أحدث المقالات

ترجمة: محمد علي النجفي

 

يهدف هذا البحث إلى تحديد مكانة الدول الإسلامية في النظام الدولي في مجالات الثروة والقدرة، وهو ما يتطلّب دراية المراحل التالية:

1 ــ الأسس العالمية للتنمية الثابته والشاملة، وهي: الانسجام الفكري، تدوين القوانين الاجتماعية، حجم زيادة الثروة الوطنية.

2 ــ ظروف العالم الإسلامي بالقياس إلى أسس التنمية.

3 ــ وفرة المواد الخام.

ثم نتحدّث عن التنمية السياسية ومتطلّباتها وشروطها.

الأسس العالمية للتنمية ـــــــ

طرحت خلال تاريخ التنمية منذ القرن الأخير مجموعة من الأسس المنهجية، البعيدة عن الأيديولوجيا والسياسة، والمستقلّة عن التيارات والرهبانية السلوكية والفكرية، ورغم أن طيفاً واسعاً من تلك الأسس يمكن إثباته ومناقشته، غير أننا اخترنا منها ما هو مهمّ وضرروي لهذه الدراسة.

أ ــ الانسجام الفكري

إنّ مثلّث: mحجم زيادة الثروة الوطنية، الانسجام الفكري، القوانين الاجتماعية المدوّنةn سيكون موضع اهتمامنا، وبعبارة أخرى، يجب على كلّ مجتمع يروم النمو أن يتناول أركان هذا المثلث بشكل متميّز، ورغم قدرة التيارات الفكرية والرأسمالية العالمية على التأثير في تقوية هذا المثلّث، لكن أسس وقوة حركة هذا المثلث داخلية، وترتبط بالتراكم المعرفي للأفراد، وإلاّ فاجتماع العقل الخارجي مع الجهل الداخلي لا يحقّق لنا التنمية، وعلى الأقل لا يحقّق المصداق المطلوب؛ فالدول التي أصبحت دولاً صناعية حديثاً تستفيد من الإمكانات الخارجية، إلاّ أن عقل النخبة المحلّية المحرك ــ من أصحاب القدرة والثروة ــ شرط أساس في التقدّم والبحث ضمن مثلث التنمية، وهذا ما يعود إلى بحث سابق تناولنا فيه تلك المفردات([1]).

والمقصود من الانسجام الفكري في مجتمعٍ ما وجود مفاهيم اقتصادية، سياسية وثقافية مشتركة بين الشخص المخطّط والشخص العامل، وعلى كلّ حال فالانسجام الفكري العام ضروريّ لتقدّم المجتمع، كما أن صياغة التصوّرات والإدراكات على شكل قضايا نظرية محدّدة شرطٌ لازم في العمل المشترك([2]).. والتراكم المعرفي إنما يتحقق بالعمل المنسجم([3]).

وبشكل عام، بما أن جميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعاني غطرسة دول العالم الأخرى؛ فإن مفاهيم: التعاون، العمل المشترك، الانسجام الفكري والمنهجي، التنظيم، تشكّل الأحزاب، الإرادة الجماعية للبلاد، ضعيفة جداً، وبكلمة أخرى، إنّ انسجامهم الفكري واستعدادهم الروحي غير مستعدّ لتقبّل الآخر أو العمل معه. والانسجام الفكري موضوع روحي يرتبط بالتربية، ولا يتحقق إلاّ بعشرات السنين، وربما بتداوم القرون. ويمكن هنا أيضاً في هذا الإطار الحديث عن فنّ الاستقطاب لجمع المصالح، فإذا اعتقد الأفراد والجماعات أن ما يعملونه من أجل المجتمع فسيعملون سويّةً لتحقيق المصالح العامة أو مصالح الجماعة ــ الفرد. وهذا مبدأ ضروري ليس للتنمية فحسب، وإنما لكلّ شيء، فالمشكلة التي تعاني منها بعض الدول ــ ولاسيما الدول الإسلامية ــ وهي تمارس التنمية، تكمن في عدم وجود دافع للمشاركة في الأعمال العامّة والحكومية، ومعدّل اللهو والعبث في الدنيا عندهم يتراوح بين الصفر والمئة، ولا يجيدون فنّ توزيع الأعمال، والثروة والسلطة وأمثال ذلك، أو أن هذه الأشياء ضعيفة جداً عندهم([4])، فتحصيل الثروة أو السلطة لهما قواعد عقلية، وهناك طريقان معروفان لتحصيلهما: النظام الديموقراطي أو الرأسمالي.

والدليل المهم على التقدّم النسبي في الشرق الأقصى هو تحقّق الانسجام الفكري الذي كان سابقاً مجرّد استعداد ثقافي، أمّا الآن فقد تجسّد في فاعلية الرأسمال الحكومي وتفرّعاته.

إن عبارة: (حوار الطرشان) اصطلاح يطلق على حوار الأفراد الذين لا يستمع بعضهم إلى بعضهم الآخر، فالاهتمام بكلام الآخرين واستيعابه والمواظبة على هذا النمط من التربية بحاجة إلى استعداد ومنهج عقلي، فالشخص الذي ليس له عمل عقلي وفكري إنّما لديه استعداد للتلقّي والاستماع نتيجةً للتربية الاجتماعية والعامة، سيحقّق تنميةً عقلية ملحوظة، والتنمية العقلية مصطلح معقّد لكنه غير مستحيل، أي أنّ الإنسان قادرٌ على الاستفادة منها من داخل العقل.

إن الانسجام الفكري يمكن أن يكون نمطاً من التربية، كما يمكن أن يتحوّل إلى نوع من الغريزة، ويمكن للأفراد تحقيق ذلك دون استهلاك أيّ طاقة؛ فالمجتمعات التي لها حدود ثقافية واقتصادية واجتماعية واضحة بين الناس، ينمو لديها العقل والعقلانية والسلوك العقلاني بشكل أفضل وأسرع وطبيعي، أمّا في الثقافات التي اعتادها المسلمون جميعهم فإن الأساس في وجود الصلة والعلاقة مع الآخر وعدم وجودها هو الأهلية والجدارة، دون الحدود العقلية([5])، والأهلية تلغي البرهان والاعتراض، وتعتبر التبعية ملاكاً للعلاقة، وفي ظلّ هذه الظروف لن يقع الانسجام الفكري بشكل طبيعي ودون تدخّل أجنبي، بل إن عمدة التاريخ البشري قد صيغ على أساس التبعيّة والأهلية، وقد طرأ التحوّل على تلك الحالة في القرون الأخيرة لتقوم العلاقة على أساس المهارة والقدرة والتخصّص([6]).

ينبغي للمجتمعات التي تطلب التنمية أن تتمتّع بهيكلية اجتماعية يتعهّد جميع الأفراد تجاهها تنظيمياً وثقافياً وسلوكياً؛ فظاهرة النموّ والتنمية المتباينة في العالم الثالث مردّها إلى فقدان الهيكلية الاجتماعية. فقد تنامت البلدان ذات الهيكلية المنسجمة، أمّا القسم الآخر من تلك البلدان التي بقيت في محيط ضيّق فقد ظلّت متخلّفة، وعندما نقارن التنمية الجديدة بالنموّ التجاري السابق نلاحظ اتصاف الأولى بالتنظيم، وتقام العلاقات الفكرية للإنسان وفق حسابات دقيقة لتسوية الخلافات الإنتاجية والمالية وغيرهما. والعالم الثالث يستفيد من تلك التنظيمات العقلية الجديدة إلاّ أنه لا يملكها؛ لأنها لا تحصل بسهولة، والحصول عليها فيه نوعٌ من العقلانية. فالعالم الثالث اقتبس تنظيمات صورية مثل: مدير عام، معاون، خبير، محقّق، مخطّط، وغير ذلك، إلاّ أنه لم يقتبس محتوى تلك التنظيمات الذي يشكّل أساس العلاقة الفكرية والعقلية للمغايرة بينها([7]).

إنّ الإنتاج والتنظيمات الاجتماعية الجديدة تحتاج إلى علاقات خاصة، بيد أن تلك العلاقات لم تشاهد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل خاصّ، فالإنسان في هذه المنطقة غارقٌ في نفسه وينمو اجتماعياً في ظلّ الاختلال الأمني، والضعف، والجهل؛ من هنا يجب على الجميع في ظلّ حياةٍ غير آمنة أن يخلّصوا أنفسهم، فهم ضعفاء في معرفة حدودهم واستعداداتهم وقيمتهم وقدراتهم وتخصّصهم.

إن تجسير العلاقة لا يتحقّق للأفراد الجالسين في أقبية الغرف والردهات، وإنما عن طريق الصفات الوراثية المتولّدة في وسط الأمّة، أو قيام الدولة بترتيبه؛ إذاً فالتنمية فنّ إيجاد العلاقات العقلية بين الأفراد بهدف تحقيق مصالحهم المشتركة.

ب ــ القوانين الاجتماعية المدوّنة

الركن الثاني من أركان مثلث التنمية هو القوانين الاجتماعية المدوّنة؛ فكلّ شيء يجب أن يكون مكتوباً ومدوّناً في نظام التنمية الجديد؛ لأنّ الأفراد يرجعون عادةً ــ لا دائماً ــ إلى الأطر والاتفاقات، وهذا دليلٌ على سيادة علم الحقوق وسيطرته على جميع شؤون الحياة، وقوانين المجتمع هي نتاجُ ما اتفقت عليه النخبة الفكرية والنخبة الفاعلة([8])، وقرارات المجتمع بمنـزلة العقد. وليس مرادنا من القرارات هنا الدستور بل جزئياته، مثل: اتفاق المسؤولين على خلق الروح الوطنية، وفهم الماضي والمستقبل، وطبيعة الثقافة العالمية، والفرص، والإمكانيات، والاستعدادات، وغيرها، فهذه الاتفاقيات والموضوعات المدوّنة ليست أبديةً، بل تتعرّض دائماً للنقد والتقويم، إنّما على أساس التوافق والتفاهم، وعندما يعمل المنفّذون طبقاً لقواعد العمل ويحترمون الاتفاقات والمقرّرات الممضاة يمكنهم حينئذٍ تقديم عمل واضح، متسلسل، متصاعد، وقابل للتنمية، فالقوانين الاجتماعية المدوّنة ركنٌ أساس لتقدّم المجتمع؛ لأنّ ذلك يزيد من توقّعات الإنسان، ويجعله هادئ النفس ومندفعاً إلى العمل بسبب اطمئنانه بالقوانين والقواعد والقرارات السائدة؛ فالقرارات وانسجام الأفكار يقوّي أحدهما الآخر، ولهما آثار إيجابية ومتبادلة فيما بينهما.

أمّا العاملان المؤثران في صياغة القوانين الاجتماعية فهما: أ ــ اتفاق الآراء. ب ــ العلمية؛ فهذان العاملان يرتبطان ــ حقيقةً ــ بالأسس العقلية للتنمية([9]).

إن القوانين الاجتماعية المدوّنة تمثل نتيجاً لاتفاق الآراء بين المجموعات المتنفذة في المجتمع، وقد وجدت على أسس واقعية، مجرّبة، علمية، وعقلية، وينبغي أن يكون اتفاق الآراء قائماً على ثقافة غير شخصية وبعيدة عن المصالح الذاتية والأنانية، وذلك لكي تصاغ تلك الرؤى وفق المصالح العامة.

وفي الحقيقة، يجب أن تتوافر وحدة الرأي على مستوى عالٍ من العقلانية؛ لأن أغلب المستويات المحافظة تنطوي على عقل جمعي وفهم منافس، والحقيقة أن صياغة القوانين الاجتماعية هي نتيجة وليست كتاباً رسمياً، أو خطبة، أو تأتي عن طريق الاجتماعات.

إن اتفاق الآراء يديم الهيكلية الاجتماعية، ويدفع الأفراد للعمل داخل مدار ذي مركز واضح، فتكون النتائج لديهم واضحة، غير أن الأفكار والهيكليات في العالم الثالث طافية لا تترتب عليها ضوابط ثابتة؛ ولهذا السبب لم ينتقل العالم الثالث ــ نفسياً ــ إلى العصر الجديد، والعلم هو الأداة الأولى لتحقيق اتفاق الآراء وصياغة القوانين الاجتماعية، والإنسان العلمي هو من يكون منظماً، قد حقّق نمواً عقلياً.

والملاحظ في المجتمعات ذات القوانين الاجتماعية وجود نوعٍ من الاتحاد؛ فالمجتمع ينتمي إلى قاعدة واحدة ويتبع قوانين واضحة([10]).

ولكي لا يعمل الأفراد وفقاً لأذواقهم، يجب أن لا يكون النظام الاجتماعي مبهماً في نفسه، حتى يتبعوا أصولاً معروفةً لدى الجميع؛ فالتنمية في العصر الحديث، سواء كانت بالمفهوم الغربي أو بمفهوم أغلب الدول الصناعية حديثاً في الشرق الأقصى أو أمريكا اللاتينية، قد أوجدت تجانساً فكرياً واتفاقاً في الرأي، والجدل القائم الآن بين المفكّرين والسياسيين والمقنّنين، ليس حول أهمية الثروة وتراكمها، وهل أن التنظيم والقانون مهمّان أم لا؟ وهل يجب احترام العقل أم لا؟ وهل أن التقنين ضروري أم لا؟ وأمثال ذلك، إنّما حول الجزئيات والمناهج والاتجاهات، لا حول القضايا الأساسيّة، فالنظام الاجتماعي المقنن الذي يحتاج إلى النخبة والمجتمع يجعل الحياة جدية، والزمان مقدّساً، ويصبح المستقبل مهماً عنده، ويزداد الاهتمام بالمجال العلمي والتخطيط والمتابعة والرقابة، فالتفكير المتردي ــ في الغرف المغلقة ــ لا يؤثر في العصر الحديث ولا يحقّق النموّ والتنمية المطلوبة.

ج ــ حجم زيادة الثروة الوطنية

حجم زيادة الثروة الوطنية هو الركن الثالث من أركان مثلث التنمية، وذلك على ضوء توقّعات المواطنين في جميع دول العالم والتي أخذت بالتزايد ممّا اضطر الحكومات إلى اتخاذ إجراءات مناسبة لضمان موارد مختلفة، من أجل تأمين الحاجات العامة، والتطلّعات المنتظرة، فضمان الحاجات أصبح اليوم بمنـزلة الأداة المهمة لمشروعية تأمين الموارد المختلفة في جميع أنحاء العالم؛ فكلّ دولة تسعى ــ في ظلّ ظروفها الحالية ــ إلى تنويع الواردات، زيادة الدخل القومي، رفع المستوى المعيشي للفرد؛ كي تتمكّن من اللحاق بالركب العالمي.

إن إيجاد مكانة مناسبة لحياة وبيئة نامية، وسياسة وطنية تتناسب مع الظروف السياسية والثقافية والجغرافية للبلاد، واتخاذ سياسات وأدوات تنفيذية دقيقة وفعّالة وثابتة، تعدّ العناصر الثلاثة المهمّة في عملية التخطيط الوطني. وبكلمة أخرى، إنّ مصطلح الدولة الفعّالة ــ وحتى المشروعة بلحاظ أدواتها ــ يطلق على الدولة القادرة على زيادة رصيد الشعب وتنظيم حياته لتكون أكثر ثباتاً، وذلك عن طريق إقامة علاقات دولية مناسبة ومعقولة، واتخاذ سياسات اقتصادية وهيكلية إدارية منظّمة.

فالإنسان في عالم اليوم مشدودٌ إلى القضايا الاقتصادية الترفيهية بشكل مطلق: الجيدة والسيئة، الإيجابية والسلبية، المعقولة وغير المعقولة([11])؛ لذا على الدولة أن تفكّر أين تخطو على طريق زيادة الثروة الوطنية؟ وهنا نلاحظ الاختلاف من دولةٍ إلى أخرى، ومن هيكل اجتماعي إلى آخر، فهناك المئات من المتغيّرات تتدخّل في نجاح السياسات الاقتصادية.

أمّا أهمّ الأساليب الشائعة في العالم الثالث لتحقيق هذا الهدف، فهي: العمل في مدارات الرأسمالية العالمية، والاستفادة من رؤوس الأموال المتعدّدة لها، ومحاولة الحصول على مصادر متنوّعة منها، والمساهمة في الإنتاج الصناعي العالمي، واعتماد الخصخصة، أمّا أنّه هل توجد طرق أخرى لتعزيز الثروة الوطنية أم لا؟ فهذا خارجٌ عن اختصاص هذا البحث؛ لأن الهدف هنا إنّما هو معرفة السبل العالمية في هذا المجال.

وما طرحناه في المثلّث المتقدم، يمثل العناصر الأساسية للتنمية القائمة اليوم في العالم، باعتبارها الأسس الثابتة، وهذه المبادئ تتحكّم في التنمية والثقافة التنموية بشكلٍ كبير جداً؛ فكل دولة تسعى ــ بشكلٍ أو بآخر، وبما يناسب خصوصياتها ــ لتحقيق قسمٍ من هذه الأطر والمبادىء، ويمكن لنا أن نعتبر هذه المجموعة من الأطر حصيلة تجارب الإنسانية جمعاء.

العالم الإسلامي ومبادئ التنمية ـــــــ

نحاول هنا تطبيق مبادئ التنمية الثابتة ــ عالمياً ــ على أوضاع دول العالم الإسلامي، وذلك:

أ ــ الانسجام الفكري في العالم الإسلامي

اتّسم فكر الإنسان في منطقةٍ واسعة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط ــ العربي وغير العربي ــ بالتجرّد والعمل الفردي؛ وذلك بسبب الاستبداد التاريخي المهيمن هناك؛ فالناس في هذه المنطقة لا يجيدون فنّ العلاقات الفكرية، كما أنهم غير قادرين على إرساء علاقات فكرية وجسور عقلية بعضهم مع بعض، بل حتّى الشكل الغريزي لهذه العلاقات غير موجود؛ فعلاقات الناس ــ بشكل عام ــ تقتصر على المجاملات العاطفية والشعورية والعائلية، أو تماشياً مع الروابط الحزبية والسياسية.

إنّ الانسجام الفكري أساس لتراكم المصالح، وبعبارة أخرى، إنّ قوّة البرهان لا تتشكّل من شخصين أو عدّة أشخاص، ولا تكون ضعيفةً بذلك، فإذا قبل الشخص وجهة نظر الآخر، الذي تربطه به علاقة عمل أو علاقة اجتماعية واحدة، فإنّ قبول الآخر سيولّد شعوراً بتناقص الأنانية، وإلا فإمّا أن يقيم كلّ شخص براهينه بنفسه، وهذا نادر، أو يشارك في تشكيل رأي الأكثرية([12]).

هذه الخصائص موجودةٌ في العالم العربي، ووسط المسلمين غير العرب، لكن ينبغي أن نقول: إنّ هذه الثقافة غير المعقولة لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، وإنما تعبّر عن إفراز للثقافة المتكوّنة في ظلّ الأنظمة السياسية المختلفة عبر التاريخ.

إنّ استبداد الحاكم في الشرق الأوسط، وبالأخص في هذه المنطقة، أغرق الناس في همومهم ومصالحهم وعلاقاتهم وأذواقهم الشخصية، ولم يسمح لأحد بالمشاركة خارج هذا الإطار، فقد اعتاد الناس هذه الحالة على امتداد التاريخ.

أمّا الفردية في الدول الصناعية، فهي تكتسب طابعاً آخر؛ إذ تعني اكتشاف الذات وفهمها، فعندما يدخل الشخص المجتمعَ ويعمل ضمن إطار مؤسسة أو دائرة محدّدة، ستكون له حصّة في ذلك تتناسب مع قدرته وحدوده القانونية، وهذا التنظيم الاجتماعي والفردي لم يسُد حياة المسلمين، بل أدّى إلى الخمول العام، فالأفراد في هذه المجتمعات ينظرون إلى محيطهم نظرةً سيئة، وهي نظرة ذات جذور قديمة تراكمت عبر التاريخ([13])، وأكثر المواطنين لا يعتبرون حياتهم طبيعيّةً، بل ويرغبون في انتهائها، كما لا تجد من اعتاد عليها بشكل دائم، إضافةً إلى أنها تشكّل وسطاً غير آمن، لهذا نجد الأكثرية تسعى لكي تكون هناك مسافة بينها وبين الآخرين، وأن لا يجعلوا حياتهم الخاصّة عامةً، وفي مثل هذه الظروف لا يرقى الأفراد إلى مرحلة وجود علاقات عقلية وفكرية، بل يتحوّل المجتمع إلى مجاميع من الأفراد، فيُسلب من الإنسان قدرٌ من ذكائه وقدراته وعلاقاته المتقطّعة، فلا ينتج من ثروته ثروةً جديدة، ولا يطوّر شخصيته، بل يُعتبر الإبداع والاستعداد خطراً.

إن الانسجام الفكري إفراز للبيئة الآمنة، حيث يغدو العقل قيمةً، فيما يطالب الإنسان بهمّة أكبر ونشاط أوسع.

ومن الأسباب الأخرى التي تؤخّر الانسجام الفكري، الدور الكبير للدولة، فأغلب الدول في البلدان الإسلامية مستبدّة، حيث يتقدّم أمن الدولة على الأمن الوطني والاجتماعي، وكلّ تفكير أو تحرّك أو إعلام يزعزع الأسس الفكرية والسياسية للحكّام يعدّ تهديداً للأمن الوطني([14]).

إنّ الدولة وثبات الأمن يمكن أن يؤثرا في الفرد الذي يعيش وسط هذه الأمة، وما لم تحدّد المسؤولية الأمنية، فإنّ أمن المجموعات والأفراد سيظلّ قلقاً؛ فبعض الناس في شمال أفريقيا والشرق الأوسط يتسلّمون مقاليد الحكم، وهم في عمر الثلاثين، ممّا يؤدي ــ تقريباً ــ إلى حصول خمول وقتل للإبداع في النظم السياسية.

وبسبب سيادة الوضع الأمني وهيمنته، يصبح السفر خارج المنطقة بالنسبة للمواطنين أسهل بكثير من السفر داخل المنطقة نفسها؛ فالمواطن المصري ــ على فرض المثال ــ يتمكّن من السفر بسهولة إلى فرنسا وألمانيا فيما يكون السفر إلى السعودية في درجة تالية، والمواطن الإيراني يسافر بسهولة إلى أوروبا والشرق الأقصى، ومن ثم السعودية والجزائر.

إن سيادة الفكر الحكومي والمصالح الحكومية والأولويات الحكومية والقيم الحكومية كانت السبب وراء تجذّر النزعة الذاتية وتعطيل الطاقات، كما أن خوف الناس من النتائج الوخيمة المترتبة على إبداء آرائهم وأفكارهم وتأكيد الذات وطرح وجهات النظر بشكل كبير وواسع، أدى إلى اقتصار النشاط الفردي على القضايا الغريزية، مع عدم التفكير بالقدرات الوطنية، والنموّ العام، والمشاركة على مستوى القضايا الدولية، وتنشيط القوى المختلفة([15]).

إنّ الانسجام الفكري، بالإضافة إلى كونه موضوعاً عقلياً ينتهي إلى استنتاجات عقلية، إلا أنّه يعتبر نوعاً من ارتباط الإنسان بالآخرين، أمّا في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فإنّ الناس تفسّر العلاقات واللقاءات نوعاً من الارتباط الحزبي أو المنظماتي، ولا ترى الحرية والتفكير منتسبين للفرد نفسه، فالفرد يواجه صعوبة في تكوين علاقة مع الآخر، والهيكل الطبقي في المجتمع يقسّم المواطنين عادةً حسب خلفيّاتهم الفكرية ومصالحهم الخاصة ورغباتهم المختلفة، فيصبح غير موثوق به عند الناس في هذه المنطقة؛ ومن الطبيعي حينئذٍ فشل العلاقات والعمل الجماعي في وسطٍ قائم على عدم الثقة، كما أن المنظمات والتشكيلات والمجموعات القادرة على العمل المشترك عادةً وعلى التوفيق في وجهات النظر وتأليف الانسجام العقلي والفكري، لا وجود لها.

إنّ القدرة تتبع العمل الوظيفي والطاقات الشخصية، غير أن المؤسف أن القدرة في الدول الإسلامية تتبع السلطة، والإرادة هي الأساس لا البراعة، لذا يجب أن تكون حركة الأفراد قائمةً على أساس اهتماماتهم وإمكاناتهم، بل هي الإفراز الحقيقي للعلاقات السياسية.

إنّ الأفكار المتزلزلة تتسبّب في حصول عدم انسجام بين حركة التصنيع والثوابت الاجتماعية، فهذه المجتمعات مبتلاة بسوء الظن القائم بين الأفراد والمنظّمات المستقلة، لهذا فإن نظام البلاد والوطن لا يتطوّر في هذه المنطقة أو يتطوّر بشكل بطيء أو متلكئ، وهذا دليل على تقدّم الأولويات الشخصية والجانبية، إنّ الانسجام الفكري هو نتاج المجتمع المنظم الذي تخلّص من الأزمات الناتجة عن الاختلاف الفكري([16]).

ب ــ القوانين الاجتماعية المدوّنة في العالم الإسلامي

كل شيء في الدول الإسلامية ــ بشكل عام ــ لا يبعث على الاطمئنان: السياسة، السياسيّون، العلاقات الشخصية، الأفكار، القوانين، المبادئ الفكرية، المسودات القانونية، القرارات، كما أن أكثر القضايا تحلّ بشكل شخصي، وإدارة الدولة في هذا القسم من العالم شفهيّة بشكل معمّق، وهذا المنهج في إدارة الدولة يؤدي إلى زيادة تسلّط الأفراد على الآخرين، فإذا كانت القوانين والمبادئ والخطط لدولةٍ ما مكتوبةً، فسيتّبع الأفراد تلك القوانين، وستكون المبادئ المدوّنة هي الأساس وليس الأفراد.

ويمكن أن يقال: إنّ الأفراد في هذه المنطقة يتلذّذون بالتفرّد بالإدارة، ويعتقدون أنّ الاستبداد هو المنهج الوحيد لإدارة البلاد([17]).

من هنا، فإن القوانين الاجتماعية واتفاق الآراء في الثقافة الاجتماعية والسياسية لمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط ــ العربي وغير العربي ــ والتي ينبغي أن تعطي الأولوية لاتفاق الآراء.. غير قادرة على تحقيق موقع لها؛ فإذا اتفقت الآراء فستعمل العلاقات الشخصية والمؤسّساتية، التي تعتمد القوانين، والدراسات، والتقارير، والمعرفة، والمصلحة العامة، ورأي الأكثرية، تلقائياً، واتفاق الآراء يمثل حصيلة البحث والاستجابة، ويؤدّي إلى تضاؤل الأذواق والميول والمصالح الشخصية، إنّ اتفاق الآراء عملٌ حضاري وثقافة عقلية عالية، لكنّ هناك من يعتقد أنه نقطة ضعف.

وبموازاة اتفاق الآراء، هناك المعرفة العلميّة، فالمنطقة تشتمل على ظواهر ومراكز علمية كثيرة، لكن التمثيل العلمي العالمي قليل، لاسيما بين المتصدّين للسلطة، أمّا مشاركة هذه المنطقة عالمياً فهي لا تتناسب ــ لا كمّاً ولا كيفاً ــ مع مساحتها وعدد سكانها وهويّتها وتاريخها، كما أنّ فقدان الأمن الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدّى إلى غياب دور العلماء والباحثين، كذلك الحال في ضعف الساحة السياسية فقد شكّل سبباً لحصول ركود علمي، مصحوب بيأس من النشاطات العلمية.

وفي الظروف العالمية الجديدة، وحتى في دول الشرق الأوسط وآسيا، هناك ثلاثة مجاميع تعمل لتنشيط التنظيم الاجتماعي وزيادة الاستفادة من النشاطات الواسعة، وفي مدار واحد، وهي: السياسيون، وأصحاب الصناعات، والباحثون، فالعلم في شمال أفريقيا والمناطق الإسلامية الأخرى لم يُستخدم في الصناعة وحلّ مشاكل المجتمع، مع أنّه حلاّل المشاكل، كما أن الحدود بينه وبين الدين من جهة، وبين التنظيم الاجتماعي والثوابت السياسية من جهة أخرى، ما تزال غير واضحة([18]).

وعليه؛ فالتحرّك باتجاه تدوين القوانين الاجتماعية والاستفادة من العلم واتفاق الآراء، ضرورة لتحقيق التقدّم باتجاه الأهداف.

ج ــ حجم زيادة الثروة الوطنية في العالم الإسلامي

في المتغيّر الثالث، لابد أن نذكر أولاً أنّ هذا الهدف بحاجة إلى وسط اجتماعي متطوّر، ووسط ثقافي وسياسي، وهو غير متوافر في أكثر البلدان الإسلامية؛ فالثقافة العامة في أغلب هذه الدول لا تولي النشاط الاقتصادي الذي يحقّق موقفاً سياسياً أيّ اهتمام، أمّا في النظام الدولي الحالي فإن صادرات الدولة تعدّ مؤثراً في السلطة الوطنية الإقليمية والعالمية، بقطع النظر عن مساحة تلك الدولة وعدد سكانها؛ فموقع الدول الإسلامية في العلم والاقتصاد والصناعة مايزال ضعيفاً جداً.

إنّ الصادرات غير النفطية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ذات الـ (260) مليون نسمة، أقلّ من فنلندا ذات الـ (5) ملايين([19])، وفي عام 1985م حينما حقّقت منطقة شرق آسيا وجنوب أفريقيا (6و3,5) بالمئة نموّاً في دخل الفرد، كانت هذه المنطقة قد سجّلت هبوطاً في دخله قدره (3) بالمئة([20]).

كما أنّ (7 ــ 8) بالمئة من المبادلات التجارية للدول الإسلامية تجري فيما بينها([21])، ومستوى التبادل التجاري مع الدول الخارجية ضعيف، لكنّ دول الخليج الفارسي لها مبادلات تجارية دولية أكبر، وقد بلغت ثرواتها خارج بلادها قرابة (350) مليار دولار([22]).

وبلغ معدّل النموّ في الدول الإسلامية (4) بالمئة في عام 1993م، إلاّ أنّه تدنّى إلى (3,5) في عام 1995([23])، وبلغت ديون الدول الإسلامية (344) مليار دولار([24])، وباستثناء ماليزيا التي احتفظت باستثمارات يابانية تشكّل نسبة (1) بالمئة من الاستثمارات العالمية الخاصّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا([25])، فإنّ الظروف الداخلية العامّة لكثير من هذه الدول غير مستعدّة لتنمية الاستثمارات الداخلية والخارجية، كما أنّ تفشي الروتين والسياسة الاقتصادية المتزلزلة، والسياسة المضطربة، أدى إلى تسرّب رؤوس الأموال وهربها إلى مناطق في العالم أكثر ثباتاً واستقراراً، مثل الشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية، كما أنّ قلّة أو فقدان الاستثمارات أدّيا إلى ظهور التضخّم وفقدان السيطرة في عدد من الدول الإسلامية، لاسيما منطقة الشرق الأوسط، وفي حين سجّلت دول شرق آسيا عام 1995 ارتفاعاً في الاعتمادات الوطنية قدره (15) بالمئة، كانت الدول الإسلامية قد سجّلت تنازلاً قدره (3 و5) بالمئة([26])، ويمكن مراجعة بعض الجداول المعدّة لذلك([27]).

من جانبٍ آخر، كان النموّ السكاني في وسط المسلمين أكثر منه في المناطق الأخرى، ومعدّل أعمار نصف السكان دون (15) سنة تقريباً([28])، وهذا الصاعد المضطرد سيعرّض هذه الدول إلى أزمات حقيقية في المستقبل، كقضايا التعليم والخدمات العامّة وغير ذلك، و (60) بالمئة من العاطلين عن العمل في هذه المنطقة يبحثون عن عمل لأول مرة، ومعدّل البطالة بين المسلمين (10) بالمئة، أمّا في الجزائر، فالملاحظ أنّ معدّل البطالة هو (22) بالمئة، وفي الظروف التي يحقق فيها النموّ السكاني ارتفاعاً قدره (27) بالمئة ويقدّر ارتفاع نموّ الأيدي العاملة (3,3)، فسيدخل سوق العمل حتى عام 2010 حدود (47) مليون شخص([29]).

ان هذه الإحصاءات تؤكّد الحقيقة التالية وهي: إنّ العالم الإسلامي سيواجه في المستقبل أزمات إدارية واقتصادية واجتماعية وتخطيطيّة حقيقية، وإذا اعتبرنا الإنتاج والإبداع الفكري، والروحية المتجدّدة، قوامَ بنية الثقافة والسياسة، فجميع المجتمعات الإسلامية تفتقر إلى ذلك، باستثناء ماليزيا التي استفادت من ظروفها الإيجابية الخاصّة، أمّا معدّل النموّ وكيفية التنمية في الدول الإسلامية فهي دون حدّ الوسط.

النظام الدولي والتنمية ـــــــ

نبحث هنا دور النظام الدولي في تنمية العالم الإسلامي، إذ يفترق العالم الإسلامي عن المناطق النامية الأخرى، في الثقافة والعقائد والآمال الثقافية؛ فدول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، التي حقّقت نمواً ملحوظاً في العقدين الأخيرين، والتي تعدّ من أهم المناطق في جذب رؤوس الأموال، بعد دول الغرب الصناعية، ليس لها طموح ثقافي أو آمال ثقافية، ولا تدعو إلى التفكيك بين الثقافة المحلية والثقافة السائدة في العالم، ورغم أنّ القومية الثقافية جاءت من قبل التيارات العالمية خلال فترة انهيار الاتحاد السوفياتي، إلاّ أنّ الثقافة المحلّية في البلدان النامية كانت فاعلةً بواسطة النخبة الفكرية فيها.

ثم إنّ النشاطات السياسية والاقتصادية في الدول تُغذى من الثقافة الاقتصادية ومن مركز ثقل القوى الصناعية في أوروبا وشمال أمريكا واليابان، كما أنّ اختلاف ثقافة العالم الإسلامي مع الثقافة العالمية، لا سيما الغرب، في اعتماد مناهج تنظيم العلاقات مع العالم الخارجي، حال دون وضع سياسة موحّدة أو سياسة وطنية منسجمة في إطار الدول، أمّا أهم المناهج المعتمدة في ذلك، فهي التفكيك بين العلاقات الثقافية والسياسية والاقتصادية.

إنّ كثيراً من الدول العربية وتركيا وباكستان فكّكت بين العلاقات السياسية والاقتصادية الخارجية من أجل الموازنة مع التيارات الثقافية والسياسية الداخلية، وفي الحقيقة فإنّ العديد من المجتمعات الإسلامية عادت ــ بسبب تحولات العقود الثلاثة الأخيرة ــ إلى ثقافتها الدينية والمحلّية، غير أنّ هذا الرجوع يختلف من بلد إلى آخر من حيث السعة والمحتوى، لكن الخصوصية المشتركة بينها هي أن العودة في أغلب الدول وبشكل واسع كانت إلى القوانين الدينية والعلاقات العائلية القائمة على أسس دينية.

وبعد هذه المقدمة نطرح عدة أسئلة لمعرفة العوامل المؤثرة على التنمية في العالم الإسلامي والنظام الدولي:

1 ــ هل أنّ الاستقلال الثقافي الجزئي ممكن من دون قدرة اقتصادية؟

2 ــ هل العالم الإسلامي ــ الأحزاب الفاعلة في الساحة والدول ــ جدير بالتخطيط لتحقيق مكانة رفيعة لقدرات المسلمين السياسية في البلدان الإسلامية، وبصورة غير مباشرة للمسلمين في الدول غير الإسلامية؟

3 ــ هل تستطيع الدول الإسلامية تحقيق التنمية العامة من دون رأس مال وأسواق غربية لشراء الموادّ الخام؟

4 ــ ما هو مستوى التفاهم بين الدول الإسلامية والغرب حول التنمية الثقافية والاقتصادية؟

5 ــ إذا وسّعنا مفهوم التنمية ليشمل البُعد الحضاري، فهل تبادل وجهات النظر بين المفكّرين والسياسيين الحكوميين المسلمين بالمستوى المطلوب من حيث شكل ومحتوى التخطيط لحركة انتقالية من الوضع الحالي إلى الوضع المطلوب؟

إنّ الشيء المتفق عليه هو أن المسلمين ضعفاء، سواء عند المقارنة بينهم وبين الدول النامية الأخرى، أو في مقابل الغرب، والعالم العربي بالخصوص في غاية الضعف؛ لأنّ أغلب الدول العربية مرتبطة ــ بشكل أو بآخر ــ ارتباطاً سياسياً واقتصادياً قويّاً بالغرب، أمّا تركيا فهي وإن كانت مشمولةً بالظروف المتقدمة إلاّ أنّها استطاعت أن تحقّق نمواً سياسياً أجبر الغرب على الاعتراف بها، فيما ظلّت باكستان ضعيفةً اقتصادياً جداً، لكنها من الناحية السياسية تعمل بالتعاون مع الغرب.

إضافةً إلى أن أزمة الشرعية والأمن المحيطة بدول القوقاز، وآسيا الوسطى جعل هذه الدول تدور في فلك روسيا سابقاً والغرب حالياً، فيما ابتليت أفغانستان بحرب داخلية. واعتبر المسلمون في الهند قوّةً ثانوية، كما أن بنغلادش، وهو البلد الإسلامي ذو الكثافة السكانية العالية مازال محاطاً بالأزمات، وقد خطت أندونيسيا خطوات واسعة على طريق التنمية إلاّ أن التفاوت الطبقي الفاحش فيها وأزمة الشرعية والفقر المتزايد، وضع هذه الدولة الإسلامية، الأكبر من حيث عدد السكّان، في مواجهة أزمات حقيقية، فيما تعدّ ماليزيا ذات الكثافة السكّانية المتوسطة ــ كاليابان في منطقة آسيا ــ من مراكز جذب رؤوس الأموال الخارجية، وهي إن كانت من الدول الجيدة بقياس الدول الصناعية حديثاً، وتصنّف دولةً صناعية، إلاّ أنّها ستواجه في المستقبل أزمات اجتماعية وثقافية وتعليمية وسياسية.

من المؤسف، شئنا أم أبينا، أن المدار العالمي في الوقت الحاضر هو مدار غربي، وبيده الاقتصاد والإعلام والاتصالات والسياسة العالمية، وحينما يدور الجدل في العالم الإسلامي حول السياسة والثقافة على أسس دينية، فلا يوجد بين أمريكا وأوروبا خلاف حول الموضوع، فالأوربيون يقبلون الثقافة المحلّية التي لا تتعارض مع المبادلات الاقتصادية، كما أنّ الثقافة والسياسة والاقتصاد في أمريكا تقع جميعها في سياق واحد ورؤية واحدة، وتظلّ العلاقات فيما بينها منسجمة.

الثقافة رهين الاقتصاد ـــــــ

وعليه، فإذا كان المظهر الثقافي والسياسي يهمّ العالم الإسلامي، فلا يعتقد خطأ أن السجال الدائر حول التنوّع الثقافي والتعددية الثقافية والتسامح العالمي يحول دون رقيه، فالعالم بشكل عام في مباراة، ومباراة قاسية، والأساس في تلك المباراة هو القدرة التجارية والاقتصادية، والمظهر الثقافي يعدّ من توابع القدرات الثابتة والاقتصاد القوي؛ فالاستقلال الثقافي بحاجة إلى إمكانات وحماية مالية؛ فلا يمكن التفكيك بين الثقافة والاقتصاد، فالثقافة المحلّية تكون أقوى في ظلّ الاقتصاد المحلّي.

إحدى أهمّ المشكلات الثقافية في أنحاء الدول الإسلامية هي تفشي الأفكار القومية والعلمانية في الوسط الاجتماعي، فالمجتمعات الإسلامية ليست جبهةً واحدة؛ لكي تحقّق وجهات نظر واحدة؛ فهناك اختلاف بين هذه الدول في شكل النظام السياسي، وطبيعة الإدارة السياسية.

وإذا قلنا: إن القوى الاقتصادية تنتج عن زيادة معدّل الإنتاج والاستثمار، فالعالم الإسلامي يحتاج لرفع مستوى التعليم، والاحتفاظ بمحيط مادي نظيف، والارتقاء بمعنويات الفرد والمجتمع، والقفز من بُنى الحياة المادية إلى أسس ثقافية أصيلة، إنّه يحتاج أن يعمل مع عالم اليوم الذي يعتمد سيادة المركزية الاقتصادية المطلقة، أما إذا أراد العالم الإسلامي الحفاظ على وجود فاصلة سياسية معقولة ومستقلّة نسبياً، فعليه أن يحدّد أولوياته بنفسه، وإذا أراد أن يعتمد على أسس محدّدة من أجل تحقيق استقلال نسبي له، ويحافظ على مظهره الثقافي والاقتصادي، وأن يطوي مراحل التنمية بشكل تدريجي، ويصل الحدود الحضارية ويبرز بوصفه وجوداً حقيقيّاً في المنطقة والعالم، فعليه أن يراعي الأصول العلمية التالية:

1 ــ خطّة شاملة للتفكير بالاستقلال الفكري والثقافي للمسلمين.

2 ــ خطّة شاملة لإيجاد قدرة اقتصادية للمسلمين.

3 ــ بناء العقائد الدينية ورفع مستوى العقائد الدينية إلى مستوى القوانين.

4 ــ توحيد وجهات النظر بين المسؤولين الحكوميين.

5 ــ التواصل بين النظم الاقتصادية في الدول الإسلامية عن طريق الاستثمارات المشتركة.

6 ــ إيجاد أرضية مناسبة لزيادة مستوى شرعية ومصداقية الدولة.

7 ــ إيجاد هيكل لتسوية القضايا الأمنية بين الدول.

8 ــ الاستفادة من الإمكانات العلمية في السياسة والتخطيط والإدارة العامّة.

9 ــ احترام المواطنين، وتقوية أسس المجتمع المدني في أنحاء الدول الإسلامية.

10 ــ رعاية المبادئ العقلية والعلمية الفاعلة والمنظّمة للدين.

11 ــ رعاية الأفكار التأليفية من أجل تحقيق الانسجام الفكري.

12 ــ تشجيع المبلّغين الدينيين على متابعة الثقافة المكتوبة.

13 ــ تشجيع السلوك المقنّن بين المسؤولين الحكوميين والمخطّطين المسلمين.

14 ــ تشجيع المسؤولين الحكوميين المسلمين على رفع مستوى حياة المسلمين.

15 ــ التقليل الحقيقي من شراء الأسلحة الغربية.

16 ــ إزالة الخوف الأمني بين الدول الإسلامية بشكل تدريجي.

17 ــ تشجيع المسلمين على التعايش فيما بينهم.

18 ــ الاستفادة الفكرية والصناعية المعقولة من العالم المعاصر.

19 ــ التعايش بين الشعوب وفق أسس معقولة.

20 ــ وضع خطط وبرامج مستقبلية من قبل الدول الإسلامية، لمائة سنة قادمة.

أساسيّات التنمية السياسية ـــــــ

بعد تناول ملفّ التنمية على الصعيد الاقتصادي والثقافي، نحاول هنا ذكر الأسس التي يمكن من خلالها لمجتمعٍ فاعل ينشد التنمية بمعناها الشامل أن يتحرّك في ميدان التنمية الفكرية والسياسية عبر البرمجة والفاعلية. وبعبارة أخرى، نحاول الإجابة عن التساؤل القائل: متى يمكننا، وعبر أية ثوابت، معرفة وتصنيف مجتمع ما على أنه مجتمع نامٍ من الناحية السياسية، واعتباره يخطو في مجال التكامل والتقدم؟ إنه لمن المهم بمكان، وفي هذا الإطار، وضع فارق بين القضايا الشكلية وهيكلية الإنماء السياسي ومضمونه.

ليس بالإمكان بحث الشكل العام وهيكلية أيّة حكومة بمقدار ملحوظ بمنأى عن وجهتها السياسية، إنّ الأمر عسير، لكن ومن أجل حلّ المشكلة ــ وعلى أقلّ تقدير في المواضع التي نريد تناولها هنا ــ سنعتبر أن شكل وهيكلية الحكومة يمكن اعتبارهما يتحملان طابع العقد، ولما كان المضمون السياسي لمجتمع ما يستلزم وينبغي بالضرورة أن يتحرّك عبر برمجة وفاعلية دقيقة متجهة نحو التكامل، فإن المجتمع الأوفر حظاً ونجاحاً سيكون ذلك الذي يتحرّك فيه المضمون السياسي أسرع من الشكل فيه، إنّ هناك افتراضين هنا:

الافتراض الأول: إنّ الإنماء السياسي، ولتعدّد أبعاده وشموليته وتأثره النوعي الشديد، يعدّ أكثر أنواع الإنماء تعقيداً في المجتمعات.

الافتراض الثاني: ونظراً لتبعية التنمية الاقتصادية للتنمية السياسية، والأخذ بالظروف والتطوّرات الدولية الراهنة، فإنّه ما لم تتمّ حلحلة الوضع العام وتحديد الوضع القانوني للإنماء السياسي في إطار مجتمع واحد، فإن الأبعاد الأخرى للتنمية، كالنوعية والتكامل والنجاح، لن تتحقّق.

مبادئ التنمية السياسية ـــــــ

وقد أفردت هنا اثني عشر مبدأ وأساساً للإنماء السياسي، وهي عبارة عن:

1 ــ دعم الجانب الإيجابي في العمل الفردي.

2 ــ الفكر المدعّم بالأرضية الاستقرائية القويّة.

3 ــ أن يكون التأمل والتفكير منطقاً لعامّة المجتمع، والتخصّص هدفاً للنخبة.

4 ــ اعتبار التعليم أهمّ ركن للبرمجة في المجتمع.

5 ــ نشر التثقيف وأسلوب العمل الجماعي في أوساط أبناء المجتمع.

6 ــ استحكام الطابع العام للمجتمع وصلابته.

7 ــ مؤسّسية المسؤولية الاجتماعية والقانونية.

8 ــ وحدة مصالح الجهاز الحاكم والمصالح العامة لأبناء المجتمع.

9 ــ تنوّع المصادر الثقافية ــ الاجتماعية وأثرها في العملية الاجتماعية وعدم اختصارها في الجانب الحكومي.

10 ــ وجود حالة من الاستقرار الاقتصادي.

11 ــ اعتماد النظرة الإصلاحية في عملية اتخاذ القرارات.

12 ــ اختيار العنصر، طبقاً للمؤهلات والمواهب والمهارات.

ثمّة منهجية منطقية واستقرائية في طريق بلوغ الأسس المشار إليها، تنظر للمجتمع عبر اعتماد القيم الإنسانية، وهناك وجود واضح لبعض مصاديق هذه الأسس في بعض المجتمعات، دونما مشاهدة لمجموعة الأسس والثوابت على أنها نظام سياسي. إنّ ما نطمح إليه هو تطعيم النظرية بالأسس والقيم الإنسانية بشكل ندمج فيه الأسس النظرية للإنماء السياسي مع الأهداف الإنسانية العامة، ونسوق الحركة التكاملية للمجتمع باتجاه التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وفي النهاية الإنماء السياسي، وهذا ما نذهب إليه هنا في فهمنا للمجتمع المتطوّر سياسياً.

سنحاول التطرّق ــ وعبر نظرة عامة مجملة ــ إلى نظريات التنمية السياسية، ونخوض في شرح وتفصيل وتحليل الأسس السابقة اللازمة لتحقيق الإنماء السياسي المذكور آنفاً؛ فمن الطبيعي أن يُصاب المجتمع الذي لا يخطو في طريق التنمية والتطوير بالخمول والجمود. وبعبارة أخرى، إن اصطلاح التنمية ــ الذي أضحى اليوم أكثر الاصطلاحات شعبيةً في كتب وبحوث العلوم الإنسانية ــ ليس جديداً، بل هو قديم، يعود تأريخه إلى بدء الحياة والحضارة الإنسانية. ومن خلال حصول عملية التغيير النوعي في شكل التنمية ومحتواها في العقود الأخيرة، أخذ اصطلاح التنمية جنبةً عامةً، واعتبر محصّلةً مشتركة لجميع القضايا العملية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والسياسية([30]).

نظريات التنمية السياسية واتجاهاتها ـــــــ

يعتقد mرونالد جيلكوتn أنه بالإمكان تقسيم نظريات التنمية السياسية إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مجموعات:

أ ــ المجموعة التي ترى أنَّ التنمية السياسية أمر تكفله الديمقراطية.

ب ــ المجموعة التي ترى أن التغيير والإنماء السياسي منوطان بتمركزالأبحاث.

ج ــ المجموعة التي ذهبت في عملية الإنماء السياسي إلى تحليل الأزمات، ومراحل التعاقب الحاصلة في العملية المذكورة([31]).

يُعتقد أن عملية التقسيم هذه، تعدّ الأكثر شموليةً في الآراء المطروحة في هذا الميدان حتى الآن، ومن منظّري المجموعة الأولى يمكن الإشارة إلى mكارل فريدريكn، mجيمس برايسn، mلوسين بايn، mسيمور ليبستn، وmآرثور اسميثn، فقد أشار هؤلاء ــ من حيث المجموع ــ إلى العملية البرلمانية والانتخابات والأكثرية، وأنظمة التعدّدية الحزبية، ونظام المنافسة السياسية، وسيادة القانون، وحرية الصحافة، والتنمية الاقتصادية والشرعية السياسية، بوصفها أسساً وثوابت رئيسة في الإنماء السياسي([32]).

وقد سعت المجموعة الثانية إلى إيجاد ربط بين عملية التغيير والإنماء السياسي، ومن الباحثين الكلاسيكيين في هذا المجال، يمكن الإشارة إلى mكارل فرديكزn وmلويس كوزروn وmروبرت نيسبتn؛ فقد التفت هؤلاء إلى نظريات التغيير والتحوّل والصراعات والمتغيرات الاجتماعية، وحالات المجتمعات المختلفة، معتبرين التغيير والتطوّر حالةً طبيعية للإنسان.

أما المجموعة الثالثة من المنظّرين الذين اشتغلوا على برامج التنمية الاقتصادية، فيمكن الإشارة إلى mليونارد بايندرn وmجيمس كلمنn وmجوزيف لابالومباراn وmسيدني ورباn([33])، فقد عُني منظّرو هذه المجموعة خلال مسيرة العمل الاجتماعي في مجال الإنماء السياسي بظاهرة الظروف الاجتماعية ــ السياسية، والعدالة، وتوزيع الإمكانات والمصادر، وأخيراً، الطبقية الاجتماعية ــ السياسية،

كذلك تناولت أبحاث هذه المجموعة أيضاً منهجية تقسيم السلطة والمنافسة في الوصول إليها ومنهجية تعامل السلطة مع الأزمات والشرعية السياسية([34]).

وطبقاً لما يقول mجيلكوتn([35])، فإن المواضيع والإثارات التي طرقتها المجموعة الثانية نالت اهتماماً أقلّ من المجموعتين الأخريتين، كما يرى أن مشكلة المجموعة الثانية أنّها ميثولوجية أكثر من كونها ذات محتوى.

إنّ هذه الدراسة هنا تعدّ من فئة المجموعة الثانية، من حيث التقسيمات المذكورة آنفاً، لأنها تؤمن بأن التغيير في بدايته عملية طبيعية، وأنه يتجسّد ويتحقّق عبر مرحلية طويلة، وتسعى ــ في النهاية ــ إلى بلوغ الأهداف عبر عملية إصلاحية مناسبة، منطقية ومبرمجة.

ورغم أن علماء المجموعات الثلاث مارسوا التحليل المركّز وقدّموا اقتراحات، لكنّنا هنا نؤمن بأن النظرة الدقيقة والعملية للمجموعة الثانية، والتي تؤمن بالتغييرات التدريجية والواعية للسلطات الحاكمة والمجموعات المتنفذة وفي النهاية المجتمعات، هي أقوى بكثير مما هو موجود لدى المجموعتين الأخريين، وفيما يلي نتناول أسس وثوابت التنمية السياسية الاثني عشر المذكورة.

1 ــ دعم الفردية الإيجابية ـــــــ

المقصود بالمحور الفردي الإيجابي فسح المجال أمام الإنسان كي تنضج شخصيّته وفكره وإبداعه، وواضحٌ أن الاتجاه الفردي بمعناه المطلق وحبّ النفس والصنمية أمرٌ مرفوض في المجتمع الإنساني؛ فالفردية الرائجة في المجتمعات الغربية، وهي ما نلاحظه متجسّداً في رفض الأسرة ورفض القيم الإنسانية، أمرٌ لا يمكن قبوله؛ فإذا اتجهت البشرية حسبما تسمح به الإمكانات الفكرية المتاحة في المجتمع، كالنظام التعليمي والثقافة السياسية والثقافة الاجتماعية والبرمجة العامة، إلى كشف الطاقات ورفع مستوى الثقة بالنفس، وكذلك رفع المستوى الشخصي والإطار الفردي والتزام ذلك، فحريٌّ بالمجتمع الذي يضمّ بشراً وعناصر كهؤلاء، أن يصبح مجتمعاً مفكّراً معتمداً على نفسه؛ فالإنماء السياسي يغدو ميسوراً عندما يتفهّم أفراد هذا المجتمع ــ باعتبارهم الوحدة الأهمّ فيه ــ أوضاعهم والمجتمعات التي تحيط بهم، ويتمتّعوا بحسٍّ فكري ووعي، واعتماد كبير على النفس؛ وعليه، فالمحور الفردي الإيجابي يعني اعتماد الأفراد على أنفسهم في تعزيز الشخصية الفردية والاجتماعية، والتعامل بوعي مع قضايا المجتمع الذي يعيشون فيه([36]).

2 ــ توظيف المناهج الاستقرائية ـــــــ

إنّ الاستفادة من منهج الاستقراء في الاستنباط والاستنتاج تفتح آفاقاً أوسع أمام الباحثين وذوي العلاقة، وهذا ما من شأنه أن يقلّل من حالات إصدار الأحكام المسبقة، ويُبعد الإنسان عن الاحتكاكات والتعامل الروتيني المقولب؛ فالفارق بين العالِم والإنسان العادي يكمن في أنّ الأول ينظر إلى الأمور بدقّة فائقة، ويتفحّصها بنظرة علمية، فيما ينهج الناس العاديون منهجاً روتينياً مما يعلق في أذهانهم، وقلّما يرجعون إلى القوة العقلية في محاكاة الأمور، إن اعتماد الاستقراء بوصفه منهجاً، وتحوّله إلى عملية مؤسّساتية عند النخبة والشخصيات، سيرفع ــ دونما شك ــ من قوّة الملاحظة والفكر، ومنهجية الإدراك والاستنتاج لديهم.

لقد اعتبرنا الإنماء السياسي أرقى وأكثر مستويات التنمية تعقيداً، وبعبارة أخرى: إن الدقّة الفكرية للإنسان ستكون في هذا المستوى من الإنماء في أعلى درجاتها؛ وعليه، فإن بإمكان التفكير الاستقرائي أن يكون ذا أثر كبير في تربية العقل وتفتح الذهن وممارسة الدقّة والعلمية([37]).

3 ــ مهارة التفكير منطق العامة، والتخصّص هدف النخبةـــــــ

إنّ المجتمع السائر صوب التنمية هو ذاك الذي يُكثر من استخدام القوّة العقلية؛ وعليه، فالعقل والفكر ركيزتان هامّتان، ليس في البُعد الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل وفي البعد السياسي أيضاً. إنّ الإنتاج، والخدمات، والبيروقراطية الفاعلة، والنظم الاجتماعية، والدقة والبرمجة على مستوى الفرد والمجتمع، تعتمد غالباً على منهجية استخدام القوة الفكرية والعقلية الإنسانية، وعندما تسلب حكمة العقل وتدار أمور البلاد وبرامجها وتوقعاتها على أساس من الحساسية والعصبية وسوء المحاسبة، فلا يجدر انتظار التنمية في مثل هذه الأوضاع، وطبقاً لهذه الحصيلة، يجب في المجتمع السائر صوب التنمية أن تتحوّل الحالة الفكرية والعقلية وإعداد الذهنية المحاسبة إلى حالة عامة، وكذلك تربية الأفراد على مستوى تحكيم العقل والفكر في أبسط الأمور وأعقدها؛ ليتمّ بلوغ مرحلة التصرّف عبر العقل الجماعي العام؛ فالمجتمعات المقبلة على التنمية تتجه نحو تدقيق الأمور والخطط والمسؤوليات؛ وعليه، فالعقل الجماعي المؤهل لجميع الاحتمالات سيتجه نحو العملية الحسابية والتخصّصية أكثر فأكثر. إن التنمية الاقتصادية في بُعدها الفنّي والكمي بحاجة إلى فكر عام وآخر تخصّصي، لكن الإنماء السياسي يظلّ أكثر تعقيداً بالمقاييس النوعية، ويتعامل مع الفكر العام والخاص، وطبقاً لما جاء ذكره الآن فإننا نخلص إلى نتيجةٍ مفادها أنّ الفكر والعقل يعدّان من أوّليات وأساسيات الحركة الفردية والجماعية نحو الإنماء السياسي.

4 ــ التعليم ركن إدارة المجتمع ـــــــ

يعدّ الإنسان أهمّ عنصر مؤثر في تنمية المجتمع الذي يعيش فيه؛ وعليه، كان على الأفراد داخل إطار هذا المجتمع الالتفات إلى الثقافة والوعي، وممارسة المهارات المتنوّعة([38]). وفي المحصّلة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار المناهج المختلفة الموجودة في النظام العالمي، فإن الفارق الموجود بين البلدان يحسب على أساس مستوى الثقافة والتعليم، والتربية التخصّصية التي يتمتّع بها أبناؤها.

لقد ساقت تجارب أربعة قرون من سير الإنسانية نحو التنمية، ساقت العلماء إلى أن التنمية لن تتلخّص في مضاعفة الثروة والتكنولوجيا والأرباح والصادرات والصناعة، بل أهمّ ركن في فاعليّتها، يكمن في أبنائها الواعين والمثقفين؛ وبما أن الإنماء السياسي يستلزم توافر شخصية صبورة ومفكّرة، فإن الحاجة تدعونا إلى انتهاج أفضل الطرق التعليمية والجامعية، وكذلك الأخلاقية. ولا بُدّ أن نصبر سنوات عدّة كي نرى تغيّراً في المجتمع نحو الفضيلة والكمال، ويتأتى ذلك ــ بالطبع ــ عبر عمل دؤوب متواصل في حقل التربية والتعليم، وإصلاح التعامل الاجتماعي، وتربية الأفكار الإنسانية؛ فبالإضافة إلى التنمية الاقتصادية التي تحرّك المجتمع ــ وبشكل طبيعي ــ نحو التأقلم في إطار منظّم وتعاون جماعي، وتعدّ سبباً في حدّ ذاتها، هناك التربية والنظام التعليمي الفاعل المدعوم بكادر قويّ مؤهل ذي خبرة، حيث تعدّ عاملاً مهمّاً آخر في دعم الأسباب المؤثرة والمصيرية والراسخة في عملية الإنماء السياسي.

5 ــ التثقيف وترويج منهاج العمل الجماعي ـــــــ

إنّ التخطيط وإدارة شؤون البلاد المختلفة، بدءاً بمرحلة اتخاذ القرارات حتى التنفيذ، يعدّان من الأعمال الجماعية الشاقة، ولهما جذورهما في الرؤى الشمولية والأفكار والمصالح والأذواق؛ فالمجتمعات النامية سياسياً مجتمعاتٌ يميّز أفرادُها بين العمل الفردي والجماعي، حيث لكلّ منهما خصائص ومستلزمات معينة؛ فالعمل الجماعي يستوجب تقليل حالة الاعتماد على الفرد إلى أقلّ درجة ممكنة، حيث تغدو عملية تبلور الأفكار وردود الأفعال والقرارات المتخذة عمليةً تدريجية، وفي العمل الجماعي يتحقّق الإجماع، بوصفه عمليةً مقدّسة، تنخفض معها ظاهرة تقديس الأفراد.

وفي مثل هذه الأجواء يضطرّ الأفراد إلى التنازل عن بعض مصالحهم أو مصالح مجموعتهم وقبول بعضٍ من مصالح الآخرين، وفي العمل الجماعي يميل الفرد إلى انتظار النتيجة النهائية للقضايا والمناقشات الجماعية المطروحة أكثر من أن يُحمّل رؤاه على شخص آخر أو مجموعة أخرى، إنّ العمل الجماعي بحاجة إلى اهتمام مركّز في مجال قبول الأبحاث الفكرية وتقويم المصالح والمشاركة الفكرية، ومثل هذا النمط سيسهل عملية الإنماء السياسي التي تعدّ في الواقع عملاً جماعياً.

6 ــ استحكام الهوية المجتمعيّة ـــــــ

تتأثر هذه النقطة والتي تليها كلّ منهما بالأخرى، فإذا امتلك المجتمع هويةً واضحة لا تدعو إلى تعارض المجموعات والعلماء، فإن الأفراد فيه سيتحرّكون بشوق ورغبة صوب العمل والنشاط، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي عوامل التمتّع بهوية وطابع قوي ومستحكم؟

يرتهن ذلك ــ حسب تصوري ــ بإجماع آراء ثلاث مجموعات: أولئك الذين يحكمون، وأولئك الذين يفكّرون ويخططون، وأولئك الذين يمتلكون الثروات والإمكانات؛ فإذا ما حصل توافق فكري وسياسي وثقة متبادلة، فإن النتيجة النهائية ستكون إيجابيةً للغاية على صعيدة تنظيم العمل، واستشراف المستقبل، ومصير المجتمع بشكل عام؛ فالإنماء بحاجة إلى اتّفاق وجهات النظر، والتأريخ يضع أمامنا شواهد كثيرة في هذا المجال([39]).

فالهوية الوطنيّة والقيم القويّة رهينة بهذا الإجماع، وهي تقف على رأس الهرم السياسي في كلّ مجتمع؛ وعندما يتمّ البتّ في الشأن الثقافي والفكري لمجتمع ما، يسهل البتّ في الشؤون الأخرى.

7 ــ المسؤولية الاجتماعية والقانونية ـــــــ

في ظلّ أيّة ظروف يكون أبناء المجتمع توّاقين للالتفات إلى أوضاعهم ومصير مجتمعهم ومستقبلهم؟

حسب تصوّرنا، يتم ذلك عندما يتضح الهدف من الحياة ـ فكريّاً وعملياً ـ لجميع الأجيال في المجتمع، ويتضح ذلك تحت مظلّة تلاقي مصالح المجموعات الثلاث المذكورة في النقطة السادسة، وعبر الحوار والتعامل العقلاني مع الإمكانات والثغرات في المجتمع، وحصول إجماع حولها؛ فالإنسان يعيش بالأمل الذي يتجسّد عياناً أمامه، فالفكرة تتضح من خلال تطبيقاتها، وتتجلّى الهويّة عبر تبلور الأهداف والمصالح الوطنية، فالإنسان ــ ومن خلال النسيج المجتمعي الذي يعيش فيه ــ يلتفت إلى العمل والنشاط، آخذاً بعين الاعتبار مجتمعه وأبناء جلدته، وعندها ينال أمر المحافظة على المجتمع وتطوّره قداسةً خاصّة؛ فالمجتمع الذي يشهد إنماءً سياسياً هو ذاك المجتمع الذي اتضحت فيه قضايا المصالح والهوية الوطنية والهدف من الحياة وتعريفها، وكذلك يتمّ ــ بالتدريج وضمن أجواء مساعدة ــ صقل المفاهيم المطروحة ووضوحها أكثر فأكثر، وفي مثل هذه الظروف ستنمو حالة سيادة القانون، والتي تعدّ أساس وركيزة حفظ القيم والأهداف المنشودة، تثير في الأفراد همماً وأحاسيس إيجابية.

8 ــ توافق مصالح الجهاز الحاكم والمصالح المجتمعية العامة ـــــــ

يتعلّق هذا الأمر ــ في الحقيقة ــ بموضوع الشرعية السياسية للسلطة الحاكمة؛ ففي الوقت الذي لا تتعارض ــ في ظلّ حكم مشروع ــ قيم وأفكار عموم أبناء المجتمع مع قيم النخبة وأفكارها، فإن أبناء هذا المجتمع سيعتبرون الحكومة منبثقةً عنهم، وحينها يتوجّب على الحكومة أن تعتبر نفسها ــ وبشكل مؤسّساتي وقانوني مستمر ــ مسؤولةً عن أعمالها أمام الشعب([40]). إنّ الشرعية السياسية تابع رئيسي للإنماء السياسي، وإن التكامل السياسي سيحوّل المجتمع إلى مجتمع مرن، فإذا ما ابتلي جمعٌ ما في ميدان تحديد المصالح الوطنية والعامة ومصالح السلطة الحاكمة بالضياع والحيرة والتضاد، فإنه لن يجد مجالاً للمضي قدماً في مسيرة الإنماء، بل سيدور في دائرة من الغموض والضياع، إنّ تطابق مصالح السلطة الحاكمة مع مصالح الجماهير علامة بارزة على حصول إجماع في الرأي، وسراية القيم في جميع طبقات المجتمع، وهدوء العلاقات بين أبنائه ودولته.

9 ــ لامركزيّة الثقافة والنشاط الاجتماعي ـــــــ

إنّ الحكومات معنيّة أكثر من مختلف قطاعات المجتمع بامتلاك القوّة، وهو أمر منطقي وطبيعي، أما إذا افتقر المجتمع لقوى التغيير، فلن يحصل تعدّد في الحياة الفكرية والثقافية؛ فالمجتمع الذي يسير صوب الإنماء السياسي، هو ذاك المجتمع الذي يقبل تعدّد مصادر السلطة، ويستخدم الأبعاد المختلفة للروح والفكر الإنسانيين.

فإذا كانت الحكومة هي المنفذ الوحيد في هذا المجال، فإن قطاعات المجتمع الأخرى سوف ترتهن لها وتغدو محافظةً لا تغييرية، فإذا سمح مجتمعٌ ما ببروز نشاطات في الجمعيات والاتحادات والمؤسّسات الفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المختلفة في الساحة، فإن روح المشاركة والشعور بالمسؤولية بين أبناء المجتمع ستتعزّز، وعندها سيلقى التنظيم الاجتماعي مفهوماً، وسيتحرّك المجتمع صوب الإنتاج والبحث والثقافة والمناقشة؛ وعليه، فظهور المؤسسات الخاصّة غير الحكومية يضفي على المجتمع جوّاً يزيد من حالة الاستقرار فيه، وتتجلّى فيه عملية الإصلاح والتصحيح على الدوام، وتمدّ الجسور المنطقية السليمة بين الحكومة والشعب، فالمجتمع الذي يشهد إنماءً سياسياً تكون فيه الحكومة والشعب وجهين لعملة واحدة.

10 ــ الاستقرار الاقتصادي ـــــــ

يمكن القول بضرس قاطع: إنّ تحقيق هذا الأمر وفي ظلّ الظروف الصعبة والمعقّدة للنظام الدولي الراهن، يعدّ أمراً عسيراً للغاية؛ فالمشكلات المالية والاقتصادية وهمومهما، لم تسمح بالالتفات إلى قضايا الثقافة الاجتماعية والسياسية([41])، إنّنا نفصل هنا بين التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي، فالاستقرار الاقتصادي لا يستتبع ــ بالضرورة ــ تحوّلاً صناعياً وتكنولوجياً متطوّراً، بل يؤدي إلى مراجعة فاحصة للأداء الاقتصادي في المجتمع، إنّ وضوح المصالح الوطنية والأهداف العامة من شأنه تحريك عجلة الاقتصاد؛ فالمجتمعات التي تستطيع توفير الاحتياجات الأولية لأبنائها، ستحوّل وجهتها إلى الاحتياجات اللاحقة في مجال الترشيد والإنماء الفردي والاجتماعي؛ وعليه، فالاستقرار الاقتصادي والمالي يعدّ أرضيةً صالحة لممارسة تنمية ثقافية، وفي النتيجة إنماء سياسي؛ لأنَّ أفراد هذه المجتمعات سيكونون على مقدرة أكبر من التفكير واتخاذ القرار، بعيداً عن الهموم والمشكلات.

11 ــ اعتماد المشروع الإصلاحي في اتخاذ القرار ـــــــ

يأخذ الإنسان عند اتخاذ القرارات ــ غالباً ــ مجموعةً من المصالح والمشاعر والعصبيات، فيحلّل الأمور عبر أطر عقلية وقيمية؛ وطبقاً لذلك يعدّ الإنماء السياسي أعقد أنواع الإنماء على الإطلاق؛ فالمجتمع الذي يشهد إنماءً سياسياً يعدّ مجتمعاً متكاملاً، ومن الطبيعي أن ترجُح في مثل هذا المجتمع كفّة المحاسبة والعقل والتحليل على كفّة المشاعر والعصبيات، وعندما يرغب الأفراد الذين يعيشون في هذه المجتمعات في اتخاذ قرارات، سيلتفتون إلى الهمّ التصحيحي والإصلاحي لمسيرة حياتهم؛ بغية الانطلاق من الوضع الموجود إلى ما هو أفضل منه.

وبعبارة أخرى، يجب تحوّل حركة تجويد العمل وتحسين الأداء إلى ثقافة، تخضع لأطر مؤسّساتيّة، فإذا سلبنا من الإنسان همّ التصحيح والتكامل، فإننا نكون قد سلبنا منه إنسانيّته؛ وعليه، فمن البديهي أن يخطأ الإنسان في التجربة والتنفيذ فيسعى إلى تصحيح خطئه([42]).

أما إذا سلبنا منه الفرصة والتجربة والتعلّم، وحتى الأخطاء المتوقعة في المسيرة، والسهو المحتمل، فإننا نكون قد سلبنا منه إنسانيته، وهو أمر غير طبيعي؛ وعليه، نستنتج أننا وعقب قبول الخطوط العريضة، كالتجربة والبحث والسهو في ميدان العمل، في مجتمعٍ يشهد حالة الإنماء السياسي، فإن أفراده يسيرون صوب التصحيح الذاتي والاجتماعي. وفي ظلّ ظروف الأعوام الأخيرة من القرن العشرين ربما لا نعثر على اصطلاح أعمق من مفردة mاتخاذ القرارn؛ لأنّ الظروف والمعطيات التي تجرّنا إلى اتخاذ القرار تضمّ في طيّاتها عشرات بل مئات الشروط والنظريات؛ وعليه، اخترنا في مجال الإصلاح مصطلح: mاتخاذ القرارn.

12 ــ الكفاءة والمهارة عنصرا الاختيار ـــــــ

في القضايا الحسّاسة تنمويّاً والأمور المهمة ثمّة مسألة هامّة وهي قضية mالمنفّذn أوmمنفّذوn العملية التنموية، والمقصود هنا، إطارها السياسي والإداري والاقتصادي؛ فمن هم القائمون على عملية التنمية؟ وما هي خصائصهم ومميزاتهم؟ ومدى إيمانهم بها؟ هل هم الأعلم والأكثر صلةً بآليات ووسائل ومنحنيات الإنماء؟

في العصر الحاضر، أضحى شأن العاملين في المجال الفكري والإداري mالمنفذينn ذا أهمية عالية في العملية التنموية قياساً بما مضى؛ وعلى كلا المستويين: النوعي والكمّي فإن الحاجة إلى عاملين واستخدام أفراد لهم نظرة شمولية ودولية فيما يخصّ التنمية، أصبح أمراً له أولويته؛ لقد أضحى أمر الطاقات والمهارات في المناصب الفكرية والتنفيذية الرئيسة وكيفية انتخابهم وتعيينهم من الأمور التي تحظى بأهمية في المجتمع؛ فالمجتمع الذي يمضي في طريق التنمية السياسية هو ذاك الذي يُبدي من نفسه تفاعلا ًوحساسية تجاه المهارات الشخصية والرؤى والسلوك الذي يُبديه أولئك النفر ممن يتصدّون للمسؤوليات الفكرية والتنفيذية المهمّة؛ لأن المجتمع يستلهم من الإشعاعات والعطاءات الفكرية والسلوكية لهؤلاء، الروح والاستطاعة والمستقبلية والقيم، وإنّ طريقة الوصول إلى هذه الأهداف تعدّ في حدّ ذاتها من مهمّات عملية الإنماء السياسي.

إن المنافسة في المواهب والمهارات تعدّ أفضل منهج لإعداد روح العمل والنشاط والأمل بالمستقبل والنهوض؛ وعليه، كانت مسألة المؤهلات التي يتمتّع بها الأفراد مصيريّةً للغاية([43]).

خاتمة ـــــــ

لقد طرحنا السبل المؤدية إلى الإنماء السياسي، وتطرّقنا إلى الأصول والثوابت الاثني عشر التي يرتبط بعضها ببعضها الآخر، وإذا أردنا أن نلقي نظرةً على فاعلية هذه الأصول والثوابت النظرية الاثني عشر، فعلينا أن نعمل بها معاً، آخذين بعين الاعتبار الخصائص العامّة والتركيبة الاجتماعية ــ الثقافية لكلّ مجتمع. وبعبارة أخرى، إنّ تقدّم وتأخر هذه الأصول والثوابت الاثني عشر رهينٌ بالتركيبة والوضع الثقافي في المجتمع، إنّ الإنماء السياسي، ومن خلال كونه نقطة التقاء مصالح المجموعات مع بعضها أو مصالحها مع مصالح الجماهير، يعدّ أعقد مشكلة في طريق تبلور الحركة العقلانية في السلوك والتعامل؛ ولهذه الأسباب تمّ الحديث ــ عبر الأسس المذكورة ــ عن التعليم العامّ، والهوية، والمصالح الجماعية والشخصية، والاعتماد على القدرات والمؤهلات.

إنّ المجتمع الذي يمضي في طريق الإنماء السياسي يجب أن يتحمّل ــ في سياق رسم المستقبل ــ أعباءً ما، وأن يشيد هيكلية معينة، وأن يربّي نفسه بدقة متناهية، وأن يجتاز مراحل عدّة من الاختبارات؛ ليحقّق هدفه ويصل إلى ضالّته المنشودة نسبياً، ويعدّ لنفسه مستقبلاً زاهراً؛ وعليه، فالتربية ونظامها، والنماذج الفكرية والسلوكية، إلى جانب الأشكال الاجتماعية المفكّرة والعقلانية النامية، تعدّ من السمات المشتركة للمجتمعات التي تنشد الإنماء السياسي.

*   *     *

الهوامش

(*) اُستاذ الاقتصاد والعلوم السياسيّة في جامعات طهران وأمريكا، من الشخصيات البارزة في الفكر السياسي المعاصر.

[1] ـــ للتعرّف على الأسس الثابتة للتنمية راجع: القلم د. محمود، التنمية.. العالم الثالث والنظام الدولي، طهران، منشورات سفير، ط 3، 1996م؛ والعقل والتنمية، طهران، ط 2، 1996م، منشورات علمي، فرهنكي.

[2] ـــ See john hassard and martin Parker, Postmodernism and Orga – nazations (London: Sage Publi – cations – 1994), 136 – 183 .

[3] ـــ سريع القلم، د. محمود، الإنتاج المشترك للنخبة في التمنية، مجلة (سياسي اقتصادي)، العدد 79 ـ 80: 18 ـ 23.

[4] ـــ ِAugustus Richard Norton, Civil Society in the Middle East, (New York: E,j. Prill, 1995), pp 7 – 13.

[5] ـــ James Bill and Robert Springborg Politics in the Middle East, (New York: Harpre Collins.) 1994), pp. 136 – 150.

[6] ـــ راجع في هذا الصدد:

Joel Migdal, Strongs Societies and Weak States (New jersey: Princeton University: Press 1988.). pp. 45 – 93.

[7] ـــ سريع القلم، د. محمود، نظرية الانسجام الداخلي (نظرية انسجام دروني)، مجلة (فرهنك)، العدد 13: 100 ـ 113.

[8] ـــ Joel Migdal, op dit, pp. 206 – 236.

[9] ـــ Peler Katzenstein Between Power and Plenty – (Wisconsin: Wisconnsin University, Press, 1978), pp. 3 – 23.

[10] ـــ Roland Roberton, Globalization (London: Sage Publications). 1992. pp. 115 – 63, 129.

[11] ـــ Mike Featherstone, Global Culture, (London: Sage Publications). 1494, pp. 57 – 63 67 – 121 and 171 – 193.

[12] ـــ Ozay Mehmet, Islamic Ldentity and Development, (London: Routledge, 1990) pp. 36 – 76..

[13] ـــ James Bill and Robert spri ngborg op cit, pp. 8 108.

[14] ـــ saad eddin Ibrahim, “Civil Society and Prospects for Democratization in the Arab Wrld” in Civil Sociely in the Middle East, pp. 44 – 48.

[15] ـــ Augustus Richard Norton, op. Cit.

[16] ـــ راجع الندوة المنشورة في مجلة (نامة فرهنك)، س6، العدد 22: 11 ـ 13.

[17] ـــ James Bill and Robert Springborg, Op sit.. pp. 30 – 48 and 116 – 136.

[18] ـــ Bernard Lewis, The Shaping of the modern Middle East. (New York: Oxford University Press.

[19] ـــ Claiming the Future: Choosing Prosparity in the Middle East and Northe African. (The World Bank: Washingto D. C. 1995) p. 4.

[20] ـــ Ibid, p. 15.

[21] ـــ Ibid, p. 17 .

[22] ـــ Ibid, p. 12.

[23] ــــ راجع مجلة (تازه هاي اقتصاد) خريف 1996: 7 ـ 8.

[25] ــــ Claiming the Future, op cit.. p. 19.

[26] ــــ Ibid, p, 24.

[27] ــــ Ibid, p, 29.

[28] ــــ Ibid, p, 61.

[29] ــــ Ibid, p, 62.

[30] ــــ في هذا المجال يراجع:

Robertnisbet. mSocial change and Historyn.

(Newyork; oxford University Press’ 1969).

[31] ــــ Ronald chicote mTheories of Comparative Politicsn.

(Boulder: Westview press, 1981). P.272.

[32] ــــ Carl Friedrich. Constitutional Govermment and Democracy. (Waltham: Blaisdell, 1968); Lucian Pye. mAspects of Political Developmentn. (Boston Brwon and co, 1966); Sey mour lipset. mSome Social requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy, mAmeric an Polititcal Science Reviewn. (March 1959). Pp 69 – 105; and Arthur Smith. mSocio – Economic Development and political Democracy: A causal Analysisn. Midwest Journal of Political seience. (Febuary 1969) pp. 95 – 125.

[33] ــــ Fred Riggs – mThe Dialectics of Developmental conflict Comparative Political Science. (July 1968). Pp. 197 – 226, Lewis Coser. mSocial conflict and The Theory of Social changen. British Journal of Sociology.

      (September 1957). Pp. 197 – 207 and Rebert Nisbet, op – cit.

[34] ــــ Lenard Binder, mNational integration and Political Developmentn. American Political Scince Review.

      (September 1964). Pp. 622 – 631; James Caleman.

      Ed., mEducation and Political Developmentn.

      (New York: Harperand Row, 1966); Josph gl palom-bara,ed. mBureaucracy ; and Political Developmentn.

      (Princeton: Princeton univer Shy university Press l 1966).

      And Sidney Verba. mparticipation and Political Equalityn. (New York: Cambridge University Press, 1978).

[35] ــــ Ronald chilcote, op, cit, p273.

[36] ــــ في هذا المجال يراجع:

James Bill and Robert Hardgrave, Jr. mComparative Politicsn. (Washington D.C university Press of America, 1981. pp . 50 – 52.

[37] ــــ ليس خافياً أننا لا نؤمن بوجود استقراء محض، بل إنّ هناك درجات من الاستقراء. إنّنا نطرح الاستقراء أمام الأطر الضيقة غير المطاوعة وغير العلمية، ويمكن الاستنتاج والوصول إلى ذلك من خلال العودة إلى الموضوع.

[38] ــــ في هذا المجال يراجع: الحقّ، محبوب، mالناس والتنميةn. مجلة اطلاعات السياسية ـ الاقتصادية، العدد 29: 40 ـ 44؛ وسريع القلم، الاكتفاء الذاتي والاستقلال: دراسة المنحى التكاملي لهذين الاصطلاحين في التنمية في البلدان النامية mمجلة سياست خارجيn، السنة الخامسة (صيف 1991): 298 ـ 303.

[39] ــــ يراجع في هذا المجال:

    David Landes. mThe unbound Prometheusn. (Cambridge: Cambridge university Press, 1969). Pp. 41 – 124.

[40] ــــ سريع القلم، التنمية في العالم الثالث والنظام الدولي: 29 ـ 30، مطبعة mالسفيرn، طهران، 1990م.

[41] ــــ يقسّم إبراهام مزلو (Abraham Masslow) حاجات البشر الى خمسة أقسام:

1 ـ الحاجات المادية كالغذاء والمسكن والهواء. 2 ـ الحاجات الأمنية. 3 ـ الحاجة إلى العاطفة والمحبّة. 4 ـ الحاجة إلى التشجيع والترغيب من قبل الآخرين. 5 ـ التعرّف على النفس وكشف المواهب. وبعبارة أخرى، لا تطرح حاجات المرحلة اللاحقة إلا بعد استكمال المرحلة الأولى؛ وعليه فإن الاحتياجات الأولية للعيش مقدَّمة على الاحتياجات الفكرية وتنمية الشخصية الإنسانية.

    Don Hellriegel and John Slocum. morganizational 13 ehaviorn (New york: Ewst Publishing Co., 1976). Pp. 250 – 255.

[42] ــــ يراجع في هذا المجال: سريع القلم، الأسس الثابتة للإنماء، مجلة اطلاعات سياسي ـ اقتصادي، العدد 135: 47 ـ 50، 1990م.

[43] ــــ يراجع في هذا المجال:

    Susan strange mThe Name of the Gamen. In msea – ehangen. Edited by Nicholas Rizopoulos (Newyork A Council of Retations Book, 1990). Pp. 238 – 274.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً