أحدث المقالات

ترجمة: محمد حسن زراقط

رؤية إلى الماضي ــــــــــ

كتبت بالتعاون مع صديقي السيد عبد الحسين آذرنك مقالةً حملت عنوان: mنشر الكتاب في إيرانn، وقد طُبعت هذه المقالة في مجلة جمعية الكتبيين (أنجمن كتابداران) (الدورة الثامنة، العدد الأول، ربيع 1354 هـ. ش/ 1975م، ص8 -35)، وها قد مضى على نشر هذه المقالة خمس عشرة سنة؛ ما يسمح لنا بعدّها مقالةً عن نشر الكتاب في إيران الأمس، لكنّ رغبةً في الانطلاق من أرضيّةٍ واضحة تسمح بالحديث عن اليوم أسمح لنفسي ـ وبعد الاستئذان من صديقي آذرنك ـ بالاستفادة من ما يقرب من ثُمن تلك المقالة.

mترجع المرحلة الحديثة لنشر الكتاب وطباعته إلى ما يقرب من قرنٍ من الزمان، لكنّ التفكيك بين الطباعة والتوزيع لا يرقى إلى تلك المدّة، بل لا يتجاوز عدداً قليلاً من السنين، ففي ما مضى كان بائع الكتب هو الناشر نفسه.. وكان العمل في النشر ـ لسببٍ ولآخر ـ متمركزاً في العاصمة طهران، أمّا النشر في المحافظات والمناطق الإيرانية الأخرى، فقد كان ضعيفاً بحيث لا يُحسب لـه حسابٌ في أرقام صناعة الطباعة الإيرانية، وقد أصدرت وزارة الثقافة والفنّ الإيرانية عام 1351هـ.ش(1972م) تقريراً، ذكرت فيه أنّ عدد الناشرين في طهران وصل إلى 122 ناشراًn([1]).

هذا، ويقول أحد مسؤولي اتّحاد الناشرين وتجّار الكتب: إنّ عدد الناشرين الحقيقيّ وصل سنة 1354هـ. ش(1975م) إلى الستّين ناشراً، وذلك بالانتباه إلى أنّ التمييز بين الناشر وتاجر الكتب ليس أمراً بسيطاً إلى هذا الحد.. فهناك ناشرون مثل: إقبال، وابن سينا، ومعرفت، وغوتنبرغ، وصفي عليشاه، وطهوري وآخرون، وهؤلاء ليس لهم دورٌ بارز أو نشاطٌ مؤثر في عالم النشر في إيران في هذه الأيام، وفي المقابل توجد دُورُ نشرٍ لها دورٌ كبير في حركة النشر مثل: أمير كبير، التي تدير ثمانية فروعٍ في طهران وحدها، ثم وصل عددها إلى ستة عشر فرعاً، ومن هذا الطراز شركة خوارزمي المساهمة للنشر، والتي تعدّ من ا لمؤسسات الناجحة بكلّ ما للكلمة من معنى، وقد صدرت عنها كتبٌ قيِّمة رغم أنها لم تبلغ من العمر عتياً، ومن هؤلاء دار نشر فرانكلين في إيران، وهو الفرع الثاني لها خارج الولايات المتحدة الأميركية، وتهدف لترويج الفكر والثقافة الغربية في إيران عبر الترجمة، هذه المؤسسة كان لها أثرٌ مهمّ؛ حيث نشرت خلال 22 سنة من عمرها ما يقارب من 1000 عنوان بين تأليف وترجمة، وقد ساهمت في تأسيس مطبعة 25 شهريور، إحدى أكبر المطابع في الشرق الأوسط، كما ساهمت في إعادة تدوين الكتب المدرسية في إيران، وكذلك اهتمّت بنشر عددٍ من المجلات بعنوان mبيكn، ومن منشوراتها دائرة المعارف الفارسية.

ومن أصناف الناشرين الإيرانيين:

1-الناشرون غير ثابتي الأقدام: وهؤلاء ناشرون شباب دخلوا إلى عالم النشر واهتمامهم منصبّ على سوق الطلاب، وممّن يصنّف في هذه الدائرة: طوس، وكتاب نمونه، وبيام، ورز، ومرواريد، وآكاه..

2-الناشرون الحكوميون: وهم الذين يستفيدون من الدولة ومساعداتها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومن هؤلاء: بنكاه ترجمه ونشر كتاب (مركز الترجمة ونشر الكتاب)، جامعة طهران، وكانون برورش فكري كودكان ونوجوانان (مركز التربية الفكرية للأطفال والمراهقين)، ومؤسّسة ثقافة إيران، ووزارة العلوم والتعليم العالي، ووزارة الثقافة والفن، وغيرها من المؤسّسات التابعة للوزارات.

3-الناشرون المختصّون بالكتب الدينية: وهؤلاء كثيرون يتمركزون في بازار طهران، وشارع شاه آباد، وفي بعض المدن ذات الطابع الديني مثل: قم ومشهد، ويشار إلى أنّ الكتاب الديني من أكثر الكتب مبيعاً في إيران، ويغلب على الكتب التي نشرها هؤلاء صغر الحجم وارتفاع عدد النسخ المطبوعة منها، لكن مع ضعفٍ في المحتوى والمضمون.

ركود تجارة الكتاب في إيران قبل عام 1979م ــــــــــ

إنّ نتاج دور النشر التي أشرنا إليها جميعها ليس فقط لا يثير الإعجاب، بل هو ـ مقارنةً بحجم الإمكانات المتوفرة ـ لا يعدّ شيئا مهماً؛ فعدد الكتب المنشورة سنوياً في إيران قلّما يتجاوز 2500 كتاب حتى مع احتساب الكتب التي يعاد طبعها، أمّا تعداد النسخ المطبوعة من كلّ كتاب، فالمعدل العام لها لا يتجاوز 2500 نسخة.

mولقد عمل د. عبد الرحيم أحمدي لسنواتٍ على دراسة وضع الكتاب في إيران ونشر حاصل دراسته في مقالتين([2]), والعناصر التي كانت برأيه كامنةً وراء كساد سوق الكتاب الإيراني ما زالت حتى الآن على حالها، وتؤيّد هذا التقييم دراسةٌ أخرى نشرها نور الله مرادي([3]),

  وأيّا تكن الحال، فإن العوامل التي يشير إليها د. أحمدي في مقالتيه هي: 1 ـ هبوط المستوى الثقافي العام. 2 ـ قصور النظام التعليمي والتربوي. 3 ـ بعض التضييق على النشر. 4 ـ سوء التوزيع. 5 ـ ارتفاع سعر الكتاب بالقياس إلى المعدّل العام للدخل. 6 ـ التأثير السلبي للقصص التي تُنشر في المجلات الأسبوعية على الذوق الأدبي عند الشباب. 7 ـ عدم تنمية المكتبات العامة وتطويرها.

وبعد د. عبد الرحيم أحمدي بحوالي عشر سنوات، نشر د. ناصر الدين صاحب الزماني رسالةً بعنوان: mاقتصاد الكتاب المريضn، عالج فيها مشاكل الكتاب ونشره من زوايا وأبعاد مختلفة، ومن أهمّ مشاكل نشر الكتاب في إيران أشار إلى ما يأتي: 1 ـ غلاء الكتاب وقلّة رواج عادة المطالعة. 2 ـ عدم الاهتمام بحقوق المؤلّفين والمترجمين. 3 ـ قلّة مصادر المعرفة وضعف الخبرة بالكتب. 4 ـ ضعف التنوّع في الكتاب الإيراني. 5 ـ عدم وجود كتَّاب وتراجمة محترفين. 6 ـ عجز الاستثمارات في مجال نشر الكتاب. 7 ـ عدم الفصل بين الناشر وتاجر الكتب. 8 ـ عدم وجود برنامج متكامل للنشر. 9 ـ انعدام التخصّصية في النشر. 10 ـ عدم وجود مستشارين في الطباعة. 11 ـ ضآلة عدد النسخ المنشورة. 12 ـ بطء حركة البيع([4]).

وبمقارنة هاتين المقالتين يبدو لنا أنّ واقع الكتابة والنشر لم يبق على حاله فحسب، بل طرأت عليه عناصر ضعفٍ جديدة.

وفي عام 1352هـ.ش/1973م، نشر شاؤول نجاش مقالةً مفصّلة في هذا المجال، أي بعد مرور خمس سنوات على المقالة المشار إليها أعلاه، وقد حاول كاتبها تشخيص علل كساد سوق الكتاب وركوده في إيران، ومن أهمّ ما ورد فيها: 1 ـ ضآلة عدد النسخ المطبوعة. 2 ـ بطء حركة البيع. 3 ـ ضعف النظام التعليمي وعدم الاعتناء بالمطالعة وتجنّب الحوار. 4 ـ الإدمان على مشاهدة التلفزيون. 5 ـ عدم تساوي المستوى التعليمي الجامعي واختلاف مستوياته باختلاف الحقول العلمية واختلاف الأساتذة. 6 ـ الوضع الرقابي والإداري. 7 ـ عدم وجود ضوابط واضحة تحدّد مسؤوليات كلّ من الناشر والإدارات المشرفة على النشر. 8 ـ قصور شبكة توزيع الكتاب. 9 ـ ارتفاع تكاليف الطباعة وبدل أتعاب المؤلّفين والمترجمين، الأمر الذي ينتهي إلى ارتفاع قيمة الكتاب ما يحول دون سعة انتشاره.

بالنظر إلى هذه العناوين التي كان يُشار إليها طيلة خمس عشر سنة، وبملاحظة الوضع الحالي لسوق النشر يمكن القول: إن أبرز هموم ومشكلات النشر هي: 1 ـ الوضع الرقابي. 2 ـ عدم اهتمام الدولة والمؤسّسات الحكومية بالنشر. 3 ـ العوائق الاقتصادية: ارتفاع كلفة الإنتاج، ضعف التوزيع، وقصور الدعاية. 4 ـ بناء النظام التعليمي على بُعد واحد. 5 ـ ضعف الثقافة وقلّة المكتبات. 6 ـ ضعف القدرات الفنية والثقافية للناشرين.

النشر في إيران من انتصار الثورة حتى 1990م ــــــــــ

لم تجر دراسة وضع النشر الثقافي في إيران ما بعد الثورة عام 1979م من الجوانب جميعها، غير أنّ هناك بعض المحاولات الجادّة، أشير منها إلى ما قدّمه السيد كريم إمامي، الذي يعدّ من البارزين وذوي الخبرة في هذا الميدان، فقد نشر عدداً من المقالات حول عقود النشر وتسعير الكتاب. ومن بين أعماله محاضرة باللغة الإنجليزية قدّمها في جامعة أكسفورد لم تُترجم إلى الفارسية حتى الآن.

ومن المهتمّين بهذا المجال، السيد فرخ أمير فريار الذي يعدّ واحداً من أهل الاختصاص، ونشر عدداً من المقالات في مجلة mنشر دانشn، سلّطت الضوء على بعض زوايا نشر الكتاب الإيراني.

ومن هؤلاء أيضاً السيدة فرشته مولوي، من الباحثين والمحقّقين في المكتبة الوطنية الإيرانية، وقد نشرت هذه الباحثة مقالةً مهمّة في هذا الميدان، ننقل شيئاً من أفكارها الأساسية وإحصاءاتها.

ترى السيدة مولوي أنّ أهمّ خصوصيات صناعة النشر بعد الثورة هي: 1 ـ رواج عادة المطالعة وانتشارها كمّاً وكيفاً بين فئات المطالعين. 2 ـ النموّ المتسارع لصناعة الكتب وإنتاجه. 3 ـ رواج سوق الكتاب وتأخّر سرعة المطالعة عن سرعة شراء الكتاب. 4 ـ زيادة عدد النسخ المطبوعة. 5 ـ التنوّع الموضوعي الملفت في إنتاج الكتاب وتطوّر إنتاج الكتب في مجالي السياسة وعلم الاجتماع. 6 ـ زيادة عدد الناشرين ومراكز بيع الكتاب تبعاً لزيادة عدد القرّاء والمؤلّفين المترجمين([5]).

ويمكن عدّ عامي 57، 58 هـ ش/ 1979 ـ 1980م، سنتي طفرة في مجال النشر؛ حيث إن المؤلّفات الراديكالية الدينية واليسارية المتنوّعة وجدت في انهيار النظام الملكي وزوال الرقابة فسحةً أساسية للخروج من محاق المنع، فظهرت إلى عالم النشر كتبٌ بعدد نسخ mضوئيةn([6]) سواء في ذلك الطباعة وتجديد الطباعة، وكان المتطوّر هو العدد على حساب النوعية في كثير من الأحيان.

فمثلاً، تجاوز عدد نسخ بعض كتب علي شريعتي حدود المليون نسخة؛ أي مائتي ضعف العدد المتعارف عليه في صناعة النشر الإيرانية، ومثلها الكتب الماركسية ونصف الماركسية بلغت أعداد نسخها أرقاماً مدهشة، وفي البدايات كانت أكثر طبعات هذا النوع من الكتب تتمّ تحت ضغوط التهديدات الأمنية نتيجة عدم زوال المَلَكية بالكامل وبقاء بعض البؤر المسيطرة على المطابع؛ ولذلك نجد أنّ أكثر هذه الطبعات غير جامعة للمواصفات الفنية والمهنية المقبولة. وعلى أيّ حال، فمن الطبيعي أنّ الانفجار الذي عبّرنا عنه بالطفرة قبل قليل لن يدوم طويلاً، خلا انفجار عدد السكان في إيران الذي لا يزال يمثل مشكلةً مستعصية على الحلّ، وسوف يكون لها تداعياتها الكبيرة على المجتمع الإيراني.

ومن العلامات البارزة في تحوّلات صناعة الكتاب الإيرانية الناتجة عن هذا الانفجار المطبوعاتي، أن كتاب شرح منظومة الملا هادي السبزواري للشهيد مرتضى مطهري طبع بعدد مائة ألف نسخة لم تنفذ من السوق بالسهولة التي كانت متوقعةً، ما دفع الناشرين إلى إعادة النظر في تعداد نسخ مطبوعاتهم وتحديدها وفق أسس أكثر عقلانيةً، تحت ضغط واقع سوق الكتاب الذي بدأ ينحو نحو البرودة بعد حرارة مؤقتة، ولا أظنّ أنّ عدد نسخ كتابٍ فلسفيٍّ جاد في أيّ مكان في العالم تتجاوز 10.000 إلى 15000 نسخة.

وقد كانت الكتب الماركسية في السنوات الأولى من الثورة حتى سنة 61، 62هـ، ش/ 1982 ـ 1983م، وكذلك غيرها من الكتب ذات الطابع اليساري مطلقة العنان، لكنّ التحولات السياسية العجيبة التي حصلت لاحقاً، والتي أدّت إلى حلّ حزب mتودهn وما نجم عنه من أحداث، جعل هذا النوع من الكتب يفقد سوقه العلني كما سوقه المخفي، حتى أننا شاهدنا كيف أن الترجمة الفارسية لكتاب mرأس المالn لماركس ظلّت معروضةً في السوق مدّة خمس سنوات إلى ست ـ بدل الأشهر ـ إلى أن نفذت.

وبعد التحوّل الأساس الذي حصل في الاتحاد السوفياتي في عهد غورباتشوف وسقوط حصون الشيوعية والاشتراكية في أوروبا الشرقية خسرت المؤلّفات الماركسية آخر نقطةٍ من ماء وجهها.

والكتب الدينية التي مرّ عليها زمن لم يكن لها قِبَلٌ به في السابق، بدأ يبرد سوقها، ويمكن القول: إن الكتب العلمية الدينية والأكاديمية هي التي ما زالت تحافظ على حجمٍ مقبول من سوق الكتاب في إيران، والتحوّل الجماعي نحو القصّة والكتاب القصصي هو واحدة من نقاط الضوء الباعثة على الأمل، فقد بدأ هذا التحوّل من قبل الناشرين والكتّاب والمترجمين والقراء ـ تبعاً لهم أو العكس ـ منذ سنة 62 ـ 63 هـ، ش/ 1983 ـ 1984م، وما زال مستمراً حتى الآن.

وتشير الإحصاءات التي نشرتها السيدة مولوي ـ اعتماداً على وزارة الثقافة والإرشاد ـ إلى نشر ما يقرب من 247 كتاباً قصصياً من تأليف إيراني، وكذلك نشر 712 عنواناً مترجماً؛ أي ما يبلغ مجموعة 959 في مدّة ثلاث سنوات، من النصف الأول من عام 66ش/1987م؛ أي بمعدل كتاب في اليوم تقريباً، وهذا الرقم يبشّر بالخير إذا أخذنا بعين الاعتبار أن إيران تنتمي إلى ما يسمّى بالعالم الثالث حسب الاصطلاح المتداول.

والرغبة في الكتاب التاريخي والسياسي كانت موجودةً في عهد النظام السابق، وقد ازدادت بعد الثورة، وبالرغم من أن ما يقرب من 90% من هذه الكتب يعاني من ضغوط الرقابة، إلا أنّه يحصل على إجازة النشر.

تحوّلات النشر الخاص في إيران ــــــــــ

في العقد الأخير، تمّ تعطيل عددٍ من مؤسّسات النشر الخاصّة أو تمّ تغيير ماهيتها، ومن هذه المؤسسات: أمير كبير، ابن سينا، دانش نو، وحلّت محلّها مؤسسات نشر كبرى أخرى، أشير إليها في محلّ آخر من هذه المقالة.

تعدّ مؤسّسة أمير كبير واحدةً من أضخم دور النشر في الشرق الأوسط، وربما أكبرها على الإطلاق، وقد كانت تنشر في السنوات الأخيرة قبيل الثورة ما يتراوح بين الكتاب والكاتبين في اليوم الواحد. وقد كنت واحداً من العاملين في التحرير في هذه المؤسسة، وأذكر أننا كنا نوقّع ما بين 10 إلى 12 عقداً في الأسبوع في موضوعات علمية شتى، وهذا الرقم أشبه بالحلم في هذه الأيام، وبعد الثورة تولّت الدولة إدارة هذه المؤسّسات، ومن المؤسف أنها لم تعد حتى الآن إلى سابق عهدها.

ومن المؤسّسات التي يشار إليها في هذا المجال: مؤسسة آكاه التي تنشر ما بين 15 ـ 20 عنواناً في العام، وكذلك طوس وزمان، وتيل، ودهخدا، إلا أن هذه المؤسّسات لم تستعد نشاطها السابق، ومن الطراز عينه: طهوري، وسبهر، وبيام، وبيوند، ومعرفت، وجاويدان، وبابك، وصفي عليشاه، وخيام، وأسدي. وتوجد مؤسّسات أخرى أغلقت أبوابها بعد ثلاث سنوات كحدّ أقصى من افتتاحها، منها: رواق، ومازيار.

أهمّ مؤسّسات النشر الخاصّة بعد الثورة ــــــــــ

وبعد الثورة الإسلامية، تأسّست دور نشر عدّة منها: مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرّسين في قم، ومؤسسة آل البيت، ومؤسسة البعثة، ومكتب نشر الثقافة الإسلامية، ومؤسسة الطبع والنشر التابعة للمشهد الرضوي في مشهد، ومؤسسة الأبحاث الإسلامية، ومنشورات مكتبة المرعشي النجفي، ونشر فرهنك معاصر (وتهتمّ غالباً بنشر المعاجم اللغوية)، ونشر نو، ونشر ني، وأساطير، ودار الكتب الإسلامية، وبيدار، ونشر ألبرز، ونشر معين (وقد بدأت الأخيرة أعمالها بنشر كتب المغفور له د. محمد معين، واتخذت من اسمه اسماً لها)، ونشر مركز، ونشر نقرة، وانتشارات روزبهان، ونشر كفتار، ونشر برواز، وانتشارات مولى، ونشر فرهنكي رجا، ونشر جشمه، ونشر رشد المتخصّصة في علم النفس والتعليم والتربية، وزرين، ومجتمع نور أنديش، وانتشارات الزهرا، وحكمت، وكتابسرا، وتندر، وكستره، وكتابسراي بابل، وغيرها مما لا يحضرني اسمه من مؤسّسات النشر الفعّالة.

النشر الحكومي ــــــــــ

كنّا قد توقعنا ـ أنا والصديق آذرنك ـ أنّ النشر في إيران يسير نحو التبعية الكاملة للدولة، وقد تأكّد هذا التخوّف بعد الثورة الإسلامية، لكن لم تضع الجمهورية الإسلامية يدها على النشر بشكل كامل ولا ينبغي أن تفعل ذلك.

النشر الحكومي في إيران يشبه إلى حدٍّ بعيد النشر في الدول العربية أو الدول الغربية، وهو بعيد عن طبيعة النشر في أوروبا الشرقية الذي أخذ صبغةً أيديولوجية شبه كاملة؛ ففي ما مضى كان يتولى الأستاذ برويز ناتل خانلري إدارة مؤسّسة ثقافة إيران، ولا مجال لمقايسة إنجازات هذه المؤسّسة إلا بمؤسسات رديفة مثل مركز ترجمة ونشر الكتاب. والنشر الحكومي اليوم لا يمثل تهديداً لدور النشر الخاصّة، بل يتولّى نشر الكتب العلمية والأكاديمية، ويتحمّل ـ مكرهاً أو مختاراً ـ أعباء ذلك العمل وتكاليفه غير المربحة.

وهناك خشية من توسّع النشر الحكومي عند بعض الأشخاص، وترجع هذه الخشية والتخوّف إلى أمرين:

أ ـ إن توسّع النشر الحكومي واستيعابه للسوق سوف يُضعف النشر الخاص ويفقده سوقه، لكنّني أعتقد أن هذا التخوّف في غير محلّه؛ وذلك لأنني لا أرى المخطّطين لا يولون لمسألة الكتاب اهتماماً يجعلها في أول اهتمامات الدولة بحيث يخشى من سيطرتهم على سوق الكتاب.

ب ـ إن توسّع النشر الحكومي سوف يؤدي إلى هبوط المستوى الثقافي، على اعتبار أن الجوّ الحاكم على المنشورات الحكومية هو الدعاية والأيديولوجيا. وهنا أيضاً أقول: إن الواقع والأرقام تشهد للناشرين الحكوميين أنهم لا يشكّلون خطراً من هذا النوع، بل كانوا حياديين إلى حدّ بعيد.

ومن أنشط الناشرين الحكوميين في إيران، مركز النشر الجامعي الذي تأسّس في بهمن 1368هـ.ش/1989م، وقد صدر عن هذه المؤسسة ما يقرب من 500 كتاب، واحتفل منذ مدّة باكتمال السنة العاشرة لمجلة mنشر دانشn في جامعة طهران. والقسم الأكبر من منشورات هذه المؤسّسة يقع ضمن نطاق الكتاب الجامعي والعلمي.

والمؤسّسة الثانية هي mمؤسسة انتشارات علمي وفرهنكيn (مؤسسة النشر العلمي والثقافي) وهي الخلف والوارث لمؤسسة mبنكاه ترجمه ونشرn، وتعدّ هذه المؤسسة من المؤسّسات الناشطة والمؤثرة في الحقل الثقافي.

ومن المؤسّسات التي تسعى لاستعادة رونقها وازدهارها mمنشورات جامعة طهرانn، ومنها أيضاً مؤسسة الجهاد الجامعي (جهاد دانشكاهي). وكذلك تجدر الإشارة في هذا المجال إلى مؤسسة الأبحاث الثقافية (مؤسسه تحقيقات ومطالعات فرهنكي) وتتبع لهذه المؤسسة أو أدمجت فيها مجموعةٌ من المراكز الثقافية في أنحاء إيران، وهي تعمل على نشر عددٍ من الكتب والأبحاث الجيدة، وقد أدخلت على مؤسسة فرانكلين تعديلات في الإدارة والبرامج واستعادت نشاطها باسم المؤسسة الإسلامية للنشر والتعليم (سازمان انتشارات وآموزش إسلامي). وكذا منشورات سروش التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون الإيراني واحدةٌ من أكثر مؤسّسات النشر نشاطاً، وقد أصدرت عدداً من المنشورات بمقاييس جودة راقية على مستوى الطباعة. ولا نغفل في هذا المجال مركز التنمية الفكرية للأطفال والمراهقين رغم أنه لم يحافظ على مستوى نشاطه السابق.

وقبل ختام هذا العرض السريع لمؤسّسات النشر الحكومية، أشير إلى مؤسّستي: كيهان واطلاعات، اللتين تدير كلّ منهما مؤسّسةً للنشر، أصدرت كلّ منها ما بين 30 إلى أربعين عنواناً، وأتمنى لهاتين المؤسستين المزيد من النشاط والرقي.

وأخيراً مؤسّسة النشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد، بدأت نشاطها منذ سنوات، وهي تحظى بإمكانات ملفتة للانتباه.

مؤسّسات نشر لا تتوخّى الربح ــــــــــ

رغم عدم كون المؤسسات غير الربحية من مستجدّات عصر ما بعد الثورة، إلا أن هذا النوع من المؤسسات لم يكن بهذا الحجم قبل الثورة، وأشير في هذا القسم إلى أهمّها:

مؤسّسة النشر التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، ومؤسسة آل البيت، ومكتبة آية الله المرعشي النجفي، وهذه المؤسّسات الثلاث تعمل في مدينة قم، ومؤسسة الدراسات الإسلامية ومؤسسة الطباعة والنشر في الحرم الرضوي في مشهد، ومؤسسة نهج البلاغة، ومكتب نشر المخطوطات، وشورى كتاب الطفل التي تتولّى العمل على موسوعة الأطفال والمراهقين، وسوف يصدر مجلّدها الأول قريباً، وفرع طهران لمؤسّسة الدراسات الإسلامية التابعة لجامعة مك جيل في كندا، ومن هذا النوع من المؤسّسات ثلاث مؤسسات تهتمّ بالعمل الموسوعي هي:

1 ـ مؤسّسة دائرة معارف التشيع، وتعمل على تدوين موسوعة حول التشيع في مجلّدات عشر، وقد نشر المجلّد الأول منها عام 1367هـ.ش/1988م، ومجلدها الثاني عام 1369هـ.ش/1990م، ونأمل أن تُنشر مجلداتها اللاحقة بمعدّل مجلّد كل عام.

2 ـ مؤسّسة دائرة المعارف الإسلامية التي تعمل على موسوعة العالم الإسلامي (دانشنامه جهان إسلام)، والمجلّد الأول من هذه الموسوعة قيد النشر، وقد عملت هذه المؤسّسة على نشر بعض المقالات الطويلة من موسوعتها بطريقة بريل في كتب مستقلة، وصدر منها حتى الآن أربعة كتب.

3 ـ مركز دائرة المعارف الإسلامية الكبرى التي تعدّ من أنشط المؤسّسات العلمية في إيران، وتصبو هذه المؤسسة إلى تدوين موسوعة من 40 مجلّداً، نشرت مجلّدها الأول عام 1367هـ.ش/1988م، والثاني عام 1369هـ.ش/1990م، ويعمل هذا المركز على ترجمة دائرة المعارف البريطانية (بريتانيكا).

ومن هذا النوع، مؤسّسة نهج البلاغة ومؤسسة القرآن اللتان مضى مدة طويلة لم يصدر عنهما شيء.

النشر المعاصر، سلبيات وإيجابيات ــــــــــ

أ ـ التحرير: من العلامات البارزة الإيجابية في النشر الإيراني المعاصر الاهتمام بالتحرير، وقبول هذا الأمر بوصفه مرحلةً أساسية من المراحل التي لابدّ للكتاب من طيّها قبل أن يخرج إلى عالم الوجود. فاليوم يوجد عدد كبير من أهل القلم، بل بعبارة أوسع من المفكّرين، أو أعمّ من ذلك عدد كبير من المحصّلين والدارسين يُقبلون على العمل في التحرير ويجعلونه جزءاً من اهتماماتهم العلمية وشغلهم الشاغل، وقبل ذلك كان أمر التحرير مقصوراً على المؤسسات القوية والمتقدّمة، بل كان يعدّ من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها.

ومن الظواهر الحسنة في هذا المجال، سعي المحرّرين لتشكيل هيئة أو رابطة تجمعهم، ولا يخفى على أحد ممن يمدّ يده إلى تنور([7]) النشر أهمية هذا الأمر وحيويته للكتاب الإيراني.

ب ـ رواج تجارة الكتاب: ينشط في مجال النشر في إيران ما يقرب من ألف ناشر([8])، يبدأ تعداد منشوراتهم من الصفر إلى ما بين الخمسين والستين كتاباً في العام الواحد، وربما بلغ عدد القراء ضعفي ما كان عليه في الخمسينات، فيهم الموظف والجامعي والطالب الثانوي. ويكشف عن ارتفاع عدد القراء الإعلانات في الصحافة عن بيع الكتب النادرة والمستعملة؛ فاليوم لم يعد الكتاب عنصراً هامشيّاً في حياة الناس، بل في صلب حياة عددٍ كبير منهم، وهو يمثل لهم جزءاً من الحاجات الأساسية.

ج ـ ندرة المواد ولوازم الطباعة: لم يكن يشعر المواطن الإيراني في السنوات الأولى عقب انتصار الثورة بأيّ مشكلة في مجال تأمين لوازم الطباعة. ولكن منذ سنة 63، 64ش/84 ـ 85م، فصاعداً، بدأ الناشر الإيراني يعاني من قلّة الورق وألواح الزنك وغيرها من لوازم الطباعة، وكانت هناك تعقيدات عدّة تواجه استيراد لوازم الطباعة لجهة التفاوت في أسعار الصرف، حيث لم يكن الورق وغيره من لوازم الطباعة معدوداً من الحاجات الضرورية؛ ولذلك لم تكن تعطى للناشر تسهيلات لتصريف الدولار بالسعر الرسمي، وبالتالي كان استيراد الورق من الخارج يمثل عبئاً كبيراً عليه، ما أدى إلى الإضرار بصناعة النشر الإيرانية. وبعد ذلك اعتبر الورق من الحاجات الضرورية وتولّت وزارة الثقافة والإرشاد استيراد الورق وتوزيعه على الناشرين ضمن حصص مقدّرة وبأسعار تشجيعية، وفي عام 68ش/1989م يبدو أنّ قحط الورق في طريقه إلى الزوال، ويتوقع أن يتحسّن الوضع في السنوات القادمة ممّا يبشر بعودة الحركة إلى سابق عهدها بعد أن نزل معدّل الطباعة من 5000 نسخة للكتاب إلى 3000، وبخاصّة أن بعض مصانع الورق التي تضرّرت إبّان الحرب مع العراق بدأت تعود إلى العمل تدريجياً.

ومن المؤشرات على تحسّن أوضاع الورق، أنّ سعره نزل من ما بين 4000 ـ 5000 تومان إلى ما يقرب من 2000 تومان للماعون، وكذلك غير الورق من لوازم الطباعة.

وإذا كان مسؤولو وزارة الثقافة لا يزالون يرون أن الإشراف على استيراد الورق وتوزيعه جزءاً من مهماتهم، فعليهم أن يجعلوه في رأس قائمة الاهتمام وجزءاً من أولوياتهم الأساسية، وإلا فإن غول أزمة الورق سوف يعاود التكشير عن أنيابه من جديد.

د ـ غلاء الكتاب: إن غلاء الكتاب أي ارتفاع تكاليف إنتاجه ما زالت تحت مستوى التضخم الذي يعاني منه الاقتصاد الإيراني، وأُفَضِّل هنا استخدام تعبير mالغلاء الوهميn التي استخدمها السيد ناصر الدين صاحب الزماني في العقدين الماضيين، ورغم أنّ الكتاب لا يمثل، إذا تخلينا عن المجاملة، بالنسبة إلى تسعين في المائة منّا جزءاً من الحاجات الضرورية والحياتية من الدرجة الأولى، إلا أنه يمثل على الأقلّ جزءاً من الاحتياجات الأساسية الرخيصة، وفي مجتمعنا المعاصر لا وجود لشيء رخيص، ولا يوجد مكان في الدنيا ينتج كتاباً يصل إلى القارئ بثمن بخس، ما خلا العالم العربي، وحتى لبنان المنكوب بالحرب ينتج كتاباً بأقلّ من كلفة الكتاب الإيراني.

وتوجد بعض المؤسّسات الإيرانية النادرة تستورد الكتاب من الخارج، من العالم العربي أو الغربي، مثل وزارة الثقافة والإرشاد ومؤسّسة الهدى، فهاتان المؤسّستان تحسبان الدولار للمشتري بعشرين تومان([9])؛ ولذلك فإن الكتاب يصل إلى القارئ بسعرٍ أقلّ من سعره في بلد المنشأ ولكن بصعوبة ومشقّة.

وأضرب مثالاً من السوق الإيرانية الحرّة (السوداء)، وذلك أن بعض المؤسسات الحكومية ـ أو ربما إحدى المؤسسات التي لا تتوخى الربح ـ عملت على استيراد كتاب بحار الأنوار (طبع بيروت) في 110 مجلدات وباعته بسعر 4000 تومان، بمعدل 40 تومان للمجلّد الواحد تقريباً؛ أي ما يساوي كلفة التجليد في إيران، وقد اشتريت الكتاب عينه، وأعترف أنني اشتريته بسعر معقول، بـ 14000 تومان من السوق السوداء. وهذه المشكلة عينها، أي التفاوت بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، تتكرّر في المعرض العالمي للكتاب الذي يُقام في طهران؛ حيث تعطي وزارة الثقافة بعض التسهيلات في الصرف للطلاب والباحثين وإن كان ضمن حدود، ولو أنها رفعت تلك القيود لقامت القيامة وتحوّل المعرض إلى ما يشبه يوم الحشر، ورغم هذه القيود إلا أن هذه الكتب تتسرّب إلى السوق السوداء. وعلى أي حال فإنني أقدّر أن كلفة الصفحة الواحدة للكتاب الإيراني من القطع الوزيري وبحروف من الحجم المتعارف عليه تصل ما بين 5 إلى 6 ريال (الريال يساوي 1 من 10 من التومان).

إذا قارنا هذا بما كان عليه الحال عام 1356ش/1977م، حيث كانت كلفة الصفحة ريال ونصف تقريباً، يتبيّن أنّ كلفة الكتاب ارتفعت بمعدل 4 أضعاف، بينما ارتفعت سائر السلع إلى عشرة أضعاف، وبعضها إلى عشرين ضعفاً، هذا في الحاجات الأساسية ما عدا الخبز الذي لا يخضع في الاقتصاد الإيراني لتقلّبات سعر السوق، وتؤمن الدولة دعماً مالياً مهماً له. وإذا أخذنا الذهب الذي يعدّ من السلع الأقلّ ضروريةً والأقل احتياجاً إليه رغم أنه قد يكون مقياساً جيداً لحالة التضخم الاقتصادي، إذا أخذنا الذهب أنموذجاً لوجدنا أن ليرة الذهب زمن الشاه والتي كانت تسمّى mمسكوكة خريف الحريةn كانت تساوي 500 تومان، أمّا مشابهتها الحالية والتي تسمى mمسكوكة ربيع الحريةn ارتفع سعرها 25 ضعفاً.

هـ ـ الرقابة: ذكرتُ في بداية هذه المقالة أنّ الرقابة الصارمة التي كانت تمارس في ظلّ النظام الملكي كانت واحدةً من أهمّ عوائق انتشار الكتاب، وعلى الأقلّ هذا بحسب تشخيصنا على المستوى النفسي والاجتماعي في ذلك العصر. ومن الحقائق الحلوة والمرّة في آن التي كشفتها الثورة أن السنتين الأوليتين من عمر الثورة؛ حيث لم يكن هناك أيّ جهاز يمارس الرقابة على النشر أدهشت كثيراً من المفكّرين الذين كانوا يدّعون أن الرقابة كانت تحول دون انتشار روائعهم وتبين لهم بل بهتوا عندما وجدوا أن الرقابة التي كانت تعمل على التضييق والمنع كانت تخدم وتروّج أكثر مما تمنع وتحجب، ومثال ذلك د. ساعدي الذي كان نشر الأعداد الأولى من مجلّة ألفباء في إيران تحت التهديدات وضغط الرقابة انتشرت أعماله في ذلك العهد أكثر ممّا انتشرت في عصر الحرية. ويبدو لي أن كثيراً من المفكّرين والكتّاب يلقون باللائمة على الرقابة لتبرير عجزهم وقصورهم، أمّا في العصر الحالي، فلا أدّعي عدم وجود رقابةٍ على الكتاب، إلا أنني أشهد أنّ هذه الرقابة لا تمارس عملها بقسوةٍ وغلظة، فمثلاً: إنّك تجد من بين ما ينشر في إيران دواوين عددٍ كبير من الشعراء من الشاعر أحمد شاملو إلى فروغ فرخزاد، وأعمال ماركس والمذكّرات السياسية لإيرج إسكندري وخليل مكي ومؤلّفات طبري وغيرهم. نعم لا يسمح بنشر دواوين عبيد وإيرج وعارف.

بلى، سُمِح لهذه الدواوين بالنشر مع حذف ما يقرب من ثلث كلّ منها، ولكن لا تجد أنّ لها عدداً كبيراً ممّن يُقبل على شرائها! ولا أعلم هل يوجد بين الكتّاب الإيرانيين من يحظر عليه النشر أم لا كما كان الحال في عصر ما قبل الثورة؟ لكن لا أستبعد أن بعض الكتّاب يعاني من بعض المشاكل في نشره لما يكتب، وبخاصة من المفكّرين العلمانيين الذين لم يهاجروا، وفضّلوا وفاء الوطن بل جفاءه على الجلاء عنه. وعلى أيّ حال، لا أعلم كم هو عدد الكتب التي يُمنع نشرها في العام أو تواجه مشكلةً رقابية حادة؛ أي فيها واحدة من المحظورات التالية: 1 ـ المخالفة الصريحة للشرع. 2 ـ المنافاة الصريحة للعفّة والخدش للحياء العام والأخلاق. 3 ـ المخالفة الصريحة لأسس الجمهورية الإسلامية.

ومن المسلّم أن أكثر من نصف الكتب التي تُنشر في إيران لا تواجه أيّ مشكلة مع الرقابة، ومن ذلك المعاجم والموسوعات وغيرها من المراجع، جميع المؤلفات العلمية التي ربما يبلغ حجمها 60% من مساحة النشر الإيراني. والباقي ـ أي ما بين 30 إلى 40 في المائة ـ مما ينشر، وأظنّ ـ ولا أعتمد إحصاءات دقيقة وإنما الحدس والتخمين ـ أنّ واحداً في المائة من ما ينشر في إيران يواجه مشكلةً رقابية، سواء في ذلك المشكلات التي تنحلّ أو لا تنحل، وأكثر ما يتعرّض لمشكلة الرقابة المنشورات السياسية والأدبية وخاصّة الروايات، وفي بعض الموارد حُلَّت الكثير من هذه المشاكل بالتراضي والتفاوض لمصلحة الناشر والكاتب. والحاصل أن الرقابة تُمارَس بشكل منهجي غير شخصاني إلى حدود بعيدة. ويعتقد كثيرون أنّ بقاء الأمور بهذا الشكل وحلّ موارد الاختلاف بالتفاوض والتراضي على طريقة أهل القرى حيث يحلّ مختار القرية كثيراً من مشاكلها بتوسيط أصحاب اللحى البيضاء، أفضل بدرجات من الاحتمال المقابل، أي السماح بالنشر وتحويل المخالفات إلى المحاكم.

و ـ نشر الكتاب والسياسة: يعدّ الكتاب ظاهرةً ومنتَجاً ثقافياً في العالم بشكل عام، وربما يكون في بعض الأحيان سياسياً، ككتاب الآيات الشيطانية لسلمان رشدي، أما في العالم الثاني والثالث، فالكتاب أكثر mسياسةًn منه في العالم الأول.

  لقد كان للثورة الإسلامية التي تعدّ أعظم الأحداث في التاريخ المعاصر لإيران، أكبر الأثر على عالم النشر والكتاب، من هنا كانت الأيام الأكثر حدّةً في تاريخ الثورة والتي انتهت بانتصارها، وكذلك الأشهر الأولى التي أعقبت الانتصار، كانت هذه الفترة من أكثر الفترات حرارةً في سوق النشر وعالم إنتاج الكتاب، ويمكن للمراقب ملاحظة التناسب بين حرارة الأوضاع السياسية وحرارة سوق النشر وبالعكس؛ ولذلك كانت السنوات الأولى من ستّينات التقويم الشمسي (أوائل ثمانينات التقويم الميلادي) حارةً تبعاً لحرارة وحِدَّة التحوّلات السياسية التي عصفت بإيران ما بعد الثورة، وطبق هذا التصوّر يُلاحظ المرء أنّ النصف الأول من عام 1368 هـ.ش/1989م، كان زمن mركودٍ كتابيn تبعاً للهدوء السياسي الذي مرّت به إيران، ويستند هذا التصور الذي نتبنّاه إلى أن حدّة التطوّرات السياسية تدعو أفراد المجتمع إلى الرغبة بالمعرفة والاطلاع للإحاطة بما يجري حولهم، وممّا يساعد على الربط بين الأمرين أن الكتاب في إيران يعدّ من أوثق مصادر المعرفة بالقياس إلى الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، وتفصيل القول في هذا الطرح يحتاج إلى مزيد من الكلام، يمنعني عن الخوض فيه قلّة البضاعة والجهل بالسياسة، ولعلّ من الأنسب أن يتابع هذا الأمر من لـه باعٌ أقوى في عالم السياسة والتحليل.

التقييم النهائي ــــــــــ

يعتقد كاتب هذه السطور أنّ النشر الإيراني قد مرّ بتحولات مهمّة في العقد الأخير؛ حيث تطوّرت تقنيات الطباعة وصار تنضيد الحروف بشكل يدوي شيئاً من الماضي، وربما لا يتجاوز ما يُنجز بهذه الطريقة البدائية ما نسبته 5% في المائة مما ينشر ويطبع، وولّى كذلك زمن الطباعة الحجرية، وأخلى الميدانَ لخليفته بالحقّ طباعة الأفست بحيث صار مصطلحي mالفيلم والزينكn من الكلمات المأنوسة حتى لغير ذوي الاختصاص في الطباعة.

وهكذا صار الناشر الإيراني يستخدم أحدث تقنيات الطباعة، ويطوي الكتاب مراحل ولادته من تنضيد الحروف إلى إخراجه الأول بشكل ملازم تتألّف الواحدة منها من 16 صفحة عادةً تطبع على ورقة واحدة، ثم بعد ذلك يتمّ التجليد بطريقةٍ آلية أو نصف آلية من خياطة الأوراق إلى تغليف الكتاب بالجلد والطباعة عليه إلى غير ذلك؛ بحيث تكاد تنقرض حرفة التجليد اليدوي كغيرها من الأشغال اليدوية المشابهة، وبكلمة مختصرة صارت صناعة النشر الإيرانية من الصناعات المتطوّرة التي تجذب مقداراً كبيراً من رؤوس الأموال والاستثمارات، تتوزّع على ما يقرب من ألف ناشر يديرون هذه العمليات في أرجاء البلاد.

والطفرة الأولى لصناعة الكتاب الإيراني كانت عند انتقال سوق النشر والناشرين من شوارع: ناصر خسرو، وبزرجهري، وبازار طهران، إلى منطقة شاه آباد. والخطوة أو القفزة الثانية كانت بالانتقال إلى الشارع الذي تقع فيه جامعة طهران؛ حيث يقع سوق الكتاب في الجهة المقابلة للجامعة، ذلك المكان الذي لا تصل شدّة الازدحام وكثرة الحركة فيه إلى مثلها في شوارع: نادري، واسطنبول، وفردوسي، ومنوتشهري، وسعدي؛ حيث سوق العملات الأجنبية والبورصة؛ إلا أنّ لسوق الكتاب نكهته الخاصة التي لا وجود لها في غيره، ويضفي على هذا العالم رونقاً خاصاً الباعةُ المتجوّلون الذين يسدّون المعابر على المارة بمتاجرهم التي تمتدّ على الأرصفة، وهم في حالة كرٍّ وفرّ دائمين مع شرطة البلدية.

ومن المبشّرات بالخير في تطوّر صناعة النشر الإيرانية الفصل بين الناشر والتاجر؛ إذ يساعد هذا الفصل في رواج الكتاب عبر شركات توزيع ناشطة تعمل على مستوى طهران وإيران..

وبنظرةٍ عامّة وكلية إلى عدد القراء، نجد أن الرهان على الشباب رهانٌ مربح، فبالرغم من هبوط مستوى التعليم الجامعي، إلا أنّ عدد الجامعيين مرتفع، وإذا أدخلنا في حسابنا التعليم الثانوي، فإن المستقبل يبدو أنه يحمل إلى قافلة القرّاء أعضاءً جدد يمكن التعويل عليهم، والعمّال عندهم من الهموم ما يكفيهم ويغنيهم عن الاهتمام بالكتاب ومتابعته، أمّا الموظفون فيمنعهم ـ أيضاً ـ ضيق ذات اليد عن السخاء بثمنٍ أكثر من كتابين في الشهر، وما أنكرناه من غلاء ثمنٍ في ما تقدّم يمكن تصنيفه من باب التفاؤل بالخير وتسلية الفؤاد، وإلا من يستطيع إنكار كون الكتاب سلعةً غالية الثمن لو نظر إليها وحدها (ولكن من باب النظر إلى النصف المليء من الكأس) وجدتني مضطراً إلى مقارنته بغيره من السلع؛ كي أخفّف وطأة الأمر على نفسي وعلى القارئ ربما.

وبعبارةٍ أخرى: نقبل أنّ الكتاب لم ترتفع قيمته بالقياس إلى 15 سنة مضت أكثر من أربعة أضعاف؛ أي أقلّ بكثير مما ارتفعت سائر السلع، لكن المأساة أنّ الدخل لم يرتفع بمعدّل أربعة أضعاف، ولو تضاعف بهذا المقدار فقد أتى عليه غلاء سائر السلع، وربما كان بقاء الكتاب أرخص من غيره من السلع من النعم التي تستحقّ شكراً خاصاً، وبحسب حافظ الشيرازي:

أيا حافظ ما دام الغم والسرور زائلان   فالأفضل لك أن تبقى مسرور الخاطر

وفي الختام، يمكن القول: إنّ صناعة النشر الإيرانية شهدت تطوّراً ملحوظاً في العقد الأخير، وبحمد الله مازالت الأمور تبشر بخير، وفي إيران اليوم لا يوازي الكتاب أو ينافسه من بين الظواهر الثقافية إلا السينما.

*   *     *

الهوامش

(*) أستاذ جامعي، من أشهر مترجمي الفكر الديني من اللغة الإنجليزية، له ترجمة للقرآن الكريم، متخصّص في الأدب الفارسي.

[1] ـــ التقرير المشار إليه في المتن: 267 ـ 269.

[2] ـــ عبد الرحيم أحمدي، نظري به آمار كتابهاي جابي در إيران (نظرة إلى إحصاءات النشر في إيران)، مجلّة سخن، الدورة 9، العدد2، أرديبهشت 1337: 168 ـ 177. عبد الرحيم أحمدي، نشر كتاب در إيران (نشر الكتاب في إيران)، مجلة راهنماي كتاب، الدورة 4، العدد 7، مهر 1340 هـ.ش: 578 ـ 584.

[3] ـــ بررسي كتابهاي ده سال أخير إيران، خبرنامه أنجمن كتابداران إيران (مجلّة أخبار الكتبيين في إيران)، الدورة 4، العدد 3، خريف 1350ش/1971م: 59 ـ 72.

[4] ـــ محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، اقتصاد بيمار كتاب (اقتصاد الكتاب المريض)، طهران، عطائي، 1347 هـ.ش/1968م.

[5] ـــ فرشته مولوي، وضعيّت كلّي صنعت نشر إيران (الوضع العام لصناعة النشر الإيرانية)، مجلة كيهان فرهنكي، العدد 8، السنة6، آبان 1368 هـ.ش/1989م: 34 ـ 37.

[6] ـــ تشبيهاً بالسنة الضوئية التي تساوي عدداً كبيراً من السنين العادية.

[7] ـــ تعبير مجازي يقصد به المؤلّف المساهمة في النشر وإعداد الكتاب.

[8] ـــ أنظر: دليل الناشرين الإيرانيين، إعداد مهري بريرخ، طهران مركز التوثيق والمستندات العلمية إيران، 1367هـ.ش/1988م، وقد جمع هذا الدليل أسماء الناشرين الإيرانيين وعناوينهم، سواء في ذلك الطهرانيّون منهم أو العاملون في سائر المحافظات الإيرانية، وذكر عناوينهم ورتّبهم على أساس ألفبائي، وقد عدّ منهم 919 ناشراً.

[9] ـــ يُشار إلى أنّ سعر صرف الدولار في السوق الإيرانية الحرّة يقرب من 850 تومان عام 2006م (المترجم).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً