أحدث المقالات

أ. مختار الأسدي(*)

 

مقدّمة

إنّ أول كلمة نزلت من السماء إلى أهل الأرض هي كلمة (اقرأ). وإنّ أول قَسَم أقسمت به السماء هو: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾.

كما أنّ أوّل تأمُّل عميق لي في دلالة (اقرأ) هذه وحرف (النون) هذا جاء بعد قراءتي لكتاب (اللغة الموحّدة)، للكاتب والمفكِّر العراقي الراحل عالِم سبيط النيلي.

نعم، قرأتُ جميع كتب الرجل المنشورة والمخطوطة، بل قرأتُ كلّ ما كُتب حوله وحول كتُبه، من مدح وقدح، أو ذمّ وثناء، من الغلاف إلى الغلاف.

الأمران العجيبان اللذان استوقفاني في كلّ هذه الرحلة الطويلة هما:

1ـ منهجية الشخصية العراقية الاقتحامية، التي تمظهرت بكلّ تجلياتها الحادّة والمتطرّفة في جرأة الكاتب الفريدة، وتحدّيه للكثير من الثوابت التي ألفها المسلمون، وعاشوا لها أو اعتاشوا عليها، على امتداد قرون. الأمر الذي كان يهزّني أحياناً هزّاً عنيفاً، لا أستطيع مقاومته أو عدم الاكتراث به. ولكنّي في الوقت نفسه لا أستطيع ردّه في ما ردّ به على غيره من العلماء والمفسِّرين والمؤرخين والفلاسفة، ممَّنْ لم يُبْقِ منهم أحداً، لا من الأولين ولا من الآخرين، حتّى وصل به الأمر إلى خليفتَيْ رسول الله الأول والثاني، وقراءته للنصوص الثابتة التي جاءت حولهما، بحيث لم يُبقِ لهما جلداً أو عظماً، وفي تأويلات واستنتاجات وتحليلات لم يأتِ بها أحدٌ مثله، لا من الأولين ولا من الآخرين ـ كما سنقرأ ـ.

2ـ منهجية الشخصية العراقية في الرفض أو القبول، مجسَّدة هي الأخرى في ما كُتب عنه مدحاً أو ذماً. فهناك مَنْ يدافع عنه دفاعاً مستميتاً، وهو لم يفهم نظريته أصلاً ـ كما لم أفهمها أنا أيضاً بالكامل ـ، وخاصة في ما أتى به في (اللغة الموحّدة) حول القصدية في التعاقب الصوتي والحلّ القصدي؛ ومنهم مَنْ سلخ جلد الرجل عن عظمه، بل هرسهما معاً، نقداً وتحاملاً وتجريحاً.

كنتُ أرى أحياناً أن الرجل يتحدَّث في وادٍ ونقّاده يتحدَّثون في وادٍ آخر. وهذا ما سنأتي عليه بشواهد ومصاديق سريعة للاستدلال ليس أكثر، ومن نصوص كتبه، ومما كُتب عنه نصّاً أيضاً.

لا نريد بذلك أن نقف متفرّجين بين المعسكرين المتحاربين، ولا نريد أن نزيد في الطنبور نغمةً، أو نرمي سهماً على هؤلاء، وآخر على أولئك، كما يفعل الانتهازيون والوصوليون والكثير من السياسيّين المحترفين. ولكنّنا نقف فعلاً حائرين بين ما كتبه وكُتب عنه، فنقف عاجزين تماماً عن الوصول إلى الحقيقة التي جاهد في الوصول إليها، حتى نكاد ننسى كلمة (اقرأ) المقدّسة المذكورة، بل يكاد بعضنا يكفر بالقلم والقراءة والتأريخ، رغم إجلالنا لـ ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾. وبذلك يتحمل المؤرِّخون وزراً عظيماً لا ندري كيف ستعاقبهم السماء عليه، ولا سيما إذا كانوا متعمّدين في تضليل الناس، وتحريف عقائدهم، وتزييف تأريخهم.

وبما أننا لا نريد التعليق على ما كتبه الرجل، فكلّ ما كتبه موجودٌ في كتبه، وهو الآن في ذمّة الخلود، وبما أننا لا نريد التحامل على نقّاده وخصومه؛ لأن ما كتبوه هو الآخر موجود في كتبهم، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى محاكمة بعض نصوص الطرفين؛ لتجلية المنهجية والمنهجية المضادة، فقط في ما قلناه عن الشخصية العراقية في حدَّتها وجرأتها واقتحاميتها من جهةٍ، وفي انفعالها وغضبها الكافر من جهةٍ أخرى.

وقبول الولوج في عالَم عالِم سبيط النيلي واجتهاداته الصارخة أودّ القول: إنّ مَنْ يريد أن يعرف عالَم هذا الرجل عليه أن يقرأ كتبه، ويتأمَّل فيها، لا أن يطالعها أو يتصفَّحها كما كتب بعض نقّاده ـ مع الأسف ـ.

أقول: إني لم أشأ مناقشة أو دراسة أو عرض أفكار الرجل، أو مناقشة نقّاده وتأييدهم أو الردّ عليهم؛ لأن ذلك طويل مدّته، عريض نقاشه، واسع أمده. ولكني أخذتُ نتفة من هنا ونتفة من هناك؛ لعلّي أفتح كوّةً صغيرة لقراءةٍ منهجية علمية جديدة في النقد، نبتعد فيها عن الحدّة والتطرّف والانفعال، ونسعى من خلالها إلى التأنّي والتأمّل في كلّ ما يُكتب أو يُقال في هذا الموضوع أو ذاك، قدحاً أو مدحاً، ذماً أو ثناءً ـ كما قلتُ ـ.

 

في صلب المقدّمة

كتب الرجل يقول مثلاً، وبكل تواضع، في كتابه (النظام القرآني: مقدمة في المنهج اللفظي)، ما نصّه: «يؤمن هذا المنهج ـ وذلك بعد كشفه عن النظام القرآني ـ بوجوب عرض السنّة على القرآن، وتنفيذ النصوص التي أكَّدت على ذلك من السنّة ذاتها، كقولهم^: «يُعرض الحديث على كتاب الله، فما وافقه يؤخذ به، وما خالفه يُضرب به عرض الحائط». وهي نصوص معطَّلة للأسف؛ بسبب ما تعارف عليه العلماء من أن السنّة تفسِّر القرآن، بينما تؤكّد النصوص على ضرورة جعل القرآن حاكماً عليها، ومصحِّحاً لمتونها. ولذلك ـ والكلام كلّه للنيلي ـ فإن المنهج اللفظي يعتبر المنهج التفسيري المسمّى بـ (تفسير القرآن بالسنّة) منهجاً باطلاً»([1]).

ويقول في مكانٍ آخر ـ بعد أن وضع قواعده في منهجه اللفظي ـ ما نصّه: «فتكون التراكيب [أي التراكيب اللفظية في القرآن، بما فيها التعاقب الصوتي لكلّ كلمة] قد أحكمت نفسها وفيما بينها في كلّ النظام القرآني، وتكون أهميتها واحدة في هذا النظام، مَثَلها في ذلك مَثَل حلقات السلسلة، إذْ إن فقدان أيّ حلقة فيها يجزّئ السلسلة، ويفقدها وحدتها. وبذلك يكون كلّ لفظٍ في القرآن هو حلقة في سلسلة»([2]).

وهكذا حتّى يصل إلى غضبته الكبرى، التي كان استعجلها قبل هذين النصّين، فدفعَتْه غاضباً إلى القول: «إن مبدأ الخضوع للنظام قد مكَّن المنهج ـ أي منهجه هو ـ من اكتشاف ما أملاه علماء التفسير على القرآن من آراء، وما خالفوا فيه نظامه…، حتى صار لديهم أهون من الكائنات البدائية أحادية الخليّة في نظر الباحث الغربي في علم الأحياء. فلم يتحرَّك المفسِّرون وفق القرآن ونظامه، بل جرُّوا القرآن وراءهم، وجعلوه مترجِماً لأفكارهم»([3]).

وهنا يتوقَّف النيلي؛ ليتنفَّس الصعداء، ثم يواصل حديثه كأيّ خطيب متحمِّس يوصي كلّ مَنْ اقترب من تفسير القرآن، قائلاً له: «إن على الباحث أن يكون تابعاً للقرآن، لا أن يكون هو قائداً له».

هذا هو مختصر ما كان يهدف الوصول إليه في مقدّمته عن المنهج اللفظي في القرآن، بعد أن ثبت قواعده الستّة، وهي: «إبطال المترادفات؛ وإبطال تعدُّد المعاني للفظ الواحد؛ وإبطال التقديرات المتنوِّعة للمركبات والألفاظ؛ وإبطال التقديرات العشوائية للترتيب العام للجملة؛ وإبطال المجاز، كالتشبيه الاستفساري، والاستفسارات المزعومة، والكناية، والإيجاز، والإطناب؛ وأخيراً إبطال تعدُّد القراءات».

ولا أريد هنا الدخول في هذه التفاصيل؛ لأن الرجل فصّل كلّ ذلك في كتابه هذا وكتبه الأخرى، وراح يناقش النحويين والمفسِّرين والفلاسفة والمؤرِّخين، ويقاتلهم بلا هوادة. وقد ردّ عليه نقّاده بكل ما لديهم من أسلحة، وبلا هوادة أيضاً، مما سنمّر عليه مروراً. فكلّ ذلك لتوضيح هدفنا في نقد وتحليل المنهجيّة النقدية للطرفين (المتحاربين)، بل للأطراف المتحاربة، التي تبدأ في البداية فتية يافعة، كالحرب فعلاً تسعى بزينتها لكلّ جهولٍ:

حتّى إذا اشتعلَتْ وشبَّ ضرامها أضحَتْ عجوزاً غير ذات خليلِ
شمطـاء جزَّتْ شعرها وتنكَّرتْ مـكروهـةً لـلـشـمّ والـتـقبـيـلِ

 

المنهج اللفظي واللغة الموحدة

نعم، يمكن أن يكون المنهج اللفظي الذي آمن به النيلي، أو زعم أنه اكتشف هو المحصلة النهائية لما طرحه في كتابه (اللغة الموحّدة)، الذي قال فيه بوجود قيمة مسبقة للموجات الصوتية وفسيولوجيا الحروف، كما سماها في كتابه، وجاء على أساسها بعلمٍ جديد قائم على القصدية وتفنيد النظرية الاعتباطية للجرجاني ودي سوسير، مؤكِّداً في كتابه الأخير، الذي لم أستطِعْ فهمه فعلاً؛ لما فيه من تعقيدات حول مخارج الأصوات وعلاقتها بالحنجرة والأوتار الصوتيّة والذبذبات والموسيقى.

وأقول: لم أستطع فهمه؛ لأني أدرك أن الفرق بين لفظتَيْ (بحر) و(حرب) مثلاً لم تأتِ اعتباطاً في التعاقب الصوتي لكلٍّ منها، بحيث تجعل الأولى تعبيراً أو اسماً للبحر الذي نعرفه، وكذلك التعاقب الصوتي لنفس الحروف، أي (ح ـ ب ـ ر)، لتجعل منها اسماً للحرب التي نعرفها، وهكذا في التعاقب المغاير الآخر لهذه الأصوات، والتي يُصنع منها كلمات كثيرة أخرى في حالة إضافة ضمّةٍ هنا أو كسرة هناك أو شدّة في ثالثة.

نعم، لم أستطِعْ في الحقيقة أن أصل إلى القصدية التي زعم الرجل أنّه توصَّل إليها في كلّ لفظة من الألفاظ التي صيغ منها القرآن، وقال: إنها غير عربية طبعاً؛ لأن القرآن ـ في هذه الحالة ـ يكون قد أنزل بلسانٍ عربي، ولكنْ ليس بلغةٍ عربية ما دامت هذه الأصوات أو بعضها موجودة في كلّ لغات العالم. وإنّ الخالق العظيم هو الذي رتّب هذه الأصوات، وجعل من تعاقبها ألفاظاً يتفاهم من خلال إطلاقها المخلوقين. هذا مع لفظٍ واحد بثلاثة أصوات، مَثَله مَثَل لفظة (حصان)، التي شرّق المؤلف فيها وغرّب، مقتحماً حصن اللغة واشتقاقات هذه الأصوات الأربعة، وكيف (تخرّج) منها أو خرجت من (ح ـ ص ـ ن)، فصار (حُصْن) و(حصين) و(حصان) و(صحن) و(نصح)، وانتقلت إلى اللغات الأخرى بعد التحريف المتعمَّد الذي طرأ عليها على امتداد ملايين السنين (طرأ على ألفاظها طبعاً)، لتُطلق على المسمّى الذي نعرفه، وهو (الحصان) المعروف في اللغة العربية، والذي لديه مائة اسم أو أكثر أو أقلّ، كـ (الجواد) و(المهر) و(الفرس) و(الخيل)، مَثَله مَثَل الجَمَل الذي صار (گمل)، ثم صار (كَمِل)(camel) باللغة الإنجليزية، وهكذا (الفتى، والحَدَث، والغلام، والصبيّ، والشاب، واليافع) وما اشتُقّ من كلّ هذه الأصوات،وانتهى إلى ما نسميه اليوم معنى أو دلالة تدلّ على مدلول. فصار الحصان اسماً للحيوان الذي نعرفه، وصرنا نطلقه على هذا المسمّى، ولا نطلقه على الثور أو الحمار أو البغل. ومثله الأسد المنشقّة من سدّ وسيادة وسؤود ومسدّد، وهكذا إلى ما لا يُعدّ ولا يحصى من هذه الألفاظ والأصوات وتعاقباتها التي تعبّر عن القوّة والقدرة والمنعة.

وما دام النيلي هذا يعتقد بأن هذه الأصوات من صناعة خالقٍ واحد، فإنها لم توضع اعتباطاً لتجعل من ألفاظ الحصان حصاناً، وليس حماراً أو بغلاً، وبالتالي فإن كلام الله الذي هو القرآن لا بُدَّ أن يكون مهندَساً بشكلٍ دقيق، ليس للاعتباط أو العشوائية فيه مكانٌ على الإطلاق ـ كما يرى الجرجاني ودي سوسير ـ، اللذان آمنا بالاعتباط اللغوي. وبالتالي يجب أن نفهمه (أي نفهم القرآن) ـ كما يقول الرجل ـ بألفاظه وتعاقب الأصوات فيها، دون أن نحشر مرادفاتنا أو مجازاتنا أو معانينا أو تقديراتنا؛ لكي نفسِّرها كما نحب ونهوى، وعلى أساس قواعد وضعناها اعتباطاً هي الأخرى، فنلتزم بها متى نشاء ونتنصَّل منها متى نشاء، وبالتالي نشوِّه القصد الذي نزلَتْ فيه هذه الألفاظ الدقيقة، كلٌّ في مكانها.

فلا يصحّ مثلاً ـ كما يقول النيلي ـ أن نشرح كلمة (سِجّين) التي لا نعرف معناها بكلمة (سجن) أو (جهنم)، في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾، وإنّما أن نفسِّرها كما فسَّرها منزِّلها في الآية التي بعدها مباشرة، حيث قال عزَّ من قائل: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾، أي إن معنى كلمة سجين هو (كتابٌ مرقوم)، فلا هي سجن ولا سُجَيْن (تصغيراً)، ولا جهنم، ولا صقر، ولا جحيم، ولا معتقل، ولا حَبْس، ولا هم يحزنون.

ولكنّ الرجل نسي في زحمة اكتشافه لهذا التفسير (تفسيره هو) أن تفسيره الآية لا يأتي منسجِماً أو مفهوماً هو الآخر إذا أخذنا بتفسيره؛ إذ ما معنى أن يكون كتاب الفجّار في كتابٍ مرقوم، ولا سيّما مع وجود كلمة (في)، وتأكيدها (لفي)؟! فكيف يصحّ أن نقول: «كلاّ إنّ كتاب الفجار لفي كتابٍ مرقوم»، أي هذا الكتاب (موجودٌ) في كتابٍ مرقوم؟! كتابٌ في كتاب. لا أدري!!

ضربْتُ هذا المثال الذي أتى به النيلي كشاهدٍ وشاهد فقط على حيرتي حين أقف أمام عشرات، بل مئات، الأمثلة المثيرة، التي يُحرِج فيها الرجل المفسِّرين ويستوقفهم، ولا يجد نفسه خارجاً من حيرتهم وحيرته أحياناً إلاّ بشقّ الأنفس أو التَّرْك.

وهذا ما وجدتُه في معركة الضمائر في (آية) إبراهيم مثلاً، وكيف أن الرجل خاض غمارها بشكلٍ مقتدر حيَّر فيه كلّ ما قيل أو يُقال فيها عن عائديّة الضمائر، التي أعياني فيها، ولم أجد متنفَّساً إلاّ بشقّ الأنفس أيضاً.

الآية الكريمة هي: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ﴾. فمَنْ هو الذي آتاه الله الملك هنا؟ إبراهيم أم نمرود؟ إذْ يؤكِّد المفسّرون أن نمرود هو المحتجّ هنا، وأنه هو الذي آتاه الله الملك، فيما يرى النيلي أنّ إبراهيم هو صاحب الاحتجاج، ويستغرب كيف يجعل المفسِّرون من إبراهيم باحثاً عن ربِّه بين الكواكب؛ فمرّة يعبد كوكباً؛ وبعدها يعبد قمراً؛ وأخرى يعبد شمساً؛ لأنها أكبر، فيما أراه ربّه ملكوت السماوات والأرض، فنسي (حاشاه طبعاً) هذا الملكوت العظيم، وراح يبحث عن ربِّه بين الكواكب.

تأمَّلْ معي أخي القارئ الكريم في الآيات الكريمة التالية: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنفال: 75 ـ 79).

نعم، بعد أن أثار النيلي هذا التساؤل الغريب، وآتى بهذه الآية، وبعد أن تحامل قبلها على فلسفة الفارابي وابن سينا والكِنْدي وابن رشد، وكيف أنهم (أفسدوا عقول الخلق)، بل إنّ فلسفتهم «حوَّلَتْ المنطق إلى فلسفةٍ مضحكة ـ حسب تعبيره ـ حينما قاموا بالبرهنة على وجود الله بطرائق تشبه هذه كلّ الشبه، وانطلقت تلك الطرائق لتنعكس على تفسير الآيات»([4])، راح يتساءل متهكِّماً مرّةً أخرى، قائلاً: «أسألُهم: كيف يبحث (إبراهيم) عن ربِّه ويبرهن لهم على أنه اكتشفه من أفول النجوم والكواكب، بعد أن جنَّ عليه الليل، وبعد أن رأى قبلها ملكوت السماوات والأرض؟».

ولا يكتفي النيلي بذلك، بل يواصل مقتحماً: «هل ترى أخي القارئ أنّ الذي زار الملكوت السماوي كان لا يدري مَنْ هو الله؟ فرجع وهو يبحث عنه بين الكواكب». ولكنه في نفس الوقت لم يجد القائل، وترك القارئ حائراً يبحث عن القائل بلا جدوى.

وبعد كلّ ذلك يختم النيلي هذه الاستفسارات، بل هذا الكتاب، بعبارةٍ موهمة، تحتوي ألف تساؤلٍ، يقول فيها: «نعم، لكنْ صدق مَنْ قال: «ليس كلّ ما يُعلَم يُقال»».

وهنا، ومن جانبي لا أريد الدخول في هذه المعمعة، ولا أريد العودة إلى تحليل إيمان أو دراية نبيّ الله إبراهيم×، وكيف أنه سأل ربَّه يوماً ليطمئنّ قلبه: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، ولا في قلوب الفارابي والكندي وابن رشد وابن سينا ودرجات إيمانهم و(سفسطتهم) والتشكيك في نواياهم. كما أني لن أبحث عن مرام النيلي وهدفه ونيته، ممّا أظنه يخرجني عن منهجيتي في النقد، وربما يدخلني في منهجيته التي لم أكُنْ أتمنّاها فيه، بل كنتُ تمنَّيتُ عليه، في استطراده المخلص حول الآية المذكورة عن إبراهيم، وتعطُّشه لليقين المطلق، وعلى طريقة السيد النيلي نفسه في عدم التساهل في الخروج عن قواعده الستّ المذكورة سابقاً، وإصراره على تخطئة كل مَنْ يحوّل الماضي إلى حاضر، والحاضر إلى مستقبل، أو يتصرَّف خارج إطار القوالب الصارمة التي ثبَّتها في قواعده الأخرى للغة العربية، أنْ يوضِّح للقارئ الكريم الفرق بين كلمة (نُري) وكلمة (أرينا) في بداية هذه الآيات التي استعان بها على الاستدلال على فكرته، وهل ثمّة فرق بين الماضي والحاضر هنا (وكذلك نري)، أم أنه جعل الحاضر ماضياً (وكذلك أرينا)؛ لكي يمرِّر الفكرة، ويطبِّق منهجيته الغاضبة على الفلسفة والفلاسفة؟!

كلّ ذلك، وهو نفسه المحتجّ في كتابه (النظام القرآني)؛ تعليقاً على قول المفسِّرين في تحويل كان إلى يكون، وكيف تَرك هؤلاء المشكِّكين يُشْكِلون على القرآن استعمال صيغة الماضي بمعنى الحاضر، في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾، بقولهم (أي هؤلاء المشكِّكين): أَوَليس الله دائماً غفوراً رحيماً؟! وجواب النحويين والمفسِّرين: «إن ذلك من باب مجيء (كان) بمعنى (يكون)»!([5]).

وكيف ردّ الرجل على الجميع معاً (المشكِّكين والمفسِّرين والنحويين) في أن (كان) في الآية المذكورة تتعلَّق بزمنٍ معين وواقعة معيّنة، «ولا تحتاج الآية إلى مثل تلك التأويلات التي تحرِّف اللغة، وتلوي الكلام، وتجعل من الزمن الماضي حاضراً أو العكس»([6]).

ويضيف، مؤكِّداً على الدقّة في منهجه اللفظي، أنّه «ومن خلال هذا اللفظ وربطه مع باقي التراكيب تنكشف لنا قواعد وسنن المغفرة الإلهيّة، ونعلم به الحدود بين ما يُغفَر وما لا يُغفَر».

وإذا أردتُ أن أسوق أمثلةً أخرى، مجرّد أمثلة، فإني أرى نفسي غارقاً مع باحث متعمِّق ومفكِّر مبدع، ولكنْ يفوته ما يفوت كلّ إنسان، وله كَبَوات كما لكلّ جوادٍ كَبْوة.

ولعلّي أكون منصِفاً إذا جئتُ بأمثلةٍ ـ على سبيل الحَصْر ـ، مستدلاًّ على إبداع الرجل وعميق تأمُّلاته في كتاب الله. ومن هذه الأمثلة ما يلي:

 

زكية أم زاكية؟

تثير الآيات الكريمة المتعلِّقة بقصّة النبيّ موسى والعبد الصالح تساؤلاتٍ عديدة لا بُدَّ من التأمل فيها أو التوقُّف عندها. وجوهر هذه التساؤلات هو الآية الكريمة التي تقول على لسان موسى، مخاطباً العبد الصالح: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ (الكهف: 74)؛ إذ جميعنا يعلم أن موسى × جاء ليتعلَّم من العبد الصالح، لا ليجادله ويناكفه، ومعنى كلمة (زكيّة) لدى المفسِّرين هي النفس الطاهرة البريئة من الذنوب، التي لا تستحقّ القتل، ولا سيّما إذا كانت هذه النفس دون سنّ التكليف (غلام).

فهل كان خطأً أنْ يوصَف المقتول بأنّه (نفسٌ زكيّة) من قِبَل موسى؟ وإذا كان كذلك فلماذا قُتل إذن من قِبَل العبد الصالح؟ أو قُلْ: كيف عرف موسى أنه نفس زكيّة، وهو جاء يتعلَّم من الخضر، بعد أن ألزم نفسه أنّه لن يسأل ما دام تابعاً لهذا العبد الصالح (القاتل)؟ ثم لماذا قتل العبد الصالح نفساً طاهرة مبرّأة قبل ارتكابها جنايةً؟ ومَنْ قال: إنّ هذا الغلام لن يتوب عن ذنوبه التي ارتكبها في (مراهقته أو شبابه) عند بلوغ سنّ الرشد؟ وهل سأل موسى ذلك السؤال مستنكِراً هذا الفعل، أم أنّ سؤاله كان استفهاميّاً، وليس استنكارياً؟! وهل هناك معنى آخر لكلمة (زكيّة) هنا، لم يلتفت إليه المفسِّرون أو يوضِّحوه، بالدرجة التي تثير كلّ هذه التساؤلات وغيرها؟

هذا هو بعض ما أشار إليه النيلي، بل أثاره في هذه القصّة اللافتة. ولا سيّما بعد أن أكّد أنّ كلمة (زكية) هي في الأصل (زاكية)، وهو ما وجده فعلاً في ستّ قراءات من القراءات السبع للقرآن الكريم. ولكنّ المفسِّرين، وبالأحرى كُـتّاب (الوحي)، اختاروا كلمة (زكية)، وثبتوها في المصحف، رغم أنها قراءة واحدة من ضمن (سبع)، تقول ستٌّ منها: إنها (زاكية)، بتطويل الفتحة، وليس (زكيّة) التي تعني الناشطة والنامية، أو عدم معرفتها. فأوقعوا أنفسهم وأوقعوا المسلمين في ورطة لم يجدوا منها فكاكاً، أثارت كلّ التساؤلات السابقة، فراحوا ورحنا معهم مشرِّقين مغرّبين نبحث عن مخرجٍ ممّا حشرونا وحشروا أنفسهم فيه، ولكنْ دون جدوى.

نعم، يرى النيلي أن الكلمة هي (زاكية)، وليست (زكية). وراح يبني بنيانه هو الآخر على هذا الفَهْم الذي لم يُعطِه حقَّه في التوضيح، ومما نتمنّى على القارئ الكريم مراجعته في كتابه النظام القرآني([7]).

مفسِّرون آخرون لم يفرِّقوا بين اللفظين، وعدّوهما معنىً واحداً، وراحوا يرتّبون تأويلاتهم على ضوء هذا الفهم الذي أخلَّ كثيراً بالمغزى العميق لقصّة الاتّباع، فصيَّروه معنىً مسطّحاً بين شخصيّتين متنازعتين، وكأنّ موسى يقول للعبد الصالح مستنكِراً: «لقد قتلتَ نفساً طاهرة بريئة، وجئت أمراً قبيحاً»، بدل أن يكون السؤال استفهاميّاً مؤدَّباً مفاده: «لقد قتلتَ (شابّاً) أو نفساً نامية نموّاً حسناً وسريعاً بغير نفس، وما فعلتَه هو أمرٌ نُكْرٌ بالنسبة لي، لم أستطع فهمه أو فهم حقيقته»، أي ليس منكراً ولا قبيحاً، وبالتالي يصير إخلال موسى بشرط الاتّباع فقط، وليس الاتّباع نفسه أو الصحبة نفسها، وهو (عدم السؤال)، بل تكرار السؤال.

والأنكى من ذلك أن العديد من المفسِّرين زادوا في الطين بلّة، وراح بعضهم يؤكِّد أن السؤال كان استنكاريّاً، فتوهّم حصول غضب وغضب مضادّ بين موسى والعبد الصالح، الأمر الذي جعل أحدهم (أي أحد المفسِّرين) يقول: إنّ موسى كان رجلاً انفعالياً، كادَ يهمّ بضرب العبد الصالح، بل رفعه وجَلَد به الأرض ـ حَسْب تعبير بعضهم ـ، وليس متسائلاً متسامحاً كان يلحّ عليه حبُّ الاستطلاع، ويسعى للحصول على إجابة مقنعة ترضي فضوله وفطرته، وظمأه للمعرفة، ولكنّه كان مستعجِلاً في إرواء ذلك الظمأ، فلم يستطِعْ صبراً.

هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى إذا كانت كلمة (زاكية) تعني في ما تعنيه (المكتمل النمو النشيط فيه) ـ كما يقول النيلي ـ، ولا علاقة لها بالكفر والإيمان، والطهارة والبراءة، والهدى والضلال، فإن المغزى سيقترب أكثر. وإذا لم يكن كلّ غلام بريئاً وطاهراً؛ بلحاظ أن الكثير من الغلمان يرتكبون من المعاصي والآثام ما لا يرتكبه حتّى الكبار، يصبح المغزى أكثر وضوحاً. وإذا أضَفْنا شيئاً ثالثاً، وهو الأهمّ، وهو أن قرار القتل لم يكن في قصّة الغلام صادراً عن الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الآية، وإنّما عن جماعةٍ لم يذكرهم القرآن الكريم؛ بقرينة نون الجمع المستخدَمة في هذه الآية تحديداً، إذْ قال العبد الصالح: ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ (الكهف: 80)، بينما كان قرار إعابة السفينة قراراً خاصّاً صادراً من قِبَل العبد الصالح نفسه: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾، أما قرار إقامة الجدار فكان أمراً إلهيّاً مباشراً: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾، وهذه كلّها فيها تفاصيل كثيرة تتعلَّق بمسائل الإرادة والقضاء والقدر والمشيئة الإلهية، وكيف أنّ المشيئة هي غير الإرادة؛ لأنّ الله تعالى يشاء للإنسان أن يفعل الخير والشرّ، ولكنّه لا يريد له أن يفعل الشرّ مثلاً. وهنا الفرق كبير بين المشيئة والإرادة، وهو ما لا مجال للإفاضة فيه هنا، فنتركه.

أما أنا فأرى أن سبب توجُّه المفسّرين إلى المعنى الذي ذكره النيلي، وإصرارهم على (زكية)، بدل (زاكية)، فهو عدم قدرتهم الغوص في فهْم المغزى الذي أرادت القصّة توضيحه، وهو التمييز بين الطاعة العمياء والطاعة الواعية، أو قُلْ: بين الطاعة الطيبة الطوعية والطاعة القهريّة المستبدّة، وخاصّة بين الأمير والمأمور، أو بين التابع والمتبوع.

نعم، إنّ الذي يترشَّح عن الطاعة الواعية الطيّبة هو التسامح والتكامل والارتقاء، مع استبعادٍ كامل للتنفيذ بدون أيّ تأفُّف أو تململ؛ وذلك للثقة التي يضعها التابع في تقديرات أميره وحكمه، وتُنبئ عن حبٍّ واحترام متبادل بين الطرفين. أما الطاعة الثانية فلا تشي إلاّ بالقهر والتعسُّف والشكّ، واستعباد التابع من قِبَل المتبوع، وعدم انفتاح الأخير على تساؤلات الأوّل رغم مشروعيتها، بل اعتبارها تساؤلات استنكاريّة، وليس استفهامية، وبالتالي ـ حسب هذا الفَهْم ـ لا يمكن الوصول إلى الانسجام والوئام الكاملين على الإطلاق.

صحيحٌ أنّ إثارة التساؤلات لحظة التنفيذ أمرٌ سيّئ غير مرغوب فيه، ولكنّ كمّ الأفواه وعدم السماح بإثارة التساؤلات الاستفهامية، حتّى بعد التنفيذ، لا تقلّ سوءاً عن الأولى، ولا سيما إذا كانت التساؤلات من أجل التكامل والتنمية المعرفية ـ كما يقولون ـ.

بغير هذا الفَهْم يأتي اجتهاد المفسِّرين، الذين يُصرُّون على فقه الطاعة غير المشروطة، ويأتي فهمهم الناقص لهذه الآية، فيعطي للمتبوع حقّ القهر والتسلّط، ولكنّه لا يجني من التابع غير التململ والحنق، أو على الأقلّ انكماش الإخلاص والتسليم المطلوبين لتحقيق الأهداف المرجوّة.

ومن هنا يأتي فهمُنا الآخر للآية القرآنية الكريمة: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِي مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

أما كيف تأتي القناعة، ويُرفع الحرج من النفوس، بل كيف يأتي التسليم المطلق الذي لا يتمّ الإيمان إلاّ به، إذا لم يكن هناك قاسمٌ مشترك بين الحاكم والمحكوم، أقلّه الاعتقاد بعصمة الأمير وحكمته مثلاً.

نعم، إن أكثر الناس مشركون، رغم إيمانهم الظاهر: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾. وبالتالي فإن تكامل إيمان الإنسان لا يمكن أن يحصل إلاّ إذا وجد انسجاماً كاملاً بين قناعته وقناعة أميره. وهذه لا تتأتّى إلاّ بالتسليم الكامل للحكم المترشِّح عن قناعةٍ مطلقة بالحاكم، بمعنى أن تنفيذ الأوامر هو امتداد طبيعي للقناعة الكاملة المترشِّحة عن الإيمان الكامل، وليس العكس، فقد تحصل قناعةٌ ما بدون إيمان، ولكنْ من المستحيل حصول الإيمان بدون قناعة.

ويمكن أن يكون هذا الفَهْم مغايراً تماماً لما أرادَ المفسِّرون إيصاله إلى الناس. فالأصل أنْ يُقبل من المؤمنين إيمانهم بمجرَّد رضاهم عن حُكْم النبيّ في نزاعهم، وليس (إلاّ) أن يرضَوْا بحكمه| في هذا النزاع. مثال ذلك قول القائل: «أنا أقبل بحكمك إذا أقنعتني بهذا الحكم»، بقرينة «أنك تعرف أنّي أحبك وأؤمن بعدلك»، والآخر القائل: «أنا لا أقبل بحكمك إلاّ إذا أقنعتني بهذا الحكم»، والثالث المؤمن الكامل الإيمان فِعْلاً الذي لا يُتعِب أميره ولا يجادله، وكأنّ لسان حاله يقول: «أنا أقبل بحكمك كيفما يكون هذا الحكم»، وهو ما لا يتأتى إلاّ للقلّة (الذين يؤمنون بالله وليسوا به مشركين).

وهذا أمرٌ صعب مستعصب، لا يتحملّه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان، مَثَلُه مَثَل النبيّ موسى مع العبد الصالح.

أظنّ أن هدف النيلي الاستشهاد بهذه الآية والتوقُّف عندها هو ما أشار إليه عبر العنوان الذي جاءت تحته، وهو «مثال على القراءة المثبتة، خلافاً للنظام الهندسي في القرآن»، وتحت القاعدة السادسة في إبطال تعدّد القرارات التي عرَّفها النيلي بالنصّ الدقيق التالي: «لا يجوز للباحث في هذا المنهج الاعتقاد بصحّة جميع القراءات للفظ الواحد، ويتوجّب عليه الأخذ بالقراءة التي تطابق النظام القرآني، وإنْ كانت شاذّة. وعند غياب القراءة المطابقة للنظام يجب التوقُّف والمرور من طريقٍ آخر أو التَّرْك»([8]). وهو هدفٌ نبيل في حدّ ذاته؛ كونه يسعى إلى التأمل الدقيق في ألفاظ ومعاني القرآن الكريم، الذي قيل: إنه حمّال وجوه، ولا يعلم تأويله إلاّ الله.

 

الحمأ المسنون

يؤكِّد النيلي جزافية المناهج اللغوية التي سبَّبت اعتباطاً عامّاً لما سمّاه الفكر (المفسِّر) للدين. واعتبر ذلك سبباً، بل أداة فعالة، لكلّ مَنْ أساء إلى الدين، سواء كان من داخل المؤسَّسة الدينية أم من خارجها، عن قصد أو غير قصد. وهذا هو الذي أدى إلى انفصام العلاقة بين المؤسَّسة الدينية والمؤسَّسة الثقافية ـ حسب تعبيراته ـ([9]).

استدلالاً على ذلك يستشهد النيلي، وفي نفس الكتاب، بنماذج من تفسيرات هشّة ينقل قبلها قولاً للإمام× يقول فيه: «لو عرف الناس كيف خُلِق آدم ما اختلف رجلان»، ويضيف: «لم يخطِئ المفسِّرون في معنى (الحمأ المسنون)؛ إذْ زعموا أنه الطين الأسود المنتن، خطأً فكرياً وعقائدياً وحَسْب، بل أخطأوا خطأً لا يغتفر من حيث اللغة».

فالمسنون هو الموضوع في سنّة وشرعة ومنهج من الأصل، ولا علاقة له بـ (المنتن). والمفعول الذي يتعلق بالنتن هو (متسنّه)، وليس مسنون، كما في قوله تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾. أي إن الفعلين (سنيهَ) و(سنّ) فعلان منفصلان، لا علاقة بينهما لا من قريب ولا من بعيد. فالفعل سنيهَ ـ يتسنّه معناه تبدّل وتغيرّ فهو متسنّه، أما سنّ ـ يسنّ فهو يبيِّن أو يضع فهو مسنون وموضوع ضمن سنّة. وهكذا في (الصلصال)، الذي هو الخلاصة المتركِّزة المأخوذة من (الحمأ)، وهو القطرات الأخيرة من الماء الجاري، فالماء يصلصل. وإذا لم يبقَ منه إلاّ القليل قيل: صلّ الماء أو صلصل.

وهنا لا تكون كلمة (الفخّار) في الآية الكريمة: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ بمعنى الطين المفخور بالنار الذي يصلصل إذا ضربته ـ كما أجمع المفسِّرون ـ، وإنما المتفاخر في ذاته، والمتميِّز عن أشباهه. و(الحمأ) هو كتلة الطين أو المادة الحيّة التي يترشَّح منها هذا الصلصال، والموضوعة في شرعة ومنهاج (مسنون)، ولها قدرة ذاتية على حماية نفسها عبر التوالد، والبقاء عن طريق الانقسام والتكاثر، كما أن لها قدرة أخرى على التفاخر، أي الترقي والسموّ، وهكذا. وللمزيد من ذلك يمكن مراجعة كتاب أصل الخلق وأمر السجود([10])، وتفصيل السنّة والمنهج الذي وُضعتْ فيه هذه المادة، وتشكّل منها الإنسان في أصل خلقه ونشأته وتطوّره من (سلالة من طين). وهذا يعني أن الإنسان خُلق في سنّة، ووُضع ضمن سنّة، وعليه أن يتجاوز هذه السنّة المسنون فيها قضاءً وقَدَراً. وما أدراك لعلّ النيلي ومناوئيه هم ضمن السنّة التي أراد الله تعالى من خلالها اختبار العباد، إنْ تكاملاً أو تسافلاً، رقيّاً أو نكوصاً، ليحقّ الحقّ على هؤلاء العباد، فيهلك مَنْ يهلك عن بيِّنة، وينجو مَنْ ينجو عن بيِّنة، ضمن ما حاول النيلي تجليته في شرحه المبدِع حول الذات ودورها في صياغة الإنسان سموّاً وارتقاءً أو نكوصاً وهبوطاً.

وراجع هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه (المحاضرات القصدية)، وموضوعيه الرائعين: (الحرّية في الفهم الفلسفي)؛ و(يهدي الله مَنْ يشاء)، وقوله: «إن إبليس في قصة الخلق لم ينكر أنّ الله هو الخالق، وأنه هو الربّ الذي لا ربّ فوقه، ولم ينكر شيئاً من ضرورات الدين، لكنه (اجتهد) برأيه في مسألة السجود لآدم، فاتَّخذ رأياً مخالفاً لرأي الله في المسألة…»، فيما الذي يُفترض أن يكون هو «أن معنى الإله الواحد أنّي لا أمتلك أيّ رأي في أيّ مسألة»، وهذا يعني ـ حَسْب تعبير النيلي طَبْعاً ـ «أنّي أنتظر هذا الواحد أن يأمرني فأطيع»، ويضيف: «نعم، إنها عبودية وتسلُّط وقهر. فعليّّ أن أقبل بالعبودية والتسلّط والقهر الإلهي؛ لكي أبرهن أنّي راضٍ تمام الرضا بالإله الواحد. وإذا فكرتُ باختيار إله آخر فقد أبلغتُه بكلّ وضوحٍ أنّي أريد مشاركة في الألوهية».

وما دام النيلي يعتقد، ونحن معه أيضاً، بأنّنا لم نكن نملك أيّ إرادة في وجودنا ومجيئنا إلى الدنيا، كما لا نمتلك الإرادة في موتنا، فإنّنا مقهورون، وعلينا أن نكيِّف أنفسنا مع الوجود القهري والموت القهري؛ لكي لا ننتحر أو نجنّ.

يوضِّح النيلي هذه الإشكالية بكلماتٍ أخرى، جاء نصها كما يلي: «إنّ مشكلتي مشتركة؛ لأن هناك طرفاً آخر فيها. ذاك هو الذي ألقاني في أتون هذه الحياة، وهو الذي يسلبني حياتي بالموت…، وهو الذي ابتلاني بهذا البلاء…. فإذا كانت مشكلتي على هذا النحو فليس ثمّة شيء فيها سوى أنا وهو، وكلّ شيء آخر فيها إنما هو محنة من محن تلك العلاقة…»([11]).

الهوامش:

(*) باحثٌ وناقد، من الوجوه الثقافية في العراق.

([1]) النظام القرآني، مقدّمة في المنهج اللفظي: 20.

([2]) المصدر السابق: 45.

([3]) المصدر السابق: 15.

([4]) نظام المجموعات الكامل: 192.

([5]) النظام القرآني: 59.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) النظام القرآني: 130 ـ 135.

([8]) المصدر السابق: 127.

([9]) أصل الخلق وأمر السجود: 66.

([10]) المصدر السابق: 3 ـ 35.

([11]) المحاضرات القصدية: 119.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً