أحدث المقالات
ترجمة: الشيخ علي قازان

 

الكتاب: تدوين الحديث.

المؤلف: العلامة السيد مناظر أحسن الكيلاني.

ترجمه عن الأوردية: العلامة الدكتور عبد الرزاق اسكندر.

راجعه وخرّج أحاديثه: الدكتور بشار عواد معروف.

الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، 2004م.

عدد الصفحات: 282.

 

أهمية الحديث، مدخل للتعريف بكتاب <تدوين الحديث>

تركّز اهتمام علماء الإسلام منذ القدم على التحقيق والتدوين في مجال الحديث والسنّة النبوية ـ المصدر الثاني للأحكام الإلهية ـ وسعوا لبيان أهميّة وصول هذا التراث الثمين إلينا، وكيفية ذلك. وقد استقي من علم الحديث الكثير من علوم القرآن الآلية: كأسباب النزول، والتفسير، وشرح آيات الأحكام، وبيان المجملات وتوضيح المبهمات في الآيات القرآنية و.. وكذلك استفيد منه على مستوى السيرة النبوية، وخلق الرسول المبارك، وقوله، وأفعاله، والسنن، والأحكام، والإرشادات التي صدرت عنه، فهذه كلّها وصلت إلينا عن طريق الحديث؛ لذا اهتمّت الأمة الإسلامية كثيراً منذ بزوغ فجر الإسلام بالحديث بعد القرآن، بكمال الإخلاص والإيمان.

لكن وبعد تعرّف العالم الإسلامي على ظاهرة الاستشراق واطّلاعهم على ما حملته من آراء ونظريات، ظهرت في الآفاق ساحة عمل جديدة. إنّ نظرة المسلمين العامة القائلة بتأخير تدوين الحديث مائة سنة من جهة، واعتقاد المستشرقين أنّ الحديث نشأ بسبب الاختلافات الموجود بين الفرق الإسلامية من جهة أخرى([1])، أعطى المستشرقين ـ وبعضَ الفرق الإسلامية ـ كالقرآنيين ـ ذريعةً لإنكار الحديث. ولقد شكّلت هكذا نظريات حافزاً لعلماء المسلمين ـ كالعلامة الكيلاني ـ للانشغال ببحث تاريخي مفصل حول علم الحديث، والإقدام على تدوين مؤلّفات في هذا المجال، متوخّياً بذلك ردّ إشكاليّات المستشرقين ومنكري الحديث (تدوين الحديث: 25). وكان على أثر ذلك أن أجبر العلماء المعاصرون على إعادة النظر في بعض آرائهم حول موضوع الحديث، والتي من ضمنها القول بتأخير تدوين الحديث لمدة مائة سنة، بغية الإجابة عن هذا النوع من الآراء والعقائد، وكان من نتائج تغيّر هذا التوجّه في العقود الأخيرة طفو الاعتقاد بوجود أحاديث مكتوبة في ذلك العصر (المصدر نفسه: 67).

ظاهرة الحديث ومسألة عدالة الصحابة

وقد تعرّض العلامة الكيلاني في القسم الأول من الكتاب لطبيعة الموضوع وحقيقته، وتحدّث عن حقيقة الحديث وتعريفه، ونسبته إلى المصادر التاريخية الأخرى، وهناك لم يقبل بتعريف المشهور للحديث، بل اعتبره كنزاً ثميناً يمتلكه تاريخ البشر. ذاكراً للإمام البخاري قولاً مشابهاً (المصدر نفسه: 31، 34).

أمّا مسألة إثبات عدالة الصحابة، فتعتبر من الأمور الهامّة التي بذل علماء أهل السنّة جهداً كبيراً في سبيل إثباتها. وقد استدلّوا على ذلك بأنّ رواية: <من كذب عليَّ.. > أوجدت نوعاً من الخوف والحذر في نفوس الصحابة، بحيث ردعتهم عن تعمّد الكذب على رسول الله (المصدر نفسه: 38 ـ 47). ولا يكتفي المؤلف بالتأكيد البالغ على ثبوت عدالة الصحابة، بل يرتقي إلى اعتبارهم أصحاب نفوس قدسية وأنهم أولياء الله ورسوله (المصدر نفسه: 181 ـ 182).

الحديث بين عوامل التدوين وحوافز الاستماع

في القسم الثاني، يسلّط الكاتب الضوء بحثاً عن عوامل تدوين الحديث، وينقل عن أبي زرعة الرازي أنّ عدد الرواة الذين نقلوا الحديث عن النبي يتجاوز المائة ألف، ممّا يوجب الوثوق بالحديث، كما أنّ كثرة عدد الرواة فيها نقطتان إيجابيّتان: تصحيح الفهم الخاطئ عند بعض الرواة، والبعد عن افتراء الكذب.

ويعتبر الكاتب أنّ الصحابة هم النسخة العملية للأحاديث النبوية؛ حيث كانوا يبذلون الجهد الحثيث لسماع الأحاديث، إلى درجة أنهم كانوا يقطعون المسافات الطويلة والشاقة لسماعه من صحابي آخر، وهو ما يوفّر لنا أحاديث قوية السند، أو أنهم كانوا يذهبون إليهم للاطمئنان على ما سمعوا من أحاديث، وهو ما يسمّى ـ بحسب الاصطلاح ـ الحديث المتابع؛ ولهذا نجد أن معظم الأحاديث التي وصلتنا كان واسطتها الكثير من الصحابة بنقلٍ متواتر، أي عن طريق المئات من الطرق (المصدر نفسه: 41 ـ 66).

تدوين الحديث في عصر الصحابة والتابعين

في قسمٍ آخر من الكتاب، يتعرّض الكاتب للأحاديث التي دوّنها الصحابة، ولأبحاث أخرى من قبيل: مدّة عهد الصحابة، قوّة ذاكرة الصحابة والمحدّثين، وطريقة حفظ الحديث عن التابعين. وفي هذا المجال يتطرق إلى بعض الأحاديث المكتوبة بأمر من رسول الله، ونذكر منها: 1 ـ مجموعة وائل بن حجر في أحكام الصلاة والصيام والخمر والرياء. 2 ـ خطبة حجّة الوداع لأبي شاه. 3 ـ مجموعة الأحاديث المكتوبة لأهل اليمن. 4 ـ إرسال مجموعة من الأحاديث عن الفرائض والصدقات والديات وأحكام أخرى أرسلت إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم. 5 ـ مجموعة من الأحكام الشرعية لعليّ، كان حفظها في غمد سيفه.

إضافةً إلى تواتر الأحاديث ـ نقلاً وعملاً ـ كانت أغلب الروايات الموجودة مدوّنةً بأيدي الصحابة، وهذه الثروة العظيمة انتقلت إلينا بطريق التواتر العملي والنقلي مع الأحاديث المتابعة والشاهدة بالكتابة، من عهد الصحابة وبشكل متسلسل للطبقات اللاحقة من علماء المسلمين. ويمكن هنا الإشارة إلى عدد من الصحابة الذين اشتغلوا بتدوين الأحاديث، وكانت لهم كتب كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعبد الله الأنصاري، كما كتب تلامذة عبد الله بن عمر وابن عباس الأحاديث التي أخذوها عنهما (المصدر نفسه: 68 ـ 79). وهنا لابد أن نذكر أنّ اهتمام الصحابة والتابعين بحفظ الحديث كان بمستوى اهتمامهم بحفظ القرآن، إضافةً إلى اشتغالهم بتدوين الأحاديث، وكان التابعون يمحون الأحاديث التي كتبوها بعد حفظها، ولا يكتفون بذلك، بل يشكّلون حلقات صغيرة لمباحثتها فيما بينهم بعد أن ينفضّوا من جلسات قرائتها (المصدر نفسه: 91 ـ 94).

وثمّة أمر آخر يتصل بالموالي والمحدّثين؛ فالإسلام لم يمنع هذه الطبقة المظلومة من نيل المقاصد العليا، بل كان يساعدها، حتى كان من نتائج اشتغال المسلمين بالمسائل السياسية انشغال الموالي بالخدمة والحديث؛ لذا نرى عبر التاريخ أنّ المسلمين لم يجدوا بدّا من الرجوع إلى هذه الطبقة من الناس في مجال تعليم الحديث، ويعتبر المؤلّف أن بقاء الحديث وخلوّه من الجعل كان من إنجازات الموالي (المصدر نفسه: 120 ـ 162).

وبعد الانتهاء من هذا البحث، يشرع المؤلّف بذكر بعض المقدمات في الحديث:

1 ـ إنّ حفظ الأقوال أصعب من حفظ الوقائع؛ لذا عندما يقال عن أحدهم: إنه حفظ الكثير من الأحاديث النبوية، فهذا لا يعني أنّ كل ما حفظه كان من أقوال الرسول، بل تشمل هذه المحفوظات أفعال الرسول وتقريراته.

2 ـ نقل أكثر الصحابة أحاديث لا تتجاوز المائة، والقليل منهم من روى أكثر من ذلك بحيث يتراوح عددهم بين 20 و 25.

3 ـ إنّ الاعتقاد بأنّ الصحابة كانوا يحفظون مباشرةً ما يقوله الرسول هو اعتقاد خاطئ مائة بالمائة، وبعيد عن الواقع (المصدر نفسه: 163 ـ 166).

وبعد هذه المقدّمات، يتعرّض الباحث إلى طرق المحافظة على الحديث في السنوات الممتدّة من عصر الصحابة إلى زمن أصحاب الكتب الستّة، ويقول: إنّ الطريقة الوحيدة التي كانت متوفّرةً لديهم هي الحفظ، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي كانت موجودةً آنذاك، حيث كان الحفظ هو الوسيلة الوحيدة، وبعبارة أخرى: ما كان الحديث يُكتب. فالحفظ والكتابة هما طريقتا نقل الحديث إلى الأجيال اللاحقة، ولكلّ منهما شروطه ولوازمه، فإذا روعيت هذه الشروط بحذافيرها أثناء نقل الحديث لن نجد أيّ تفاوت بين هاتين الطريقتين والاعتماد عليهما. لكن لابدّ من الإشارة إلى أنّ الطريقة الأفضل ـ والتي اعتمدها الماضون من الصحابة ـ هي الاستفادة من الطريقتين في آن واحد؛ ذلك أن استعمالهما يجبر النواقص الموجودة في كل منهما، فلو اعتمدنا على واحدة لن ينسدّ الفراغ الحاصل في الثانية. من جهة أخرى يجدر أن نذكّر هنا أنّ المحدثين القدامى كانوا يرجّحون ـ عند الضرورة ـ اختيار الذاكرة على الطريق الآخر؛ إذ بهذه الطريقة يُحفظ التعبير الظاهري ومعاني الألفاظ، ومن الجهل أن نعتبر الكتابةَ الوسيلةَ التي يعتمد عليها في حفظ الحديث، لما فيها من مشاكل، سواء في القراءة أو التدوين أو التصحيف والتحريف؛ ولذا كان المحدّثون يطلبون من تلامذتهم مقارنة النسخ، أو يضعون قواعد لكتابة الحديث (المصدر نفسه: 167 ـ 179).

البيّنات والمبهمات في الدين، مسألة أخبار الآحاد

ومن الأمور الأخرى المبحوثة في هذا الكتاب، مسألة الخبر الواحد ومنزلته في التراث الحديثي عند المسلمين؛ فلا شك أنّ الأحاديث التي وصلت إلى أيدي المسلمين عبر التواتر أفضل من تلك التي وردتهم عن طريق خبر الواحد، وإن كان الكثير من هذا النوع من الأحاديث صحيحٌ، بل نفس تقسيم العلماء للحديث إلى صحيح وحسن وضعيف دليلٌ واضح على هذا المدّعى؛ وقد قسَّم المؤلف المسائل الدينية إلى مجموعتين: البيِّنات، وغير البيِّنات (المبهمات) معتبراً أنّ البيِّنات هي تلك الأجزاء الأساسية التي يبتني عليها الدين ويأخذ شكله منها، وقد توارثت الأجيال هذه البيِّنات بالنقل والعمل، ويرى أنّ الوسائل والجهود المبذولة في الحفاظ على البيّنات لم تتيسّر لغيرها؛ لذا تفوق الأحكام المأخوذة من بيّنات الدين تلك المأخوذة من أخبار الآحاد، ويذهب إلى أنّ سبب نقل أخبار الآحاد يكمن في أنّ الرسول كان يتكلّم ـ في بعض الأحيان ـ بكلام خاصّ بالراوي أو المخاطب، ولم يكن قاصداً إعلانه أمام الناس، وفي كثير من الأحيان كان بعض المخاطبين بهذا النوع من الخطاب يطلبون من الرسول الإجازة لنقل الحديث، ولم يكن الرسول يجيز لهم ذلك (المصدر نفسه: 199 ـ 203).

هل منع النبي2 من كتابة الحديث أم حضّ عليها؟

أما فيما يتعلّق بمسألة نقل الحديث؛ فالمسلمون ينقسمون إلى فرقتين أساسيّتين: تعتقد الأولى منهما أنّ الرسول أجاز النقل، وأنه كان قد كلَّف أشخاصاً بكتابة بعض الرسائل لتُبعث إلى مناطق وأشخاص عدّة، فيما ترى الثانية أنّه منع من تدوين الحديث، ويستدلّون على رأيهم هذا بالرواية الواردة عنه، وهي: <من كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه>. لكن يقال في جواب الفرقة الثانية: إنّ نفس هذا الحديث دليلٌ على أنّ كتابة الحديث عن النبي كانت مسألةً رائجة في العصر النبوي، من جهة أخرى فإنّ تدوين أحاديث كثيرة من قبيل خطبة حجة الوداع لأبي شاه، والحديث الوارد عن رسول الله: <قيّدوا العلم بالكتابة> دليلان نقليَّان آخران على صدور أمر بكتابة الحديث من النبي نفسه، والسرّ في منعه تدوين الحديث وأمره بمحو ما كتب عنه غير القرآن يكمن في أهداف عدة:

1 ـ التسهيل على المسلمين؛ فإن نقل الناس واستماعهم لأحاديث صدرت عن النبي لأشخاص معيَّنين بخصوصهم سيوقع الناس في مشقّة إذا ما أرادوا تطبيقها.

2 ـ الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الموجود بين الأحكام المستنبطة من الكتاب وتلك التي من الحديث.

3 ـ ازدياد اهتمام المسلمين بالقرآن ونقله من جيل إلى جيل.

4 ـ اجتناب خطر رواج كتابة الحديث بين عامّة الناس، كرواج كتابة القرآن.

ويستبعد المؤلّف احتمال صدور المنع للتحرّز من اختلاط القرآن بالحديث (المصدر نفسه: 203 ـ 215)، ويعتبر أنّ منكري الحديث في المجتمع الإسلامي هم مصاديق لحديث الأريكة والتنبؤات النبوية (المصدر نفسه: 216)، مع ضرورة الانتباه إلى أنّ النبوءة الصادرة عن الرسول أكثر ما تصدق على أبي بكر([2])، ويعتبر المؤلّف أن مسألة الاكتفاء بالقرآن في كلّ المسائل ليست إلا مغالطة لا أكثر، ومن ثم يورد أدلّةً قرآنية تثبت حجية الحديث (المصدر نفسه: 223).

ويبحث الكاتب بحثاً مهماً حول تاريخ تدوين الحديث في عصر النبي والخلفاء الراشدين؛ حيث يستند إلى وجود مخطوطات حديثية؛ كصحيفة عبد الله بن عمرو وصحيفة أنس بن مالك، ذاكراً ـ في نهاية ـ أنّ الصحابة أحرقوا ما لديهم من أحاديث مكتوبة بعد أن صدر النهي من الرسول، ومن ثم لم يهتمّوا بعدها بجمع الأحاديث في مجموعةٍ ما (المصدر نفسه: 224 ـ 230).

موقف الخليفة أبي بكر من الحديث النبوي

كانت لأبي بكر آراء ثلاثة في الحديث:

1 ـ أقدم أبو بكر على إحراق مجموعته الحديثية المؤلّفة من خمسمائة حديث؛ لكي يحافظ على التفاوت الموجود بين الأحكام المستنبطة من بيّنات الدين، وتلك التي استفيدت من أخبار الآحاد ومن السنّة؛ وبعبارة أخرى: كان أبو بكر محيي الفكر النبوي من جهة الحفاظ على هذا الاختلاف.

2 ـ قام أبو بكر بوضع قانون الشهادة لقبول الحديث.

3 ـ اهتمّ أبو بكر برفع اختلافات القراءة بين المسلمين وتلك الموجودة بين الأحاديث المنقولة من الطرق الخاصّة بين أهل الخبرة وغيرهم، عبر مقارنتها بالسيرة العملية للرسول. وقد كانت هذه الاختلافات سبباً لانقسامات فكرية واجتهادية، ويشير القول التالي ـ المنقول عن أبي بكر ـ إلى هذا الأمر؛ حيث يقول: <إنّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس من بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه>. وقد أدلى أبو بكر بهذا الكلام دفعاً للخطر وبناءً على قراءة مستقبلية تحفظ وحدة المجتمع الإسلامي؛ حيث كان الاختلاف في نقل الأحاديث هو النوع الثاني من الاختلاف بعد اختلاف القراءات. لكن لابدّ من الإشارة إلى أنّ الصحابة والمسلمين لم يعملوا بما اقترحه عليهم أبو بكر (المصدر نفسه: 231 ـ 275).

موقف الخليفة الثاني من الحديث النبوي

وقد كان عمر بن الخطاب كذلك من المكثرين في نقل الحديث، حتى نقل عنه خمسمائة حديث من طرق مختلفة، وكان أسلوبه في الاحتياط في الحديث هو: <لا ينسب إلى النبي ما لم يقله>، فأحد الأحداث المهمة التي نقلت في زمن خلافة عمر سجنه لثلاثة من الصحابة الكبار، وهو ما يدلّ على مدى التزامه بمنع نشر الحديث، لكنّ نسبة هذا الفعل إليه مشكوكة؛ إذ يظهر من كلامه أنّه منع من الإكثار لا مطلق الكتابة والنقل؛ فهو ـ إذاً ـ أراد من الرواة نقل الأحاديث اليقينية فقط، إضافةً إلى أنّ المنع كان متمحوراً على نقل تاريخ الأيام والحوادث في العصر النبوي، والأفعال التي كانت على مرأى من الرسول، وتلك التي كان المخاطب بها خاصّاً، لا أنّه منع عن أحاديث السنن. والجدير بالذكر هنا أنّ تحرّك عمر هذا كان امتداداً لحركة الرسول وأبي بكر في المحافظة على الاختلاف الموجود بين بيّنات الدين وغيرها، ومن جملة الأمور المهمة في خلافة عمر تصميمه على تدوين الحديث ثم إعراضه عن ذلك، حيث جمع الصحابة في أوّل الأمر ليستشيرهم في التدوين؛ حيث شجّعوه، لكنّه استخار، وبعد الاستخارة انصرف عن هذا العمل خوفاً من استقواء الأحكام المأخوذة من أخبار الآحاد، وعلى هذا النحو، قام بجمع المخطوطات الحديثية ثم إحراقها بنفسه، وكانت هذه الخطوة هي الثالثة من نوعها بعد الرسول وأبي بكر في هذا المجال (المصدر نفسه: 276 ـ 312).

أمّا في زمن خلافة عثمان، فتمّ جمع القرآن في مصحف واحد، وهذا ما صرف
نظر المؤرّخين عن إثبات شيء مهم عنه في مجال تدوين الحديث. وبحسب قول عثمان،
فقد كان حافظاً للكثير من الأحاديث، لكنّه اختار سبيل الاحتياط؛ بسبب شكّه بذاكرة السامعين، وخوفاً من نسبة الأحاديث والاستظهارات الخاطئة إلى الرسول (المصدر نفسه: 313 ـ 316).

موقف الإمام علي من الحديث النبوي، الفتنة السبئية

وهنا، ينتقل المؤلّف إلى موضوع تاريخ الحديث في عهد علي بن أبي طالب، ويقول: إنه يظهر من الروايات والأحاديث أنه على مدى زمان خلافته اتخذ إجراءين في التعامل مع الحديث: نقل القليل من الأحاديث، ونقل الأحاديث التي سمعها عن رسول الله.

أمّا فيما يتعلّق بتغير أسلوب عمل الإمام علي؛ فلابدّ من القول: إنه في أواخر عمر عثمان، كانت قد نشأت حركة خطيرة وسرّية هدفها محو الإسلام، وكان على رأسها يهود اليمن، وهؤلاء لم يجدوا بُدّاً من الكذب على الرسول لكي يواجهوا أحاديثه وصحابته ويحقّقوا هدفهم المشؤوم. وهكذا كان أول من تكلّم منهم ولفّق أحاديث كاذبة ونسبها إلى الرسول عبدُ الله بن سبأ، وهؤلاء السبئيون الذين اخترقوا جيش الإمام علي أشعلوا الفتن التي أدّت إلى اندلاع حرب الجمل وصفين والخوارج، وقد انتشر هؤلاء المنتمون إلى فرقة السبئية في مختلف بلاد المسلمين: البصرة والكوفة والشام والحجاز ومصر، ونشروا أكاذيبهم (يشير المؤلّف بطريقة خفيّة إلى أنّ عقائد الشيعة اليوم هي نفسها عقائد وآراء ابن سبأ ومؤيّديه)، وبعد أن اطلع علي على ما يحيكه هؤلاء من مؤامرات وما يؤجّجونه من مشاحنات ضدّ الصحابة، قام باتخاذ عدة إجراءات: 1 ـ إجراء الحدّ الإلهي عليهم. 2 ـ توجيه النصيحة إلى ابن سبأ، وردّ أقواله الباطلة أمام الملأ من الناس. 3 ـ إبعاد ابن سبأ عن الكوفة. 4 ـ إحراق بعض أفراد فرقة السبئية.

وقد أدّت فتنة السبئية إلى التأسيس لفتنة أخرى، حيث قام بعض المسلمين ـ كابن عباس ـ بالإعراض عن نقل الحديث النبوي؛ قاصداً بذلك محاربة هذه الفرقة، ورأى علي أنّ علاج هذه الفتن والشبهات يكمن في تغيير نظرته إلى مسألة النشر العام لما سمعه عن النبي الأكرم وأفعاله وسيرته بين المسلمين، فاتخذ موقف الحيلولة دون انتشارها كي يبقي المجتمع الإسلامي بعيداً عن أفكار السبئية ورواياتهم، كما اتخذ إجراءً آخر؛ حيث أعطى الناس معياراً آخر لمعرفة الروايات، غثها من سمينها، فقال: <حدّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون>، وما يجب أن يفهم من هذا القول هو أنّه أراد عرض الحديث على العقل والقرآن، لكي يحيِّد الروايات المجعولة.

هذه الإجراءات حدت بهولاء إلى التنحي جانباً لردح من الزمن بانتظار الفرصة المناسبة؛ وقد حصلوا على هذه الفرصة بعد شهادته، فشرعوا بتلفيق الأحاديث ونسبتها إلى الرسول، ولم يكتفوا بنشر الكتب المملوءة من هذه الروايات المجعولة بل تجرؤوا على نسبتها إلى أمير المؤمنين%.

خاتمة

أدرج المؤلف في هذا الكتاب فهارس جيّدة جداً في مختلفة المواضيع: الأحاديث النبوية، الأعلام، أسماء الكتب الموجودة في متن الكتاب، الفرق، الأقوام والأمكنة. منتهياً من تأليفه عام 1414هـ، وقد دوَّنه باللغة الأوردية، وترجمه بعد ذلك الدكتور عبد الرزاق اسكندر سنة 1422هـ، وعلّق الأستاذ بشار عوّاد معروف على الكتاب ودقّق النظر فيه، وفي النهاية نشر هذا الكتاب ـ ولأول مرة ـ سنة 2004م، وصدر عن دار الغرب الإسلامي.

عبارة الكتاب السهلة السلسة، وما طرحه المؤلّف من موضوعات ومباحث جديدة وجميلة في تاريخ تدوين الحديث، ذلك كلّه بانسجام خاصّ، جعل من هذا الكتاب مؤَلَّفاً جذاباً إلى حدّ يصعب معه ترك مطالعته بعد قراءة الصفحة الأولى منه، إلا أن يأخذك قسراً معه إلى النهاية.

*    *     *

الهوامش



([1]) انظر: مجلة علوم حديث (الفارسية)، العدد 28: 8، 17.

([2]) راجع: علوم الحديث، العدد 5: 11، 12؛ ومحمد علي مهدوي راد، منع تدوين الحديث، المبرّرات والانتقادات، المصدر نفسه، العدد 28: 8، 17.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً