أحدث المقالات

ترجمة: مشتاق الحلو

التقريب بين نخب الشيعة والسنة والوحدة بين أتباع المذهبين، موضوعان يستحقان الدراسة من زوايا عدة، ويبدو أنّ أحداً لم يتكفلهما بالتحليل باستخدام المنهج الخطابي. يدّعي هذا المقال أنّنا لو حلّلنا هذا الموضوع بفهم الخطاب، لأحرزنا نتائج جديدة ومهمة.

وقد عبّرت عن الأمر بـ «الفهم» الخطابي، ولم أقل «المنهج» الخطابي، تفادياً لبعض مستلزمات مناهج ما بعد الحداثة، كالنسبية المطلقة؛ إذ إنّ جوهر الدين لا يتلائم ورفض مناهج ما بعد الحداثة للجواهر وذوات الأمور، وإن اقتضى الالتزام بمنهج ما الالتزام بتبعاته ولوازمه، لكن استخدام بعض دوال منهج معيّن لا يدلّ بالضرورة على قبول جميع قبلياته وأصوله وتبعاته.

وتأكيداً على ضرورة وحدة العالمين: الشيعي والسني، نسعى في هذا المقال لاستخدام بعض مفاهيم وأصول المنهج التحليلي للخطاب ـ مع التركيز على أفكار لاكلاو وموف ـ دون الالتزام بنسبيّته.

مصطلحات تحليل الخطاب ـــــــ

لتحليل الخطاب نحل مختلفة، بحيث يحقق اتّباع كل منها ـ كمنهج للعلوم الاجتماعية ـ نتائج مختلفة. وأهم هذه النحل: نظرية الخطاب في الألسنيات، نظرية الخطاب لنورمن فركلاف([1])، نظرية فوكو في الخطاب، ونظرية لاكلاو وموف، علماً بأنّ ارنستو لاكلاو وشنتال موف مدينان في نظريتهم لميشيل فوكو إلى حد بعيد.

أمّا الخطاب فيتألّف من مجموعة قضايا مترابطة، وبما أنها مادية تعزى إلى الظروف والخلفية التاريخية والزمانية، يعتبر «الحكم/ statement» بمثابة الذرة المؤلفة لكل خطاب، وبما أنّه لا يتمتع بتركيبة ألسنية لا يعدّ من صنف «العلامات/ Sign»، بل هو شكل من أشكال «الفعل الكلامي/ speech – act».

وأهم ما يميز الفعل الكلامي، أنّه: أ ـ يحمل شرط الصدق والكذب؛ ولذلك لا يحتاج أن يصدق على أمر معيّن. ب ـ يستنسخ بقدر كبير في المجتمع فينتشر بسرعة كبيرة. ج ـ له تبعات اجتماعية مهمة؛ إذ يتمتع بآليات الحذف والطرد.

يرى فوكو أنّ التشكلات الخطابية/ discursive formations تشير إلى مجموعة العقائد والمفاهيم التي تدعي إنتاج العلم عن العالم([2]). فالخطاب هو الذي يجعل من الإنسان موضوعاً، فيسمّي هؤلاء هذه الخصلة بـ «تحديد الموقع/ interpellation». كما أنّ شخصية الموضوع مجزأة/ split وليست موحدة. إذاً ليس الموضوع بنفسه سوى حقيقة أسطورية/ myt. يعتقد لاكلاو بأنّ كل موضوع أسطوري، والأسطورة فضاء إعادة الصياغة الذي لا يمتّ إلى واقع السلطة البنيوي بأي صلة مستمرة. أمّا الموضوع فله سمة استعارية؛ إذ لا يوجد أي ارتباط منطقي بين الخطاب واللاثبات. فكل مجتمع بحاجة إلى أسطورة، وكلّما اتسع مجال الأساطير/ mythical space، اتسع مجال عمل الموضوع([3]).

وقد وسّع لاكلاو وموف علم الأنساب الذي صاغه فوكو، وأبدعا فيه مفاهيم مختلفة، وأهم المفاهيم التي استخدماها في نظريتهما للخطاب، هي:

1ـ الخطاب/ discourseـــــــ

تسمّى العمومية المتشكلة التي تحصل نتيجة عمل التصنيف، خطاباً، والخطابات في الواقع منظومات من المعاني، تمعنن وتشخص فيها العلامات نتيجة تمايزها عن بعضها. وتشكّل الخطابات تصوراتنا وفهمنا عن الواقع والعالم الخارجي. إذاً تبقى عملية المعننة وفهم الإنسان خطابيةً على الدوام، فهي نسبية([4]).

اعتمد لاكلاو وموف الموضوعات والسلوك الخطابي بدل طرح موضوع العين والذهن والتمايز بين الإدراك الذهني والنشاطات العملية (التي استخدمها الشيوعيون في تعريف الأيديولوجية). إذاً ينبغي أن تفسر الأشياء والنشاطات ضمن إطار أعم كي تصبح مفهومة.

2ـ المفصلة/ articulation ـــــــ

تقوم المفصلة ـ كما يجدها هوارث ـ بجمع العناصر المختلفة وصياغتها ضمن هوية جديدة([5]). بعبارة أخرى: أيّ عمل يربط بين العناصر المتناثرة لخطاب ما، بحيث يعدّل ويصلح هوية هذه العناصر، يسمّى مفصلة. وتشيع معاني بعض العلامات في بعض الأحيان بسبب التمفصل، ويبدو ذلك طبيعياً.

يعتقد لاكلاو وموف أن تعريف المفصلة والخطاب مرتبطان ببعضهما: «كلّ عمل يسبب صلة بين العناصر، بحيث يعدّل ويعرّف هويتها يسمّى مفصلة. والمجموعة المنظمة التي تحصل نتيجة المفصلة تسمّى الخطاب»([6]). ويفهم المعنى الاجتماعي للكلمات والكلام والأفعال والمؤسسات في أرضية عاملة، تشمل التفاصيل والجزئيات.

3ـ السلطة والهيمنة/ hegemony ـــــــ

أدخل غرامشي هذا المفهوم إلى الفكر الماركسي بوصفه جرياناً سياسيّاً يمفصل العناصر المختلفة ويصيغ الهويات. على هذا الأساس، تجزّأ اتحاد وانسجام الطبقات والموضوعات الطبقية في الماركسية إلى مجموعة مواقع متزلزلة لكنها مترابطة، كما كانت تنتظم بجريان الهيمنة([7]). والهدف من الهيمنة إيجاد أو تثبيت نظام معنائي أو تشكيل مهيمن، وغالباً ما تنتظم هذه التشكيلات حول دال محوري.

يقول لاكلاو في آثاره المتأخرة: إنّ جميع مشاريع الهيمنة والبنى الاجتماعية وليدة الصدفة، وهي مهددة دائماً من قبل سائر الموضوعات والخطابات([8]).

4 ـ المتاحية availability والمصداقية credibility ـــــــ

استخدم لاكلاو هذين المصطلحين لبيان كيفية نجاح الخطابات. تعرّف ميزة المتاحية بالحاجة لإضفاء المعنى على الدوال العائمة/ floating signifiers. والدوال العائمة هي دلالات تسعى الخطابات المختلفة لإضفاء معنى عليها، كلٌّ بطريقتها الخاصة([9]). وينتهي الوجود المتزايد للدوال العائمة التي تفتقد معنى محدداً إلى الإبهام. وفي مثل هذه الظروف، تتاح للفاعلين الاجتماعيين خطابات يمكنها جذب هذه الدوال إليها، وإنهاء هذا الإبهام وغياب المعنى؛ فتتوفر إمكانية هيمنتها.

المصداقية شرط آخر لقبول أيّ خطاب. ويعني ذلك أنّ الأصول التي يقترحها الخطاب، يجب أن تكون متناغمة والأصول الأساسية لتلك الجماعة الاجتماعية؛ فكلما اختل واضطرب نظام الجماعة دحرت أصولها الأساسية؛ فإن بقيت أصول يمكنها تنظيم الجماعة وتمييزها عن غيرها، فلا يمكن للخطابات منازعتها.

5 ـ العناصر elements والفترات moments ـــــــ

العناصر دوال لم يثبّت معناها بعد، وتسعى الخطابات المختلفة لمعننتها. إنّها دوال عائمة لم تتقولب في إطار خطاب محدد، لكن الفترات فرص وعناصر تمفصلت داخل خطاب محدد، وحصلت على هوية ومعنى مؤقت. في الحقيقة، إنّ العناصر التي كانت متوفرة من قبل في دائرة الخطابات، وجذبت تدريجياً داخل الخطاب، تبدّلت إلى فترات، وتبقى المعاني والهويات نسبية دائماً فيمكن تغييرها حسب تغيّر الخطاب؛ فلا يثبّت المعنى بصورة كاملة أبداً.

سمّى لاكلاو وموف مواقع التباين differential positions إن كانت ممفصلة داخل الخطاب، فترةً؛ والتباين difference الذي لم يمفصل من ناحية خطابية، سمّياه عنصراً([10]). وبعبارة أخرى: تسمّى العلائم التي تمفصل حول دال محوري فترة، وتسمّى الفترات قبل التمفصل داخل خطاب محدد حيث تكون في فضاء الخطابات، عنصراً.

6ـ أواصر التكافؤ والتمايز Equivalence and difference ـــــــ

ترتبط الدوال الأصلية ببعضها حين التمفصل من خلال أواصر متكافئة، وتفتقر هذه الدوال إلى المعنى، أي لا معنى لها بحدّ ذاتها حتى تتصل بواسطة أواصر متكافئة بسائر الدوال التي تملأها بالمعنى، فتقف قبال هويات سلبية أخرى يبدو أنها تهددها. فمثلاً، تكسب الديمقراطية الليبرالية معناها من خلال الاتصال بدوال أخرى، كالانتخابات الحرة وحرية الرأي والبرلمان. وتغطي الخطابات الفوارق بأواصر متكافئة وتمنحها نظماً وانسجاماً؛ فتفقد العناصر في حالة التكافؤ خصالها المتفاوتة ومعانيها المتنافسة وتفنى في المعنى الذي يوجده الخطاب.

ويركز منطق التمايز على التمايزات والحدود بين القوى الموجودة، في حين يسعى منطق التكافؤ إلى التقليل من تمايزها من خلال مفصلة بعض هذه القوى، كما ينظمها قبال الآخر بجذب العناصر العائمة وتبديلها إلى فترات. إذاً منطق التكافؤ شرط لوجود أي مفصلة([11]).

7ـ الانغلاق والتوقف closure ـــــــ

يعني الانغلاق التوقف المؤقت في عملية إعطاء الهوية للعلائم، وتثبيت معنى علامة ما في خطاب محدد لفترة مؤقتة؛ فلا يكون هذا الأمر كاملاً أبداً، ويبقى نسبياً ومؤقتاً. فالانغلاق هو التوقف المؤقت في جريان عدم ثبات المعاني، ويخلق الخطاب في حالة الثبات تصوراً بأنّ الدوال العائمة ثبتت في فترة ما. وإذا ما أردنا الربط بين الانغلاق ودور عنصر وفترة ما في خطاب محدد، يمكننا القول: «إنّ الخطاب سعي لتبديل العناصر إلى فترات من خلال تقليل المعنى المزدوج لها إلى معنى ثابت تماماً»([12])، وفي مثل هذه الحالة، يحصل شكل من أشكال الانغلاق في معنى الدال يمنع تأرجح معناها، لكن هذا الانغلاق ليس دائمياً. في الحقيقة، إنّ الانتقال من وضعية العنصر إلى الفترة لا يتم بصورة كاملة أبداً([13]).

8 ـ الدال المحوري Nodal point ـــــــ

استعار لاكلاو وموف هذا المصطلح من لاكان؛ إذ تتمحور جميع العلائم حول الدال المحوري؛ فتشكّل النقطة المركزية في منظومة الخطاب. وتستقطب الطاقة الجاذبة لهذه النقطة سائر الدوال وتنظمها، كما تنتظم المفاهيم التي تمفصل خطاباً ما حول النقطة أو الدال المحوري.

9ـ المجال الخطابوي field of discursivity ـــــــ

المجال الخطابوي رزمة من المعاني الإضافية الفاعلة بالقوة خارج المنظومة الخطابية المحددة التي طردتها. من ناحية أخرى تعدّ هذه المعاني موادّ أولية لتمفصلات جديدة. وبما أنّ الهويات نسبية وارتباطية فليس هناك أي هوية ثابتة.

10ـ الانتزاع dislocation ـــــــ

الهويات والخطابات متزلزلة بسبب وجود الخصومة والانتماء إلى الآخر. نجد الآخر من ناحية يوفّر شروطاً تتيح ظهور الهوية، ومن ناحية أخرى يعرّضها للتهديد والفناء. والانتزاع حوادث تحصل نتيجة تنامي الخصومة وبروز الآخر والتعدد في المجتمع؛ فهي حوادث لا يمكنها أن تتعيّن وتتشخص بنظم خطابي قائم، ولذلك تسعى للقضاء عليه. أما مخلفات الانتزاع فهي: الوقتية temporality والإمكانية possibility والحرية freedom أو الافتقار إلى بناء متشخص([14]).

ويشير الانتزاع إلى إمكانية وصدفية الصور الاجتماعية والتغيرات التي لم تحدّد وجهتها من قبل. ويحدث الانتزاع حين تبدأ الخطابات بالتباعد الأمر الذي يحدث بدوره حين حصول اضطراب اجتماعي أو اقتصادي شامل، أو حين تؤدي هذه الاضطرابات إلى حسّ الموضوعات بأزمة الهوية. وفي مثل هذه الظروف، تسعى الموضوعات لإعادة صياغة هوياتها ومعانيها الاجتماعية من خلال التمفصل وتعيين الهوية مع سائر الخطابات البديلة([15]).

11ـ المشروط / المحتمل contingency ـــــــ

ينحدر هذا المفهوم الأساس لدى لاكلاو وموف من مفهوم الصدفة والعرض في فلسفة أرسطو، ويقف قبال أيّ تصور ذاتي وضروري في مجال الاجتماع، وقد استخدم مفهوم الصدفة accident في فلسفة أرسطو في الظروف التي لا يمكن نسبة حادث أو أمر إلى علة ما([16]). إنّ الوجود والهوية ماهية تنشأ من الخارج، هذا الخارج Outside أو الآخر يلعب الدور الأساس في منح الهوية وتفعيل الخطابات؛ فلا خطاب من دون التمايز عن الآخر.

12ـ العداء أو التنافر Antagonism ـــــــ

خلق الأضداد الاجتماعية وتجربتها أمر محوري في نظرية الخطاب من جوانب ثلاث: الأول هو أنّ خلق علاقة عدائية ـ والتي غالباً ما تنتهي إلى خلق «عدو» أو «آخر» ـ أمر ضروري لرسم الحدود السياسية. والثاني أنّ نشوء علاقات عدائية وتثبيت الحدود السياسية، أمر محوري في تثبيت قسم من هوية تشكيل الخطاب والفاعلين الاجتماعيين. أمّا الثالث، فهو أنّ تجربة العداء أنموذج يعكس لنا انتزاع الهوية؛ فعلى أساس نظرية الخطاب، ظهور هوية كاملة وإيجابية من قبل الفاعلين والمجاميع أمر غير ممكن. إنّما حضور «الآخر» هو الذي يمكنه التأثير على تشكيل الهوية. وتكمن أهمية مفهوم التنافر أو التضاد في أنّ كلّ شيء يحصل على هويته من خلال الارتباط بـ«الغير». ويرى لاكلاو وموف أن ليس هناك هوية ثابتة ودائمة ومحددة من قبل؛ لأنّ الهويات تحصل على المعنى داخل البناء الخطابي؛ إذاً فالهويات خطابية، وبعبارة أخرى: تمنح المواقع إلى الفرد أو المجموعة داخل الخطابات، لكن لا يثبت معنى دلالة ما داخل إطار، ويبقى احتمال رسوخ معنى آخر وخطاب آخر قائماً دوماً. إذاً كلّ هوية خطابية متزلزلة وغير مستقرة وسبب هذا التزلزل أنّ الهويات معرّضة لنفي «الآخر» دائماً، فلا تثبت أبداً. ويمكن للأفراد اكتساب هويات مختلفة حسب المواقع المختلفة التي تخلقها الخطابات لهم؛ إذاً ينبغي الالتفات في مفهوم الهوية إلى كونها نسبية ومعرّضة للنفي.

13ـ الذاتية([17])، الفاعلية الاجتماعية([18])، والموضوعة السياسية([19])ـــــــ

يتبنى لاكلاو وموف رأي آلتوسر في أنّ هويات المواضيع تصنع على شكل خطابات، لكنهما يرفضان دلالة كلامه الالتزامية على الجبر([20])؛ إذ يعتقدان بالتفكيك بين مواقع الفرد Subject positions والذاتية السياسية Political subjectivity. ويعود مفهوم موقع الموضوع إلى أشكال متعددة يتصوّر من خلالها الفاعلين أنفسهم داخل الخطابات بوصفهم ناشطين اجتماعيين. كما يعود مفهوم الذاتية السياسية إلى وقت يعمل فيه الفاعلون بصور بديعة أو يتخذون قرارات ما، وحين يبرز عدم استقرار الخطابات المانحة للهوية يتوفر إمكان ظهور الموضوعة السياسية، وتُتصوّر شخصية الموضوع مجزأة في هذه النظرية وليست بموحدة. كما يستخدم مفهوم الموضوعة السياسية بشكل عام لبيان طرق عمل الأفراد بصفتهم فعّالين اجتماعيين، ومن خلال ذلك تعطى الإجابة على الإشكالية القديمة في العلوم الاجتماعية، وهي البناء ـ الفاعل([21]).

وحين يتزلزل خطاب ما ولا يتمكّن من إعطاء هوية للفاعلين الاجتماعيين، تتوفر إمكانية ظهور الموضوع السياسي؛ إذاً ظهور الموضوع ينتج عن إمكانية وجود وعدم تثبيت الخطابات بشكل كامل وأزمة الهوية في ظروف التزلزل الخطابي. تنشأ الموضوعات على حافة البنى الخطابية المتزلزلة. ففي الحقيقة، حين يضعف الخطاب الحاكم تتوفر إمكانية ظهور موضوع وتمفصلات جديدة([22]).

إرهاصات خلق تمايزات التشيع/ التسنن ـــــــ

يمكن تحليل خطاب الشيعة والسنة في مقاطع تاريخية مختلفة بهذا المنهج؛ فقد نشأ الخطاب الشيعي في عصر الصادقين‘ قبال الخطاب السني، لا سيما في الأبعاد الكلامية والفقهية. وفي خضم ذلك كان لصناعة التمايزات دور أساسي؛ لذلك كُلّف الشيعة بمخالفة تعاليم أهل السنّة لبناء أسس الفقه: «خذ ما خالف العامة»، و«الرشد في خلافهم». وإن لم يرغب الأئمة الأوائل بتصنيف المسلمين صراحة وباستمرار ضمن فرقتين: شيعة وسنة، لكن حدث هذا التصنيف عملياً على أيدي الأمويين؛ فبعد تولّيهم السلطة أصبح اعتبار أتباع الإمام علي «الآخر» جزءاً من عملية إضفاء الهوية على الخطاب الحاكم.

وظهر في عهد الصادقَين الشيعةُ المهتمون بالمعرفة والنصوص، وشكّلت الإمامة أهم قسم في الخطاب الشيعي، وعملت كدال أساسي في محوره، وتمكّن التمحور حول المعرفة والنصوص آنذاك من تلبية الطلبات المتزايدة للجماعة الشيعيّة التي كانت في طور النشوء، من أجل حضور مستمر ومؤثر في المجالات السياسية، فكوّنت جماعة محددة، وإن صنّفت ضمن المعارضين للحكومة القائمة، لكنها لم تقدم على عمل راديكالي حتى في الفترات التي بدت مناسبةً للتدخل السياسي وقلب الوضع القائم.

وتجد دلالات كالقائم والبداء والشفاعة والتقية والعصمة وحوض الكوثر ومنتقم آل محمد و.. معناها في سلسلة من الارتباطات والاتحادات مع سائر الدوال في المراحل التالية، كما تبحث كلّ منها عن صيغة من الأدوار التي يترقبها أو يحتاج إليها هذا الخطاب.

ويبيّن الرسم البياني التالي بوضوح كيفية تكوّن الخطاب الشيعي نظراً للفترات المذكورة([23]).

تكريس القوة لدى الإمام والمطالبة بالتبعية الكاملة له = الإمامة

ــــــــــ

طاعة الإمام المطلقة والمسبقة = الولاية

قبول أوامر الإمام دون أي نقاش بسبب انتسابه إلى آل الوحي

الإمام المفترض الطاعة

المنتقم
الإمام
الولاية
التقية
قبول الأحكام المختلفة الصادرة عن الإمام في المجتمع الشيعي = المصلحة

ــــــــــ

عزو المواقف المتفاوتة للأئمة إلى قرار حكيم من أجل حفظ نظام الشيعة = الحكمة

إخفاء أمر القائم «إياكم والتنويه عن خصوصياته»

التزام الصمت أمام الظلم والصبر «الذي يملأها عدلاً كما ملئت ظلماً»

خلق التشيع الصفوي التمايز قبال التسنن العثماني : تحالف رجال الدين مع السلطة ـــــــ

نشوء التشيع الإيراني قبال التصوف العثماني يقع في صميم بحثنا الحاضر ـ مسألة الوحدة والتقارب ـ فقد تهيأت الأرضية المناسبة لظهور خطاب جديد مع اتضاح علامات انتزاع الخطابات السابقة على التصوف، نظراً للمتاحية والمصداقية.

ويعدّ تأسيس السلالة الصفوية وسيطرتها نقطةَ عطف في تاريخ الشيعة، كما في عملية التضاد والتمايز بين الشيعة والسنة. «الملك» هو الدال المحوري في هذا الخطاب الذي مفصَلَ عناصر المذهب الشيعي، بصفتها فترات، وميّز نفسه عن الخطاب العثماني الذي يشكل «الخليفة» داله المحوري.

تمكّنت الصفوية بمساندة من العلماء الوافدين في الأغلب من لبنان، من استحضار مفاهيم النطاق الخطابوي ومفصلتها مع سائر دوال الخطاب الجديد. إنّ تاريخ الصفوية مشحون بقصص فساد ملوك هذه السلالة ومجونهم وسكرهم. إذاً لا يمكن عدّهم أفراداً معتقدين وملتزمين بالأصول الأخلاقية والمذهبية، وتبعاً لذلك، لا يتصوّر صدقهم وإخلاصهم في إعلان التشيع مذهباً رسميّاً. لكن على الرغم من ذلك، أقبلوا على العلماء ورجال الدين الشيعة، كالشيخ البهائي ومحمد باقر السبزواري وحسين الخوانساري والعلامة المجلسي، من أجل الحصول على قاعدة شعبية وإضفاء الشرعية على الخطاب الشيعي الصفوي. أمّا هؤلاء العلماء فقد استجابوا لتلك الدعوة وحالفوا الملوك لما وجدوا من فرصة لتبليغ الدين ودعم أسس المذهب الجعفري.

يعتقد شريعتي أنّ من هذا المنطلق جعل جميع المكاسب التي حصلت تبوء بالفشل؛ فحين ارتفعت الموانع عن طريق الممارسات المذهبية وإحياء الشعائر الشيعية، توقفت النهضة الشيعية.

ولم يمتلك الموضوع الاجتماعي استقلاليةً في الخطاب السلطوي الجديد؛ لذلك لم يكن الموضوع الذاتي والمستقل سوى حلماً؛ فحين علا نجم رجال الدين الشيعة، تغيّرت مراسيم تتويج ملوك الصفوية أيضاً. إذ كان في ما مضى أنّ أحد شيوخ المتصوفة يقلد الملك سيف السلطنة؛ لكن طلب الملك حسين من العلامة المجلسي تقليده السيف، وكأنّ علماء الشيعة ـ الذين لقّبوا بشيخ الإسلام ـ باتوا يفوّضون السلطة والحكومة من قبل الأئمة ـ وهم الأصحاب الحقيقيون للحكومة في الإسلام ـ للملك نفسه.

وقد حمل التدهور الأخلاقي للبلاط والمجتمع آنذاك العلماء إلى انتهاز الفرص التي يتيحها لهم دخولهم البلاط، كي يلزموا الملوك الصفويين بإصدار أحكام تحسّن من وضع الدولة والمجتمع، كمنع المسكرات في زمن السلطان حسين بطلب من العلامة المجلسي، وإن أخفق الأخير في منع الملك نفسه عن شرب الخمر إثر مؤامرة مريم بيكم، عمة الملك. وقد تحققت أخيراً نبوءة المجلسي في أنّ الملك سوف يسلّم السلطة إثر سكره الدائم؛ إذ استسلم لمحمود أفغان بعد فترة طويلة من محاصرة إصفهان وتقديم كثير من الضحايا وظهور علائم الانتزاع([24]).

ويمكن تبرير تعاون رجال الدين مع الحكومة وإطرائهم على ملوك الصفوية من وجهة نظر العلامة المجلسي، كما يلي:

1 ـ إذا كان عدم اللقاء بالملك أو عدم الاكتراث به يسبب إضراراً بالعلماء وممتلكاتهم فتجب زيارته والتعامل معه وفقاً للتقية.

2 ـ إذا كانت مؤازرة الملوك ومداراتهم تدفع ضرراً عن مظلوم أو تجلب نفعاً للمؤمنين، فيكون القيام بها أمراً ضرورياً.

3 ـ إذا أمكنت هداية الملك وحاشيته بالتواصل معهم، فهو لازم، أي يكون التواصل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يعتقد شريعتي أن دور التشكيلة الشيعية في العهد الصفوي، هو: 1ـ التبرير للبلاط الصفوي. 2ـ التبرير للوضع القائم. 3ـ تقديس النظام الحاكم. 4ـ صناعة مادة تخميرية للفرد الإيراني. 5ـ جمع العدّة والعدد للهجوم على العثمانيين([25]).

كان من الضروري في خطاب التشيع الصفوي الجديد، خلق دوال لإضفاء الشرعية على السلطة؛ لذلك نجد تغيّراً في الخطاب الشيعي في العهد الصفوي. وفي الحقيقة نرى أهم تغيير في حركة الدال المحورية وانتقالها؛ إذ تبدلت من «الإمام» ونظرية الإمامة إلى «الملك». يقول محمد باقر السبزواري ـ شيخ الإسلام في إصفهان ـ في كتابه روضة الأنوار: «بما أنّ الخلق لا ينقادون إلى الشريعة والأحكام الإلهية طواعية، فهم بحاجة إلى ملك عادل يقودهم باللطف والعنف إلى طاعة الأحكام الإلهية والانقياد إليها، فيوصل كل ذي حقّ إلى حقه ويأخذ ثأر المظلوم من الظالم ويقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يسمّى هذا الشخص الإمام وخليفة الله، ويسميه الحكماء الملك على الإطلاق»([26]).

يبيّن الرسم البياني التالي كيف أنّ الخطاب الشيعي الصفوي استطاع مفصلة دوال، كالإمامة والانتساب إلى النبي’ والانتظار والغيبة (من الثقافة الشيعية)، ومفاهيم كالشوكة الإلهية (من الخطاب الإيراني)، والولي والمرام (من التصوف)، حول «الملك» الدال المحوري([27]). وقد تألّف الخطاب الصفوي لمناهضة الخطاب العثماني؛ لذلك كانت كثير من حقائقه سطحية، وصناعة التمايزات هذه يمكن ملاحظتها في الخطابين أعلاه.

أ ـ خطاب التشيع الصفوي

                   التراث الإيراني

الشوكة الإلهية

ظل الله     حامي الدين

مروج الشريعة

                           التصوف                   التشيع

     الإمامة

الانتساب إلى آل الرسول

الانتظار     الغيبة

المرشد الكامل

المراد   الشيخ

خليفة الخلفاء

الملك

ب ـ خطاب التسنن العثماني

   الخاقان

خونكار   الرب

السيد

                   التقاليد التركية

     الخلافة

الانتساب إلى الخليفة العباسي

خليفة المسلمين   الخلافة الكبرى

الأبدال

الشيخ الأب

الدرويش

            التصوف                     التسنن

السلطان

مفصل الخطاب السني العثماني أيضاً مفاهيم من التصوّف والتسنن والحضارة التركية حول دالّه المحوري «الخليفة». ويطلق شريعتي على التشيع الذي يرتضيه، التشيع العلوي، ويضعه مقابل التشيع الصفوي وينتقد التشيع القائم ومن يمثله من رجال الدين. ويرى شريعتي أنّ التشيع كان ثورياً ومناضلاً حتى العهد الصفوي، لكنّه ما إن أعلن مذهباً رسمياً من قبلهم حتى وظّف لخدمة الدولة والسلطة. وقد جرّ التشيع الصفوي الناس بالتقية والانتظار، إلى الانفعال والانزواء والصمت تجاه جميع الانحرافات وانتهاكات السلطة، وتعطيل النضال بصورة مطلقة، وحوّل التشيع من مذهب فعّال إلى مذهب الخوف والخنوع.

ويرى شريعتي أنّ التشيع الصفوي هو مذهب الشرك والبكاء والتقية والجهل والبدعة والتفرقة والمديح والإطراء والجمود والعبودية والموت والتوسل بغرض التحايل، وتعني الغيبة في التشيع الصفوي الاستسلام والتحمّل والصبر والصمت وتعطيل الإسلام الاجتماعي؛ ولذلك لن يكون هناك معنى للحديث عن الحكومة الحقة أو الباطلة وصلاح المجتمع أو انحطاطه([28]).

ويعتبر شريعتي أنّ أشخاصاً كالسيد جمال والميرزا الشيرازي والسيد الخميني ـ الذي يسميه مرجع عصره الكبير ـ لا يمثلون الجوّ الحاكم على الحوزات العلمية، بل هم استثناءات على القاعدة([29]). وينتقد ـ هو وآخرون ـ رجال الدين في العصر الصفوي، ويعتبرون ادعاء الصفويين السيادة والانتساب إلى الإمام موسى الكاظم انتحالاً وكذباً، في الوقت الذي يؤكّد علماء عصر الصفوية هذه السيادة.

لقد أخرجت الصفوية فجأة النهضة الشيعية من مخابئها إلى العلن، لكن لم يكن للأقلية الشيعية آنذاك طقوس محددة أو رموز وعلائم ومراسم اجتماعية. لهذا عولجت هذه القضية بتأسيس وزارة لهذا الأمر، وكلّف شخص باسم «وزير المراثي» بهذه المهمة. جاء هذا الوزير أولاً بتحف الغرب إلى إيران في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث اقتبس من أوربا الشرقية ـ بعد زيارتها ـ رموز المراسيم الدينية وآلاتها وتصاميمها والمراثي المعمول بها في الكنائس، ثم أضفى عليها ـ بمعونة رجال الدين ـ طابعاً شيعياً إيرانياً؛ فظهرت طقوس ورموز لم يسبق لها مثيل لا في إيران ولا في الإسلام ولا حتى عند الشيعة، مراسيم كالتمثيل والتشابيه والتشييع الرمزي ورفع الأعلام الحديدية وخدمة الستارات ورسم الصور والمبارزة وتعليق الأقفال بالأجسام والضرب بالسلاسل أو الموسى والعزف والطبول و…([30]).

كان هذا الخطاب الجديد بحاجة إلى خلق تمايزات أخرى، فاشتدّ النزاع بين المذاهب والطوائف. يعتقد إدوارد براون أنّ نفوذ العلماء وعلوّ شأنهم لم يساعد على الوحدة الوطنية، بل على العكس، جرّ تعصّبهم إيران إلى التشرذم، وخير شاهد على ذلك التحاق المجوس في إيران بالأفغان حين هجومهم عليها([31]). كما لازمت مجموعة من السبّابين المحقق الكركي فكانوا يلعنون الشيخين([32])؛ من هنا اعتبر علماء العثمانية قتل شيعيٍّ أفضل من قتل سبعين كافراً محارباً([33]).

يكتب أمير محمود بن مير خوانده: «أمر الملك إسماعيل بتغيير محاريب المساجد والمعابد السنية والمناداة حين الأذان بـ «أشهد أنّ علياً ولي الله» بعد الشهادتين، وبـ«حيّ على خير العمل» و «محمد وعلي خير البشر» بعد «حيّ على الفلاح». كما أصدر أمراً واجب الإطاعة إلى حرّاس العتبات المقدسة بقطع رأس كل من يصلي على غير طريقة الإمامية. وألقي كل الجهلة والمتعصبين الذين كانوا يعذّبون محبي أهل البيت والشيعة ويؤذوهم قبل اعتلاء أبناء ملك الولاية العرش في مدينة الولاية، في نار الانتقام. وطهّرت آنذاك أرض آذربايجان من دنس الجهال وأهل الضلال بسيوف الغزاة، وشاع الدين الحقّ بصورة كاملة»([34]).

أصبح اللعن علنياً في هذه الفترة، مما باعد بين المذاهب؛ وللأسف على الرغم من إعلان قائد الثورة الإسلامية [السيد علي الخامنئي] حرمته، مازال الشيعة في عهد الجمهورية الإسلامية يزاولونه. ويتسنّى لنا تخمين أسباب نشوء هذه الظاهرة بالتحليل الخطابي لمسألة الوحدة والتقريب في فترة محددة، وكيف أنّها فقدت موضوعيتها في الخطاب الحديث.

صدمة الحداثة ووحدة الشيعة والسنة ـــــــ

بذلت منذ فترة طويلة جهود للتوحيد والتقريب بين الشيعة والسنة ـ دون التطرق للتحليل الخطابي ـ فيرى ابن رشد أنّ من الضروري الأخذ في الفقه بكل ما يوجد صحيحاً من جميع المذاهب، وعدم الالتزام بتقليد مذهب معيّن([35]). إنّ الأصوليين والعقليين بشكل عام أقرب إلى فكرة التقريب من أهل الظاهر؛ فلم يوافق الآخوند الخراساني الرأي المشهور في ولاية المعصومين بل طرح رأياً آخر؛ إذ كان يعتبر الولاية المطلقة منحصرة بالذات الربوبية، وولاية النبي التشريعية مقيّدة بالأمور السياسية العامة المهمة، كما يجد الأدلة عاجزة عن إثبات ولايتهم في الأمور الجزئية الشخصية، ويرى سيرة النبي والأئمة، محافظة دوماً على حرمة حياة الناس الخاصة وأنّ ولايتهم لم تكن عامة.

يقول الخراساني في رفض رأي الشيخ الأنصاري: «فاعلم أنّه لا ريب في ولايته [الإمام] في مهام الأمور الكلية المتعلقة بالسياسة التي تكون وظيفة من له الرياسة؛ وأمّا في الأمور الجزئية المتعلقة بالأشخاص، كبيع دار وغيره من التصرف في أموال الناس، ففيه إشكال، مما دلّ على عدم نفوذ تصرّف أحد في ملك غيره إلا بإذنه، وأنّه لا يحلّ مال إلا بطيب نفس مالكه، ووضوح أنّ سيرة النبي’ أنّه يعامل مع أموال الناس معاملة سائر الناس؛ ومما دلّ من الآيات والروايات على كون النبي’ والإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأمّا ما كان من الأحكام المتعلقة بالأشخاص بسبب خاص، من زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وإن يكون أولى بالإرث من القريب، وأولى بالأزواج من أزواجهم؛ وآية {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 6) النبي أولى بالمؤمنين» (الأحزاب: 6)، إنّما يدلّ على أولويته فيما لهم الاختيار، لا فيما لهم من الأحكام تعبداً وبلا اختيار.

بقي الكلام في أنه هل يجب على الناس اتّباع أوامر الإمام× والانتهاء بنواهيه مطلقاً ولو في غير السياسيات وغير الأحكام من الأمور العادية، أو يختصّ بما كان متعلقاً بهما؟! فيه إشكال، والقدر المتيقن من الآيات والروايات وجوب الإطاعة في خصوص ما صدر منهم، من جهة النبوة والإمامة»([36]).

وإذا لم يجد الآخوند الحكومة الدستورية مخالفةً للشريعة، لكنه خالف إلحاق عبارة «المشروعة» إلى عنوانها، ولم يكن ذلك جدالاً على ألفاظ، بل كان يعتقد بانحصار الحكومة المشروعة بالمعصومين.

وفي رأيه الآخر، لا يعتبر ولاية الفقيه مطلقةً بعد نفيه لولاية الفقهاء في الأمور الحسبية، كما لا يجد في المجال العام فرقاً بين الفقيه وغيره([37]). لكنّه شقّ طريقاً من خلال الحركة الدستورية بنظرته الإيجابية للحداثة، واتبعه الآخرون بعد ذلك.

لفت السيد البروجردي الأنظار إلى مسألة مهمة ممهّداً بذلك للتقريب بين الفريقين والتعاون مع الشيخ شلتوت. يعتقد البروجردي أنّ علينا طرح الولاية الدينية للأئمة بدل الولاية السياسية التي أصبحت من التاريخ؛ لذلك ينبغي التركيز على حديث الثقلين أكثر من حديث الغدير، إذ إنّ قضيتنا اليوم تفسير الشريعة لا حقانية الإمام علي× في أمر تاريخي. ويعتبر الشأن الذاتي للأئمة تبليغ الشريعة وتفسيرها لا الدخول في السياسة بل لم يتصدّوا لها إلا من باب «المصلحة»([38]).

ويعتبر الشيخ محمد صالح الحائري المازندراني ـ المعاصر للبروجردي ـ خطوات الشيخ عبد المجيد سليم للتقريب بين المسلمين، من خلال احترام عقائد الآخر والتركيز على المفاهيم المشتركة كالنبي’ والقرآن الكريم، ضروريةً، لكنّها غير كافية، داعياً مفكري كلا الفريقين لإعادة دراسة جميع مسلّماتهم؛ معتقداً أنّ مفاد حديث الغدير هو ترشيح الإمام علي×، لا تنصيبه في منصب سياسي([39]).

ولم يفكك الشيخ الدكتور مهدي الحائري في نظرية الوكالة التي طرحها، بين شؤون رجال الدين والأمور السياسية فحسب، بل اعتبر السياسة أمراً وضعياً لا يتمتع بكثير صلةٍ بالدين؛ لذلك يجد الحكمة منفصلةً عن الحكومة، كما فعل علي عبد الرازق من قبل. ويعتقد الحائري أنّ الأئمة المعصومين لم يتمتعوا بولاية سياسية، بل لا يرى شأناً كهذا لهم؛ إذ يستلزم ذلك دوراً مضمراً (دور مع واسطة) في رأيه. ويمكن مقايسة هذا الاستدلال بإثبات نظرية النصب ببرهان اللطف. ويعتقد الخواجة نصير الدين الطوسي بأننا لو لم نبلغ الواقع في المسائل الجزئية لم يتحقق مقصود الشارع؛ فينبغي أن ينصّب هو أحداً ما، وعلى خلافه يرى الشيخ الحائري أنّ تنصيب وليّ للأمور التنفيذية أمر مستحيل، ناهيك عن ركاكة الاستدلال، كما أنّ العمل بالتكليف أو عدمه لا يتصوّر إلا بعد وجوده في مرحلة الجعل، وهي متأخرة رتبةً عن إرادة تشريع الحكم؛ إذاً فضمان تنفيذ كل حكم خارج عن جعله وتشريعه؛ فإن أراد الله تحديد ضمان تنفيذ الحكم (الولاية السياسية) لاستلزم ذلك تقدّم الشيء على نفسه بمرتبتين، وهذا دور مضمر([40]).

وهناك آراء مختلفة لآخرين في التقريب أيضاً؛ فعلى سبيل المثال، كان للتقية المداراتية ـ قبال التقية الزمنية ـ التي أفتى بها الإمام الخميني دوراً مهماً في توحيد المسلمين في عهد الجمهورية الإسلامية.

            نظرية الشيخ واعظ زاده الخراساني في قضيّة التقريب ــــــــ

كما يسعى الشيخ واعظ زاده الخراساني لتقديم صياغة جديدة عن شرعية حكومة أبي بكر؛ نظراً لاعتقاده بعدم أصالة الاختلاف بين الشيعة والسنة في العصر الحاضر، ويرى أنّ من الممكن اعتبار حكومة الخلفاء مشروعة، شرط أن نميّز بين أولويتين: الأولى هي الالتزام بالنص على الخلافة، والثانية هي صدّ المنافقين والمرتدين واليهود والنصارى بواسطة شورى أهل الحلّ والعقد، وهو ما كان علي× يذعن به. ويمكن تبرير الأولوية الثانية بصورتين: 1 ـ الترتب (الحكمين المتضادين، حيث يتوقف الثاني على عصيان الأول). 2 ـ من باب الضرورة. وشواهد الأولوية الثانية هي:

1ـ كلام الإمام علي× في الخطبة السادسة من نهج البلاغة: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد. وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى»؛ ولهؤلاء إصدار حكم القتل أيضاً.

2ـ كلام الإمام علي: «لقد علمتم أنّي أحق الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن لها جور إلا عليّ خاصة».

3ـ وكلامه: «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة». أي لم تكن له رغبة بالأولوية الثانية لكنّه اعتبرها شرعية في النهاية.

4ـ اعتبار الإمام علي حضور جماعة كافياً للبيعة.

5ـ احتجاجه في الخطبة 172 من نهج البلاغة على طلحة والزبير بأنّهم بايعوه، في حين كانت البيعة بعد الخلفاء الثلاثة ولم تكن على إمامته.

6ـ قوله في الخطبة 229: «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها».

كما وردت رسالة في كتاب الغارات للشيعي الثقفي الكوفي، ذكر فيها أنّ بعض أصحاب الإمام علي، كحجر بن عدي، سألوه عن الخليفتين حين سقطت مصر بيد معاوية. والغريب أنّ الأمر غامض بالنسبة لهم بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام عليه، فأجابهم الإمام: «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً… فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته… فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه، فسمعنا وأطعنا». وقد جاءت هذه الرسالة مقطّعةً في نهج البلاغة، كما ذكرت في شرح ابن أبي الحديد بوصفها خطبة([41]).

ويؤيّد تاريخ الصحابة هذا الرأي أيضاً؛ فقد اجتمع الأنصار في السقيفة النائية ولم يجتمعوا في المسجد كي لا يسمع المهاجرون بأمرهم، لكن التحق بهم عمر وأبو بكر وأبو عبيدة، وطرحوا خلافة أبي بكر؛ إذاً لم تكن مؤامرة مبيّتة ولم يذكر أحدٌ اسم علي×.

وقد تكون الأسباب التالية وراء مبايعة الناس أبي بكر:

1ـ صحيح أنّ علياً أوّل من آمن برسول الله، لكن تمّ ذلك في البيت في حين كان إيمان أبي بكر في العلن.

2ـ حين نام علي مكان رسول الله، ينقل القرآن قصة غربة أبي بكر في الغار، ولم يقل له النبي: «لا تخف»، بل «لا تحزن». أي لم ينشأ الموضوع من ضعف نفسه، بل الحزن على المكاسب وهكذا كان تصوّر الناس عنه.

3ـ ذكر اسم كليهما في حجّة السنة التاسعة؛ إذ كان أبو بكر أمير الحاج، وإن قالت الشيعة: إنّها أخذت منه، وفيما عرف علي بقتله المشركين، عُرف أبو بكر بحكمته ووقاره، وفي هذا يقول الشيخ شلتوت: إنّ أبا بكر كان مظهر السلم فيما كان علي مظهر الغضب([42]).

ويذهب واعظ زاده إلى أنّه حيث لم تتحقق حكومة الإمام علي×، كان هناك وجه لشرعية حكومة الخلفاء؛ فلا يمكن اعتبارها غير شرعية بالكامل، فهو وإن لم ينظر إلى المسألة من منطلق خطابي، لكنه يقول بوضوح: إنّ كثيراً من القضايا الشيعية البديهية في هذا الزمان تحتاج إلى إعادة نظر فيها، ومن الممكن فهمها بشكل آخر.

ما هي المسؤوليات في عصر الجمهورية الإسلامية؟ ـــــــــ

لا يمكن تقييم مصير الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمعزل عن المذهب الشيعي؛ فقد شهد التشيع هذه المرة خطاباً جديداً من التطورات التاريخية والتحولات الفكرية في إطار هذا النظام الجديد، بدالّها المحوري «ولاية الفقيه». وتعود هذه المسألة إلى سيطرة فكرة تلازم «التشيع» و«السياسة» في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي هذه الفترة بالذات تكوّن خطاب من التشيع والإسلام السياسي، ليجمع عناصر التراث/الحداثة بشكل بديع، ولأول مرة في تاريخ الشيعة يطالب أتباع هذا المذهب بشكل من أشكال أصالة العمل، على الرغم من الالتزام ببعض المفاهيم الشيعية الاعتقادية المتمركزة على المعرفة. وقد اعتمد التشيّع هذه المرة في أفقه الجديد على مجموعة محددة من المعتقدات (أصالة المعرفة) ومصادر محددة لتفسيرها (أصالة النخب)، وفي نفس الوقت طالب أتباعه بالحضور في المجتمع (أصالة الجمهور)، والتفاعل الإيجابي مع الأحداث الجارية في مجالات السلطة والسياسة (أصالة العمل).

وملخص الحديث: إنّ وحدة الشيعة والسنة إذا ابتنت بشكل تكتيكي على أصل الضرورة وأمثالها فسوف تبقى مهددة؛ فبمجرد الخروج من ظروف الضرورة تبدأ التناقضات، ولا تكفي العودة إلى القرآن بوصفها آليةً لبلوغ الوحدة أيضاً؛ لأنّ الخلاف بدأ عليه أساساً، فالنزاع الشيعي/السني أمر خطابي، ويختلف من خطاب لآخر، وأغلب نزاعات الشيعة والسنّة في العصر الصفوي، وبعض اختلافاتهم تعود إلى عهد الصادقين‘ ممّا يقبل التفكيك؛ وإنّما برزت هذه الازدواجية في عهد الصادقين؛ لأنّ بعض الأفراد ـ كأبي حنيفة ـ أسّسوا مدارس فقهية قبال الإمام الصادق. بينما كان النزاع في العصر الصفوي سياسياً واجتماعياً يعود للسلطة وتأسيس السلالة الصفوية.

إنّ خلفية أغلب عناصر الصفوية وأواصرها التكافؤية قبال العثمانية تعود إلى السلطة بمعناها العام، لا الآراء الدينية والأفكار.

وفي العصر الحديث ـ عهد الجمهورية الإسلامية ـ أصبح «الآخر» هو الإلحاد والأنسنة (في الأبعاد الفكرية)، وإسرائيل (في الأبعاد السياسية)؛ فعلى الجميع ـ شيعة وسنّة، وحتى أتباع الديانات الإبراهيمية وجميع أحرار العالم ـ مقاتلة العدو المشترك من موقع واحد. إنّ الذين يسعون لإثارة النعرات الطائفية مرة أخرى ـ عامدين أم جاهلين ـ يخدمون العدوّ المشترك.

وفي هذا العصر يسعى الغلاة من الشيعة والسنة عن جهل في الغالب، والمستعمرون عن قصد وعمد، إثارة النزاع الشيعي/السني مرة أخرى([43])؛ ليصرفوا الأنظار عن تقابل الدين/الإلحاد، والمظلوم/الظالم. والغريب في الأمر أنّ المفرطين من الفريقين مستعدّون للاتحاد مع أهل الكتاب وغيرهم، لكنّهم لا يريدون إطفاء نيران غيظهم، ويجيزون إراقة دم بعضهم.

إنّ الإلحاد ثقافيّاً وإسرائيل سياسيّاً كفيلان بأن يصوغ الشيعة والسنة تعريفاً لمواقعهم في الخطاب الجديد، استعداداً لصناعة تمايزات جديدة في عصر العولمة.

الهوامش

(*) باحث في الحوزة والجامعة، حائز على دكتوراه في العلوم السياسية؛ عضو الهيئة العلمية لكلّية الفكر السياسي الإسلامي، وأستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة المفيد في قم.

([1]) راجع للمطالعة: نورمن فركلاف، النظرية الخطابية النقدية.

([2]) ديفيد مارش وجيري استوكر، روش ونظريه در علوم سياسي، [المنهج والنظرية في العلوم السياسية]: 197، ترجمه للفارسية: امير محمد حاجي يوسفي، طهران، مركز الدراسات الاستراتيجية، 1378ش/1999م.

([3])Ernesto Laclau, New Reflections on the Revolution of Our Time,London, Verso, 1990, pp 61 – 64

([4]) David Howarth, Discourse, Open University Press, 2000, pp 101 – 102.

([5]) ديفيد هوارث، ((نظريه كفتمان))، [نظرية الخطاب]، ترجمها للفارسية: علي أصغر سلطاني، حولية العلوم السياسية، ع2، (خريف 1377ش/1998م).

([6])Ernesto Laclau (and Chenthal Mouffe), Hegemony and Socialist Strategy: Towards a Radical Democratic Politics, London: Verso, 1985, p 105.

([7]) فركلاف، م. س: 101.

([8])M. Jorgensen (and L. Phillips), Discourse Analysis as Theory and Method, London, Sage Publications, 2002, p 48.

([9]) Ibid 28.

([10]) Laclau (and Mouffe), p 105.

([11]) Ibid, pp 127 – 134.

([12]) Ibid, p 280.

([13]) Ibid, p 110.

([14]) Laclau, Ibid, pp 41 – 43.

([15]) مارش واستوكر، م. س: 207، 208.

([16]) Laclau, Ibid, pp 4 -5.

([17]) subjectivity.

([18]) Social agency.

([19])Political subjectivity.

([20]) Jorgensen (and Phillips), p 16.

([21]) Ibid, p 69.

([22]) Ibid, p 60.

([23]) لمزيد حول هذا الموضوع، راجع: رسالة ماجستير مجيد مبلغي، في جامعة المفيد، (1384ش/2005م)، تحت عنوان «تحليل كفتماني شيعه در عصر صادقين‘»، [التحليل الخطابي للشيعة في عهد الصادقين‘].

([24]) أبوالفضل سلطان محمدي، انديشه سياسي علامه مجلسي [الفكر السياسي للعلامة المجلسي]، قم: بوستان كتاب، 1381ش/2002م.

([25]) علي شريعتي، تشيع علوي وصفوي: 126 ـ 129، 1350ش/1971م.

([26]) محمد باقر السبزواري، روضة الأنوار (فارسي)، تصحيح: إسماعيل تشنكيزي اردهالي، طهران، ميراث مكتوب، 1377ش/1998م.

([27]) راجع: رشيد لاهيجانيان، «بررسي زمينه ها وكاركردهاي سياسي تشيع در عصر صفوي»، [دراسة الخلفيات والأدوار السياسية للتشيع في العهد الصفوي]، رسالة ماجستير في جامعة المفيد، 1386ش/2007م.

([28]) علي شريعتي، مجموعه آثار (بالفارسية) 16: 134.

([29]) المصدر نفسه 27: 246.

([30]) المصدر نفسه: 169، 170.

([31]) المصدر نفسه.

([32]) عباس علي عميد الزنجاني، فقه سياسي (بالفارسية): 123، أمير كبير، 1380ش/2001م.

([33]) المصدر نفسه: 120.

([34]) أمير محمود بن مير خوانده، ايران در روزكار شاه اسماعيل وشاه طهماسب (إيران في عهد الملكين: إسماعيل وطهماسب): 125، 126، طهران، بنياد موقوفات افشار، 1370ش/1991م.

([35]) حمادي العبيدي، ابن رشد وعلوم الشريعة الإسلامية: 68، بيروت، دار الفكر العربي، 1991م.

([36]) محمد كاظم الخراساني، حاشية كتاب المكاسب، تصحيح: سيد مهدي شمس الدين، ط1، طهران، وزارة الإرشاد، 1406هـ.

([37]) محسن كديور، سياست نامه خراساني: 10 ـ 11، طهران، كوير، 1385ش/2006م.

([38]) علي بناه اشتهاردي، كتاب صد ساله چرا صدا درآورد؟ [لم أثار كتاب مائة عام ضجّة؟]: 160 ـ 178، قم، علمية، 1391ﻫ.

([39]) الشيخ محمد صالح الحائري المازندراني، «منهاج عملي للتقريب»، رسالة الإسلام.

([40]) مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت (بالفارسية): 165 ـ 170، لندن، شادي، 1995م؛ ويمكن الاطلاع على نقد هذه الفكرة في المصدر التالي: سيد صادق حقيقت، توزيع قدرت در انديشه سياسي شيعه [توزيع السلطة في الفكر السياسي الشيعي]: 97 ـ 100، طهران، هستي نما، 1381ش/2002م.

([41]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 2: 35.

([42]) واعظ زاده الخراساني، «در محضر استاد، پيرامون نهج البلاغه»، [في رحاب الأستاذ، حول نهج البلاغة]، مجلة نهج البلاغة، ع 4 ـ 5، صيف 1381ش/2002م.

([43]) على سبيل المثال، كفّر الشيخ عبد الرحمن الجبرين ـ عضو المجلس الأعلى للإفتاء في السعودية ـ الشيعة بتاريخ 22/ 3/ 1413هـ، وعدّ ذبائحهم محرمة، وأنّهم يستحقون القتل لشركهم. كما اعتبر أيمن الظواهري ـ الرجل الثاني في القاعدة ـ قتل الشيعة مسؤوليّته الدينية، في رسالة إلى ابن لادن؛ حيث قال فيها: إنه لو لم تكن الدولة الصفوية، لكنّا اليوم جميعاً نقرأ القرآن في أوروبا، فقتل هذه الجماعة الخارجة عن الإسلام والعدوّة لله ورسوله واجب، والسبيل الوحيد لذلك ضرب الروافض بشكل متوالي، عسكريين كانوا أم غير عسكريين.

والمورد الآخر هو بيان علماء السعودية بتاريخ 16 ذي القعدة 1427ﻫ، ضدّ الشيعة ونشاطاتهم في العراق؛ فقد وصف هؤلاء الشيعة بالروافض والصفوية والباطنية، واتهموهم بالتقية والتواطؤ مع أمريكا.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً