أحدث المقالات

الشيخ محمد تقي أكبر نجاد (*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

تمهيد ــــــ

لقد عمل أئمة المذهب وأصحابهم منذ التاريخ الأول بكل الطرق العلمية على حفظ الحديث من تدخلات الغلاة، وتحريفات المحرفين وذوي النيات السيئة. وتنوعت جهودهم بين الإشارة المباشرة إلى أسماء بعض الغلاة وكبرائهم، وبيان الأساليب والطرق التي يتبعها الغلاة والمحرفون في وضع الحديث والمساس به، وبين عرضهم لبعض طرق الوقاية والعلاج من كل هذه الشوائب. فكتب الحديث تذكر أن الأئمة^ كثيراً ما كانوا يبحثون مع تلاميذهم مسألة الوضع وكلّ ما يتعلق بها، كما كانوا يبينون لهم بعض الروايات والأحاديث الموضوعة والمكذوبة عليهم وعلى آبائهم.

وقد سار ذلك الركب من التلاميذ والصحابة على نهج الأئمة^ في العمل الدؤوب على حفظ الأحاديث، والوقوف سدّاً منيعاً أمام الغلاة والمحرفين، فكانوا يعرضون كتبهم على الأئمة^؛ حتى تتم تصفيتها من كل الشوائب. وبرز من بين هؤلاء أسماء جليلة، مثل: زرارة، ومحمد بن مسلم، وأبو بصير، ومؤمن الطاق، وغيرهم كثير. وقد وهبوا حياتهم لخدمة الأحاديث، إلى الدرجة جعلت الإمام الصادق× يقرّ لهم بالفضل الكبير في حفظ روايات آبائه الأطهار^.

بينما نجد على الطرف الآخر أن الأحاديث النبوية لم تحظَ بكل ذلك الاهتمام، ويتجلى ذلك واضحاً في منع كتابة الأحاديث النبوية الشريفة لمدة مائة سنة تقريباً، في حين تم العمل على ترويج سياسة وضع الأحاديث من جهة، وفتح الباب واسعاً في التدخل في الأحاديث النبوية وتحريف مواضيعها.

ولعله لاعتبارات سياسية واجتماعية كانت أحاديث النبي الأكرم| أكثر عرضة للوضع والتحريف من روايات الأئمة من أحفاده^، التي كانت بعيدةً قليلاً عن الأنظار؛ نظراً لما كان يعيشه الأئمة^ من الإبعاد والعزل القهري عن الشؤون السياسية والعلاقات الاجتماعية.

إلا أنه رغم كل جهود الأئمة^ وتلامذتهم المخلصين في حفظ الأحاديث فإن الغلاة والمحرِّفين كانوا دائماً يتحيّنون الفرص للتدخل في الروايات ووضع أخرى، ممّا جعل مسألة معرفة الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن غيرها إحدى أهم اختصاصات العلماء المحدّثين والفقهاء عبر تاريخ التشيع بامتياز، بل عدّت الأعلمية في الرجال كاشفة عن الأعلمية في الفقه.

ويعتبر كتاب »مشرعة بحار الأنوار«، للعلامة الشيخ محمد آصف محسني، معلمة توضح مدى سعي واجتهاد هذا العالم في تفكيك الألغام التي زرعت في حقل الأحاديث، وتصفية الروايات الصحيحة عن السقيمة. وقد أشار إلى أن »الكثير من المبلّغين والكتاب الذين جعلوا الكتابة مهنة تدرّ عليهم الكسب المادي، والذين هم في الحقيقة صنّاع الرأي العام الديني في المجتمع المسلم، يروجون أحاديث الغلاة والرواة مجهولي الحال، وينقلون ما نسبه هؤلاء إلى النبي الأكرم| أو الأئمة الأطهار^ وكأنه عدل الآيات القرآنية والسنة القطعية، لا لدليل لديهم سوى أنه ورد في كتاب (بحار الأنوار)، أو غيره من مجامع الحديث.

فهم ينشرونها بين الناس من على المنابر، أو يكتبونها في الكتب والمجلات بأساليب لبقة ومؤثِّرة، حيث يختارون لها العبارات الجذابة والكلمات المنمقة التي تلتف على عقول وقلوب العوام خصوصاً، لتصبح مع مرور الزمان عقيدة لدى الفئة العريضة من المجتمع. هذه الفئة التي لا تدرك أن هؤلاء المغرضين إنما سولت لهم أنفسهم أن يكتبوا الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الرسول الأكرم، ومن عند الأئمة، كما لا يبلغ علمهم أنها بدعةٌ ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان. وفي مثل هؤلاء قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿قُلْ اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59)، ﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ﴾ (النساء: 171)، وقال تعالى أيضاً: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (يونس: 68).

وإنه ممّا يؤسف له أن يعهد التأليف والتبليغ في بعض المباحث إلى فئة من الناس، مبدؤهم الارتزاق والكسب المادي، غير عابئين بما يلحقونه من الأضرار بالموروث الروائي، وما يركِّزونه من معتقدات جاهلية، لا تعمق في عقول عوام الناس سوى التخلف والسقوط نحو الجاهلية الأولى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 79).

فقد تعرضت مجموعة من المعارف الإسلامية وبعض الفروع الاعتقادية إلى التحريف، ورسخت تلك التحريفات في عقول الناس، واستقرت، خصوصاً في ظل غياب الإحساس بالمسؤولية في وسط بعض الحوزات العلمية، وبعض العلماء، ومَنْ ترجع إليهم المسؤوليات في التبليغ، حتى أصبح الرعب والخوف من ثورة العوام يهدِّد كل محاولة للإصلاح والتصحيح. فقد غدت بعض مجامع الحديث وكأنها قرآنٌ منزلٌ، الويل ثم الويل لمن دعا إلى تصحيحها، وإعادة النظر فيها. وهذا ما يلوِّح بالخطب الجلل الذي يهدِّد الدين وأهله، و﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ (البقرة: 156).

 

المبحث الأول: وجه تسمية الكتاب بـ »مشرعة بحار الأنوار« ــــــ

يطلق لفظ »المشرعة« في العرف اللغوي فيراد به مورد الشاربة التي يشرعها الناس، فيشربون منها ويسقون، وهي منحدر الماء، والعرب لا تسميها شرعة حتى يكون الماء غدقاً لا ينقطع، لا يسقى بالرشاء، كذلك جاء في (لسان العرب) و(تاج العروس).

وهو نفس المعنى الذي أراده المصنف حين اختار اسم »المشرعة« لكتابه، و»من رغب في الرواء من نور البحار فليردها من المشرعة، فمنها يرتوي روياً«.

وكما تطلق على جانب البحر ويراد بها المرفأ الذي ترسو به السفن، فيسهل على مسافري البحر ركوب السفينة، كذلك استعار نفس المهامّ لكتاب المشرعة فقال: »من رغب ركوب السفينة، وقطع هذا البحر، فعليه الركوب من المشرعة؛ حتى لا يسقط«.

بحار الأنوار هي في الحقيقة بحار أمواجها عاتية، ولن ينال أنوارها إلا من تسلَّح بمعرفة الأحاديث، واستقال بنفسه عمّا يخالف العقل والشرع، كذاك الراكب البحر تتجاذبه الأمواج هنا وهناك، والجو عاصفة هوجاء، فإن هو لم يحسن إدارة السفينة والمجداف قطعت مركبه الصخور والأحجار، وأردتها حطاماً تطوف فوقها طيور الموت وذئاب الفلاة، لكن متى كان مسلَّحاً بالمعرفة، ومستوعباً لكيفية الإدارة، نأى بنفسه عن أماكن الهلكة، وبلغ شاطئ الأمان وقد نجا. وكذلك هي بحار الأنوار، لا يبلغ أنوارها إلا من علم بأصول الحديث، وأدرك أسرار الأحاديث الصحيحة، وميَّزها عن غيرها. وما «مشرعة بحار الأنوار» إلا خير معين، يعلم القارئ كيف ينال مراده منها، ويستسقي لنفسه ريّاً روياً، من دون أن ينغمس في الروايات التي وضعها الغلاة، والأحاديث المحرفة التي دسَّها المحرفون وذوو النفوس الدنيئة. حسبك أنه مشرعةٌ، من وردها نال بغيته، وأمن لنفسه السلامة في الدين والدنيا.

 

المبحث الثاني: منهج الكاتب في »مشرعة بحار الأنوار« ـــــ

هناك مقدمات تفرض نفسها، وذلك قبل البدء في دراسة منهج ومبنى الكاتب:

الحديثُ المحفوف بقرائن تفيد العلم حجةٌ، وحجيته بلحاظ حجية العلم، فالعلم حجيته ذاتية. وكذلك إذا كان الحديث موجباً للاطمئنان الشخصي يعتبر حجة؛ لأن العرف يرى الاطمئنان مفيداً للعلم، واستقرت سيرة العقلاء على حجية هذا العلم الحاصل بالاطمئنان، ولم يردع الشارع عنه، والحجية بهذا اللحاظ ليست ناشئة عن حجية خبر الواحد، ولكن بلحاظ حجية الاطمئنان أو العلم العرفي. لكن محل البحث هو الأحاديث غير المتواترة وغير المحفوفة بقرائن تفيد العلم أو الاطمئنان الشخصي، بل لها فقط قرائن تفيد الاطمئنان النوعي. وهنا مبنيان في اعتبار هذا النوع من الأحاديث وعدمه:

 

1ـ التوثيق من جهة إثبات صدور الحديث ــــــ

المعتمد عند أصحاب هذا المبنى هو حصول الاطمئنان النوعي الحاكي عن صدور هذه الرواية، وهو الاطمئنان الذي يحصل بأية طريق من الطرق المعتبرة عند العقلاء. فوفق هذا المبنى لا يكون السند وحده هو الذي يحكم على وثاقة الخبر أو عدمه، ولكنه طريق من الطرق. فالاطمئنان بعدم مخالفة الحديث للثوابت العقلية من بديهيات ومسلَّمات، وكذا موافقته للثوابت الشرعية، سواء أثبتت بواسطة القرآن أو بواسطة السنة النبوية وأحاديث الأئمة المعصومين^، موجبٌ للاطمئنان بصدور الحديث أو عدم صدوره. كما أن موافقة الخبر للوقائع التاريخية، يلعب دوراً إيجابياً أو سلبياً في اعتبار الحديث أو ردّه. ويمثل هذا الاتجاه كلٌّ من: أصحاب الأئمة^، وفقهاء محدِّثي الشيعة طوال قرون طويلة.

 

2ـ التوثيق من جهة إثبات صحة السند ـــــ

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن السند وحده هو الكفيل بتوثيق الخبر أو عدم توثيقه. فمطابقة الخبر للقرآن والسنة أو مخالفته لهما، واتفاقه مع البديهيات والمسلمات العقلية، ليست دليلاً في اعتبار أو ردّ الخبر غير الموثَّق من جهة السند. فالآية والسنة القطعية والرواية المعتبرة حجّة، لكن الخبر المطابق لها إذا انعدمت وثاقته بلحاظ السند سقط اعتباره، وتمّ رده.

وقد استأثر هذا المبنى على دراسات الحديث، بحيث شكَّل المبنى القوي الذي تبنّاه معظم العلماء والمحدّثين، سواء في أوساط المتقدمين أو المتأخرين، وقد قوي عضده لدى المتأخرين على يدي السيد الخوئي&، لدرجة أنه غطى على التوثيق من جهة الصدور، حتى ظن البعض أنه مبنى جميع علماء الشيعة.

المبحث الثالث: منهج نقد الروايات في »مشرعة بحار الأنوار« ـــــ

لقد كان الشيخ محمد آصف محسني من تلامذة السيد الخوئي البارزين. ولعله لن يكون غريباً أن يتأثر التلميذ بأستاذه، ويتبنى مبانيه. وقد تأثر الشيخ محسني كثيراً بالسيد الخوئي، واتبع نفس مبناه، حيث اعتبر التوثيق من جهة إثبات صحة السند منهجه في نقده لروايات (بحار الأنوار)، وذلك في كتابه »مشرعة بحار الأنوار«، ويقول مدافعاً عن هذا المبنى: »إن السبيل الوحيد لمعرفة الصحيح من أمور الدين والمحافظة عليها، وإدراك التكاليف الشرعية من دون زيادة ونقصان، يكمن فقط من خلال التدقيق في سند الروايات؛ لمعرفة المعتبر منها من غيره. فما كان منها معتبر السند، وفق الحدود التي رسمها علماء اصطلاح الحديث، أخذناه، وعملنا به، وما كان ضعيفاً أو مشكوكاً فيه تركناه، حتى لو أدى هذا إلى ترك الكثير من الروايات؛ لأن قيمة العلم وفطرة العالم تتجلى في أتباع الأسلم والأصحّ، لذلك فهي تعنيها الكيفية، ولا تعير اهتماماً للكمية أبداً«.

وقال: »ويوجد مجموعة من العلماء ممَّن ليست لهم الإحاطة الكاملة بعلم الرجال وأحوال الرواة، كما هو شأن صاحب (بحار الأنوار)، لم يَرُقْ لهم التصريح بعدم حجية خبر الواحد الذي لا تحفّه القرائن، والذي جميع رواته ليسوا ثقات، وراحوا يستدلون على عدم أهمية السند«.

و كما بين بنفسه، في الصفحة التاسعة من كتابه، فإن مراده بالقرائن التي توجب العلم أعم من القرينة العرفية أو العقلية، وليست تلك القرائن التي يقول بها أصحاب التوثيق بإثبات صدور الحديث، حيث يذهبون إلى اعتبار القرائن النوعية، رغم كونها لا تفصح عن العلم العقلي أو العرفي. وهو ما يؤكِّده في تقييمه لروايات (بحار الأنوار)، حيث يقول: »أكثر روايات بحار الأنوار غير معتبرة السند«.

وهذا الحكم بلحاظ المبنى المتَّبع يمكن اعتباره والقبول به، أما طبق مبنى التوثيق بإثبات الصدور فإن القسط العظيم من روايات (بحار الأنوار) تتوافق والقرآن، والسنة القطعية، والسنن العقلية.

ويمكن إجمال الخطوات التي قام بها صاحب المشرعة في نقده لأحاديث البحار في التالي:

الأولى: في نقده لكل قسم من أقسام الأحاديث عمد إلى ذكر عنوان الباب، ورقمه، ورقم المجلد أو الجزء، ورقم الصفحة، ورقم الروايات التي يراها معتبرة. وإذا لم يكن للرواية رقم خاص، وإنما أوردها العلامة المجلسي بقصد الاستدلال، يقوم بحذف رقم الحديث، ويضع رقم الصفحة بدلها.

الثانية: مراعاته لاعتبار الروايات التي اعتبرها المجلسي من جهة السند، فإذا قال بضعف رواية ما فهذا لا يعني أن الرواية ليس لها سند إلا هذا، فقد يكون لها سندٌ آخر يصححها ذكر في موضع آخر، لكن تضعيف المجلسي لها أتى من خلال السند الذي ذكره لها في البحار ليس إلا. فقد تكون نفس الرواية التي ضعَّفها المجلسي معتبرة وصحيحة في أحد الأصول الأربعة أو أيّ مصدر حديثي آخر، بل يمكن أن تذكر نفس الرواية في جزء أو مكان آخر من البحار، ولكن بسندٍ آخر رأى المجلسي أنه صحيح، فيعتبرها ويقول بصحتها. مما يعني أن تقويم الأحاديث نسبي، وليس بمطلق يعمّ البحار وجميع مصادر وكتب الحديث.

الثالثة: قد يورد المجلسي رواية؛ بغرض الاستدلال على اعتبار رواية ما، من دون أن يذكر سندها، وأما العلاّمة آصف محسني فإنه في مواضع كثيرة يتتبع الرواية من مصدرها، فيستخرج سندها، ومن ثم ينظر إلى اعتبارها.

الرابعة: وفي هذه المرحلة يقوم صاحب »المشرعة« بإجراء بحث علمي، وذلك بالنظر إلى آراء المجلسي في معاني الرواية أو ما قام به من بحث تحليلي لها، بحيث قد يوافقه الرأي، ولكن لا يعني أنه يعتبر الرواية ضعيفة السند، وإنما موافقته له بلحاظ كونها تفيد العلم. فصاحب »المشرعة« يعتقد أن الرواية ذات السند المعتبر أو التي تفيد العلم هي وحدها المعتبرة، أما كون مضمونها معتبر فهذا لا قيمة له.

 

المبحث الرابع: النقد وإعادة النظر ـــــــ

أـ النظرية المتََّبعة في قياس الأحاديث ـــــــ

كما سبقت الإشارة فإن اعتبار الأحاديث بلحاظ توثيق السند هو خلاف المشهور بين المحدِّثين وفقهاء الشيعة. ويكفي في الاطلاع على هذا تتبع كتاباتهم في الميدان، وكتبهم في الأصول. وهو إلى جنب خروجه عن المشهور مخالف لسيرة العقلاء. فالسند وراوي الخبر لا موضوعية لهما، بل المعتبر هو الاطمئنان النوعي بصحة الخبر، وهو الاطمئنان الذي يحصل بأية قرينة أخرى. فقد ينقل شخص يكون مورد الاطمئنان خبراً فيقبل، في حين لا يكون الناقل مورد القبول لحيثيات عدة. لذا فالخبر يجب أن يقاس بمدى موافقته لما يقاس به من الأصول.

ومن مساوئ مبنى التوثيق من جهة السند أنه يعمل على إسقاط عدد غير يسير من الروايات، فهو لا يدفع إلى إهمال قدر عظيم من الروايات فحسب، بل يؤدي إلى عدم الاطمئنان إلى الروايات ذات السند المعتبر. فإذا قيل: إن 95% من روايات البحار ليست قابلة للاعتبار، إنْ لم نقل ليست مورداً للقبول، فما هي الضمانة التي ستكون للـ 5% المتبقية من أنها لم تلمسها يد الوضع؟! ألا يروِّج هذا للقول: إن الإحساس بالمسؤولية تجاه الأحاديث وضرورة تعريضها للتصفية والتنقية لم يظهر إلا بعد ألف ونيف من السنين؟ وهل أن الأئمة^ وأصحابهم لم يكن عندهم هذا الإحساس بهكذا مسؤولية، بحيث تركوا الباب مشرعاً أمام الوضّاعين والمحرّفين يعيثون في الأحاديث والروايات فساداً؟!

حقيقة يصبح الكلام في مقابل هذا الاتجاه كثيراً، ونقده مفتوحاً، بشكل لا تستوعبه مقالة محاصرة بشرط الإجمال والاختصار.

لقد رد صاحب »المشرعة« العديد من روايات البحار، وأسقط اعتبارها، مع أن القرائن على صحتها كثيرة، فهي إما موافقة للقرآن، أو للسنة القطعية، أو محفوفة بدليل عقلي، بل إن تكرار نفس الرواية، ولو بأسانيد ضعيفة، موجبٌ للاطمئنان النوعي في حدّ ذاته، فهل يعتبر هذا السلوك مناسباً في التعامل مع الروايات الشيعية؟! ولعل المناسب في مثل هذه الحالة أن نذكِّر بمقالة العلامة وحيد البهبهاني، حيث قال: »ثم اعلم أنه قد شاع بعد صاحبي (المعالم) و(المدارك) أنهم يطرحون أخبارنا المعتبرة التي اعتبرها فقهاؤنا القدماء، بل والمتأخِّرون أيضاً ــ كما بينته وأثبتُّه في التعليقة ــ طرحاً كثيراً، بسبب أنهم لا يعتبرون من الأمارات الرجالية سوى التوثيق، وقليل من أسباب الحسن. وبسبب ذلك اختلّ وضع فقههم وفتاواهم، وصار بناؤهم على عدم ثبوت المسائل الفقهية غالباً.

وذلك فاسد؛ لأن أسباب التثبت الظنية موجودة في غاية الكثرة، وحصول الظن القوي منها لا يتأمل فيه.

ومر اعتبار الظن في التثبت كاعتباره في ثبوت العدالة، من دون تفاوت. وهذه الأسباب اعتبرها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية، وأهل الرجال في علم الرجال، فلا بد من معرفتها وملاحظتها؛ لئلا يطرح الأخبار المعتبرة الكثيرة، ولا يخالف طريقة فقهاء الشيعة القدماء والمتأخرين منهم، ولا يبقى في التحير والتردد في معظم المسائل الفقهية«.

كذلك كتب العلامة الحلي قائلاً: »أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد، حتى انقادوا لكلّ خبر، وما فطنوا لما تحويه من التناقض. فإن من جملة الأخبار قول النبي|: »ستكثر بعدي القالة عليّ«، وقول الصادق×: »إن لكل رجل منا رجل يكذب عليه«. واقتصر بعضٌ عن هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يصدق، والفاسق قد يصدق، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة، وقدح في المذهب، إذ لا مصنِّف إلا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد المعلول. وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله عقلاً ونقلاً. واقتصر آخرون فلم يرَ العقل مانعاً، لكن الشرع لم يأذن في العمل به. وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن. والتوسط أقرب. فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطراحه…«.

ومن الأمثلة على الأبواب التي تعرض لها الشيخ آصف محسني، وردّ أغلب رواياتها؛ ليتضح مدى تكرار العمل بهذا المبنى وحيفه في رد وإسقاط العديد من الروايات، لا لشيء إلا أن سندها ليس معتبراً:

 

موضوع العقل والجهل ـــــ

وهو فصل مكوَّن من خمسة أبواب، حيث خص العلامة المجلسي هذا الفصل بما يقرب من ثمانين صفحة، وهي نسبة إذا ما قيست بعدد صفحات الطبعة الأولى عظيمة، وعرض أبوابه بالشكل التالي:

الباب الأول: فضل العقل وذمّ الجهل. وقد حمل هذا الباب 18 سورة، و27 آية من القرآن، لها علاقة بعنوان الباب، وأورد 53 رواية؛ وعدها صاحب »المشرعة« 43 رواية، وحكم باعتبار واحدة فقط من كل هذه المجموعة: »وأما الروايات المنقولة التي تبلغ ثلاثاً وأربعين فلعلها لا تتم سنداً إلا رواية واحدة«.

الباب الثاني: حقيقة العقل، وكيفيته، وبدء خلقه. وقد نقل المجلسي في هذا الباب 14 رواية، لم يصح منها إلا واحدة في نظر الشيخ محسني، وهي الرواية الأولى في الباب. نعم، هو اعتبر روايات أخرى، وقال بصحتها، لكن نظراً لكونها من كتاب المحاسن فهي لا تخلو من إشكال في نظره ووفق مبناه.

الباب الثالث: احتجاج الله تعالى على الناس بالعقل، وأنه يحاسبهم على قدر عقولهم. وقد نقل المجلسي في هذا الباب خمس روايات. وكما كتب صاحب »المشرعة« فلا واحدة منها أحرزت الاعتبار والصحة.

الباب الرابع: علامات العقل وجنوده. ويتكون هذا الباب من 52 رواية، عدَّها مصنف »المشرعة« خطأً 53 رواية، ولم تصح عنده واحدةٌ منها.

الباب الخامس: وردت فيه روايتان، ولم تصح عنده إلا الرواية الثانية.

و الملاحظ أن هذه الأبواب الخمسة شملت 126 رواية، ولم يصح منها ـ بحسب مبنى الشيخ آصف محسني في »المشرعة«، إلا ثلاث روايات، واعتبر 123 فاقدة لقرائن الصحة. وهذه الروايات التي اعتبرها هي:

1ـ قال الرضا×: »صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله«.

2ـ عن الباقر× قال: »لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إلي منك، ولا أكملك إلاّ في مَنْ أحبّ، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب«.

3ـ قلتُ لأبي جعفر×: »ما بال الناس يعقلون ولا يعملون؟ قال: إن الله تبارك وتعالى حين خلق آدم جعل أجله بين عينيه، وأمله خلف ظهره، فلما أصاب الخطيئة جعل أمله بين عينيه، وأجله خلف ظهره، فمن ثم يعقلون ولا يعملون«.

أبواب العلم ــــــ

يتكون هذا الفصل من 35 باباً، وما يقرب من 1460 رواية. ووفق مبنى ونظر صاحب »المشرعة« لم يصح منها سوى (70) رواية.

فهل يعقل أن يكون 5% فقط من روايات كتاب (العقل والعلم والجهل)، والذي هو مجلَّد ونصف مجلَّد من البحار الأولى، معتبراً، و95% منها غير معتبر وفاقداً للشرائط؟!

والغريب أن أغلب روايات كتاب العقل والعلم والجهل، التي ردت وأسقطت في »المشرعة«، تتفق أو قريبة الاتفاق مع ما جاءت به الآيات القرآنية، بل إن كل ذي عقل يشهد بصدق ومعقولية محتواها، بل الأدهى أن أغلب الروايات التي ردّتها »المشرعة« تتوافق ومفاهيم تلك التي اعتبرتها وقالت بسلامتها.

 

ب ­ـ نقد متن الروايات ــــــ

من الخطوات العلمية التي قام بها مؤلف »مشرعة بحار الأنوار« تحليله ونقده لروايات البحار من جهة المتن، والتي لم ينظر فيها إلى جهة السند، بل نظر إليها باعتبارها محفوفة بقرائن تفيد العلم، أعم من كونه علمياً أو عملياً، فعدها معتبرة وقبل بها. ومن تلك الروايات: ما جاء في »أبواب الاحتجاجات والدلائل على الإمامة«، حيث كتب يقول: »في هذه الأبواب الأربعة اطلعنا على روايات ذات مفاهيم عالية ومهمة، لذا لم نتوقف عند سندها، بل لاحظنا دقة متونها ومحتواها«.

وكذا ما قام به في تحليله لروايات »باب المحن والفتن«، حيث قال: في هذا الباب وردت روايات أغلبها منقولٌ عن أهل السنة، وفيها أقوال:

1ـ لا مجال لردها جميعها؛ بسبب كثرتها، وتنوّع مصادرها، وعدم وجود باعث للقول بوضعها. لذا فالجوانب المشتركة بين هذه الروايات تدفعنا إلى قبولها واعتمادها.

2ـ إن هذه الروايات تدور حول مواضيع مشهورة ومعلومة بين الأمة، كالاختلاف في الأصول والفروع، ومعرفة هذه الاختلافات لا تستدعي وجود روايات متواترة، بل تكفي هذه الروايات.

بل الذي يستدعي النقد وإعادة النظر هو التناقض الصارخ الذي غطّى عملية نقد صاحب »المشرعة« للأبواب الأخرى المتعددة، كما بالنسبة إلى باب العقل والعلم والجهل، حيث توجد صراحة روايات ذات مضامين علمية سامية، ومتون دقيقة، لا توجد فيها شوائب تنم عن أنها موضوعة أو مكذوبة، ورغم كل هذا لم تحظَ برضا صاحب »المشرعة«، ولم تُثِرْ فيه أدنى رغبة في التلطف بها، واعتبار علمية مضامينها. فهل ـ على سبيل المثال ـ الرواية التي يفصل فيها الإمام الكاظم× الكلام حول العقل وأبعاده في إجابته لهشام بن الحكم لم يلفت أيٌّ من مضامينها اهتمام الشيخ محسني؟ وهل اكتشف فيها كلاماً باطلاً حتى أهملها وابتعد عنها، أم أن متنها حوى ما خرج عن حدود العقل، وتعارض وكلّياته، أم لم يعثر على ما يؤيّد مفاهيمها من القرآن؟

غريبٌ جدّاً أن تلقى هذه الروايات وغيرها الإهمال، هذا الحكم الجائر من طرف »مشرعة بحار الأنوار«، فهي روايات في أغلبها مطابقة لصريح القرآن ودليل العقل. أما عندما يتعلق الأمر بالإمامة فيتخلى عن سلاح السند، وقد ألهم اليقين بصحتها، وكشف له الحجاب، فرأى قرائن العلم تحفّ بها، مع أن روايات باب العقل والعلم والجهل أشدّ متانة ودقة من الروايات التي وردت في الاحتجاج والدلائل على الإمامة، التي قد ترد فيها مواضيع أكثر ارتباطاً بالجانب التاريخي، ولا يوجد لدينا دليل موثوق عليها.

 

مناقشة رواية خروج القائم # بالسيف ــــــ

يرى الشيخ محمد آصف محسني أن سند الرواية لا إشكال فيه، وهو بهذا اللحاظ يعد معتبراً، لكن محتوى الرواية حاملٌ لإشكال. ففي رواية (إكمال الدين)، التي نقلها الشيخ الصدوق في »ثواب الأعمال«، عن سعد، عن ابن أبي الخطّاب، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله×، أنه قال في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ: الآيات هم الأئمة، والآية المنتظرة هي القائم#، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف، وإن آمنت بمَنْ تقدَّمه من آبائه^«. يرى آصف محسني أنه رغم صحة سندها »فالأولى ردّ علمها إلى قائلها، ولا يتيسر للمحقِّق الحكم بعدم قبول التوبة حين ظهور المهدي#«. ولعله لم يكن يحتاج إلى رد عدم قبول التوبة بعد ظهور القائم# إلى قائلها؛ وذلك لأنه لا يستطيع القطع بعدم قبول التوبة بعد ظهوره×، بل لو استند إلى العقل والشرائع السماوية لعلم أنه بعد إتمام الحجة لا تنفع توبة الكافر أبداً، وليس المراد بإتمام الحجة مجرّد ظهوره#، بل المراد بإتمام الحجة وإكمالها أن يظهر، ويدعو الناس إلى العودة إلى الصراط المستقيم، والإقرار بوحدانية الله، وبأنه إمام معصوم، وسفينة النجاة، التي مَنْ ركبها أمن ونجا، ومن تخلف عنها هلك. وبعد أن تتمّ الحجة فإن العقل لن يعارض في كون توبة الكافر لا جدوى منها، شأنه شأن فرعون، الذي كذّب وكفر، ولكن لما ظهرت له الآيات أعلن إيمان اللسان، ولم تكن توبته تلك لتبعد عنه العذاب. فرفع القائم# للسيف بعد أن يتم الحجة، ووظيفة الإمام الأخير أن يطهِّر الأرض من الظلم والفساد، وأن يملأها عدلاً ونوراً. فالرواية ليست من التعقيد في شيء حتى نرجعها إلى قائلها، كما أنها لم تخالف السنن العقلية كما رأينا، بل لم تخالف الشرع والتشريعات السماوية البتة، فقد تطابقت والعديد من الآيات القرآنية. ونذكر على سبيل التوضيح قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(السجدة: 28 ـ 29)، فالواضح أن هذه الآية تتحدث عن هؤلاء الذين ظهرت لهم الحجة، وتبينت، ولكنهم من منطلق الكفر والاعتراض والعناد جادلوا في الحق، وجحدوا بالحق، واتخذوا وعيد الله لهم بالعذاب محل سخرية واستهزاء. وبعد أن رفع الحجاب عن الفتح والنصر للذين آمنوا، وانكشف أمامهم العذاب، فإن إعلانهم للتوبة لن يكون له مكانٌ ولا وقعٌ. وكذلك كان فرعون، فقد قال الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(يونس: 90).

تحقيق في الروايات التي تتحدث عن وقوع الصلح بين الحيوانات في آخر الزمان ــــــ

ربما كان تسرُّع صاحب »المشرعة« سبباً في عدم التفاته إلى نقاط مهمة في اعتبار محتوى الروايات، والإسراع في رد الرواية وعدم اعتبارها، ولكنها ربما تكون مناسبة جيدة تفيد القارئ في الحصول على توسعة فهمه لعبارات الرواية، وإرشاده إلى حسن التدقيق في مفاهيمها؛ لتنكشف له خطوات العلماء والمحدثين في تعاملهم مع الروايات، والأسس التي يبنون عليها مواقفهم في الردّ والقبول:

»عن زيد بن وهب الجهني، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، عن أبيه صلوات الله عليهما، قال: يبعث الله رجلاً في آخر الزمان، وكلل من الدهر، وجهل من الناس، يؤيده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على الأرض، حتى يدينوا طوعاً أو كرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقى كافر إلا آمن، ولا طالح إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً، فطوبى لمن أدرك أيامه، وسمع كلامه«.

كتب صاحب »المشرعة« في حاشية هذه الرواية: جاء في كتاب (الاحتجاج) أنه لن يبقى كافر إلا آمن، ولن تبقى سيئة إلا انصلحت، ولا سوءٌ وشرٌّ إلا بدل حسناً وخيراً، وأنه في زمان حكم الإمام المهدي# كل ما خلق الله على الأرض وفي الكون يتصالح فيما بينه ويتسالم…. ويقول: لو ثبتت صحة هذه الرواية فإن المراد بالكلّ الأغلبية، وليس الكلّ مطلقاً، يعنى أن أغلب الناس سيؤمنون، وأغلب المخلوقات تتصالح فيما بينها، وليس أن كل ما خلق الله وكل الناس، فهذا ممّا لن يقع؛ لأنه ـ وكما هو ظاهر منذ أن خلق الله الأرض وبعث الأنبياء إلى اليوم ـ لا زال الخير والشر، والصلح والاختلاف، كائناً ما كانت الحياة على وجه الأرض. فهو مقتضى كونيّ. أما القول بوقوع الصلح بين السباع فإنما هو كناية عن حصول الودّ والصفاء بين الناس، وليس المراد قطعاً الصلح بين السباع والوحوش، فهذا خارج عن نطاق التصديق.

وهو كلام يكشف في الجملة عن عدم وجود الأنس بكلمات المعصومين^، ولو حصل الفهم لكلماتهم لما غابت حقيقة مرادهم، وهو ليس بالأمر العسير؛ فقد تعدّدت الروايات التي بينت أن العدل والقسط الذي سيملأ الأرض بعد الظهور بنفس حجم الظلم والفساد الذي ملأ الأرض قبل الظهور: »يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً«، بحيث يكون تقابلاً متساوي الطرفين.

فكون الظلم والجور قد ملأ الأرض ليس بمعنى أنه عمها وشملها مطلقاً، بحيث لم يعد يوجد أثر للعدل والقسط، ولكن كما أن العدل والقسط حاضر في وسط الأجواء المملوءة بالظلم والفساد كذلك سيكون الظلم والجور حاضراً في وسط الأجواء التي ستمتلئ بالعدل والقسط مع ظهور فرع الشجرة النبوية موعود آل محمد#، وإلا ما قيمة حضوره باعتباره الحاكم المنجي! أو كما قالت بعض الروايات: إن الدين والتدين في آخر الزمان وقبل الظهور سيكون كنور شمعة في ليلة عاصفة، كذلك سيكون الظلم كفتيلة في حضور نور شمس وسط النهار، بحيث إن الكفر والظلم سيظل يعيش، ولكن في أجواء التستر والخوف والعزلة، فدلالة كلمة (الملء) في هذه الرواية دلالة على الحصر العرفي، وليست على سبيل الحصر العقلي.

أما كون العدل سيملأ الأرض لدرجة يحصل بها الصلح بين حيوانات السباع فإنما هو ضرب من الكناية عن مدى الصفاء والمحبة التي ستحصل بين الإنسان وبني نوعه، وبين الإنسان والطبيعة بكلّ مكوناتها، فإن ما نراه من تنافر بين الإنسان وأخيه، وبين الإنسان والطبيعة، إنما هو بسبب جشع الإنسان، ورغبته في التملك والسيطرة، بحيث تجاوزت استفادته من الطبيعة حد الرغبة في الحفاظ على النوع، وهو ما نتج عنه اختلال في الطبيعة، وتباين كبير بين فرص العيش، ولكن عندما يصبح العدل بمفهومه الشرعي، وهو أن يأخذ كل ذي حقٍّ حقّه من دون زيادة أو نقصان، تتكافأ فرص العيش بالنسبة إلى جميع مكوّنات الطبيعة، وبالتالي تتصالح الطبيعة والإنسان.

أما كون الشيء لم يقع فليس دليلاً عقلياً ولا شرعياً على كونه لن يقع، فإن عدم الوجدان ليس دالاًّ على عدم الوجود، وليست من مقتضيات التجربة مطلقاً. والأجدى للخروج من هذا المأزق الاحتواء الموضوعي لكلمات المعصومين بشكل كلي، وخلق نوع من الانسجام مع مفرداتها، حتى تنكشف حقيقة معانيها.

النتيجة ــــــ

خلاصة القول: إن معرفة الإسلام والتوصل إلى حقيقة مفاهيمه بجميع أبعادها يتطلب الإدراك الواعي للأحاديث. وسواء كان المبنى هو اعتبار السند أو اعتبار متن الحديث، أو ما يصطلح عليه بفقه الحديث، فإن كليهما ضروري إذا كانا معاً وجنباً إلى جنب.

ومما يبعث على التأسف أن يتواجد بين طلاب العلوم الدينية مَنْ قضى ردحاً من الزمن في المدارس والحوزات العلمية في طلب العلم، ثم يكون تعامله مع الروايات تعامل العوام، أو لا يتحفّظ في نسبة كل ما ورد على مسامعه من الروايات إلى المعصوم×، بدون تورع أو استعمال للضوابط.

بل هناك من الطلبة مَنْ أصبح الأشخاص عنده هم الميزان الذي يقبل به الرواية أو يردّها، فإذا كان (فلانٌ) هو صاحب الكتاب فإن كل ما جاء في الكتاب هو مورد القبول ومحطّ الثقة، وغدا منطقه: فإنْ قالها فقد صدق. وهذا سلوك يفصح عن الضعف العلمي، والبعد عن مسالك الاجتهاد، والتقوقع في المسلكيات التقليدية السطحية.

وفي المحصلة فإن مؤلف كتاب »مشرعة بحار الأنوار« من الشخصيات العلمية التي لها وزنها في ساحة العلوم الدينية، وإن هذا الكتاب لشاهد على اجتهاداته ومجهوداته العلمية في نقد الأحاديث، ولو كان »المشرعة« كتابه الوحيد لكان كافياً في تعظيم مؤلِّفه وتكريمه.

لكن رغم الكفاءة العلمية لصاحب »المشرعة«، وعلو شأنه العلمي، وقوة تحقيقاته، إلا أن هذا لن يمنع من القول: إنه ابتعد عن منهج فقهاء الشيعة الموافق لسيرة المعصومين^ وسيرة المتشرعة في التعامل مع الروايات، بحيث يُنظر إلى الروايات من خلال فقه متنها ومحتواها، وإلى ما قيل، وليس إلى مَنْ قال. ولعله باعتماد منهج ومبنى التوثيق من خلال السند قد فتح الباب على مصراعيه لأفكار ومفاهيم أقل ما يمكن أن يقال عنها: إنها كانت سبباً في إظهار المذهب بلباس الخرافة، ومجابهة العقل والتفكر العقلي، في حين أن العقل من الأصول التي يقوم عليها المذهب الشيعي، ويُبنى عليها. وكم كان غياب فقه الحديث في كتاب »مشرعة بحار الأنوار« سبباً في تلويث ساحة الحديث، إلى درجة أصبح الاعتماد على الحديث مدعاةً للتردُّد والريبة، ومحطّاً لعلامات استفهام حول الضمانة لتلك الأحاديث التي صح سندها، فما المانع أن تكون تلك الروايات ملفَّقة وموضوعة، ثم اختير لها رواةٌ كزرارة وأبي بصير؟ وما المانع أن يكون حال باقي الناس كحال صاحب »المشرعة«، فهو على رغم قوله بالتوثيق من خلال السند فإنه توقف أمام روايات اعتبرها بلحاظ سندها، لكنه لم يستسِغْ متنها، وبقيت لديه محطّ إشكال، ومجلبة للتردّد بين القبول وردها.

ولا شكّ أنّ أكثر روايات (بحار الأنوار) معتبرة؛ لأنها وافقت الضوابط الشرعية والعقلية، ممّا يعني صحة الآثار التي أقامها العلماء عليها. لكن هذا لا ينفي وجود روايات ــ ليست بالقليلة ــ مفعمة بالخرافات والأباطيل، خصوصاً وقد تكاثرت فيها الروايات الموضوعة، كما هو الشأن في الروايات التي تطرقت إلى فضائل وشمائل الأئمة الأطهار؛ لأن الغلاة ــ الذين هم في الأصل ردة فعل تجاه ظلم السياسات وقمعها وجحودها لقيمة أهل البيت^ ــ أرادوا إبراز مكانة الأئمة إلى حدٍّ تجاوزوا فيهم حدود البشر، والحدود الحقيقية لأخلاقهم وأعمالهم، التي كانت في كل أبعادها موافقة لمبادئ التوحيد، ولمفاهيم القرآن.

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً