أحدث المقالات

مطالعة تحليلية

د. عزت ملا إبراهيمي(*)

د. أكرم روشنفكر(**)

سياق التحوّلات النسوية في لبنان ـــــــ

المتأمّل في الخارطة السياسية للشرق الأوسط العربي وكيفية ظهور الحدود الجديدة المصطنعة في القرن الماضي، سيتراءى له أول ملامح المشروع الاستعماري الغربي في السيطرة على البلاد العربية، والذي مهّد لـه تقطّع أوصال إمبراطورية (الرجل المريض) الدولة العثمانية التي بسطت جناحيها على البلدان الإسلامية، وقد اتّضحت معالم هذا المشروع جلياً عبر إمساك المحور الاستعماري بمقدرات المنطقة وخيراتها، بل على المشرق الإسلامي برمّته عبر الزحف العسكري وإقامة حكومات الانتداب في السواحل الشرقية لحوض المتوسط. ولعلّ سواحل الشام كانت من أكثر مناطق الشرق العربي عرضة للتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية التي سادت المجتمعات الأوربية في القرن التاسع عشر، وذلك  بسبب الحوض المائي المتوسطي الذي يصلها بأوروبا، وبشكل أكثر تحديداً فإنّ منطقة جبل لبنان أو ما بات يعرف اليوم بالجمهورية اللبنانية نالت القسط الأكبر من هذا التأثّر.

وعلى الرغم من الظروف المضطربة التي مرّ بها لبنان فقد سجّلت المرأة نجاحاً لافتاً تمثّل في حضور قوي على الساحة الثقافية، صاغته عوامل عدّة أبرزها تجربة حكومة الانتداب التي عاشها لبنان وتعرّفه على مظاهر الحضارة الغربية، من خلال تدريس العلوم والآداب باللغات الأجنبية، ولا سيّما اللغة الفرنسية، ففتح ذلك الباب على مصراعيه أمام المرأة اللبنانية للاحتكاك بالثقافة والأدب الفرنسي، فبدأت تنهل من معين الأفكار الحداثية الجديدة التي ألهمت المثقف اللبناني حالة من التحول السياسي والاجتماعي جعلت منه رائداً للأفكار الإصلاحية في المنطقة، وبطبيعة الحال كانت نافذة الدخول إلى تلك الإصلاحات المطالبة بحقوق المرأة في الحرية وحقّ الانتخاب الذي تجلّى في إطار المنتديات العلمية والأدبية والجمعيات الخيرية والمؤسسات التي تُعنى بشؤون المرأة، وأثمرت هذه المسيرة الطويلة عن دخول المرأة عالم الصحافة والأدب والمجلات المتخصصة، وكان دافعاً لأن تأخذ اليقظة النسائية أبعاداً أوسع شملت فيما شملت المجال الأدبي، ليتمخّض عن ذلك ما أصبح يعرف لاحقاً بالأدب النسائي.

لم تقتصر نشاطات المرأة اللبنانية على المجال الأدبي، بل اتّسعت دائرتها لتشمل حضور المؤتمرات الثقافية والسياسية التي تعقد في الداخل والخارج، ومع هذا يبقى الأدب النسائي هو الأوفر حظاً والأكثر حضوراً على الساحة، وهو أدب يستحقّ المطالعة والتأمّل، وربّما تكون الفترة الممتدة بين (1975 ـ 2000) فترة مثالية لدراسة خصائص الأدب النسائي اللبناني واستكشاف خباياه المكنونة، ومردّ ذلك أنّ معظم الحوادث التي شهدها هذا البلد في القرنين الماضيين والتي توّجت بتبلور الأدب النسائي قد تلخّصت في الربع قرن المذكور، وأعاد هذا الأدب إنتاج الآمال والإخفاقات السابقة، ولكن في قالب جديد.

حضور المرأة في ساحة الأدب ـــــــ

ولا ريب في أنّ تقييم مستوى نجاح الأديبة اللبنانية في إيصال المفاهيم التي تؤمن بها إلى قلب الرأي العام، لا يقاس من منظار حجم إقبال الجمهور على قراءة الصحف والمجلات والكتب فحسب، بل عبر تقييم مستوى دقة الكاتبة في توظيف المفردات الغريبة والرمزية، وكذلك أسلوبها المميّز في تبيين الموضوعات، بهدف الخروج بفهم مشترك أكثر وضوحاً وانسجاماً([1])، وبديهي أنّ مثل هذا الفهم لا يتيسّر إلاّ من خلال تبيين معاني المصطلحات الخاصة بالموضوع، وضمن هذا السياق تدخل محاولات السيدة «يمنى العيد» للتعريف بأول مصطلح في قاموس النهضة النسائية، ألا وهو مصطلح الأدب النسائي المقتبس من الأدب الغربي([2]). وقد تمّ تداول هذا المصطلح مع بدايات عصر النهضة، للتعبير عن الأعمال الأدبية للمرأة العربية، والطابع العام لهذه الأعمال هو القدرة الفائقة للكاتبة على معالجة موضوعات المرأة وسبر أعماق عالم الأنوثة، وهي تفوق في أحيان كثيرة قدرة الرجل في دخول هذا المضمار، والجدير بالإشارة أنّه لم يكن وراء اختيار مصطلح الأدب النسائي، التمايز الجنسي الذي تنشده الحركة النسوية، كما قد تشير يمنى العيد إلى ذلك جنسية المصطلح: «أميل إلى الاعتقاد بأن مصطلح الأدب النسائي يفيد عن معنى الاهتمام وإعاده الاعتبار إلى نتاج المرأة العربية الأدبي وليس عن مفهوم ثنائي أُنثوي ـ ذكوري، يصنع هذا النتاج في علاقة اختلاف ضدّي ـ تناقضي مع نتاج الرجل الأدبي»([3]).

 ولإضفاء طابع العزلة على هذا النمط من الأعمال الأدبية أو تقييده بقيد الجنس، كما لم يكن هدف الكاتبة العربية إثارة مواجهة مع الأعمال الأدبية الرجالية، بل هدفها كان إضفاء نوع من الاعتبار والاحترام على أعمالها، وهو احترام لـه جذور تاريخية ترقى إلى عصر السيدة مي زيادة والمجالس الأدبية التي كانت تحرص على عقدها في القاهرة([4])، وهي المجالس التي كانت تعجّ برواد الأدب والثقافة، من أمثال لطفي السيد، وإسماعيل صبري، وشبلي شميل، وطه حسين، وخليل مطران، وأنطوان جميل، ويعقوب صروف، وإيمه خير، وولي الدين يكن، وصادق الرافعي وآخرين غيرهم.

ولم تقتصر هذه المشاركة على الندوات الأدبية تلك، بل تجلّت أيضاً من خلال تحسين الظروف الاجتماعية والثقافية للمرأة نتيجة للأفكار التي طرحها المثقفون المنادون بتحرير المرأة، من أمثال قاسم أمين، وكذلك مدرسة البنات التي شيّدها رفاعة الطهطاوي، كما تقول يمنى العيد: «مثل هذه النشاطات وسمت بالنسائية، وإن شارك فيها الرجل، فقد عمل الطهطاوي (1801 ـ 1873م) على إقامة مدرسة لتعليم البنات، وخصص قاسم أمين كتابين، هما: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة»([5]).

وتوضّح هذه المسيرة الدور المشترك لكل من الرجل والمرأة في النشاطات الاجتماعية والأدبية، بل وحتى الإنسانية، على الرغم من إمكانية وجود نقاط خلافية عديدة، بيد أنّ هذا الخلاف غير ناجم بالضرورة عن التعارض والمواجهة، كما أنّ التعارض لا يرادف الخلاف على الدوام، بل ربّما كان إلى الشبه والتماثل أقرب([6])، كما تقول يمنى العيد: «و بالنظر في خطاب المرأة الأدبي ففي إمكان القارئ أو الباحث أن يلاحظ أنه ليس خطاباً نسوياً بمعنى الثنائية الضدّية بين خطاب أُنثوي وخطاب ذكوري، ولئن كانت ضدّية فإن لها وبحسب العرب معنى الخلافية الندّية… »([7]).

وعليه، فإنّ مصطلح «النسائي» يشير إلى حضور المرأة ونشاطاتها الاجتماعية والثقافية والأدبية، وبالتالي فإنّ المقصود بالأدب النسائي ليس موقعاً مقابلاً للأدب الذكوري، كما تشير يمنى العيد إلى ذلك: «يضمر النسائي في الخطاب الأدبي العربي معنى الدفاع عن الأنثوية، بما هي ذات لها هويتها المجتمعيّة والإنسانية…». إنّ إثبات الطبيعة الإنسانية والاجتماعية للمرأة التي تختبئ وراء مصطلح «النسائي» يظهر لنا أنّ المصطلح أنّما يعبّر عن هوية متجدّدة وخلاّقة، مثله مثل مصطلح «الأدب الذكوري»،كما تقول يمنى العيد: «ما يعني أنّ المرأة بهذا الخطاب الضدّي أو الخلافي تعلن وجودها ككائن مبدع، شأن الرجل، إذ يعلن في خطابه عن وجوده ككائن مبدع»([8]).

ومع هذا، فإنّ حمل مصطلح النسائي على مفهوم التضاد والندية للرجل، ليس من باب المواجهة مع الطبيعة الإنسانية للرجل، بل مواجهة الدور الذكوري المتسلّط الذي لعبه في المجتمع عبر التاريخ، وبالتالي رسمت الملامح العامة لشخصيته ضمن هذا المفهوم، كما تشير يمنى العيد إلى ذلك: «… ومن موقع الندية يواجه «النسائي» لا الرجل بصفته الإنسانية، بل آخر هو تاريخياً قامع ومتسلّط»([9]).

نقد الذكورية المتسلّطة في أعمال الأديبات اللبنانيات ـــــــ

وتزخر أعمال الأديبات العربيات بالهجوم على هذه الصورة التاريخية الذكورية المثيرة للحساسية الأنثوية وإدانتها، على سبيل المثال ما ورد في أعمال الروائية ليلى بعلبكي، مثل رواية «أنا أحيا» حيث تسلّط الضوء على السلوك الغاضب لشخصية «لينا» بطلة الرواية تجاه رجل يحظى بنفوذ وموقع اجتماعي متميّز، ويتّصف ببعض الخصائص الفريدة، حيث إنّه ربّ أسرة، ورئيس شركة وأستاذ جامعي، وأخيراً عضو في أحد الأحزاب السياسية، ويستغلّ هذا الرجل موقعه الاجتماعي المرموق فيبدي سلوكاً متسلطاً بغيضاً، وعبر سلسلة من الأحداث، يستثير مشاعر الغضب لدى لينا، فتواجهه بكل ما تملك، لكنّ المواجهة تمثّل تعبيراً رمزياً عن الثورة على بعض المواصفات المقيتة التي يمثّلها ذلك الرجل، وليست ضدّ الرجل كجنس، كما تشير يمنى العيد إلى  ذلك: «… لينا ومن خلفها المؤلفة الضمنية، ضد هذا القمع وليست ضد رجل تودّه، كما تقول، أن تشبك بذراعه ذراعها»([10]).

وفي السياق نفسه، ترسم الروائية «هدى بركات» في روايتها «حجر الضحك» صورة مؤثرة عن قساوة الحرب الداخلية اللبنانية، تجلّت في بعض الملامح المتباينة التي تعطيها لبطل الرواية، وهجومها الشديد على خصيصة حبّ التسلّط الذكوري لديه دون المساس بصفاته الإنسانية، كما تقول يمنى العيد في هذه الرواية: «لم تكتب المرأة ضد الرجل الإنسان حين تناولت كتاباتها الإبداعية العلاقة بين الأنوثة والذكورة، بل كتبت ضد إيديولوجيا السلطة الذكورية…»([11]).

ونفس الهجمة تشنّها الروائية أميلي نصرالله في أعمالها، عبر استعراضها لبعض مظاهر هذا التسلّط الذي تفرضه بعض العادات والتقاليد الاجتماعية، وبأسلوب أدبي شيّق تستثير مشاعر الغضب المكنونة في أعماق القارئ ضدّ تلك التقاليد، كما تشير  يمنى العيد إلى ذلك: «ورواية الإقلاع عكس الزمن (بيروت،1980) لإميلي نصر الله التي تحكي عن الحرب والغربة والتعلق بالجذور»([12]). كما تطرّقت في بعض أعمالها إلى موضوع الحرب الداخلية اللبنانية وما خلّفته من مآسٍ، إذ حاولت تصوير مشاهد الصراع والعنف التي انتهت إلى حالة النزاع الاجتماعي والاقتتال الداخلي، لتعبّر بذلك عن أجلى صورها المتمثّلة في رمزية التسلّط والقهر التي ميّزت الرجل في لبنان عبر التاريخ الطويل لهذا البلد.

وفي رواية «قلب الرجل» للسيدة لبيبة هاشم التي تسرد فيها الوقائع الأليمة التي جرت في عام 1860 نتيجة للسياسات المتهورة للدولة العثمانية من جهة، وتدخلات الدول الأجنبية من جهة أخرى، ما أدّى إلى اندلاع الحرب الداخلية في السنة المذكورة. في هذه الرواية تتحدّث السيدة هاشم عن الأزمات الاجتماعية وما أفرزته من معاناة وآلام للمواطنين اللبنانيين([13]).

أعمال إميلي نصر الله ـــــــ

لإميلي نصرالله مؤلفات متعددة قيّمة نذكر بعضها في هذا المقال، من أهمها:

1- أسود وأبيض، بيروت، مكتبة الدار العربية للكتاب، 2001.

2- الإقلاع عكس الزمن، بيروت، نوفل، الطبعة الثانية،1984.

3- الباهرة، بيروت، نوفل، الطبعة الثالثة، 1985.

4- تلك الذكريات، بيروت، نوفل، الطبعة الثانية، 1983.

5- الجمر الغافي، بيروت، نوفل، الطبعة الثالثة،2000.

6- خبزنا اليومي، بيروت، نوفل، الطبعة الأولى،1990.

7- الرهينة، بيروت، نوفل، الطبعة الثالثة،1986.

8- شجرة الدفلى، بيروت، نوفل، الطبعة الرابعة،1981.

9- الطاحونة الضائعة، بيروت، نوفل، الطبعة الأولى،1985.

 10- طيور أيلول، بيروت، نوفل، الطبعة السابعة،1991.

11- الليالي الغجرية، بيروت، نوفل، الطبعة الثانية،1998.

12- محطات الرحيل، بيروت، نوفل، الطبعة الثانية،1997.

13- المرأة في 17 قصة، بيروت، نوفل، الطبعة الأولى،1984.

14- نساء رائدات من الشرق والغرب، بيروت، نوفل، الطبعة الأولى،1986.

15- الينبوع، بيروت، نوفل، الطبعة الثانية،1983.

 16- يوميات هرّ، بيروت، دار الكتاب العالمي، الطبعة الثانية،1999.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أنّ القراءة التي طرحتها السيدة يمنى عن الأدب النسائي والتعاريف الجوهرية التي قدّمتها والخاصة بتحديد الإطار العام لهذا الأدب متأثّرة برؤيتها الأكاديمية كباحثة.

يمنى العيد بين القلم الأدبي والنقد الموضوعي ـــــــ

ولدت السيدة (حكمت) ابنة علي مجذوب صباغ أو (حكمت صباغ الخطيب) الشهيرة بـ(يمنى العيد) في عام1935 في مدينة صيدا المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط،  وتخرجت في الجامعة اللبنانية عام 1958، نالت درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة السوربون الفرنسية. في عام 1993منحت جائزة البحوث الأدبية والنقدية من مؤسسة سلطان عويس، قامت بالتدريس في جامعة صنعاء باليمن والجامعة اللبنانية. صدر لها العديد من الأعمال الأدبية التي أثرت المكتبة العربية طيلة فترة نشاطها، ومنها:

1ـ أمين الريحاني، رحالة العرب، بيروت، بيت الحكمة،1970.

2ـ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، بيروت، دار الفارابي، 1990.

3ـ الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان، بيروت، دار الفارابي، 1979.

4ـ الراوي الموقع والشكل، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية،1986.

5ـ في  معرفة النص، بيروت، دار االثقافة، 1984.

6ـ في القول الشعري، الدار البيضاء، دار توبقال،1987.

7ـ قاسم أمين إصلاح قوامة المرأة، بيروت، بيت الحكمة،1970.

 8 ـ الكتابة تحول في التحول، بيروت، دار الآداب،1993.

9ـ ممارسات في النقد الأدبي، بيروت، دار الفارابي، 1974.

10ـ مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية، بيروت، دار الآداب، 1993.

11ـ النص المفتوح قراءة في شعر عبدالله العزيز المقالح، بيروت، دار الآداب، 1991.

12ـ الرواية العربية بين الواقع والإيديولوجية، اللاذقيّة، دار الحوار، 1986.

13ـ حسين مروّة شهادات في فكره ونضاله، بيروت، دار الفارابي، 1981.

14ـ النظرية والممارسات في فكر مهدي عامل، بيروت، دار الفارابي، 1989.

 وإذا ما تأمّلنا في أعمالها سنجد أنّ السيدة يمنى العيد تمتلك قلماً أدبياً ساحراً بين المثقفات اللبنانيات تميّز بالنقد الموضوعي الدقيق للآثار والآراء الأدبية، هذا في الوقت الذي تلعب فيه الأنماط الأدبية الأخرى ـ عدا النقد والتحليل ـ دوراً مهماً في التأثير على ذهن القارئ ومشاعره([14]).

هدى بركات والعمل الأدبي القصصي ـــــــ

ولكن ما من شك في أنّ السيدة هدى بركات استطاعت من خلال فن كتابة القصة، التأثير على القارئ وأن تدوّن أعمالاً أدبية تمثّلت في ثلاث مقالات باللغة الإنجليزية، وأربع عشرة مقالة باللغة العربية في النقد والتحليل لتنال بذلك موقعاً متقدماً في الأدب النسائي اللبناني([15]).

والسيدة بركات من مواليد 1952في مرفأ بيروت الجميل، تخرّجت في الجامعة اللبنانية في عام 1974فرع الأدب الفرنسي. لم يمض على تخرجها سنة واحدة، حتى شدّت الرحال إلى فرنسا لإكمال دراستها العليا هناك، لكنّها عادت إلى الوطن بعد أن اشتعل فتيل الحرب فيه. شاركت السيدة هدى في تأسيس الجمعية النسائية (شهرزاد) وصدرت لها أول رواية طويلة فازت بجائزة فن كتابة القصة لمجلة الناقد. كما فازت روايتها الثالثة بجائزة نجيب محفوظ للأدب القصصي من الجامعة الأمريكية في القاهرة وذلك في (عام 2000)، ترجمت أعمالها الروائية إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والهولندية والعبرية والأسبانية والإيطالية، ومنها:

1ـ أهل الهوى، بيروت، دار النهار، 1993.

2ـ حارث المياه، بيروت، دار النهار، 1998.

3 ـ حجر الضحك، لندن، رياض الريس للكتب والنشر،1990؛ بيروت، دار النهار،2005.

4ـ رسائل الغريبة، بيروت، دار النهار، 2004.

5ـ زائرات، بيروت، دار المطبوعات الشرقية، 1985.

6ـ سيّدي وحبيبي، بيروت، دار النهار، 2004.

وداد السكاكيني وغزارة الإنتاج الأدبي ـــــــ

ولعلّ السيدة وداد السكاكيني هي الأوفر حظّاً في إبداع الأعمال الأدبية ضمن سلسلة الأدب النسائي، وذلك لتأليفها ما يربو على عشرين عملاً أدبياً متميزاً، أفردت سبعة مجلدات منها لقضايا المرأة:

1ـ أُمهات المؤمنين وأخوات الشهداء، القاهرة، 1947.

2ـ إنصاف المرأة، دمشق، 1950.

3ـ نساء شهيرات في الشرق والغرب، القاهرة، 1960.

4ـ مي زيادة في حياتها وآثارها، دمشق،1970.

5ـ بنات الرسول’، القاهرة، 1969.

6ـ سابقات العصر وعياً وسعياً وفناً، دمشق، 1989.

7ـ العاشقة المتصوفة رابعة العدوية، دمشق، 1989.

والحقيقة أنّ أعمالها لم تكن حكراً على المرأة واهتماماتها، بل وجد الرجل حيّزاً لا بأس به في أعمالها، من ذلك دراسة حياة وأعمال الكاتب قاسم أمين، منظّر حركة الحقوق النسائية المعاصرة، والتي تأثّرت بكتاباته وأفكاره وتقول: «طريقنا إلى المجد النسوي المنشود أن نكون خير الأمهات والزوجات، وأخلص المديرات والمربيات للبيوت والأبناء،وأوفى المجاهدات للعروبة والوطن، وعلى أن لا نهجم على زهد النهضة هجوم الجياع على القصاع، فما كل امرأة ينبغي أن تكون زعيمة أو معلمة، ولا كل سيدة يجب أن تصير طبيبة أو موظفة، فكل من النساء لما خلقت له من أمومة أو زعامة من تدبير للمنزل أو تمرّس بالفنون أو القضايا الاجتماعية والإنسانية».

 علاوة على ذلك، للسيدة وداد السكاكيني سبعة أعمال قصصية، طبعت جميعها وهي:

1ـ أروی بنت الخطوب، القاهرة، 1946.

2ـ بين النيل والنخيل، القاهرة، 1947.

3ـ الحبّ المحرّم، القاهرة، 1947.

4ـ الستار المرفوع، القاهرة، 1955.

5ـ نفوس تتكّلم، القاهرة، 1962.

6ـ أقوی من السنين، دمشق، 1978.

7ـ مرايا الناس، القاهرة، 1965.

وممّا لا شكّ فيه أنّ نجاح السكاكيني في مجال كتابة القصة لا يقلّ أهمية عن حضورها في الميادين الاجتماعية والعلمية، والدليل على ذلك فوزها بالمسابقة الفنية التي أقامتها مجلة المكشوف بحضور تسعة وخمسين من مشاهير الأدب القصصي المعاصرين، من أمثال خليل تقي الدين، وعمر الفاخوري، ويوسف غصوب، وبطرس البستاني، وتوفيق يوسف عواد، وفؤاد حبيش، وفؤاد إفرام البستاني، ومن خلال هذا الفن الأدبي دخلت وداد السكاكيني في قلب القضايا الاجتماعية، وكما وصفها الناقد المعاصر محمد مندور، بأنّها جعلت من مشاعرها الداخلية الصادقة ووجدانها المرهف حيال هموم المجتمع العربي مركباً لولوج الأدب القصصي.

كانت السيدة وداد عضوة في جمعية القصة والرواية، ودأبت على نشر أعمالها الأدبية في مجلة المكشوف في بيروت.

وفي الحقيقة كان وراء انخراط الأديبات اللبنانيات في الفن القصصي عوامل عدّة، منها القدرة الواسعة لهذا النمط على تحقيق أهداف الحركة الإصلاحية، علاوة على عنصر التعددية الذي تشتمل عليه الرؤية النسوية، والذي يبعث على تنوع المضامين وتعدّدها، الأمر الذي يمنح القصة جاذبية وسحراً في عيون القارئ المعاصر، وبالتالي إعادة طبع العديد من الأعمال([16])، وهو ما دفع الناقد شاكر لعيبي إلى الاعتقاد ـ في مقالة لـه ـ بتفوق النساء على الرجال في مجال الإنتاج القصصي المعاصر([17])، هذا على الرغم من أنّ جميع كتّاب القصة قد استفادوا الأساليب ذاتها والتي دخلت على الأدب العربي عبر ترجمة القصص الرومانسية المقتبسة عن الأدب الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونشرها في صحف ومجلات أقطار بلاد الشام، وبخاصة تلك المطلة على حوض البحر المتوسط([18]).

فنّ السرد القصصي العربي ، التاريخ والتطوّر ـــــــ

ومعلوم أنّ فن السرد القصصي العربي عرف تاريخاً مشرقاً اصطلح عليه بـ«أحسن القصص»([19])، إلاّ أنّ أُسلوب كتابة القصة دخل على الأدب العربي عن طريق ترجمة الأعمال الروائية الغربية، فأصبح النثر العربي مقلداً لتلك الأساليب، ثم دخل التطوّر على قوالبه ومناهجه لاحقاً.

من هذا المنطلق، وفي الوقت الذي أخذ الكتّاب العرب يتقمّصون الأسلوب الغربي في الأدب القصصي شرعوا كذلك بتمثّل مضامينه، حتى أخذت القصة العربية تطرح عنها قيود التقليد رويداً رويداً، وتسير نحو الإبداع، لتلبس روحاً شرقية خالصة([20])، والمقصود بالروح الشرقية الفكرة الرئيسة التي تتكرر في القصة، وتقوم بانتقاء عناصرها بحبكة، حيث يرمز كل عنصر ضمنياً إلى سائر العناصر، وتكون مجموع العناصر متوالفة مع موضوع القصة، وهذا التوالف هو الذي يعبّر عن عصارة القصة وخلاصتها، حيث يتشكّل بمعيّة الفكرة الرئيسة، وبدونها تكون القصة أقرب إلى السرد التاريخي منها إلى العمل الأدبي؛ لأنّ الكاتب حينذاك يقوم بتسجيل الأحداث ضمن مقطع ممرحل([21])، وعلى الرغم من أنّ العنصر الزمني يشكّل القاسم المشترك الذي يجمع العمل الأدبي بالسرد التاريخي، إلاّ أنّه بإمكان القاص أنَ يتحكّم بعقارب الزمن تقدّماً وتأخراً، كما يمكنه توسيع الإطار العام للقصة عبر ضخّ كمّ كبير من الأحداث الجانبية، ليضع في متناول القارئ معطيات متكاملة وعلى قدر عالٍ من الحبكة. كما يستطيع عبر إضافة شخصيات بعيدة أو قريبة زمنياً من بطل القصة، زيادة مساحة الاحتكاك بين أحداث القصة وتشابك عناصرها.

عناصر القصّة وضروراتها ـــــــ

وفي الحقيقة، إنّ الكاتب بتوزيعه لأدوار القصة يقوم بخلق شخوصها، ومن خلال التعريف الصريح بهم أو تقديمهم عبر أدوارهم وسلوكهم ضمن القصة، يبدع عناصر خلاقة لها القدرة على تغيير مسار القصة وإحداث تحولات في مجرياتها، أو هي نفسها تتعرّض لتحوّلات، وتعرف هذه بـ(الشخصية الحية)، هذا في حين نجد بعض شخصيات القصة لا تتأثّر إلاّ قليلاً على الرغم من إتاحة وقت كافٍ لذلك منذ بداية القصة وحتى النهاية، ويطلق على هذا النوع تسمية (الشخصية الراكدة أو السطحية). ومع هذا فإنّ القاسم المشترك لهاتين الشخصيتين هو الدافع المعقول والدليل السلوكي الذي يصدر عنهما، فيبعث على التعايش معهما وأن تقترب هاتان الشخصيتان أكثر فأكثر من الأشخاص الواقعيين، وبعد ترميم الحقائق وإصلاحها يمكن القيام بتحليلها، وبذلك نتعرّف على زوايا نظر الكاتب([22])، وإن كانت تراكيب عبارات النص تكشف أحياناً عن جانب من هذه الزوايا، وفي ضوء ذلك فإنّ زاوية النظر الداخلية ترتسم بحضور الكاتب في ثنايا عبارات القصة وسرده لها على لسان الشخص الأول، أو بقائه خارج النص، فينقل القصة عن طريق حوار الشخص الثالث ليقوم بمهمة تصوير زاوية النظر الخارجية.

 وإذا ما تأمّلنا في مفهوم العبارة mental point of view سنرى أنّ زاوية النظر هي المسار الذي يحدّده الكاتب للقارئ للدخول في أجواء القصة، من هنا فإنّ هذه الزاوية تجسّد طبيعة المشاعر والأحاسيس التي يبديها الكاتب تجاه موضوع القصة، والتي يرغب في نقلها إلى القارئ.

ولا شكّ أنّ أصالة هذا العنصر في القصة نابعة من أنّها تتيح للكاتب الاختلاء بنفسه في زاوية معينة ليتفرّج على المشهد الذي صنعه، ومن ثمّ ينقل مشاهداته إلى قارئه، حيث يأخذ بيده إلى أماكن الأحداث وتفاصيلها. والواقع أنّ الكاتب في عملية توزيع الأدوار يقوم بمهمة توظيف العناصر المذكورة، ليتمكّن من تهيئة الأجواء لانفعالات القارئ وتأثّره بمشاهد الأحداث حزناً أو مسرّة، ويرتبط مستوى هذا التأثير وشدّته بمدى دقّة الكاتب في وصف دقائق الأحداث وإدارة تفاصيلها عن بعد بأُسلوب فنّي ينمّ عن حرفية وإتقان. والمراد بـ«عن بُعد» نجاح الكاتب في إقامة تفاعل قوي بين القارئ وموضوع القصة، وبتوظيفه لمجمل العناصر آنفة الذكر، ثم يقوم بالتحكم بدقة في مقدار المسافة التي تفصل القارئ عن الموضوع قرباً وبعداً، ولا يخفى أنّ هذا التحكّم لا يعتمد على الخلفية الثقافية للكاتب فحسب، وإنّما يعتمد بشكل كبير على مهارته وحذاقته ليصبح في النهاية أُسلوباً أدبياً خاصاً به. والأُسلوب الأدبي هو النهج الخاص الذي يتّبعه الكاتب في كتابة القصة، وهو يتطلّب منه ثروة من المفردات والمصطلحات التي يعتني كثيراً في اقتنائها واستعمالها، أضف إلى ذلك القالب الذي يصوغ فيه عباراته، ونعني به البناء اللغوي، وكذلك دلالات النص (semantic) وإيقاعاته، حتى تنصاع الكلمات لبنائه، ويتبيّن فنون الكتابة وقواعدها. ثم بعد ذلك يزجّ قلمه في خضمّ الفن القصصي، ليطبع أُسلوبه بطابعه الخاص، دون أن يجد حرجاً في الاستعانة بالأساليب الأُخر في تصوير المشاهد والأحداث، بما في ذلك أُسلوب «الحوار» الذي هو عبارة عن جهد ثنائي يقع بين طرفين، يستعين به الكاتب من أجل الدخول في عمق الحدث وتصويره من الداخل من جميع الزوايا والأبعاد، فيوسّع من دائرة الكلام، واضعاً المتكلم والمستمع في علاقة حوارية متبادلة تتطلّب بطبيعة الحال التأمّل في الطرف الآخر والردّ عليه. ويسمح هذا الأُسلوب للكاتب بتسليط الضوء على طبيعة شخصيات القصة وأفكارهم ومواصفاتهم الأخلاقية، بل وحتى مواصفاتهم البدنية الظاهرية، أو يقوم بتغيير مكان الحدث مصطحباً القارئ معه، ليكسبه مرونة في الحركة والتنقّل، الأمر الذي يضفي على القصة قدرة أكبر في وصف عناصرها أو تحليل التداخل بين أحداثها ومشاهدها([23]).

 ولكن يبقى أن نقول: إنّ الكلام ليس هو العنصر الوحيد في الحوار، بل أحياناً يشكّل الصمت ضرورة لازمة في العمل القصصي، ليس من أجل أن يأخذ الكاتب قسطاً من الراحة، بل هي وقفة يعيد فيها ترتيب أجزاء الحوار، كما يحدث ذلك في الحياة الواقعية أيضاً. إذن فصمت المؤلف عن الكتابة هو بمثابة قطع سلسلة أفكار القارئ، ليحيل انتباهه نحو علاقة حية، حتى وإن أدّى ذلك إلى انقطاعه عن اللهجة الفصحى واستخدام بعض العبارات المحلية، ليواصل حواره القصصي هذه المرة مع فقرة حية مقتطعة من صلب الحياة اليومية للمجتمع، فيعطي بذلك شحنة واقعية للحوار ودفقاً سيّالاً من الخصوصية المحلية، ولكن كما هو معلوم فإنّ الحوار الكتابي يكون خالياً من أي إيقاع لحني، لذلك يلجأ الكاتب إلى استنطاق عبارات صامتة، عبر استخدام حوار زاخر بأفعال وكلمات ذات مفاهيم صوتية من قبيل: «قال، صاح، همس، صرخ ….».

وعلى أيّ حال، فإنّ الحوار سواء كان في الواقع اليومي الاجتماعي أم في بطن القصة لا يقع وفقاً لترتيب الأشخاص وبشكل متسلسل، بل يكون بحسب سعة الكلام وبصورة متفرقة ومشتتة، وهو ما يحمل الكاتب على التنويه بهوية الشخصية عندما تتحدّث، بينما يستعين بأساليب أُخرى متنوعة للتعبير عن صمت تلك الشخصية، على سبيل المثال، رسم عدّة نقاط كعلامة على الجواب، أو الإشارة إلى صمت طويل، أو ذكر كلمات صوتية تعبيراً عن الصمت([24]).

وأخيراً، فإنّ تسجيل صمت الطرف الآخر في مكالمة تلفونية والذي يمثّل استنطاقاً للصمت، يتمّ بواسطة جواب البديل الذي يحاول الكاتب لفت انتباه القارئ صوب الطرف الآخر، لينشئ بذلك حواراً ثنائياً، وبهذه الطريقة الذكية والبارعة يحاول استخراج أجوبة خيالية من المتحدّث تكون بعيدة عن الواقع، محلّقاً مع القارئ في أعماق الخيال الواعي الذكي، وهذا يتطلّب توافره على موهبة تمكّنه من رسم صورة خيالية للشخصية القصصية، تتيح لبطل القصة أن يقيم علاقة حوارية معها، وعن هذا الطريق ينبثق نوع من الحوار يطلق عليه «الحديث الأحادي»، (Monologue) الذي يتباين في طبيعته مع «الحوار الثنائي»، (Dialogue) ويتمّ هذا الحديث عبر طرق عدّة، أحدها الحديث الأحادي الداخلي(Interior Monologue)، حيث يستخدم هذا النوع حينما تخيّم أجواء ثقيلة على بطل القصة تدفع به إلى حالة نفسية سيكولوجية تلقائية تتمثّل في مناجاة بطل القصة نفسه واستعراض تجاربه حلوها ومرّها، ليصل في نهاية المطاف إلى نتيجة محدّدة.

وفي الحقيقة، يحاول الكاتب بهذه الوسيلة مساعدة بطل القصة على استعادة تركيزه الذهني. ووجه التباين بين هذا النمط الذي يطلق عليه ـ كما نوّهنا ـ بالحديث الداخلي عن النمط الآخر الذي يطلق عليه بحديث النفس(Soliloquy)،هو أنّ النمط الحواري الأول يمثّل مراجعة ذهنية للتجارب والخبرات الماضية، بينما النمط الثاني هو سرد لما تسرّه شخصية القصة من خفايا النفس، ويكون مفرغاً من أي إشارات اهتمام بالمستمع، ولكن مع ذلك فهو يحتوي على عرض لتصورات البطل حيال موضوع القصة. ويبدو أنّ المؤلف في حديث النفس يحاول تجاهل الترتيب المنطقي المتسلسل لموضوع الحوار، ليركّز الاهتمام على تصوراته وآرائه.

النمط الثالث في الحديث الأحادي، أي ما يصطلح عليه بالعودة الفنية
(Flash Back)، وفيها يقوم بطل القصة باستذكار شريط الأحداث، وتتداعى في ذهنه آراء الآخرين. نمط آخر للحديث الأُحادي وهو الحديث الأُحادي الاستعراضي
(Dramatic monologue) ويقصد به إعادة خلق لمشهد يحضره المشاهد، لكن لا تستطيع شخصية القصة إقامة حوار معه لأي سبب كان، وفي إطار ذلك يلجأ إلى الحوار عن طريق حديث النفس، ليعوّض عن الإحساس بتجاهله، والكشف عن أفكار المشاهد وما يجول في خاطره من خلال التنبؤ بالأجوبة([25]). ويمكن القول: إنّ الحديث الأُحادي الاستعراضي فرصة يعيد الكاتب فيها خلق شخصية القصة، وبهذه الطريقة الحوارية، يبحث عن موقع له في خضم الأحداث. وبالطبع فإنّ الكاتب أثناء تسجيله لأنواع الحوارات، يستعين بمهاراته في إقامة قنوات الاتصال مع مختلف شرائح المجتمع، ويقوم بمحاولة إسقاط خصائصهم الشخصية والاجتماعية على شخصيات قصته، ليمنحها ثوباً من الواقع عبر الوصول إلى إحساس مشترك واستيعاب كامل لسلوكهم.

ولا ريب أنّ كتّاب القصص الواقعية المعاصرين أصبحوا يولون الدراسات والبحوث في حقل العلوم النفسية أهمية كبيرة، ومن خلال إطلاعهم على نظريات فرويد ويونغ، والتعرّف على حالات الوعي وتوظيفها في الحوارات الأُحادية في الأدب القصصي، تهيّأت الأسباب لولوجهم أعماق النفس الإنسانية، والتعرّف على أسرار الوعي ومكنوناته،([26]) فضلاً عن حضور واضح للرؤية السوسيولوجية الاجتماعية في أعمالهم، وهو ما يتجلّى في الإشارة إلى المذاهب والأفكار الاجتماعية عند معالجة الشخصيات وبحسب ما يقتضيه موضوع القصة.

ولعلّ أكثر الأفكار الواقعية التي تركت ظلالها الكثيفة على الفن القصصي في القرن العشرين هي الواقعية الاشتراكية؛ لأنّ الكاتب في هذا النوع من الواقعية يتعاطى مع شخصيات القصة من وحي خبرته بأبعاد النظام الاجتماعي وعلاقات الأفراد وطريقة التعامل معهم، والصراعات الطبقية وتضارب المصالح، فينعكس ذلك على الأجواء العامة في قصته وتجسيده للهموم الاجتماعية التي تظهر في تعبيرات الاضطراب والتمرّد التي تصدر عن شخصيات القصة وفي سلوكهم وأقوالهم، ومن المؤكّد أنّ الالتزام بهذه الأُمور أضحى سمة بارزة للفن القصصي في لبنان، ولعلّ أعمال مشاهير الكتّاب في هذا البلد، مثل توفيق يوسف عوّاد([27]) وفؤاد كنعان والسيدة أميلي نصر الله تدخل في هذا السياق، ولهذا فهي بحاجة إلى دراسة وتحليل([28]).

استنتاج ـــــــ

تعتبر الحركة النسائية المعاصرة نتيجة طبيعية لأُسلوب تعاطي المجتمع مع المرأة في الحقب الماضية، ومن البديهي أن تختلف التجربة الثقافية في المشرق العربي عنها في العالم الغربي، وبالتالي تختلف النتائج المتمخضة عن كلتا التجربتين. من هذا المنطلق، فإنّه عند معالجة القضايا الشرقية لم تؤخذ هواجس المرأة الغربية وهمومها بعين الاعتبار، وذلك لاختلاف ذهنية المرأة الشرقية وقضاياها المستوحاة من أعماق الثقافة المشرقية. ولا شكّ أنّ الأديبة اللبنانية استطاعت بقلمها البارع أن ترسم ملامح هذه الذهنية إيجازاً وتفصيلاً عبر الرواية والقصة القصيرة، مستلهمة خصوصياتها من المدرستين الرومانسية والواقعية، وكذلك المدرسة الرمزية، لهذا السبب نرى الأدب النسائي يزخر بمفاهيم الغرور والغيرة والاستئثار ومشاعر التحدّي، والنزعة التشريفاتية، والعزوبية، ومكر النساء، والعلاقات الزوجية، ومسؤوليات الأُمّ، والإيمان بالله، والنجاحات العلمية وفكرة التفوق للتخلص من نير التبعية المطلقة. وفي هذا الإطار تتبلور قضايا جديرة بالتأمّل، نذكر منها:

ـ اتّساع نطاق قانون (صراع البقاء) ليشمل المحيط الأُسري.

ـ طرح مقولة تفوّق الذكر على الأنثى التي تفضي إلى إمساك الزوج بمفاتيح القرار في المنزل (في حالة السلطة البطريركية المتعقلة)، وإلى فرض السيطرة والتسلّط (إذا ما تخلّى الرجل عن العقلانية) وأحياناً تؤدّي إلى التشدّد والعنف الذكوري، أو إلى الأخطار الجنسية.

ويتجلّى نمط أُثير من جراء ذلك التسلّط والسيطرة غير المباركة بانتظار ظهور مراحل نسائية، بيد أنّ الحقيقة القاتمة هي في الصعوبات غير المألوفة للمهنة، وهي صعوبات لا تفرزها طبيعة المهنة نفسها، بل تعود إلى العادات والتقاليد التي تحكم المجتمع فتنشأ تبعاً لذلك مسألة تحديد الأدوار على أساس الجنس، وقد تتفاقم لتشمل التحديد الجنسي في اكتساب العلوم أيضاً، فيتسبّب ذلك في بروز أهمّ الآثار السلبية، ألا وهي المشاكل النفسية ـ الجسمية متجسّدة في حالة الذهان، ذلك أنّ المطلوب من المرأة هو البقاء في دائرة الوظائف المنزلية الأمر الذي يؤدّى إلى استثارتها وإرغامها على إبداء ردود فعل متعددة ليس آخرها النسوية المَرَضية.

 الهوامش

(*) أستاذة في القسم العربي بكلية الآداب، جامعة طهران.

(**) أستاذة مساعدة بجامعة جيلان.

([1]) البستاني، صبحي، الأدب اللبناني الحي، بيروت، دارالنهار للنشر، 1988 :28؛ مندور، محمد، في الأدب والنقد، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، بلا تا:22.

([2]) الأعرجي، نازك، صوت الأنثى، دمشق، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1997م: 25؛ انظر أيضاً مقال «أدب نسائي في عالم عربي» في:

http://www.Syranstory.com/ciment14.htm

([3]) العيد، يُمنی، الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطقي في لبنان، بيروت، دار الفارابي، الطبعة الثانية، 1988م: 28.

([4]) الفاخوري، حنا، الجامع في تاريخ الأدب العربي (الأدب الحديث)، بيروت، دار الجيل، بلا تا:250-251.

([5]) العيد، الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطقي في لبنان: 14.

([6]) ابن منظور، لسان العرب، بإشراف عبدالله علي مهنا، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1993م 2: 58، ذيل كلمة «ضدد».

([7]) العيد، الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطقي في لبنان: 29.

([8]) المصدر السابق: 35.

([9]) المصدر السابق: 47.

([10]) المصدر السابق: 49.

([11]) المصدر السابق: 52.

([12]) المصدر السابق: 61.

([13]) الأشتر، عبدالكريم، تعريف بالنثر العربي الحديث، دمشق، مطبعة ابن حيان، 1982م: 181.

([14]) ضيف، شوقي، العصر الجاهلي، القاهرة، دارالمعارف، الطبعة الرابعة، بلا تا: 10.

([15]) زيدان، جوزيف، مصادر الأدب النسائي في العالم العربي الحديث، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،الطبعة الأولى، 1999م: 121 – 123.

([16]) الورقي، سعد، في الأدب العربي المعاصر، بيروت، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى،1984م: 12؛ البقاعي، شفيق، أدب عصر النهضة، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى،1990م: 250.

([17]) انظر مقال الفن القصصي العربي تحت عنوان «هل هو فن النساء اليوم» في:

  %20et % 20 mans.htm www.perso.ch/slaibi/femme

([18]) إدريس، سهيل، محاضرات عن القصة في لبنان، بيروت، معهد الدراسات العربية العالمية، 1975م: 3-6؛ الأشتر، تعريف بالنثر العربي الحديث: 180؛ الورقي، في الأدب العربي المعاصر:12-13.

([19]) سورة يوسف:3.

([20]) كيب، هاميلتون،أدبيات نوين عرب، ترجمة يعقوب آژند، طهران، مطبعة اطلاعات، 1366هـ  ش: 5؛ المقدسي، أنيس، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، بيروت، دار العلم للملايين، للطبعة الثامنة، 1988: 455.

([21]) مير صادقي، جمال، عناصر داستان، طهران، مطبعة سخن،الطبعة الثالثة، 1376هـ ش: 34-35، 173؛ الرشدي، رشاد، فن القصة القصيرة، بيروت، دار العودة، الطبعة الثالثة، 1984م: 51.

([22]) البستاني، الأدب اللبناني الحي:86-87.

([23]) الرشدي، فن القصة القصيرة: 97؛ عبدالسلام ، فاتح، الحوارالقصصي تقنياته وعلاقاته السردية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1999م: 14،68-69؛ درّاج، فيصل، نظرية الرواية العربية، بيروت المركز الثقافي العربي،الطبعة الثانية،2002م: 68-72.

([24]) الرشدي، فن القصة القصير: 100؛ عبد السلام، الحوار القصصي تقنياته وعلاقاته السردية: 18-54.

([25]) عبدالسلام، الحوارالقصصي تقنياته وعلاقاته السردية: 113-126.

([26]) الورقي، في الأدب العربي المعاصر: 14.

([27]) عبدالغني، مصطفى، الاتجاه القومي في الرواية، الكويت، المجالس الوطنية للثقافة والفنون والآداب، بلاتا: 262-266.

([28]) غنيمي ، محمد هلال، الرومانتيكي، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، بلاتا: 50؛ مزروق، حلمي الرومانتيكية والواقعية في الأدب، بيروت، دارالنهضة للطباعة والنشر،  1983م: 75.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً