكون متحد السلوك ظاهراً وباطناً، وعليه ستكون معالم النفاق أقل وطأة في المجتمعات الغربية، بهذا يكون الإنسان الغربي قد هوى من الشرفة المقابلة.

_ هناك قاسم مشترك بين الطبقات الثلاث الأولى، بينما تنأى الطبقة الرابعة في فلك آخر؛ أي أن طبقة الثقافة الشخصية في كفّة، وسائر الطبقات الثلاث الأخرى في كفّة. أليس كذلك؟

^ نعم، وبعبارة أدقّ إن كل واحدة من الطبقات الأربع تقابل أخرى؛ فثقافة النخبة في مقابل ثقافة الجماهير، والثقافة العامة في مقابل الثقافة الشخصية. وكلما حصل انسجام بين الثلاث الأولى، توفر التوافق والانسجام في الطبقة الرابعة لا محالة.

_ نعود للسؤال الأوّل، هلاّ حدثتنا عن طبقة النخبة، وما هو دورها في الإستراتيجية الثقافية؟

^ ذكرت آنفاً أن مصاديق هذه الطبقة محدودة جداً، وغالباً ما تتألف في المجتمع من رموزه البارزة، كأساتذة الجامعات، وبعض الفنانين و… أما في مجتمعنا فيضاف إلى هذه المكونات تيار كلاسيكي هو الحوزة والحوزويون.

ما معنى التقارب بين الحوزة والجامعة أو المثقف والفقيه؟ ـــــــ

_ إذن، فالمؤسسة الدينية شريكة في مكونات طبقة النخبة الثقافية، على الرغم من طابعها التقليدي إلاّ أنها تقف في عرض واحد مع الجامعة والجامعيين، وإن كانت الأخيرة أقرب للحداثة منها إلى الطابع الكلاسيكي. ومسلّم أن يوضع الاتجاهان في طبقة واحدة على الرغم من الفوارق ما ظهر منها وما بطن. كما لابد أن تكون هناك قواسم مشتركة بينهما، ولعلّ موضوع الوحدة بين الحوزة والجامعة قد تبلور للوهلة الأولى من هذا المنطلق ذاته.

لكننا هنا نطمح إلى قراءة جادّة لهذا الموضوع، فماذا يعني مفهوم الوحدة بين الحوزة والجامعة في نظرك؟

^ لا نعني بالوحدة هنا توحيد المظاهر الخارجية وأبنية المؤسسات، أو إدخال نظام الوحدات الدراسية المتبع في الجامعات إلى أنظمة الحوزة، وإنّما المراد إيجاد آليات متقاربة في طرح المضامين والأفكار؛ فالجامعة حديثة بمعنى أنها وليدة عصر الحداثة بجميع تفاصيله، وهي نمط في التجديد الفكري فإذا دخلت المجتمع قلنا عنها: حركة تجديدية أو حداثة. ثم إن الجامعة مؤسسة للتعليم العالي، وبما أنها غربية النشأة فهي ذات طابع غربي في اتجاهها التعليمي. ومن أهم أسس الحداثة اعتمادها على تخويل الإنسان في تحديد مصيره؛ طبقاً لأساسيات المذهب الإنساني (Humanism)، الذي يجعل الأصالة للإنسان وحده، فيفسّر كل ما يحيط به وفقاً لقراءاته، مع إلغاء دور جميع القوى الميتافيزيقية؛ فالإنسان هو معيار كل شيء.

إن من قال: «أنا أفكر، فأنا موجود» ـ حسب ديكارت ـ عاد من الإنسانية ليمنح «العقل الحسابي» أصالة مطلقة؛ لتتولد لنا من العقلانية (Rationalism) «أصالة العقل». ثم دامت الفكرة مائة عام حتى اكتشف الغربيون عجز العقل عن حلّ جميع العقد والمشاكل، الأمر الذي قادهم للخوض في دوامة أخرى باسم المذهب التجريبي، المتبع اليوم في مجال العلوم التجريبية، هكذا سارت الأمور لتكتسب العلوم التجريبية أصالتها خلفاً للعقلانية.

أزمة ثنائية العلوم الإنسانية والتجريبية ـــــــ

_ وماذا عن التفكيك الحاصل بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية؟

^ نعم، ثمة تفكيك مفتعل هذه الأيام ـ لا سيما في إيران ـ بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية، وهذا خطأ فادح، نحن نرى ـ على سبيل المثال ـ تصنيف علم الاجتماع في شاقول العلوم التجريبية، وكذلك علم النفس والسياسة والاقتصاد في عصر الحداثة، وليس هناك ما يدعى بالعلوم غير الطبيعية في عالم الحداثة؛ حيث باتت جميع العلوم علوماً تجريبية. وبعد مائة أو مائة وخمسين عاماً اكتشف الغرب هذه المرة عجز التجريبية عن نيل المراد، فقالوا: لا نؤمن إلا لما تدركه حواسنا؛ لأنها أقرب مصادرنا في المعرفة.

هنا دخل الغرب مأزقاً جديداً عنوانه «الحسية»، واليوم نشاهد الجامعات الغربية تعمل بأصالة الحسية والتجريبية معاً، مضافاً لأدوار العقل الحسابي والنظرية العلمية.

لقد تأسّس الاتجاه الإنساني على ثلاثة أصول معرفية هي: العقلانية والتجريبية والحسية، ومن ثم نتج عن هذه الثلاثة نظرية جديدة هي العلمية، والتي تعتمد الحلول المنطقية بالارتكاز على العلم الحصولي، وهو العلم الذي يكتسبه الإنسان من الخارج، لذا فهو هزيل القوام؛ لأنه قائم بالتصور والتصديق، فالتصور إدراك صورة الشيء ذهناً، وتشكّل جميع تلك الصور والمفاهيم الذهنية القاعدة الأساسية للعلم، أما التصديق فهو أن نقول ـ مثلاً ـ الجو حارٌ.

لقد تحوّل العلم في عصر الحداثة الغربية إلى أيديولوجيا عنوانها نظرية المعرفة العلمية «Skepticism»، وهي أيديولوجيا العلم المحض، أي أن تقرر الأصالة لموضوع من المواضيع دون إيمان الفرد به، عليه يكون هذا الفرد عالماً بالشيء دون أن يعتقد به.

_ إن ما تفترضه من مفهوم لـ «Science» على أنه العلم بشيء دون الاعتقاد به، يعني تحقّق العلم دون تحصيل المعرفة! فكيف يمكن تفسير ذلك؟

تجدر الإشارة إلى وجود مفهوم آخر إلى جانب «Science» تداوله الغرب في الماضي وهو «Knowledge» وهو يرادف «المعرفة» في اللغة العربية، كما يقال: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»؛ فالمعرفة تحصيل لـ (Science) فلا تقتصر حدودها على مجرّد العلم الحصولي وحسب، وإنّما تمتد إلى مساحات العلم الحضوري المتجذّر في الأعمال الإنسانية، والمرتكز على مكتسباته الحضورية في قرارة نفسه. وهذه النظرية كانت من مختصّات الحوزة سابقاً، وهي اليوم أكثر فاعلية وتطوراً.

لقد سارت جامعاتنا بتقليدها الأعمى خلف «Science»، وتقوم أسس النظرية العلمية على بناء العلم الحصولي على عنصرين هما: «التصور» و «التصديق»؛ ومن هذين العنصرين ينتج لنا «فرضية علمية». فمن الإطار التصوري خرجت لنا فرضية ـ وهي نظرية لم تصل لمستوى الإثبات العلمي ـ ومن الفرضية تولد النظرية، ومن النظرية تخرج الفرضية الخاصّة، ومنها ينتج الأنموذج الخاص الموصل إلى مربع: (الأيديولوجيا، النظرية، الإنسانية، الدوغماتية) ولا يهمنا من ذلك إلا (النظرية)، فنقول فيها: إنها منشأ «التقنية» وهي ـ عموماً ـ تشير إلى ما يتداول هذه الأيام في مجال التكنولوجيا. إذن فالتكنولوجيا هي مصداق العلم الحصولي، وهي أعلى مرتبة من التقنية والتكنيك، كما أن الإستراتيجية أعلى من التقنية، إذاً هذه كلّها تقوم على «النظريات»؛ فما كان يوصف بالعلوم الدقيقة كنظريات الفيزياء والكيمياء والرياضيات جانح للتكنولوجيا، وهناك من العلوم ما يكون إستراتيجيّ النزعة كالإلهيات والفلسفة، ونعني بها الفلسفة الغربية المعاصرة؛ لأن الفلاسفة قبل القرن العشرين كانوا يستعرضون الفرضيات والنظريات، فيتبعهم العلماء في استنتاج نظرياتهم العملية، أما في القرن العشرين فقد بلغ الفهم الغربي بالنظرية العلمية ذروة الفساد الفكري بما يعدّ نقضاً للقاعدة السابقة، أي أصبح العلم هو المتحكّم بالموقف الفلسفي لدى الغربيين. فعلى سبيل المثال: كان اينشتاين قد طرح نظريته الفيزيائية «النسبية» في قوالب فيزيو ـ رياضية، ثم جاء فيلسوف منطقي بوزن «كارل بوبر» ليستخرج من صميم تلك النظرية أسسه الفلسفية النسبية، وهذه ذروة الانحطاط الفكري؛ من هنا اعتقد أن الفلسفة الغربية لا تتعدّى في جوهرها حدود النظرية العلمية؛ حيث إن «النظرية» تمثّل نواتها الأساسية، وهنا مرثية النظرية العلمية عندما يقتصر هدفها على تحصيل النظريات وحسب.

عندما نلقي نظرة على الاختصاصات العلمية في الجامعات نجدها غير مقنعة لطلابها؛ ذلك لأن مبدأها قائم على العلم الحصولي المنتج للتكنيك وهو يمثل الرئة التي تتنفس بها النظريات، لذا فهو لا يصل مستوى الاعتماد أبداً، ولا ضرر في ترك العمل به.

لقد بحث «هنري كوربان» كثيراً في مفاهيم الإسلام وخاض نقاشات طويلة في ذلك مع العلامة الطباطبائي، لكنه لم يُسلم؛ وذلك لأنه قرأ الإسلام بوصفه مجرّد (Science) تحوّل في قراءاته إلى (Knowledge). وهكذا حصل مع «توشيهيكو ايزوتسو» عندما كان يدرس ـ قبل الثورة الإسلامية ـ في جامعة طهران «فصوص الحكم» باللغة العربية، لكنه لم يُسلم أبداً ـ على الرغم من إحاطته الواسعة بالعرفان الإسلامي ـ فالمسألة أشبه ما يكون بتخزين معلومات داخل ذاكرة الكمبيوتر، فإن أسلم الكومبيوتر أسلم البروفسور «إيزوتسو»!

لقد نتج عن تقديم العقل الحسابي والتجربة والحس واقع علمي حجّم أداء جامعاتنا بشكل كبير، وقد أثر ذلك على جميع مجالات الحياة والمؤسسات العلمية؛ فلا فرق في ذلك بين جامعة السوربون في فرنسا والأزهر في مصر وجامعة طهران، لكننا لم نصل في النظرية العلمية مراحلَها المتقدمة، ولهذا بقينا متشبّثين بتقليدنا الأعمى، ولم نحقق النتائج المرجوّة من إبستمولوجيا العلم، ولم نتعمق في نظرياتها. وهذا هو واقع جامعاتنا!

أزمة الضوالّ في حياة الجامعات ــــــ

_ إذن، من كلامك نفهم أنك تطرح معالجات لواقع الجامعات الراهن؟

^ نعم، أعني من ذلك أن (Science) لم يحقق السعادة والنجاح المرجوّين لدى الأفراد، وليست المعرفة (Knowledge) في خلق النظريات وحسب؛ وإنّما في الضالّة التي أشار إليها حديث الرسول الأكرم’: «الحكمة ضالة المؤمن»؛ لذا نحن اليوم لا نطلق لقب الدكتور على أرسطو أو أفلاطون أو ابن سينا أو فردوسي وملا صدرا؛ وذلك لأنهم كانوا في صدد البحث عن ضوالّهم في سجلاتهم التحصيلية، وتلك ضوالّ معرفية لا تقنّنها الأنظمة الوضعية في التعليم العالي بأن «يقرأ ويمتحن الطالب في وحدات دراسية معينة ثم يتخرج حكيماً بالفعل!» فمن ذا يدّعي اتحاد شخصين في الإمكانات والآليات لكي يعمد إلى تقويم مناهج ثابتة في اكتسابها المعرفة؟ أو هل هذه الأنظمة كفيلة حقاً بكسب المعرفة ونيل الحكمة؟

إذا كانت الحكمة ضالّة المؤمن تعيّن عليه البحث عنها في جميع الاتجاهات. وهذا ما لا نشاهده اليوم في جامعاتنا، لأنها لم تبين بعد حقيقة ضوالّها؛ فترى الطالب الجامعي وهمّه الأكبر هو التخرج وإحراز وظيفة للعمل، وهذا حقّ مشروع لا يمكن إنكاره، لكنّ هذه الآلية ليست من المعرفة في شيء، وإنّما هو سعي وراء التقنيات المشيدة على أسس النظريات، دون أن يكون للاعتقاد دور في تحصيل كل تلك المعطيات التي قد تصدق على كل شيء سوى الحكمة.

_ فماذا تقترح من حلول وبدائل لسدّ هذا النقص؟

^ لابد من التماس أفق جديد، كما حصل مع سقراط وأفلاطون وملا صدرا والميرداماد والعلامة الطباطبائي وتلامذته الأوائل؛ فالمعرفة ليست ضداً أو نقيضاً للعلم، وإنّما المطلوب تأطير اتجاهاتنا ونظرياتنا العلمية بطابع المعرفة، مع بقاء التفاوت في المعطيات؛ حيث تقتصر مؤسّسات الدكتور والمهندس على اكتساب المعلومة وإيصالها للمتلقي حتى وإن لم يعتقد بها، أما الغاية في باب الحكمة فهي أن تعتقد قلباً بما تعلّمته، بل ولابد أن تعمل به أيضاً فيتجلى ذلك على السلوك، وهنا تكمن الفائدة القصوى، بينما قد يتعلّم المرء آلاف المعلومات في (Science) دون أن تعود عليه بالمنفعة، وهذا ما نردّده في أدعيتنا فنقول: «اللهم نعوذ بك من علم لا ينفع»، وتبقى في المعرفة  معطيات يصعب على الحداثة وأفرادها تحقيقها، لقد هدمت الحداثة جسور الاتصال بين الإنسان والعالم العلوي، ودعته للعلمنة والإباحية فاستباحت قدسية الإنسان واستبدلتها بالبهيمية.

غياب التزكية في المؤسسات التعليمية!! ــــــ

_ هل يعني ذلك أن المعرفة لا تلتقي مع الحداثة؟ وهل هذا ما يفسّر لنا عجز الجامعات عن تحقيق بعض التطلّعات في الوقت الحاضر بوصفها مراكز علمية حداثوية؟ وهل هذا هو السبب الرئيس وراء الرغبة في تأسيس الوحدة بين الجامعة والحوزة؟ ثم هل سيشكل ذلك في معنى معانيه عقبة في إرساء الوحدة المنشودة؟

^ إنّ للمعرفة (Knowledge) مفتاحاً هو «التزكية»، فلا يُجلى صدأ القلوب إلا بها كي تكون جاهزة لتلقي المعارف الإلهية. وليس ما يهيمن على العلم (Science) إلا تلك الستور المصطلح عليها بالحجب الكبرى، ولمعالجة ذلك يتعين علينا ـ ونحن في مؤسّسات الحكمة والحكماء ـ أن نخطوا خطوتنا الأولى وهي تزكية النفوس، كما ورد في أحاديث الإمام الخميني: «التزكية ثم التعليم والتربية».

وهذا ما ينطبق على الجامعي والحوزوي معاً مضافاً للأساتذة، بأن يزكوا نفوسهم قبل الإقبال على طلب العلم والتعليم. وبما أن هذه المفردة لا تنسجم مع الحداثة؛ لذا نجد أفرادها يواجهون صعوبات في طريق نيل المعرفة (Knowledge)؛ وهذا ما غيّب وجود المعرفة لدى الغرب طيلة القرون الأربعة الماضية؛ حيث شرع الإنسان الغربي رويداً رويداً في التخلّي عن قدسية ذاته متوجهاً نحو ظلمات النظريات العلمية الصرفة، فكانت التكنولوجيا.

لكنّ واقعنا المأساوي اقتصر على آلية التقليد الأعمى والخالي من المحتوى، وأنا أؤكّد: لن تجدوا تحت مسمّيات الدكتوراه عندنا ما ينمّ عن مفاهيم النظرية والتنظير كما أريد لها في الجانب الآخر ممن وضع تلك المسميات والمناصب العلمية، فنحن لم ندرك أن معنى (Science) هو أن يكون المتخصّص والدكتور قادراً على وضع نظريات وأطروحات مجدية في اختصاصه، لهذا نقول: إن مصداق التعليم العالي هزيل وتقليد سطحي للغرب. وهذه حقيقة بإمكان أيّ شخص الوقوف عليها، فالحكماء ـ على سبيل المثال ـ كان في كل واحد منهم إنسان مثالي تعلّم العامة منه في السلوكيات بنسبة 95%، أما في مجال (Science) فلم يتجاوز الكسب والتعلم 5%، وقد تتبعت كثيراً في هذا الباب فوجدت أن أكثر الشخصيات التاريخية كانوا على خلاف مع أساتذتهم في إطار نسبة الكسب والتعلم آنفة الذكر؛ فنحن نرى الحكيم ملا صدرا متأثراً بأستاذه الميرداماد في السير والسلوك والمعرفة بنسبة 95%، لكنه يفترق عن أستاذه 5% في الجانب العلمي، وهذا هو الحال مع أرسطو وأفلاطون؛ حيث كان اختلافهما مقتصراً على نسبة 6.5% من الناحية العلمية، أما على صعيد المعرفة فكان كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو على اتحاد وتوافق.

نحن اليوم لا نشهد حضوراً لعنصر التزكية في جامعاتنا؛ فالمنهج الدراسي يتمّ ويختتم دون أن تكون هناك معرفة بين الأستاذ وطلبته، إذاً كيف سيتمكّن الأستاذ من عكس سلوكياته عليهم؟ بينما تخلق الحكمة أجواءً بين الأستاذ والتلميذ مفعمة بالانسجام والتعايش يتلقى خلالها الأخير سيرة أستاذه العلمية؛ فأين تكمن المشكلة؟ لقد نسينا انعدام الانسجام بين هذين الاثنين، وبات تواصل الحوزة مع الجامعة ضعيفاً. نعم، قد يصعب الجمع بين مفهوم المعرفة والعلم إلاّ في نظام التعليم العالي في الجمهورية الإسلامية؛ لأن غالبية العالم يذعن بتأسيس معرفته على العلمية المحضة، لذا فالجميع متجنّب للتنافس في ذلك لعجزهم تحت ظروفهم الراهنة، وتبقى جذوة ذلك الأمل منحصرة في أجواء إيران الإسلامية في مجال الحكمة وتخريج الحكماء، وهي رسالة عالمية.

نحن لا نتكّلم هنا عن توحيد مؤسّستين في التعليم العالي أمثال الحوزة والجامعة مع بعضهما البعض، وإنّما هي دعوة إلى إحداث تغييرات جذرية على صعيد المفاهيم والمضمون، فعلى الجامعة أن تعمل برسالتها في مجال العلمية فتقدم الدكتور والمهندس، وفي المقابل تشقّ الحوزة طريقها في إحراز المعرفة فتفرض نفسها بوصفها داراً للحكيم والحكمة. وباقتران هذين النتاجين يُحقّق مجتمعنا هدفه الإلهي، وهذه هي الحلقة المفقودة.

يفترض بكلّ من طالب الحوزة  والجامعة أن يسأل نفسه هذا السؤال: ما هي ضالّتي؟ ومن ثَم يعمد للبحث عنها، ولابدّ في البحث أن يمرّ عبر قناة التزكية، فلا سعادة بلا تزكية، وكما يقول الدكتور علي شريعتي: «اكتبوا الصفر في كل مكان، فهل له قيمة حسابية، فإذا ألحقتم العدد (1) [المعرفة] بجوار أحد الأصفار اكتسب قيمةً ومعنى».

لقد هوى الإنسان الغربي من الشُرفة المقابلة، لأنه كلّما تقدّم في نظرياته العلمية أنكر حاجة البشر للرب؛ أي أنه اعتقد أنّ آليات التطوّر العلمي في كشف الطبيعة والغوص في أعماق البحار وملاحظة الخلايا في المجهر ستغنيه عن خالقه، فيما معنى المعرفة أنك كلّما ازددت علماً اقتربت من بارئك.

من ذلك نفهم، ليست مصاديق الغزو الثقافي منحصرة في جدائل الفتيات أو تقصير أكمام الفتيان، وإنّما ذلك ترسّم على الجدر الأربعة للثقافة التي لا تتعامل مع الإنسان إلاّ من ناحية علمية مجرّدة. فإنّنا مهما أنتجت جامعاتنا شهادات عليا لن تمنح المجتمع معرفةً أو أرباباً في المعرفة. فكل تلك الوسائل والمبالغ المصروفة لم تنتج العقلائية والعقلانية المذكورة في القرآن، وإنّما كانت النتيجة تقديم التجريبية والحسيّة إلى المجتمعات.

_ كيف تصادم الإنسان العلمي مع المفاهيم غير الحسيّة والتجريبية؟

^ بالطبع سيحدث ذلك؛ لأن الإنسان صاحب الاتجاه العلمي سيواجه إشكاليات عديدة في فهم بعض الظواهر، فهو لن يدرك امتداد عمر نوح× إلى (950) عاماً، فذلك مناقض عنده للقوانين الطبيعية لمراحل الطفولة والنشأة والشباب، أو ضرورة موت الخلايا الإنسانية. وهكذا لو سمع بإنسان عاش ألف عام في غيبته الكبرى، أي أن اعتقاد ذلك الشخص لم يكن اعتقاداً معرفياً، وإنّما اعتقاداته مقتصرة على أمثال (1+ 1 = 2) وهذه دلالات واضحة على بعض الأفراد حتى وإن لم يرفعوا لافتات الليبرالية أو العلمانية، بل قد ترى بعضهم ملتحياً متختماً بالعقيق والمسبحة لا تبرح أصابعه، أو قد يكون بزيّ رجال الدين، لكن سرعان ما تتراجع مبادئه فتتلاشى مواقفه شيئاً فشيئاً، وترى هذا المتأثر بالعلمية المحضة يسافر فيعود بأفكار مفكّر هناك لينشرها في الجمهورية الإسلامية، هكذا تأخذ النظريات العلمية ببسط مفعولها على الأجيال المؤمنة بالعلوم الجديدة إيمانها بالوحي المنزّل؛ فتقضي على اعتقاداتهم السابقة.

شيطانية العلم الحديث ـــــــ

لابدّ لنا من التشكيك في مصداقية العلم الحديث، تأسيساً عليه نقول ـ انطلاقاً من مبدأ التنوير ـ: إن إبستمولوجيا العلم المعاصرة تساوي الشيطانية؛ حيث بدأ الغرب يتجه نحو عصر عبادة الشيطان، فهذه أفلام هوليود تُصدّر سنوياً (900) فيلم، (600) منها تجنح إلى  العنف والعداء، وتأصيل الأساطير والسحر والخرافة، فلقد جاء الوقت الذي تعرض فيه أفلام مصاصّ الدماء لفورد كابلو، وتوم كروز هو من يلعب دور الشيطان حالياً، وليس الإقبال منقطع النظير على كتب «هاري بوثر» وأفلامه إلا انحطاطاً فكرياً وأخلاقياً عارماً، فهل شخصية هاري بوثر إلا رمز للعداء والخرافة في عالم الإنسان الحداثوي؟ فأنت لا تشاهد فيلماً لهوليود إلا وتغمرك الخدع السحرية من مشاهد الموجودات ذات الأشكال المبتكرة الغريبة بالانجرار إلى الإيمان بوجود تلك المخلوقات العجيبة.

هذا هو معنى شيطنة العصر في العالم الغربي.

لقد دعا المذهب الإنساني إلى وحدانية الإنسان، وهو ضربٌ من عبادة الذات، وجعل الإنسان ملاكاً في كل الأحكام فتلاشت الموضوعية فيه. في مقابل ذلك تتجلّى معاني المعرفة وحكمة الحكيم.

_ نستنتج من كلامك أن الخلل في العلمية المحضة التي ابتليت بها الجامعات هو نقص البعد المعرفي، ومن ذلك تبرز الضرورة في الوحدة بين الحوزة والجامعة، حيث يتسنّى للجامعة الاقتراب من المعرفة بغية خلق أجواء صحية للتعايش المشترك.

^ إنّ هذا النمط من النزعة العلمية مصداق بارز لعبادة الشيطان، فمن أين تصدر هذه الفكرة، هل من السوربون أم فرانكفورت أم الأزهر أم كمبردج أم بيروت وغيرها؟

نحن أصحاب الدعوة للحوار بين الأديان والحضارات، وعلى عاقتنا يقع النهوض بهذه المهمة، استمراراً لحركة (124000) نبي، ومن بعدهم الأئمة الأطهار، وما أعقب الغيبة الكبرى من نشاط لـ (58) زعيماً، وهذا هو المدى الذي رسم هوية شعبنا في تحمل مسؤولية التوفيق بين العلم والمعرفة، بوصفها واحدة من معالم تلك الهوية، ولاشك أن ذلك من واجبات حوزاتنا وجامعاتنا على وجه التحديد؛ فلابد من أن تتحد هاتان المؤسّستان وتدمجان في بعضهما بغية تظافر الجهود في فهم وتفسير المفاهيم والأفكار بشكل سليم، فإن تأخرنا في تحقيق ذلك حَقَّ علينا أن نصنّف جامعاتنا في عداد الغرب. إذاً لا سعادة مع العلم مجرّداً عن المعرفة ومقدّمتها الزكية: ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ حيث يتعيّن على الإنسان أن يجمع بين عنصرين علمييَن ينتفع بهما وينفع الآخرين. فهل نحن من المؤمنين؟ وما هي ضالّتنا كمؤمنين؟ فمتى نطبّق ما نقوله؟ فكثيراً ما نردّد: اللهم نعوذ بك من علم لا ينفع، ولا نعي ما نقول.


 

(*) أُستاذ جامعي معروف، له محاضرات كثيرة حول الحوزة والجامعة والسلطة والمعارضة والإصلاح و..

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً