أحدث المقالات

د. علي رضا شجاعي زند(*)

ترجمة: السيد خالد سيساوي

تمهيدٌ

يتحدّد ولوج أيّ بحثٍ علمي من خلال دراسة المناهج المختلفة، والوقوف على مراحل تشكُّل العلوم. فعلى أعتاب المرحلة التي كان فيها العلم والفلسفة مندمجَيْن ـ قبل الفصل بينهما ـ كانت الخطوة الأولى نحو اكتساب أيّ معرفةٍ هي وضع تعريفٍ لموضوع ذلك العلم، فبات تركيز مفكِّري تلك المرحلة منصبّاً على شمولية تلك التعاريف قدر الإمكان لماهية الموضوع وذاتيّاته([1])، وبذلك تكون مانعةً من دخول الأغيار، وجامعةً لمصاديقها كافّة.

يتجلّى نجاح الباحث في مدى استناده على الماهيات الثابتة كخطوةٍ الأولى في تعريف موضوع علمه، بَدَل الأعراض المتغيِّرة، وأن يكون أيضاً متّصفاً بالجامعية والمانعية. ورغم كون التعريف متموضعاً في مرحلة المقدّمات وفرضيات المسألة، إلاّ أنّه؛ بلحاظ أهمّيته البالغة، ودَوْره الفعّال في تحديد اتجاه البحث وتفاصيله، وما يتطلّبه الظَّفَر به من جهدٍ وإعمالٍ فكريّ، يعتبر الركن الأساس للبحث النظري.

ومع إعلان استقلالية العلم عن الفلسفة، واتّضاح الحدود بينهما، بحلول العصر الحديث، واجه هذا المنهج انتقاداً حادّاً، أفضى إلى مراجعةٍ كلّية بشأنه. ففي هذه المرحلة التي رافقت الاعتراف بالإخفاقات المعرفية، والإقرار بعجز العقل عن الوصول إلى ذوات الأشياء وماهياتها، تمّ قصر البحث على عوارض الظاهرة بوصفها علماً، مما أدّى إلى اهتزاز مكانة التعريف بالقياس إلى باقي مراحل المعرفة([2])، وفقدانه لأهمّيته وأولويته السابقة.

بشكلٍ عامّ يرفض العلماء في الأعمّ الأغلب التوقُّف والتركيز في مطالع أبحاثهم على تعريفات موضوعات العلوم، واستنفاد الجهد في الظَّفَر بها، وولوج ساحة مجادلات لا طائل لها. لهذا رأَوْا إحالة الظَّفَر بتعريفٍ دقيق وشامل، وبعد تحديد موضوع علمٍ ما، وتناول مميزاته الاجمالية، إلى مرحلة النتيجة، التي تُعَدّ الخطوة الأخيرة في كلّ بحثٍ معرفي. وهذا الملاحَظ فعلاً على تعاريف العلوم الحديثة؛ إذ أُحيل البتُّ فيها إلى آخر مراحل المعرفة العلمية لظاهرةٍ ما؛ منسحبةً بذلك على بيان الحالات والعلاقات السائدة، بدلاً عن معرفة الذوات والماهيات؛ ناهيك عن فقدان تلك التعاريف لحيثية الثبات. كما يُلاحَظ عليها ارتباطها ارتباطاً وثيقاً بمقدّمات المسألة وفرضياتها، وتأثُّرها في بلورتها بمعيار الإحاطة المعرفية حول ذلك الموضوع.

 إنّ تبنّي هذين النمطين المختلفين في تشخيص أولوية وأهمّية التعريف وتحديد مكانته في الدراسة ليس ناشئاً بالضرورة عن التغاير «المعرفي الأنطولوجي»، أو التعارض في المبادئ النظرية للمنهج الأرسطي والمنهج الحديث في الدراسات العلمية، إنّما هو إذعانٌ بوجود مشربين على مستوى «المنهجية» العلمية؛ حيث نجد شواهد جليّة على استخدام كلٍّ منهما أيضاً عند أصحاب الفكر الحديث، والقائلين بالمنهج المعرفي العلمي. ومن المصادفات أن يكون الشاهد على هذا الكلام مرتبطاً بموضوع هذه المقالة «تعريف الدين»؛ فإن دوركايم وويبر يُعَدّان من الشخصيات البارزة والمؤسِّسة لـ «علم الاجتماع الديني»، والتي يمكننا القول بكلّ ثقةٍ: إن أغلب الدراسات والنظريات المطروحة في هذا المجال ترجع إلى المباني النظرية والمنهج المعرفي لأحد هذين المفكِّرين، مع أنّ لهما أسلوبين مختلفين تماماً في تعريف الدين وإبراز مكانته، حيث بذل «دوركايم» جهداً كبيراً في دراسته للدِّين ليعرّفه انطلاقاً من منظور علم الاجتماع، متّكئاً في دراسته على الصُّوَر البدائية للحياة الدينية وغيرها، كالانتحار مثلاً…، مؤكِّداً في مقاربته على أنّ تعريف ظاهرةٍ ما مقدَّم على البحث عنها سوسيولوجياً([3]).

 وفي مقابل هذا الطرح تتراءى مقاربة ويبر في علم الاجتماع الديني على خلاف المنهج الدوركايمي، حيث رأى تأخير التعريف إلى نهاية دراسته، مبرّراً وجهة نظره هذه بقوله: «نظراً للتنوُّع الكبير في الممارسة والأداء الديني يصعب الظَّفَر بماهية الدين، خصوصاً عند بداية البحث. وإنْ قضينا بإمكان ذلك فإنه لا يتسنّى إلاّ في آخر البحث، وفي مرحلة الاستنتاج»([4]).

 وقد بيََّن هذا المبنى «ماك غوثير» بشكلٍ أدقّ، حين قال: «إن استخدام التعريف في علم الاجتماع الديني بوصفه استراتيجيةً لهو أكثر نَفْعاً من البحث عنه كـ «حقيقة»؛ إذ التعريف بوصفه استراتيجيةً يحدِّد مسار الدراسة ونطاقها. وعلى هذا الأساس فإن ترجيح تعريف على تعاريف أخرى يتحدَّد بحَسَب قدرته على أداء هذه المهمّة»([5]).

 وبغضّ النظر عن محلّ التعريف في البحث، وأن مكانه في «المقدّمات» أو في مرحلة «الاستنتاج»، وسواء كان «حقيقياً» أم «تمهيدياً»، فإن جميع التعاريف تشترك في حقيقةٍ مفادها أن كلَّ تعريفٍ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنهج والغرض والمباني النظرية لدى المعرِّف. كما أن الصلةَ بين المبادئ النظرية لطرحٍ ما والتعريف الذي يقدِّمه المعرِّف لموضوعٍ، كالدِّين مثلاً، هو بقَدَرٍ من الوضوح بحيث يمكننا غالباً أن نصل من خلال معنى أحدهما إلى تعريف الآخر.

فمن وراء التعريفات المتعدّدة التي عُرضَتْ حول الدين تتجلّى الرؤى المختلفة حول «العالم» و«الإنسان» و«التاريخ»، الناتجة عن المدارس الفلسفية والاجتماعية والنفسية المعروفة. فكلّ مفكِّرٍ وباحثٍ ديني عندما يقدِّم تعريفاً عن الدين فهو في الحقيقة يقدِّم زبدة أجوبته النظرية على أسئلة البشر الأساسية، بعباراتٍ شديدة الاختصار. وعند تحليل ذلك التعريف الموجز للدين، وإمعان النظر في أجزائه، يمكننا معرفة مبانيه النظرية بوضوحٍ. كما قد ينتهي هذا «التعدُّد» إلى نحوٍ من «التنوُّع»، يوحي بانتفاء أيّ اشتراكٍ بين تلك التعاريف، ما عدا الاشتراك على مستوى الألفاظ؛ بحيث يشير كلّ تعريف إلى أمرٍ مختلف عن الآخر. من هنا يمكننا القول: إنه على الرغم من أن هذه التعاريف تبدو متصارعةً فيما بينها، لكنّها؛ نظراً لاختلاف لحاظاتها ومقارباتها حول الدين، بمثابة جُزُر منعزلة، لا سبيل لارتباطها ببعضها البعض، ولن تصل النَّوْبة أبداً إلى تقابلها المباشر والمنطقي.

إن إظهار هذه الحقيقة المرتبطة بالتعاريف يسمح لنا بكشف الخطأ الناشئ عن التصوُّر الذي ادّعى بأن «التعريف» بذاته بيانٌ محايد ومحلُّ وفاق مُسْبَق حول ظاهرةٍ ما، أي بمثابة «فرضية مسبقة» أو «أصلٍ موضوعي» لبحثٍ ما، يندرج تحت مقدّمات أيّ دراسة علمية؛ لأجل تحديد موضوعها. فوجود التعدُّد والتنوُّع في تعريف الدين، مضافاً إلى كونه منوطاً بتنوُّع زاوية الدراسة (كلامية وتاريخية واجتماعية ونفسية وفلسفية وغيرها)، والتنوُّع في المنهج (الاختزالي أو الوظيفي أو العقلي أو الشهودي أو الوجودي و…)، يكون ناتجاً أيضاً عن حقيقةٍ أخرى، ينبغي التعبير عنها بتعدُّد «صُوَر الدين» خارجاً.

فمن جهةٍ هناك دعوى تقول بأن الدين جوهرٌ واحد قد نشأ من الميل الباطني للإنسان، ومن ثمَّ تمظهر في سياقاتٍ ثقافية واجتماعية مختلفة؛ ومن جهةٍ أخرى هناك مَنْ يعتقد أن الدين ظاهرةٌ متعدّدة ومتباينة ذاتاً، قد تشكّل بشكلٍ مستقلّ بحكم الضرورة الاجتماعية في المجالات الثقافية المختلفة، ومن ثمَّ انتزع الذهن البشريّ صورةً واحدة له، بعد ملاحظتة للقواسم المشتركة بين مظاهره المختلفة.

لقد أُثيرت نقاشاتٌ واسعة بين علماء اللاهوت وعلماء الاجتماع لفهم وتحديد ماهية الدين؛ حيث يبدو من غير المُجْدي ولوج مظانّ ذلك النزاع النظري الذي لا طائل منه، أو الاعتماد على النتائج المترتّبة على «فطرية الدين» أو «وظيفيته». فالحقيقة التي يمكننا التأكيد عليها أن أحد أسباب التنوُّع في تعاريف الدين راجع إلى تعدُّد تجلِّياته. وهذا ما دعا علماء اللاهوت المتأخِّرين إلى الإذعان بصعوبة الاتّفاق على تعريفٍ واحد للدين([6])، صعوبة ناشئة من ناحيةٍ عن إدراج كلّ خصوصية وعنصر مميّز في التعريف، ممّا يفضي إلى إخراج مصاديق يصدق عليها مفهوم الدين؛ ومن ناحيةٍ أخرى عن اتّساع نطاق تعريف الدين، الذي يؤدّي بدَوْره إلى ورود الأغيار من مدارس وأيديولوجيات شبه دينية «شبه الدين» (semi religion).

إن البعض لا يرى مشكلة التعدُّد والتنوُّع في تعريف الدين ناتجةً عن الدين بما هو دينٌ، بل يحيل ذلك إلى معضلة تعريف «المفاهيم الثقافية» كافّةً؛ حيث تنطوي هذه الأخيرة على معانٍ خاصّة، ومنحصرة في دائرة مجتمعٍ معين. وعلى هذا الأساس فإن جميع تعريفات الدين تستند إلى نظرةٍ «قومية»، كما أنها ناظرةٌ إلى دينٍ معيّن في بيئةٍ ثقافية خاصّة، ما يعني إعلانها المُسْبَق عن انتفاء أيّ محاولةٍ للحوار في هذا المجال.

ويُعَدّ «ويليام جيمز» من المفكِّرين الذين توصَّلوا من خلال مواجهة هذا التنوُّع المفروض إلى أن كلمة «الدين» مشتركٌ لفظيّ قد استخدم مسامحةً مقترناً بأنواع مختلفة؛ لذا لا ينبغي بل يجب أن لا يؤخذ كمؤيِّد لوجود أصلٍ أو ذاتٍ واحدة له([7]).

كما يمكن أن يكون منشأ تعدُّد التعاريف هو الخلط المفهومي بين المصطلحات والمفاهيم متقاربة المعنى؛ لأن عدم توخّي الدقّة في الاستخدام الصحيح لتلك المفاهيم، وتركها مجملةً ومبهمة، من شأنه الإفضاء إلى قراءات مختلفة للدين. كما قد تتفاقم هذه المشكلة أثناء الترجمة من لغةٍ إلى أخرى؛ نتيجة إعمال الذَّوْق الشخصي في اختيار المرادفات اللغوية.

ويضاف إلى العوامل المذكورة سابقاً، والمؤدّية إلى تعدُّد الآراء حول «ماهية الدين»، اختلاف المبادئ المنطقية والأصولية لـ «التعريف» ذاته. وسوف نبيِّن لاحقاً كيف أنّ القراءات والتوقُّعات المختلفة حول مسألة التعريف قد أدَّتْ إلى إيجاد ثغرة مفهومية في تعريف الدين.

ورغم المشاكل والعوامل الموجبة للتشكيك في إمكان التوصُّل إلى تعريفٍ واحد وشامل أقلّ نقضاً عن الدين، إلاّ أننا نضطر ـ في كلّ الأحوال ـ إلى إقامة تعريف عنه عند أيّ دراسةٍ دينية، أو التبنّي لتعريفٍ مقترح، بمعنى أنّه سواء تبنَّيْنا القول القاضي بتقديم التعريف، أو جواز تأخيره، كنّا من علماء «الاجتماع الديني» أو «فلاسفة الدين»، وسواء نظرنا إلى الدين بلحاظٍ «وظيفي» أو «ظاهراتي»، كنّا من دعاة التعريف «الحقيقي» للدين أم حاولنا تعريفه «بالمواضعة»، بناءً على كلّ هذه الافتراضات لا بُدَّ لنا من تحديد الظاهرة المقصودة ومن ثمَّ تبيين معناها من خلال المفاهيم والعبارات الدقيقة؛ حتّى تكون واضحةً([8]). حينها فقط نستطيع التمييز بين الدين ومرادفاته بسهولةٍ ووضوح.

فبما أنّ التعريف مقدّمةٌ ضرورية ومسألةٌ حاسمة في هذه الدراسات، وعلى الرغم من الوضع المُرْبك في أدبيات هذا المجال، فإن هذه الدراسة تهدف من خلال البحث والتحقيق إلى ضبط وتحديد التعاريف المختلفة، ومن ثمَّ ترتيبها ضمن مجموعاتٍ متمايزة؛ سَعْياً منها للقيام بالخطوة الأولى في دراسة الدين، وإنْ عُدََّتْ محاولةً محتشمة محفوفة بالإرباك. ولأجل ذلك سنحاول تقديم تحليلٍ أكثر دقّةً لعوامل التعدُّد والتنوُّع في تعريف الدين ـ والتي أشَرْنا إليها آنفاً ـ ضمن أقسام أربعة مستقلّة:

1ـ مجالات التحقيق الديني ومسألة التعريف

إن البحث عن تعريف الدين وبيان ماهيته؛ بحجّة تمييز نطاقه ومجاله عن باقي مجالات الحياة الاجتماعية، هو في الأساس توجُّهٌ غربي؛ حيث بلغ هذا الاتجاه ذروته في الغرب حينما احتدم الصراع الجدّي بين «الدين» من جهةٍ و«العلم» و«السياسة» من جهةٍ أخرى، حتّى أفضى إلى عداءٍ عملي تجلَّت حدّته في القرن التاسع الميلادي، بين «الكنيسة» و«العلماء» حول شمولية المدّعيات الدينية، وبين «البابا» و«الملك» حول السلطة والسيادة. ثم انّصب لاحقاً حول التساؤل الجادّ عن ماهية الدين ونطاقه بين أصحاب الفكر من جهةٍ وأصحاب السلطة من جهةٍ أخرى.

إنّ التعريفات المطروحة حول الدين، بدءاً من تلك المرحلة فلاحقاً، تركّزت حول السعي لعرض بيانٍ فلسفي واجتماعي للدين، بعيداً عن أبعاده «الاعتقادية ـ الكلامية». وبحلول عصر النهضة والتنوير وصل هذا المنهج إلى أوجه، بحيث يمكننا رصد مصدر تلك الدوافع الكامنة وراء رغبة علماء عصر النهضة، وسَعْيهم الحثيث للتجديد في الفكر الديني والمعتقدات الدينية لدى تيار العقلانية الحديثة، والذي كان يهدف من خلال ذلك إلى معرفة الجوهر الأصلي للدين، وتحديد نطاقه ضمن هدفين، هما:

أـ تحديد وتمييز مجالات الممارسة العملية الدينية، ومجال نفوذ العقل والتجربة الإنسانية.

ب ـ تجديد المعرفة الدينية، وإزالة الشوائب التي لحقت بحقيقة الدين، وأخرجته عن مجراه الصحيح.

وإضافةً إلى العوامل السابقة، فإن النتائج التي توصّلت إليها الدراسات الأنثروبولوجية حول الشعوب غير الأوروبية قد أدّت إلى التعرُّف على صور مختلفة للدين، ممّا دعا إلى توسيع دائرة الدراسات والأبحاث الثقافية والدينية.

لقد شهد القرنان التاسع عشر والعشرون إقبالاً واسعاً على هذا النوع من الدراسات الدينية، بشكلٍ متزامن في مناطق جغرافية مختلفة؛ حيث إن أولى الدراسات التحقيقية الدينية تعود إلى جهود «علماء الإناسة»، باستثناء الدراسات المقارنة بين الأديان الإلهية، التي احتفطت بطابعها الفلسفي والكلامي على مدى القرون الماضية، وارتبطت بـ «تاريخ الأديان»، الذي شكَّل جزءاً لا يتجزّأ من التاريخ العامّ للمجتمعات البشرية؛ حيث كانت النتائج المتوصَّل إليها من قِبَل هذه العلوم المادّة الخام التي تحتاجها المجالات الأخرى في دراساتها المستقبلية. فاهتمام «علم النفس» و«علم الاجتماع»، اللذين هما آخر العلوم انفصالاً عن الفلسفة، بالدين يرجع إلى عهود متأخِّرة، وآخر مجالٍ معرفي في الدراسات المتعلقة بالدين هو «فلسفة الدين». فرغم قِدَم المباني والمبادئ الفلسفية فيها، إلاّ أنها تُعَدّ مجالاً جديداً عُني بهذه الدراسات الدينية. نعم، هناك مَنْ يعتقد بوجود مجالٍ معرفي أكثر حداثة قد اهتمّ بمثل هذه الدراسات، وهو «الفينومنولوجيا» أو الظاهراتية. فهي بحَسَب ادّعائهم ليست اتجاهاً في الفلسفة وعلم الاجتماع، إنّما هي مجالٌ وشعبة جديدة قائمة بنفسها في مجال التحقيقات الدينية. وحَسْب زعمهم فإن الظاهراتية وإنْ كانت نَسَقاً معرفياً وأسلوباً نظرياً قد برز في الفلسفة، وظهر رَوْنقه في علم الاجتماع، إلاّ أن التمايز المبنائي في النظر إلى القضايا القِيَميّة، سيَّما منها تلك المتعلِّقة بالدين، قد جعلها تحتلّ مكانةً مستقلّة إلى جانب الدراسات الفلسفية والاجتماعية.

إن الظاهراتية قد استطاعَتْ؛ من خلال تأكيدها على النظرة المتعاضدة للقِيَم، القُرْب إلى حدٍّ كبير من الدراسة المصداقية والداخلية للدين. ولعلّ هذا ـ على أقلّ التقادير ـ ما سوَّغ لها الترقّي للوصول إلى مجالٍ مستقلّ محاذٍ لعلم الاجتماع والفلسفة في الدراسات الدينية، متجاوزةً بذلك نطاقها السابق([9]).

وكما أشَرْنا فإنه قد سبقت الأبحاث الجادّة في مسألة «تعريف الدين» عند حلول القرن التاسع عشر وقوع تطوّرات فكرية عديدة في الغرب، أفضَتْ إلى رواج وترجيح الدراسات «من خارج الدين» على الدراسات ذات الطابع الكلامي؛ حيث تُعَدّ «الإناسة» و«علم النفس الديني» و«علم الاجتماع الديني» وأخيراً «فلسفة الدين» من العلوم الناشئة الناظرة لمقولة الدين بعد هذا التغيير؛ إذ كانت جهود المفكِّرين قبل ذلك تتعامل مع مسألة تعريف الدين تعاملاً جانبياً، كما أن التعريفات المطروحة في هذا المجال كانت ذات صبغةٍ كلامية، لهذا تعلّقت بمصداقٍ واحد من الدين، مما جعلها فاقدة لحيثية «الشمولية» (Inclusivity).

إن مدى اهتمام المفكِّرين الدينيين بـمسألة «التعريف»، ومكانتها في مختلف تخصُّصات الدراسات الدينية، تابعٌ لتأثير خصوصيتين معرفيتين في ذلك العلم:

أـ تموضع ورؤية الباحث للظاهرة مورد الدراسة، من حيث كونها «خارجية» أو «داخلية».

ب ـ خصوصية الموضوع الذي يبحث عنه، من حيث كونه «نوعياً» أو «مصداقياً»([10]).

وحَسْب هاتين الخاصيتين صارت «الفلسفة» و«علم الاجتماع» و«علم النفس» من المجالات المعرفية التي امتازَتْ؛ من خلال بحثها عن الخصوصيات النوعية وانطوائها على رؤيةٍ خارجية لموضوع دراستها، عن باقي الفروع الباحثة في الدين، ممّا جعل مسألة «التعريف» تكتسب تحت ظلّها مكانةً مهمّة. لذا نجد وفرةً وتنوّعاً في تعريف الدين لدى علماء النفس والاجتماع وفلاسفة الدين. وفي المقابل نجد مجموعةً أخرى من مجالات الدراسات الدينية، كالتاريخ والإناسة، مع كونها تتبنّى النظرة الخارجية للظاهرة التي تريد دراستها، إلاّ أن تعريف الدين فيها ـ وبسبب اللحاظ «المصداقي» الذي تتبنّاه لموضوع الدراسة ـ يحتلّ مكانةً ثانوية وأهمّيةً هامشية. كما أن علم الكلام؛ باعتبار حيثيّة التقيُّد والتخصيص الموضوعي يُعَدّ من جملة العلوم المسانخة لعلمي التاريخ والأنثربولوجيا، إلاّ أنه بلحاظ نظرته الداخلية يختلف عن سائر المجالات المعرفية المعنية بالدراسات الدينية. والجدول التالي يوضِّح جليّاً مسألة التعريف لدى هذه المجالات المعرفية، تَبَعاً للخصوصيتين المذكورتين:

 

تعريف الدين لدى المتكلِّمين

ينظر المتكلِّم أساساً إلى موضوع بحثه بنظرةٍ «داخلية»، فيكون لحاظه هو الدين «الحقّ»، بخلاف المقاربات التي تنظر إلى الدين بما هو «متحقّقٌ» خارجاً. من هنا يمكننا القول: إن تعريف المتكلِّم للدين ليس له سوى مصداقٍ واحد، أو أنه يشمل أدياناً ذات جوهرٍ واحد ومجالٍ مشترك. في حين أن التعريفات الناظرة إلى الدين من خارجٍ تسعى عبر التقليل من المشخِّصات المميّزة إلى أن توسِّع من دائرة شمولها، وبالتالي إدراج عددٍ أكبر من المصاديق والأنواع تحت تعريفاتها. وهذا ما يجعل التعريفات الكلامية ذات نطاقٍ ضيِّق، آبيةً عن تسلُّل الأغيار إلى ساحتها، وبذلك تمنع ورود الأفراد التي تجانب المصداق الحقيقي، أي «الدين الحقّ والكامل».

تعريف الدين لدى المؤرِّخين

ليس لمسألة تعريف الدين أهمّية ومكانة شاخصة في الدراسات التاريخية للدين؛ لأن هذه الأخيرة تُعْنَى بدراسة وتحقيق الوقائع والحوادث الاجتماعية، وكذا مسار الرقيّ الثقافي والاجتماعي والسياسي، من خلال اعتقادٍ ومَيْلٍ جَمْعيّ ومن منظور خارجيّ. أما تحديد أيّ الظواهر التاريخية أجدر بالبحث؟ والتي تحكي «تاريخ الدين»، فيرجع إلى التعريف الذي يعتمده المؤرِّخ للدين. كما أنه يتعلَّق بمدى اهتمامه بهذه المسألة. فلو كان اختياره وتحديده خاضعاً لهذه المعايير والمشخِّصات، لكنه قد استند في تشخيصه إلى ذَوْقه وميولاته، فإن تعريفه سيكون غير قابلٍ للتعميم. لهذا لا يجوز لدى المؤرِّخين الاعتماد عليه في استباط تعريف للدين. وبالطبع هذا لا ينفي تحديده أوتشخيصه المُسْبَق لدى المؤرِّخ، فضلاً عن تحديده لـ «موضوع» و«مصداق» و«نطاق» أيّ دراسةٍ تاريخية ـ تطبيقيةً كانت أو مورديةً ـ.

تعريف الدين عند علماء الإناسة

إن علماء الإناسة (الأنثروبولوجيا) وإنْ كانوا سبّاقين في مجال الدراسات الدينية، إلاّ أنهم لم يباشروا بحوثهم قطّ بتعريف الدين. بل لم تكن مسألة تعريف الدين لتلج أذهان الباحثين الدينيين لولا النتائج المتوصَّل إليها في الدراسات الأنثروبولوجية، أي إن مسألة التعريف لم تكن مقدّمةً لتلك الدراسات.

لقد بعث تنوُّع دراسات المفكِّرين الثقافيين في الكشف عن انتقال الأفكار والمعتقدات والآداب والطقوس لدى الشعوب البدائية، وتعريف الأشياء والأمكنة والأزمنة المقدَّسة لدى القوميات المختلفة، على مواجهة الباحثين الدينيين من الجيل الثاني ـ والذين كانوا غالباً من علماء الاجتماع ـ لهذا السؤال الأساس، وهو: «ما هو الدين؟»، وما هي المعايير التي نميِّز بها «الدين» عن التقاليد والفولكلور والعُرْف والقرارات القومية والمدارس السياسية والاجتماعية؟ وبَدَلاً من أن تنصبّ جهود علماء الإناسة على مسألة «تعريف الدين» تركَّزَتْ على الكشف عن جذوره في المجتمعات البدائية، والتعريف بمراحل تطوُّره على مرّ التاريخ الإنساني، فكان من الطبيعي أن تعتبر الصور المختلفة لاهتمام الإنسان بالمقدَّس ديناً.

تعريف الدين لدى علماء النفس

كان دخول علم النفس إلى ساحة البحث الديني من جهتين: إحداهما: محاولة البحث عن «جذور الدين» و«منشأ التديُّن»؛ والأخرى: البحث عن تَبِعات التديُّن وآثاره المُتَشئِّنة في الإحساسات والعواطف الفردية، وكذا التمييز بين سنوخ الشخصية الإنسانية وما يورثه الإيمان الديني من تأثيرٍ على سلوك الأفراد وعملهم. وتَبَعاً لما يدرسه مفكِّرو علم النفس الديني فإنه من الطبيعيّ أن لا يمرّوا مرور الكرام على مسألة تعريف الدين، وإنْ كان لعلماء الاجتماع وفلاسفة الدين في هذا المبحث توقُّفٌ وتأمُّلٌ أطول وأوسع بالقياس إليهم.

تعريف الدين لدى علماء الاجتماع

يقول «بارسونز»: إن لمسألة «تعريف الدين» دَوْراً مهمّاً في تطوّر دائرة علم الاجتماع الديني؛ حيث يمكننا القول: إن علم الاجتماع الديني هو حصيلة الجهود الأوّلية التي تناولَتْ موضوع تعريف الدين بالبحث. كما كان اهتمام علماء الاجتماع الديني بمسألة تعريف الدين أكثر بالقياس إلى غيرهم من الباحثين الذين اشتغلوا على الدراسات الدينية في المجالات المعرفية الأخرى. فمع الأهمّية التي توليها تلك المجالات لهذه المسألة في دراستها، إلاّ أنها في دراسات علم الاجتماع الديني تنطوي على أهمّية بالغة، وتُعَدّ مسألةً مركزية جديرة بالاهتمام. وقد اتَّخذ الجدال النظري لعلماء الاجتماع والفلاسفة حول تعريف الدين مناهج عدّة، منها: «العقلاني» و«الشهودي» و«الوظيفي» و«الاختزالي» «الظاهراتي» و«الوجودي»، أسفرَتْ عن مناظراتٍ ومجادلاتٍ واسعة حول هذه المسألة.

يقول «رابرتسون»: «بما أن جهود علماء الاجتماع وحتّى العقد الخمسين لم تثمر في الظَّفَر بتعريفٍ واحد مشترك للدين فإن بعضهم، مثل: «لنسكي» و«غلاك»؛ ولأجل رفع نقائص التحقيقات التجربية والوظائف العملية، انحاز نحو تحديد أبعاد «التديُّن» (Religiosity)»([11]).

تعريف الدين عند الفلاسفة

يحظى تعريف الدين لدى «فلاسفة الدين» بالأهمّية نفسها التي يحظى بها لدى علماء الاجتماع، بل هو من المباحث التي تقرِّب بين علماء الاجتماع والفلاسفة. وكما أشَرْنا فيما سبق فإن ضرورة الاهتمام بهذا العنوان في بداية المباحث التخصُّصية لكلّ فرعٍ تنشأ من أن صاحب الدعوى والمخاطب لا بُدَّ أن يصلا إلى توافقٍ حول الظاهرة المراد بحثها، وهذا لا يحصل إلاّ بالاتفاق على تعريفٍ جامع ومانع للموضوع مورد التحقيق([12]). ومن هنا فإن «علم الاجتماع الديني» و«فلسفة الدين» كلاهما على السواء من حيث الحاجة إلى «الانفتاح على التعريف». ومضافاً إلى ذلك فإن تقديم التعريف في بداية البحث شرطٌ مُسْبَق وضروريّ بالنسبة إلى فيلسوف الدين؛ لأن بعض الأبحاث، من قبيل: «مجال الدين» و«التوقُّعات من الدين» و«نظرية المعرفة الدينية»، غير مأخوذةٍ من الأصول الموضوعة لتعريف الدين. ولهذا نجد وراء التعاريف المتعدِّدة المُقامة حول الدين إما عالم نفسٍ، أو عالم اجتماعٍ، أو فيلسوف دينٍ.

تعريف الدين من منظور علماء الظاهراتية

إن الظاهراتي؛ ببعض الاعتبارات، ينظر إلى الدين من خارجٍ؛ كونه لا يرغب في البحث عن صحّة أو عدم صحّة القضايا الدينية، ولا يقصد الحكم والترجيح لدينٍ على آخر. مع أنه في الوقت نفسه يسعى نحو الوصول إلى معرفةٍ «متعاضدة» ووصف «محايد» لهذه الظاهرة، ممّا يجعله يقترب إلى حدٍّ كبير من الرؤية الداخلية.

يبرِّر الظاهراتي سبب اللجوء إلى هذه المقاربة المزدوجة برفع إمكان الحصول على معرفةٍ محايدة لما هو صحيحٌ من الواقعيات القِيَميّة. لهذا لا ينبغي الاعتماد على الشباهة الظاهرية، واعتبار نتائج وأسلوب القائلين بالمنهج الظاهراتي مساوقةً للأساليب الكلامية. فالميزة البارزة والمميّزة لهذه المقاربة هي أن أتباع الظاهراتية ينظرون إلى الظواهر في مقام «التحقُّق»، بخلاف الكلاميين، الذين ينظرون إليها من موقع «الحقيقية». وما يميِّز هذا الاتجاه عن سائر مجالات الدراسات الدينية هو مقصده الغائي، بمعنى أن غاية عالم النفس، وعالم الاجتماع، وفيلسوف الدين، وكذلك الإناسي ـ بعد اجتياز مرحلة الإبهامات المرتبطة بـ «ماهية الدين» ـ، هي السعي لتبيين «المنشأ» و«الكيفية» و«الدَّوْر» المتصوَّر للدين، في حين أن الهدف النهائي للظاهراتي هو تقديم الوصف الدقيق والمحايد، والوصول إلى فهمٍ متعاضد حول الإيمان والسلوك الإيماني. وهذه الخصوصية هي التي تجعله قريباً من المؤرِّخ الديني، مع حفظ التفاوت المهمّ بينهما؛ حيث إن المؤرِّخ يقوم بدَوْره التوصيفي من خلال عين ولسان «المشاهد»، بينما الظاهراتي يقوم بدَوْره من خلال إحساس ولسان «لاعب الدَّوْر»، أي الفاعل.

وبما أننا لا نقصد في القسم الرابع من البحث الرجوع إلى الظاهراتية مجدّداً كرؤيةٍ واتجاهٍ فمن المناسب الإشارة إلى نموذجٍ من التعاريف المندرجة تحت الاتجاه الظاهراتي حول الدين.

«ويلفرد كانتول سميث» من جملة المخالفين لاستعمال مصطلح «الدين» كمفهومٍ «عامّ» (Generic) للدلالة على الصور المختلفة عن «مخافة الله» في الثقافات البشرية المختلفة؛ حيث يعتقد بأن استعمال مصطلح «التجسُّد» (Reified) يستلزم امتلاك إطارٍ نظريّ شامل، في حين أن مقولة الدين فيها الكثير من الإبهام والتنوُّع، وبالتالي يصعب حصرها في هذا القالب. ومن هنا فإنه مع استبعاده الكامل للتعريفات العامّة عن الدين، يكتفي بمفهوم «الإرجاع الذاتي» (Self Referential)، الذي يعرضه عادةً المعتقدون بالدين وذوو ثقافةٍ دينيّةٍ ما([13]).

2ـ الدين ومرادفاته

يندرج كلّ لفظٍ بلحاظ معناه ومدلوله تحت زمرةٍ من الألفاظ المترادفة والمتقاربة المعنى، والتي ترتبط بمجموعةٍ من الاصطلاحات الخاصّة. مع أن تلك الألفاظ ومترادفتها متشابهةٌ، وتستخدم على التبادل ـ بنحوٍ من التسامح ـ في الاستعمالات العُرْفية، إلاّ أنها في الاستعمالات العلميّة الدقيقة تتضمّن في الغالب تبايناً مُلاحَظاً جديراً بالاهتمام، لا يصحّح وفق النَّسَق العُرْفي المذكور آنفاً.

إن لفظة «الدين» من تلك الألفاظ، التي في عين انطوائها على معنىً معيّنٍ محصور قد حُمِلَتْ خطأً؛ وباعتباراتٍ متعدّدة، على معانٍ مختلفة على أنها مفاهيم مرادفة لها. واحترازاً من الوقوع في المغالطات المعنوية والأخطاء الاصطلاحية سنسعى ـ قبل الدخول في تعاريف الدين ـ إلى بيان الحدود الفاصلة بينها وبين تلك المصطلحات القريبة والمقارنة لها. وفي أثناء مباشرتنا لهذه التصفية المعنائية ـ إنْ صحّ التعبير ـ سنصل في النهاية إلى مفهومٍ أوضح عن الدين، يشكِّل أساساً مبنائيّاً لمباحثنا المستقبلية.

الدين والأيديولوجيا

أقرب المرادفات لكلمة «مكتب ومدرسة» كلمة (ideology)([14])، وعليه تكون النسبة التقابلية بين «الدين» و«الأيديولوجيا» هي العموم والخصوص من وجهٍ، ما يعني أنه من الممكن للأديان الأكثر تكاملاً التكفُّل بأداء دَوْر مدرسة دنيوية تنهض بأفعال أيديولوجية. لكنْ من المسلَّم به أنه لا يمكن اختزال دينٍ ما في مدرسةٍ فكرية أو أيديولوجية([15]). وقد ترك بعض القائلين بالتوسُّع في معنى الدين الباب مفتوحاً لدخول «شبه الدين»؛ بحجّة الاجتناب عن إخراج بعض المصاديق من دائرة التعريف، غاضّين بذلك الطرف عن خصوصياته الذاتية، كما عدُّوا بعض تلك الخصوصيات المشتركة غير القابلة للتشكيك بين الدين والأيديولوجيا دليلاً على التساوق الذاتي لكلا المفهومين. ولإثبات مدّعاهم استندوا إلى استخدماتهما المشتركة:

1ـ القدرة على تعبئة وحشد الموالين؛ للوصول إلى أهدافٍ واحدة.

2ـ الدعوة إلى الثبات والكفاح والتضحية في سبيل العقيدة والرشاد.

3ـ حمل الموالين على احترام قدسيّة المؤسّسين والدعاة لذاك المعتقد.

فلو اعتبرنا الدين والأيديولوجيا من جنسٍ واحد؛ لتأكيدهما على بُعْدَي القِيَم والمثالية في حياة الإنسان، عندها ستكون عملية «العقلنة» (Rationalization) والدعوة إلى «موت الأيديولوجيا» (Death of ideology) و«العلمنة» (secularization) و«زوال القدسية» (Deserialization) من مقولةٍ واحدة. وأما لو اعتبرناهما أمرَيْن متمايزين؛ نظراً إلى تأكيد واتّكاء أحدهما على «الوجود الماورائي» في الحياة، وسعي الآخر نحو الأهداف الدنيوية، فإن عملية العقلنة ستكون مفهوماً عامّاً، تتفرَّع عنه الدعوة إلى موت الأيديولوجيا والعلمنة.

يعتقد فلاسفة الدين بأن الاختلاف بين الدين والأيديولوجيا متجذِّرٌ ومهمّ جدّاً؛ بحيث لو توضّحت ملامحه لهوَتْ كلّ أوجه التشابه بينهما، وأصبح لكلًّ منهما في دائرته معنىً مختلفاً عن الآخر. فما يفصل الدين عن الأيديولوجيا ويوسِّع دائرة الافتراق بينهما هو البُعْد الغائي لكلٍّ منهما؛ إذ نجد أن الغاية القصوى للأيديولوجيا هي «ازدهار العالم»، ومن ثمّ إيصال المتبنّين لها إلى النجاح؛ أما الدين ـ حتّى الأديان الناظرة إلى الدنيا ـ فإنه يهدف إلى الفلاح الأخروي.

يقترح C.J.A طريقاً آخراً للتخلُّص من هذا الإبهام والخلط، فيقول: «لهذا الغرض يجب التأكيد على الخصائص النوعية (Typical) للأديان، مثل: «الالتزام بالمناسك العبادية»، وإنْ لم يكن لهذه الحيثية دَوْرٌ محوريٌّ في بعض الأديان»([16]). كما أكَّد آخرون على وجود «المُثُل المتعالية» (Transcendence)، المساوقة للقدسية (Sacredness)؛ والبُعْد الغائي للدين (Ultimacy)، التي تُعَدّ من الأبعاد الأساسية لتمييز الدين عن أنواع المدارس الأخرى([17]).

ولقد رأى «استارك» و«بيندبريج» أن تبنّي نظرية العالم الأخروي (Otherworldly)، إضافة إلى الإيمان بـ «ما وراء الطبيعة» (Supernatural)، هي ميزةٌ ذاتيّة للأديان. وإنْ خالف «يينبر» هذا الرأي؛ بحجّة وجود بعض الأديان التي لا تؤمن بما وراء الطبيعة (Non super naturalistic)([18]). في حين اعتبر «رودلف أتو» و«أندريو كريلي» الإحساس بالرَّهْبة (Feeling of Awe) والخشية المقترنة بالرَّجْفة (Fear and Trembling) بالنسبة إلى الأمر القدسيّ عنصراً فاصلاً بين الدين وشبهه([19]). فيما رأى بعضٌ أن الفاصل بين هاتين المقولتين المتقارنتين هو «الإيمان». وبحَسَب هؤلاء فإن «الإيمان» يحتوي على جوهرٍ خاصّ، لو أمعنّا في معناه الدقيق لوجدناه لا يتعلّق إلاّ بالمعتقدات الدينية، واستخدامه في الروابط المذهبية والميول العاطفية من الموارد التي لا تنهض بدقّة معناه.

يرى «كيرتس» أن أهمّ خصوصية مميِّزة للدين هي «الإيمان»، ويعتقد بأن الدين يسعى من خلال التمسُّك بالإيمان إلى تثبيت تعليماته وأحكامه بشكلٍ قطعيّ ويقينيّ، بما لا يَدَع مجالاً للشكّ والتِّيه، وهذا ما يصحِّح قدرة الدين على التأثير بالقياس إلى العلم وأنواع المدارس شبه الدينية»([20]).

الدين والإيمان (Rel.& Faith)

يطلق «الإيمان» (Faith) على حلول «الدين» في الضمير الشخصي للأفراد؛ أما الدين فعلى خلاف البُعْد الشخصاني للايمان، لا يتجلّى إلاّ في المجتمع. يقول «نيبر»: لا تتحقّق الكثير من الأبعاد المهمّة للدين إلاّ في المناسبات الاجتماعية([21]). وعليه لا يُعَدّ المعتقد الشخصي ديناً، وإنْ حمل بعض عناصر ذلك الدين واستخداماته، مثل: التلبُّس بالحياة الحقيقية؛ لأن الجنبة الاجتماعية فيه ضعيفةٌ، أو أنه فاقدٌ كلّياً للأبعاد الاجتماعية.

على هذا الأساس عرَّف «نيبر» الدين بأنه عبارةٌ عن اجتماع أناسٍ يمتلكون إيماناً مشتركاً([22]). ومضافاً إلى ذلك علينا التنبُّه إلى أن الإيمان وإنْ كان يشكِّل حيِّزاً ضرورياً وحصرياً للدين، إلا أن معطي الصورة الاجتماعية للدين هي الأبعاد الأخرى من الحياة الدينية.

وقد أبدى «كارل بارت» في التمييز بين الدين والإيمان ما يقارب هذا المعنى كلامياً، حيث يقول: «الدين هو بحث الإنسان لأجل الوصول إلى الله، بحثٌ ينتهي دائماً إلى وجدان إلهٍ مطابق لمَيْل الإنسان؛ أما الإيمان فهو مكاشفةُ الإله؛ لذا فإن الإيمان أمرٌ شخصيّ، في مقابل الدين، الذي هو أمرٌ جَمْعيّ»([23]). كما يعتقد «فيبر» أن الإيمان معرفةٌ من سنخٍ آخر، تبتني على قبول الحقائق الوحيانية دون قيدٍ أو شرط. وعليه يكون الإيمان نوعاً من التسليم أمام المشيئة والإحسان الإلهي، دون الاستناد بالضرورة في ذلك على الحجج العقلانية والإثباتية([24]). وفي الحقيقة أراد «فيبر» من خلال هذا الأساس إثبات أنه للوصول إلى فهمٍ أوضح حول العلاقة بين الدين والإيمان يتعيَّن علينا الوقوف على الأبعاد المميِّزة بين «الإيمان» و«الشريعة»، باعتبارهما جزءَيْن مكوِّنين للدين، حيث يمكننا؛ ومن خلال مقارنةٍ سريعة بين الإيمان والشريعة، رصد ثلاثة وجوه لهذا التمايز، وهي:

1ـ جوهر الشريعة هو التكليف والالتزام؛ وجوهر الإيمان هو التخيير والاهتمام.

2ـ اعتماد الشريعة على الذهن والسلوك؛ وفي المقابل اتّكاء الإيمان على تصفية القلب والروح.

3ـ اجتماعية الشريعة؛ وشخصانية الإيمان.

الدين والشريعة

للدين جزءان: «الإيمان»، وهو التبلور الذاتي والباطني للدين؛ لذا يكون اختياريّاً واكتسابيّاً، ولا يجري عليه أيّ نوعٍ من الإجبار والإكراه؛ و«الشريعة»، التي تُعَدّ من التجلِّيات الظاهرية للاعتقاد والإيمان، ونوعاً من التكاليف المُوصَى بها للتوصُّل إلى التلبُّس بالحياة الإيمانية. طبعاً يتعلَّق هذا الجزء الثاني بالأديان الأكثر تكاملاً، والتي تهتمّ بالحياة الاجتماعية للمؤمنين؛ أما الأديان التي لا تمتلك «الشريعة» فلا يمثِّل هذا الجزء جانباً مهمّاً فيها، ولا يُعَدّ من عناصرها الذاتية. فلو اعتبرنا الدين هو ذاك الأمر الشامل الذي ينهض بالمستويات الثلاثة في حياة الإنسان، أي «القلب» و«الذهن» و«السلوك»، حينها فقط تكون «الشريعة» جزءاً من الدين.

لقد وُسِّع مصطلح الشريعة في بعض التعابير بحيث صار شاملاً حتّى للوصايا والنواهي الخُلُقية؛ فضلاً عن شموله لـ «أصول العقيدة»؛ و«الأحكام العملية»([25]). وبحَسَب هذا المفهوم تكون «الشريعة» في مقابل Canon، وأما المعنى الأكثر محدودية للشريعة فهو حصرها بالأحكام العملية للدين، حينها تكون معادلةً للفقه (Jurisprudence). وحَسْب المعنى الأخير فإن الشريعة هي جانبٌ من الدين، يرتبط بالأفعال وسلوك المؤمنين فقط، وفي أحسن الأحوال يهتمّ بنواياهم أيضاً.

إن الدين الكامل لا يمكن أن يكون فاقداً للشريعة، أو يكون شريعةً فحَسْب، حتّى بمعناها الأعمّ، ولكنّ تاريخ الأديان يشهد على وجود مصاديق من النوعين. فهذا «فيبر»، بعد تمييزه بين «الدين ذي الشريعة» و«دين الخلاص»، قد ذكر أن الكنفوشوسية واليهودية التلمودية مصداقان للأديان ذوي الشرائع([26]). وعَدَّ «بارنيز» و«بيكر» «الدين الطبيعي»، الذي كان يروِّج له العقلانيون المتنوِّرون في القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، مصداقاً للدين «الفاقد للشريعة»([27])([28]).

وقد انتبه «هيجل» عند بحثه عن مفهوم الشريعة، وعملية شرعنة المسيحية، إلى اختلاف الرأي السائد حول المسألة التالية، حيث رأى بعضٌ أن أكمليّة الدين في شريعته؛ بينما رأى بعضٌ آخر أن شرعنة دينٍ ما دليلٌ على فساده. وبما أنه ينظر إلى الشريعة نظرةً سلبية تراه يبرِّر نظرته التشاؤمية لها بأن الشريعة تشكِّل الجزء «الثابت والمستقرّ» من الدين. وحَسْب رؤية «هيجل» فكلّ ما يتحوّل إلى أمرٍ ثابت ومستقرّ يحمل معه معنىً سلبياً؛ لأن الالزام المرافق لذلك الثبات سيكون حَجَر عثرةٍ أمام العقل السيّال المتطوِّر. ويضيف «هيجل» بأن العناصر التي يلزم أن تقبل على نحو الإلزام، ودون دخالة العقل وإعماله، هي مذمومةٌ ومردودةٌ من الأساس([29]).

الدين والأخلاق (Rel & Ethic)

توجد ثلاث فرضيات مسلَّمة تتعلّق بموضوع «الدين والأخلاق»، وهي مورد اتفاق الجميع؛ حيث لا يخلو بحثها من فائدةٍ، ابتداءً وابتناءً، بل هي ضروريةٌ ومقرِّبة للآراء المتباينة والمتنافرة. كما أن من شأن التركيز عليها إجلاء أوجه الاختلاف.

أوّلاً: إن الدين والأخلاق مقولتان مختلفتان وعنصران متمايزان، رغم القرابة المعنائية القائمة بينهما. فحتّى مع افتراض التجانس والتبادر الكلّي والجزئي بينهما، إلاّ أنه لا يمكن استعمال أحدهما بدلاً عن الآخر.

ثانياً: إنّ تبلور هذين الأمرين يتحقَّق فقط في المجتمع وبين ثنايا التجمُّعات البشرية المستقرّة والعريقة، وتحقُّقهما يتوقَّف على حيازة الجماعة لهذه الصفات.

ثالثاً: توجد صلةٌ ونحوٌ من التعلُّق والتناسب بين الدين والأخلاق، وافتراض التباين بينهما لا يجرّنا إلى الاعتقاد بالبينونة الذاتية والمعنائية.

إن فرض وجود علاقةٍ بين الدين والأخلاق لأمرٌ مُحْرَز بدرجة أنه لو دار الحديث عن أحدهما لتبادر الثاني إلى الذهن بلا اختيارٍ. لهذا لا نجد بين الباحثين في الأديان أو علماء الأخلاق وفلاسفة الاجتماع مَنْ يصبو إلى إنكار أيّ صلةٍ بين هذين المفهومين، بحيث يدَّعي البينونة التامّة بينهما. وفي الوقت نفسه فإن وجود هذا الفهم والإدراك المشترك لحقيقة هذه الصلة لم يقف حائلاً دون النقاش حول كيفيتهما، ونحو تحقُّقهما. كما أن التقارب بينهما حال دون تسرُّب التلقّيات المتفاوتة حول منشئهما وسمتهما و…

وسنكتفي هنا بالإشارة الموجَزة إلى رؤيتين أساسيتين حول النسبة القائمة بين الدين والأخلاق، ونحيل البحث التفصيلي حول الموضوع إلى القسم الرابع من هذه الدراسة، الذي يختصّ بالبحث حول الطرق النظرية في تعريف الدين.

ادُّعي في الرؤية الأولى، التي تتعلَّق أساساً بعلماء الكلام، والتي قد تبنّاها ودافع عنها أيضاً بعض الفلاسفة الاجتماعيين، أنه من غير الممكن ظهور واستمرار مدرسةٍ أخلاقية دون منشأ ومرجعٍ ديني وماورائي. وعليه لا يمكننا القول بوجودٍ مستقلّ ومكانةٍ للأخلاق وراء الدين. وهذا إنْ دلّ على شيءٍ فإنما يدلّ على أنّ التأكيد على دَوْر التعاليم الأخلاقية والمعتقدات الدينية لا يقتصر على الإلهيين فحَسْب، بل أيَّده وأبرزه بعض الفلاسفة الاجتماعيين أيضاً.

يقول هيجل: «هدف الدين ومشربه، ومن جملته: ديننا (المسيحية)، هو التربية الأخلاقية للإنسان»([30]). كما أكَّد آخرون أيضاً، مثل: «ألبرت ريتشل»، على المعنى والمقصود الذاتي للمفاهيم الأخلاقية الدينية، مع أن مبناهم هو فصل الدين عمّا وراء الطبيعة، وعدّوا الهدف من التعاليم الدينية هو توسيع وتعميق الأخلاق العملية؛ بغرض ترقّي الحياة الإنسانية([31]). وقد ذكر «كينكزلي ديويس» أيضاً أن إحدى وظائف الدين هي «دعم الأخلاق الاجتماعية»، حيث يقول: «لا بُدَّ من اختلاق مجالٍ ماورائيّ؛ لخلق التصوُّر بالجبر الأخلاقي»([32]). لكنّ الاختلاف بين الإلهيين والمفكِّرين الذين يعدّون الدين في كلّ الأحوال منشأً وأباً للأخلاق راجعٌ إلى قولهم بأن للدين نطاقاً وأهدافاً أوسع من الأخلاق العملية، في حين أن مفكِّرين، مثل: هيجل، ولا سيَّما ريتشل، يعتبرون الهدف الأخير للدين هو تأمين المساندة المحكمة التي تتّكئ عليها الأخلاق.

تعود الرؤية الثانية في هذا المجال إلى «إيمانويل كانْط»؛ حيث قام كخطوةٍ أولى بنفي أيّ إمكانٍ لمعرفة المفاهيم والمقولات الدينية، مُنْكِراً بذلك أيّ علاقةٍ بين الدين والمعرفة. ثمّ بادر في الخطوة الثانية إلى حَظْر أيّ علاقةٍ بين الدين والأخلاق، وقلبها رأساً على عَقِبٍ. وبذلك ترك الإنسان المؤمن في حيرةٍ من خلال التشكيك في البراهين المعرفية لإثبات وجود الله ووجوب الإيمان. وفي بحثه عن الأسباب غير المعرفية لنشأة الدين توصّل إلى جذوره ومنشئه الأخلاقي.

على خلاف المقاربات الرائجة كافّة ادّعى كانْط بأن الأخلاق هي المكوِّنة للدين، لا العكس؛ حيث رأى أن جوهر الدين هو الأخلاق، بصرف النظر عن اتّخاذ الطرق الأخلاقية في الحياة؛ فإن جميع الأفعال الأخرى التي يقوم بها الإنسان لإرضاء الله هي توهُّمٌ صِرْفٌ وعبادةٌ مصطنعة وعبوديةٌ زائفة»([33])([34]).

الدين والقدسية (Rel. and Sacredness)

حَسْب التعبير الدوركايمي يكون جوهر الدِّين هو التمايز الذي يذعن به الإنسان بين «المقدَّس» و«غير المقدَّس». وعليه فإن لذاك القسم من الفكر والسلوك والأشياء والأمكنة التي تتمتَّع بنحوٍ من القدسية صبغةً دينية وترتبط بمجال الدين؛ أما ما خرج عن «مظلّة المقدَّس»([35]) (The Sacred Canopy) فإنه يرتبط بالحياة العُرْفية للإنسان، ولا يشمله نطاق الدين.

إن المفكِّرين الذين اختاروا هذا الاتجاه، شاؤوا أم أبَوْا، يكونون قد وقعوا في نوعٍ من ازدواجية النظرة الكَوْنية. يقول «دوركايم»: «لا يمكن أن تجتمع الحياة الدينية والحياة الدنيوية من حيثٍ واحد وفي ظرفٍ واحد، بحيث يسود بينهما العيش المشترك؛ إذ يجب على المجتمع أن يتفرَّغ في أيّامٍ معينة يخصِّصها للأمور الدينية، بعيداً عن الانشغالات الدنيوية». وحَسْب اعتقاده فإنه لا يوجد دينٌ ولا مجتمعٌ لم تحصل فيهما هذه التجزئة الزمانية. وبذلك تكون قد تحقَّقت ازدواجية «إلياده» من خلال التمييز بين «الواقعية» (Reality) و«الحقيقة المطلقة» (Absoluteness)، التي ينسبها الإنسان إلى الأمر المقدَّس؛ إذ يؤكِّد أيضاً كـ «دوركايم»، على تحليل وتجزئة الفضاء من منظور شخصٍ متديِّن، فيقول: «إن بعض مكوِّنات الفضاء من وجهة نظر شخص متديِّن متمايزةٌ كيفاً مع بعضه الآخر»([36]). وفي مقابل هذه النظرة الاثنينية للزمان والمكان هناك انطباعاتٌ أخرى تعتبر الكَوْن بأَسْره مقدَّساً، من دون أيّ تمييزٍ بين أجزائه([37]).

لم تكن دعوى المزاوجة بين المقدَّس والدين من قِبَل الدعاة الأساسيين لها كـ «دوركايم» و«برغر» و«إلياده» بمعنى كونهما عِدْلَيْن؛ وذلك لأن المقدَّس يتجلّى ويكتسب قدسيّته في دائرة الدين، ووفقاً للشروط التالية:

1ـ أن يبرز ويظهر في الاعتقاد والسلوك.

2ـ أن يتمّ تنظيم الاعتقاد والسلوك القدسيّ ضمن منظومةٍ قانونيّة مدوّنة.

3ـ أن تتوفَّر الموجبات الضرورية لتجمّع الناس حول هذا المعتقد وتأمين السلوك الجمعي.

وقد عبَّر «زيمل» عن عملية الانتقال من الأمر المقدَّس إلى الدين بـ «التعيينية» (Objectification)([38]). وعرَّف «هنري هوبرت» الدِّين بأنه عبارةٌ عن جهاز إدارة الأمور المقدَّسة([39]).

الدين والكنيسة (Rel.& Church)

إن الدين حينما يَلِجُ مجتمعاً خاصّاً، ويسري بوضوحٍ في الحياة الخاصّة والعامة لأعضاء ذلك المجتمع، بحيث لايمكن تجاهله، يكون قد تحوَّل حينئذٍ إلى مؤسّسةٍ يعبَّر عنها في الثقافة الغربية والتقليد المسيحي بـ «الكنيسة» (Church). وعلى هذا الأساس فالكنيسة ليست اسماً لمكانٍ مقدَّس تُقام فيه بعض المناسك فحَسْب، بل هي مفهومٌ أوسع من ذلك، قد اعتبره دوركايم في تعريفه للدين بمثابة ميزةٍ أساسية للدين تميِّزه عن السحر. والكنيسة بهذا المعنى هي وحدةٌ اجتماعية أخلاقية([40])، تجمع المؤمنين في مؤسّسةٍ واحدة، وتؤسِّس لاستمرار المعتقد والسلوك الديني في إطارٍ منظَّم، حتى تضمن من خلال ذلك بقاء واستمرار الحياة الاجتماعية.

وبناءً على هذا فالكنيسة هي صورةٌ للمؤسّسة الدينية المتجلِّية في اجتماع أتباعها. وطبقاً لمقاربة «معرفة الأنواع» لدى «ترولتش» فإنها تُعَدّ إحدى صُوَر تجلِّي الدِّين، وأكثرها رواجاً وشمولاً في المجتمع.

الدين والمذهب (Rel.& Denomination)

 قام «أرنست ترولتش» في تعريفه لأنواع المؤسّسات الاجتماعية الدينية إلى التعريف بنوعٍ آخر من هذه المؤسَّسات تحت عنوان: Denomination، حيث وجدنا أفضل معادلٍ لها في اللغة العربية ـ وكذا الفارسية ـ هو المذهب أو الطائفة([41]). وبغضّ النظر عن الألفاظ المترادفة لهذين المفهومين في اللغة الإنكليزية فإن «الدين» و«المذهب» يستخدمان غالباً كبديلين في الاستعمالات العامّية للناطقين باللغة الفارسية والعربية. وهذا التساهل والتبديل الخاطئ لم يؤدِّ إلى حرماننا من المصطلحات المتعدِّدة والمناسبة للمعاني المختلفة فحَسْب، بل أوجب في موارد عديدةٍ التباساً في فهمها.

إن «الدين» كمعادلٍ لـ «Religion» هو مفهومٌ شامل يتعلّق بالدين قبل تجلِّيه خارجاً. وباعتبار هذا الإطلاق ما دامت لم تتبلور رؤىً ومقارباتٌ مختلفة عن الدين في أُطُرٍ كلامية، ولم يعترف بإجمالها أو تفصيلها، فلا وجود لعنوان شيءٍ اسمه «المذهب».

إن التحقُّق الخارجي للدين يحصل في إطار «الكنيسة» الواحدة، ولكنّ بروز الانشعابات في هيكلة كنيسةٍ واحدة يؤدّي إلى ظهور المذاهب (Denominations) المختلفة، التي يدَّعي كلٌّ منها انحصار الأصالة والأحقِّية الدينية فيه. وعليه فالمذهب ليس مرادفاً ولا قسيماً للدِّين، بل هو نحوٌ خاصّ يحكي عن تجلِّي الدين بين أتباعه خارجاً. وهذا ما دعا «توكويل»، في كتاب «الديمقراطية في أميركا»، إلى إرجاع سبب ظهور الديمقراطية الموجودة في ذاك المجتمع إلى وجود «المذاهب المتعدِّدة»، الأمر الذي تفتقده المجتمعات الأوروبية، الخاضعة لسيطرة الكنيسة الكاثوليكية الواحدة، أو البروتستانتية الواحدة.

الدين والإلهيات (Rel. and Theology)

لقد استعمل مصطلح «الإلهيات» معادلاً لكلمة «Theology». وترجع جذور هذه اللفظة إلى عصر اليونان، فهي مركَّبةٌ من كلمتي: Theo بمعنى الإله؛ وlogos بمعنى المعرفة أو التفكير المنطقي. وبتركيب هاتين العبارتين نحصل على مفهوم «التفكير المنطقي حول الإله». نعم، قد يكون مصطلح «كلام» في بعض الحالات معادلاً مناسباً لهذه الكلمة، لكنْ يجب علينا الالتفات إلى أن مفهوم «الإلهيّات» مفهومٌ أوسع من مصطلح «الكلام»، بمعنى أن الكلام يختصّ بدينٍ معيَّنٍ، في حين أن الإلهيات يمكن إطلاقها على عدّة أديان ذات جذورٍ واحدة.

إن الدين والإلهيات ـ ببعض الاعتبارات ـ كلاهما من الوسائل، لكن الدين وسيلةٌ أشرف من الإلهيات؛ لأنّ الإلهيات من وسائل «التديُّن»، بينما يمثِّل الدين طريق «الفلاح». تبرز أهمّية الإلهيات في الدين من جهتين:

1ـ باعتبار ما للفكر والنظر من تأثيرٍ على مستوى «العمل»، وما تلعبه النيّة والقصد من دَوْرٍ؛ إذ الأصل في الدين هو ابتناؤه على النيّة والقصد.

2ـ باعتبار ما لها من دَوْرٍ في مواجهة البِدَع والانحرافات في الدين.

لقد ظهرت بعض الاتجاهات في التقاليد الدينية تسيء الظنّ بالإلهيات، ولا تهتمّ بها. ففي التقليد المسيحي تمثَّلت في الاتجاه المقابل للإلهيّات، المقارنة لـ «تيارات الإصلاح الديني»، ناهيكَ عن ضعف هيمنة المنطق الأرسطي على علم اللاهوت المسيحي أمام الطرح الإشراقي والأفلاطوني. وهذا ما جعل المسيحية بعد هذه الصفعة الإصلاحية الموجَّهة لها من قِبَل المثالية الألمانية، التي أنتجها شلايرماخر، والتي تؤكِّد على بُعْد التجربة الدينية أكثر من تأكيدها على الاعتقاد الديني، تعيش حالة «اللاثبات»، ممّا يجعلها دائماً على مرمىً من سهام الخصم. كما قد يُلاحَظ هذا أيضاً على مراحل التاريخ الإسلامي، الذي شهد تقدُّماً للاتجاهات الإشراقية والشهودية لدى الخواصّ، بالقياس إلى المعرفة البرهانية الدينية، إلاّ أنه لم يُشْهَد نفوذُها وهيمنتها في أوساط المسلمين كافّة. أما الأديان البدائية فإما أنها كانت فاقدةً أساساً للأبعاد المعرفية؛ أو أن تلك الأبعاد كانت فاترةً بالقياس إلى البُعْد النُّسُكي في تلك الأديان.

الدين وما وراء الطبيعة (Rel. & Super naturel)

اعتقد «مك كوير»، في دراساته عن الكَوْن، تَبَعاً للمعتقدين بالتعاريف الماهوية، بالانقسام الثنائيّ للكَوْن «الطبيعي؛ وما وراء الطبيعي» (Natural/supernatural)، والظَّفَر بجَوْهر الدين يكون فقط في دائرة «ما وراء الطبيعة». بخلاف القائلين بالتعريفات الوظيفية «functional»، الذين تبنَّوْا الانقسام «العُرْفي والمقدَّس» (Profan ـ sacred) للكَوْن. وعليه يكون الناهض بجوهر الدين عندهم هو ذهن وتلقِّي المعتقدين، لا الواقع الخارجي([42]). وبحَسَب هذا الاتجاه فإنّ «ما وراء الطبيعة» و«الأمر القُدْسي» أمران متمايزان، يبتنيان على فرضياتٍ متباينة، وإنْ كان بينهما ترادفٌ قريب، ممّا استدعى استعمالهما تسامحاً على البَدَل([43]).

لقد أُلبس القسم الماورائي للكَوْن في كثيرٍ من الأديان هالة القُدْسيّة، في حين أن الأمر القُدْسيّ أعمّ من ذلك. ففي بعض الأديان، سيَّما البدائية منها، لا يقتصر الأمر القُدْسيّ على عالم ما وراء الطبيعة، بل يتعدّاه ليشمل أيضاً عالم الطبيعة. ناهيك عن أن بعض المذاهب الاجتماعية، مثل: الكنفوشيوسية أو البوذية، المعروفة كدينٍ خاصّ قد وقفَتْ وتعرَّفَتْ جيّداً على الأمور المقدَّسة، على رغم عدم إحرازها لأيّ رؤيةٍ ماورائية. وكمثالٍ على ذلك: نجد أنّ الديانة البوذية ـ وبمعزلٍ عن استنادها لأيّ بُعْدٍ ماورائي ـ توصي بنوعٍ من اليقظة الباطنية([44]).

وفي النتيجة يمكننا القول: أوّلاً: إنه لا ضرورة ولا تلازم بين الدين بالمعنى الأعمّ وعالم ما وراء الطبيعة، بل التَّبَعية في ذلك ناظرةٌ إلى نوع التعريف المعتمد ودائرة شموله، وتحديد أيّ نوعٍ من التعلُّقات القُدْسية تُعَدُّ ديناً. وثانياً: حتى مجموعة الأديان التي لا تؤمن بالفصل بين الطبيعة وما وراء الطبيعة تراهما جزءَيْن متكاملين ومتساوقين من عالمٍ واحد، بل إن جوهر الدين أمرٌ أوسع وأعمّ من الأمور الماورائية.

وعليه لا يمكن بيان شمولية تعريف الدين بـعنوانه الاعتقاد بالأمر «المقدَّس»، أو الاعتقاد بالظواهر الماورائية لمثل تلك الأديان([45]).

3ـ الدين ومبادئ التعريف

إن إحدى العِلَل الأخرى لبروز التعدُّد والاختلاف في تعريف الدين ترجع إلى اختيار المحقِّقين حول الدين لمبانٍ وأسسٍ متفاوتة في دراساتهم. فيصير من الطبيعي أيضا صيرورة الاختلاف إلى التعاريف الحاصلة من تلك الجهود النظرية، والمتمحورة حول نقاطٍ مركزية متفاوتة.

وفي ما يلي نعرض بعض المبادئ المختلفة، المؤدِّية إلى التنوُّع في تعريف الدين:

التعريف «المضيّق» أو «الموسّع»

إن الحدّ المطلوب والمتعادل في تعريف الدين هو اتّصافه أوّلاً: بالجامعية؛ أي كونه شاملاً لجميع مصاديقه، الأعمّ من الأديان الإلهية أو غير الإلهية؛ التوحيدية أو غير التوحيدية؛ ذات الشريعة أو غير ذات الشريعة؛ وثانياً: بالمانعية عن دخول الأغيار؛ أي أنواع «شبه الدين»، كـالسحر (Magic)، و«الخرافة» (Superstition)، و«العَرَافة» (Witchcraft)، و«الروحانية» (Spiritualism)، وباقي المدارس والأيديولوجيات الدنيوية، والطقوس والتقاليد الوطنية.

وعلى الرغم من أنّ منشأ الاختلافات في تعريف الدين راجعٌ إلى هذه المسألة؛ أي السعي لإيجاد تعريفٍ واحد جامع لمصاديق الدين وأشباهه كافّةً، مع حفظ خصوصياتها المتفاوتة، وذلك من خلال ابتنائه على أقلّ الخصوصيات المُنْتَزَعة من أكثر المصاديق، إلاّ أن كمال التعريف طبقاً للمنطق القديم هو حفظ علاقة التعادل بين «الجامعية» و«المانعية». وفي الحقيقة ترجع علّة نشوء وظهور التعريفات الضيِّقة أو الموسَّعة إلى العدول عن هذا الأصل، والخروج عن حدّ التعادل.

إن التعريفات الموسَّعة هي تلك التعريفات الحاصلة من خلال تجميع خصائص جميع الظواهر التي عُرفَتْ باسم الدين؛ إذ لا جَرَم أنها أوسع من كلّ مصاديقها. فالتعريف الذي ذكره «يينغر» في مجلة Scientific Study of Religion مثلاً من نماذج التعاريف الموسَّعة([46])، وهو: «حينما يحصل الوعي بالمسائل الدائمية والجارية والأبدية للإنسان فإنه يتعين مسيرٌ للخلاص النهائي، عبر المعتقدات والتقاليد المرتبطة بذلك الوَعْي، وحينما تتشكَّل المؤسّسات؛ بغرض ارتقاء وتنمية ذلك الوَعْي والحفاظ على تلك التقاليد والمعتقدات، فإن الدين يظهر إلى سطح الواقع».

إن إيجابية التعريفات الموسَّعة تكمن في شمولها وجامعيتها؛ بحيث تستطيع أن تشمل كافّة المصاديق التاريخية للدين بنحوٍ من الأنحاء.

ومع ذلك يَرِدُ على هذا النوع من التعريفات إشكالان أساسيان:

1ـ وجود مفاهيم عامّة ومُبْهَمَة في التعريف، تخرجه عن كونه معرِّفاً (Conclusive).

2ـ تضعيف أصل «المانعية»، وفتح الطريق أمام بعض الظواهر شبه الدينية للدخول في دائرة التعريف.

 في مقابل التعريفات الموسَّعة توجد تعريفاتٌ أخرى للدين على مشرب المتكلِّمين، تبتني على أنموذجٍ من دينٍ تاريخي معيَّن؛ بحيث يكون معيار تماميتهما مستنداً ومحكوماً لذلك التعريف. تكمن مشكلة هذا النوع من التعريفات في إقصائها لكثيرٍ من مصاديق الأديان الكاملة، التي لديها أبعادٌ كثيرة وشمولية؛ إذ نجد نماذجها في آراء الباحثين المنتمين إلى تقليدٍ معيَّن، أو المتبنّين لمنهجٍ نظريّ خاصّ يختصر الدين تَبَعاً لأبعاد نظرته، كالبعد العاطفي أو النُّسُكي… فمثلاً: الدين حَسْب تعريف «وايتهد» هو ما يهتمّ به «الفرد في عزلته ووحدته». بينما هو «الإحساس والاتّكال المَحْض (التامّ)» عند «شلاير ماخر». كما يعرِّفه «تايلور» بـ «الاعتقاد بالذوات الروحية»؛ و«اسبيرو« بـ «الإذعان بمخلوقات فوق بشرية»([47]). وقد عَدَدنا هذه التعريفات من جنس التعريفات المضيَّقة؛ لاعتمادها على الجَنْبة الفردية للدين؛ أو الاقتصار فيها على البُعْد العاطفي أو الاعتقادي، وإغفالها أو تغاضيها عن باقي الأبعاد([48]).

التعريف «الشمولي» أو «الحصري»

تختلف التعريفات «الشمولية» (Inclusive) و«الحَصْرية» (Exclusive) عن التعريفات الموسَّعة والمضيّقة؛ إذ تعطف التعاريف المذكورة سَلَفاً على شمول وسعة دائرة المصاديق. بينما يكون التعريف الشمولي أو الحَصْري ناظراً إلى شموليته أو محدوديته لأبعاد الموضوع. وعلى هذا تتعلّق «الشمولية» أو «الحَصْرية» في التعريف بـ «الموضوع»، وتحكي رؤية وتلقّي المعرِّف له. والحال أن الشمولية أو السعة خصوصيّتان للتعريف نفسه، وتعكسان مدى رعاية وتأكيد التعريف على الجامعية والمانعية.

في التعريفات الشمولية للدين، والتي يعتمدها المتكلِّمون ـ والتي ذكرها المتكلِّمون المسلمون أيضاً ـ، لا يعتبر الدين تجلِّياً للعناصر «الفكرية» و«العاطفية» و«السلوكية» للبشر فحَسْب، بل هو شاملٌ لجميع مفاصل الحياة «الفردية» و«الاجتماعية»، ما يعني أن هذه التعريفات في عين قبولها لفرضية «الجامعية» للدين تقضي أيضاً بأخذ عالمية الدين وأبديّته وخلوده كأمرٍ مسلَّم([49]).

وفي مقابل التلقي الشمولي للدين تقع القراءة الحَصْرية، وهي التوجُّه الغالب في التقليد المسيحي والثقافة الغربية؛ حيث يقضي التفكيك بين هاتين المجموعتين من تعاريف الدين حَسْب وجهة نظر «رولند رابرتسون» بأن التعريف الشمولي هو التعريف الذي يتجسَّد فيه الدين بمثابة قوّةٍ نافدة مؤثِّرة في الحياة الاجتماعية، ويرتقي إلى درجة «الأيديولوجيا الدنيوية»، في حين يُحْصَر التعريف الحَصْري للدين بالفعاليات ذات البُعْد الإرادي المتّجهة نحو المعنويات وما وراء الطبيعة. كما قال «فالدينغ» أيضاً: إن التعريف الشمولي والانبساطي هو الذي لا يخلّ بجوهر الدين المعنوي وبُعْده الماورائي([50]).

ويُعتبر «يواخيم واخ» من جملة الذين التفتوا إلى وجود هذين المنهجين الجديدين في مسألة التعريف؛ حيث مال إلى تلك المجموعة من التعريفات للدين، التي تأخذ بعين الاعتبار توأمية الأبعاد النظرية (التعليمية) والعملية (المناسكية) والتجلِّيات الاجتماعية (الوظيفية). كما اعتقد أن التلقِّيات الحَصْرية وذات البُعْد الواحد للدين تبيِّن جزءاً من الحقيقة فقط، وبتأكيدها على البُعْد الواحد تُقصي الأبعاد الأخرى للدين عن النظر والاعتبار([51]).

يوجد نوعٌ من الصلة والارتباط بين القراءة «الحَصْرية» للدين والنظر إليه من خارجٍ وابتناء التعريف على الأديان «المتحقِّقة». ومن المصادفات أن هذا النوع من التعريفات هو ثمرة البيئة المسيحية الغربية، كما أن العديد من التعريفات التي ذكرها المفكِّرون الغربيون هي مصاديق جليّة عن القراءة «الحَصْرية» للدين، ما يعني أن هؤلاء نظروا إلى الأديان التاريخية من وجهةٍ خارجية، وركَّزوا على أبرز الجوانب المشتركة فيها، ومن ثمَّ عرّفوا الدين على أساس المعنى المحصور في ذاك البُعْد.

إن منشأ الاختلاف في جذّابية كلٍّ من التعريف الشمولي أو الحَصْري للدين يرجع إلى مدى استناد كلٍّ منهما إلى التقاليد الدينية السائدة والروح الحاكمة على تعاليمهما؛ حيث رأى بعضٌ أنّ أكملية الدين ناظرةٌ إلى انسحابه على كلّ مفاصل الحياة، بحيث لا يُتصوَّر استقلالُ أيّ مجالٍ عنه؛ فيما فسَّر بعضٌ آخر كمال الدين في اكتمال معناه الحَصْريّ، وعدم خروجه عن نطاقه.

الدين «الحقّ» أو الدين «المتحقِّق»

يوجد اختلافٌ آخر بين العلوم المهتمّة بالدراسات الدينية؛ حيث تصنَّف تلك العلوم على أساس النظرة الخارجية أو الداخلية للدين إلى مجموعتين متمايزتين، ويتَّضح ذلك جليّاً من خلال تعريف الدين «الحقّ» أو «المتحقِّق».

يعتمد تعريف الدين من منظور متكلِّمٍ ما، يتبنّى الرؤية الداخلية لموضوع دراسته، فضلاً عن اتّكائه وتقيُّده بدينٍ خاصّ، على صورة ذلك الدين لدى المؤمنين، والتي هي بمثابة الصورة الحقيقية والصحيحة له؛ إذ يوجد بين التعريف الذي يقدِّمه عن الدين بمعناه الأعمّ أو الأخصّ وبين الدين المتحقِّق والمؤرَّخ له بَوْنٌ شاسع، بونٌ مستمرّ بين حقيقة الدين وواقعيته، لا أنّه راجعٌ إلى مجرّد عدم التوافق البيئي، وعدم قدرة البشر على تحقيق كمالهم الفكري ومقاصدهم. بل إن حفظ هذه المساحة الفاصلة يكون عن قصدٍ ووَعْيٍ مشفوعٍ بإرادةٍ واعية؛ من أجل تعزيز رغبة الموالين في الكفاح والمثابرة من أجل كمال الدين، وبالتَّبَع تحقيق الرقيّ الفردي والاجتماعي لأتباع ذلك الدين. ولهذا السبب نجد على الدوام رغبةً واعية لدى علماء اللاهوت في الإدلاء بتعريفٍ مبنيّ على حقيقة الدين. في حين نجد أن الباحثين الآخرين في مجال الدين، والذين ينظرون إلى الدين من موقعٍ خارجي، يحترزون عن ولوج الأبحاث والمجادلات المتعلِّقة بصحّة وأحقِّية الدين، ويركِّزون في نظرتهم على الدين المتحقِّق. كما أن اهتمامهم في مقام التعريف ينصبّ على بيان أن ما عُرِف في الواقع التاريخي وعلى امتداد المجتمعات البشرية باسم الدين هو الدين المتحقِّق.

يجدر بنا التذكير أن هذا الدَيْدَن؛ أي ابتناء التعريف على الدين المتحقِّق، هو مشرب المؤرِّخين والإناسيين وعلماء النفس والاجتماع؛ في حين أن مشرب فلاسفة الدين يتموضع في موقعٍ وَسَطٍ بين التعاريف الكلامية عن الدين الحقّ، والتعاريف غير الكلامية للدين المتحقِّق، وإنْ كانت تعاريفهم ليست منحازةً ومقيّدة كتعاريف المتكلِّمين، لكنّها في الوقت نفسه لم تُبْنَ على التجلِّيات التاريخية للأديان، بل انسحبَتْ أيضاً على مدَّعيات الموالين حول الدين الحقّ في الكشف عن «حقيقة الدين».

من بين تعريفات علماء الاجتماع نجد تعريفاً للدين ذا «نَسَقٍ وجوديّ»، يتبنّى ويؤكِّد صراحةً على الصورة المتحقِّقة من الدين، إلى درجة أنه يُقال: إن الفرضية الأساسية لأصحاب هذا المنهج مبتنيةٌ على الاعتقاد بأن التحقيق المُعتَبَر والأساس حول معنى وحقيقة الظاهرة الدينية لا يتسنّى إلاّ من خلال إثبات أن الدين هو كيانٌ حيٌّ وأبديٌّ في حياة البشر، لا أنه يمثِّل فكرةً انتزاعية أو نوعاً من النظام الحقوقي أو الأخلاقي.

منشأ وأصل الدين أم وظيفته؟

ترجع بعض أسباب ظاهرة التعدُّد في تعريف الدين إلى التنوُّع في المبادئ النظرية، واختلاف الباحثين في مداخل ولوجهم إلى موضوع الدين. فمثلاً: استند الإناسيون وبعض علماء الاجتماع في تعريفاتهم على البحث حول أصل الدين ومنشأ الاعتقاد الديني. وبالطبع ستكون تعاريفهم تلك متمايزةً لا محالة عن تعاريف مَنْ كانت غايته التوصُّل إلى «ذات» الدين، أو مَنْ أسَّس تعريفه على الجوانب «الوظيفية» له، ممّا يدعونا إلى القول: إنه يستحيل ترجيح أحدهما على الآخر؛ لانتفاء وجه المقايسة والمقارنة بينهما.

لقد ميَّز «مك غوير» في كتابه «Religion: The Social Context» بين مجموعتين من تعريفات الدين، وأطلق عليها: التعريف «الذاتي» (Substantive def.)؛ والتعريف «الوظيفي» (Functional def.)([52])؛ حيث يشير إليه قوله: «إن التعاريف الذاتية والجوهرية كانت ناظرةً إلى «ماهية» الدين، بينما نظرت التعاريف الوظيفية إلى آثار الدين وتجلِّياته الفردية والاجتماعية. تمتاز التعاريف الجوهرية عن التعاريف الوظيفية بأنّها أدقّ تشخيصاً وتعريفاً، وبيانها لذات الدين ومحتواه أحسن، مما يسوِّغ لنا من خلالها التعرُّف على الدين بسهولةٍ ومن ثمّ تمييزه عن غيره. مع أن عين وجه الامتياز هذا موجبٌ لمنقصةٍ في ذلك النوع من التعاريف؛ وهي أنها إذا ما قيست إلى تعاريف الدين الوظيفية، ووضعت في السياق الديني والثقافي لشخص المعرَّف، تكون أكثر خَدْشاً. ومن هنا كانت التعاريف الجوهرية للمتفكِّرين الغربيين ـ في أساسها ـ صادقةً على الدين المسيحي ـ الغربي، وبعضها لا يشمل إلاّ ديناً معيَّناً.

ومن الواضح أن التعاريف الجوهرية تكتفي ببيان الخصائص النوعية للدين، بَدَل البحث عن خصائصه الذاتية؛ وذلك راجعٌ إلى صعوبة الكشف عن ماهية وجوهر ظاهرةٍ كالدين. وعليه ينبغي عدُّ التعريف الذاتي للدين ادّعاءً بدون مصداق([53]). أما التعريفات «النوعية» فإن سعة شموليتها تفوق بمراتب سعة التعاريف الجوهرية للدين (على فرض تحقُّقها)؛ لأن محاولة الظَّفَر بها قد أفضَتْ إلى وضع اليد على الفصول المشتركة؛ لتشمل أكبر عددٍ ممكن من المصاديق. وبهذا اللحاظ تكون قد احتلَّتْ موقعاً وَسَطاً بين التعريف «الجوهري» والتعريف «الوظيفي».

إن التعاريف «الوظيفية»، التي اهتمّ بها علماء الاجتماع، وجذبَتْ نحوها ـ إلى حدٍّ ما ـ علماء النفس الاجتماعي، قد رامت الإجابة عن هذا السؤال: ما هي وظائف الدين الفردية والاجتماعية؟ لهذا أولَتْ المقاربة الوظيفية أهمّية كبيرة لنتائج وآثار الاعتقاد والسلوك الديني، بينما لم يلفت انتباهها على الإطلاق البحث عن جذور الدين ومنشئه وحقيقته وحقّانيته([54]). وقد قابل «مك غوير» التعريف الوظيفي إلى التعريف الجوهري للدين كالتالي:

1ـ التعريف الجوهري يحتكم بشكلٍ من الأشكال إلى تقرير «المتديِّنين»، في حين أن التعريف الوظيفي يعتمد على تقرير المراقبين، غير مبالٍ ـ إلى حدٍّ كبير ـ بمدَّعيات المتديِّنين حول دوافع وحوافز تديُّنهم، بل قد يشكِّك فيها.

2ـ ما يمكن عدّه نقطةَ ضعفٍ في التعريفات الجوهرية ـ أي تمحور التعريف حول المتديِّنين ـ رُبَما يُعَدّ نقطةَ قوّةٍ في التعريف الوظيفي؛ لأن هذا النوع من التعاريف يبدي استناده على تقرير الناظرين المحايدين. أما منقصة «المانعية» في التعريف الأخير فقد تمّ جبرانها إلى حدٍّ كبير في التعريف الجوهري. نعم، على الرغم من أن مَيْل فلاسفة الدين نحو تعاريف الدين الجوهرية يقابله رغبة علماء الاجتماع في عرضهم للتعاريف الوظيفية، إلاّ أن هذه المسألة لم تمنع علماء الاجتماع، مثل: «دوركايم»، في أن يبحث في الصُّوَر البدائية للحياة الدينية عن أصولٍ واحدةٍ للأديان المتعدّدة والاعتقاد الديني في المجتمعات المختلفة([55]).

ابتناء التعريف على «التجارب» أو« التجلِّيات»

 إنّ تعاريف الدين المؤكِّدة على التجارب الباطنية والشخصانية لا تبتني بالضرورة على الأبعاد الفردية للدين، والأمر نفسه حاكمٌ على التعاريف المبتنية على تجلِّيات الدين الخارجية؛ حيث لا يمكن حملها على الجَنْبة الجمعيّة فحَسْب؛ إذ قد يكون كلا التعريفين مشيراً لأحد تلك الأبعاد الفردية أو الجمعية للتجربة الدينية، وكذا الآثار والنتائج المترتِّبة على الجانب الفرد والجمعي لتجلّي الدين. مع أنه يمكن رصد اختلافاتٍ وفروقٍ بارزة بين هذين التعريفين باعتبار حيثيّاتٍ أخرى.

المجموعة الأولى، أي التعريفات المبتنية على التجربة، تتّكئ في أساسها على نوعٍ من الفهم والتعاضد والمشاركة، وتؤكِّد على ضرورة إيجاد وَعْي وجداني بالموضوع مورد الدراسة؛ في حين تولي المجموعة الثانية من التعاريف، الناظرة إلى عنصر التجلِّيات الدينية، اهتماماً بالغاً بالمشاهدة والمقارنة العينية، وتستند في ذلك على البيان والتحليل.

تعلمنا التعاريف المبتنية على «التجربة» الدينية مُسْبَقاً بأن كلّ دينٍ يقع موضوعاً مستقلاًّ للدراسة، وهذا ما يوحي بتحقُّقه في سياقٍ تاريخيّ وثقافي خاصّ، له سماته الفردية والانحصارية الفريدة من نوعها؛ إذ لا شَكَّ في أن تلك الخصوصيات تكون حاكمةً على دراسة أيّ باحثٍ لذلك الدين، وتنفي أيّ محاولةٍ تحقيقية خارجية لتعميمه. ومضافاً إلى ذلك فإن هدف مقاربة التجربة الدينية هو التحرُّر من هيمنة القواعد والأحكام العلمية والاستدلالات المعرفية الصِّرْفة؛ بغية فسح المجال لفضاءٍ مختلف تماماً، تحكمه التأمُّلات الوجدانية والتفسيرات التحقُّقية حول الدين. في حين تتكئ التعاريف المبتنية على التجلِّيات الدينية على افتراضاتٍ مُسْبَقة وإلزامات أخرى. ومن هذا المنظور يمكننا القول: إن هناك صُوَراً متنوّعة للدين في المجتمعات المختلفة، إلاّ أن التشابه النسبيّ بينها في المناشئ والآثار قد خَوَّل الباحثين في مجال الدين ولوج غمار البحث التبييني والتطبيقي، مستفيدين من الأساليب والمناهج المذكورة في الدراسات التاريخية والاجتماعية. وهذا هو سبب رواج التعاريف المرتكزة على تجلِّيات الدين لدى علماء الاجتماع والمؤرِّخين عادةً، وفي المقابل استساغة علماء اللاهوت والإناسة وبعض فلاسفة الدين للتعاريف الحاكية عن التجربة الدينية.

التعريف الفردي أو الاجتماعي للدين

ما هو المنشأ الأوّل للدين؟ هل احتياجات الفرد ومساعيه الباطنية والذهن السيّال والخلاّق لعبقرية الإنسان هي التي بادرَتْ لاختراع وخلق شيءٍ أسمَتْه الدين أم أن متطلّبات الحياة الجمعوية والضرورات الاجتماعية المتجاوزة للفردانية هي التي ولَّدَتْ الإحساس بالحاجة إلى الدين لدى أفراد المجتمع، مجبرةً الآخرين على تلبيتها؟ فحتّى لو سلَّمنا بالأفكار المثالية (Paradigm) لمَنْ يعتبر الدين نتاجاً بشرياً، ونظرنا إليه من منظور علماء اللاهوت، فإن السؤال سيبقى مطروحاً.

كما أنه ومع قبول المنشأ الإلهيّ للدين ـ على الأقلّ بالنسبة إلى الأديان التوحيدية (السماوية) ـ سيكون السؤال المطروح هو: هل كان إبلاغ الدين بواسطة رُسُل الله مقصوراً على تلبية الحاجيات الفردية للبشر أم تجاوزه ليشمل تأمين حياة المؤمنين الاجتماعية أيضاً؟ هل المخاطَب بهذه الأديان هم الأفراد أم المجتمعات؟ إذا كان المخاطَب هم الأفراد فما هي الحكمة من إنزال الشرائع الناظرة إلى الحياة الجمعوية والعلاقات الاجتماعية لأتباعها؟ ولِمَ يُؤخَذ أفراد الأمّة كافّةً بجريرة بعضها، فيتنزَّل عليها العذاب، من قبيل: الدَّمار والهَدْم و…؟ وأما إذا كان الخطاب الديني موجَّهاً للمجتمعات فلأجل أيّ شيءٍ يكون عادةً ملاك الثواب والعقاب في الأديان ناظراً إلى الأفراد، ويكون إما مبشِّراً وإما مخوِّفاً لهم؟!

قد بُذِلَتْ مساعٍ كثيرةٌ لأجل استيفاء الأجوبة الشافية على هاته الأسئلة. فجاءت تلك الإجابات متأرجحةً في أدلتها الإقناعية بين الأقلّ والأكثر، بل جمعت في الغالب بين هذا وذاك([56])، وهذا لا يعني عدم توجُّه تلك المساعي لتحقيق حلٍّ محدّد؛ أي إما هذا أو ذاك. ومن الواضح أن الأجوبة التي قدَّمها علماء النفس حول «من أين» و«لماذا» الدين؟ قد لوحظ فيها الحيثية الفردانية للإنسان؛ بخلاف ردود علماء الاجتماع، التي قامت على البُعْد الجمعويّ. مع ذلك لا يحسن بنا الاعتقاد بأن هذه القاعدة الكلّية لم تتعرض للنقض أصلاً، أو أنها حِكْرٌ على علماء الاجتماع وعلماء النفس.

وكيفما كان إنّ المهمّ في تقريرنا لمسار المسألة هو عرض آراء بعض المحقِّقين الدينيين، الذين قد وجَّهوا جُلَّ أنظارهم في تعريف الدين وتبيينه على الفرد؛ بحيث عدُّوه مَجلاً ومُجْلِياً للدين، وفي المقابل تأكيد بعضٍ آخر على الجَنْبة الجمعويّة للدين، وتناوله لمسائله ومقولاته في إطار سياق مساره الاجتماعي.

لبيان سعة الاختلاف بين هاتين المقاربتين يُستفاد عادةً من تعريف كلٍّ من: «وايتهد» و«اسميث»؛ حيث رأى الأوّل أن الدين هو ما يلتجئ إليه الفرد في وحدته وعزلته؛ بينما يرى الثاني أنه إلزامٌ جمعيّ، قلَّما يُؤخَذ متعلّقاً بالضمير الشخصيّ. وقد خالف «اسميث» بشدّةٍ القائلين بأن الدين ينشأ عن الرغبات الفردية والمساعي الباطنية، وأن وظائفه تقتصر على نجاة وفلاح الروح الفردية، معتقداً بأن جذور الدين الأصلية متأصِّلة في الجَنْبة الجمعوية، وآثار تحقُّقه تتعلَّق بالجماعة([57]).

 أما «جون يينغر» فقد كان جوابه عن هذه المسألة بصورةٍ مغايرة، حيث يقول: رغم أن الدين قد استوفى في الأساس جميع احتياجات الإنسان النفسانية، إلاّ أن ذلك لا يخدش في كونه ظاهرةً اجتماعية؛ لأنه ـ بحَسَب رأيه ـ لا يمكن ايجاد دينٍ من خلال المعتقدات الشخصية طالما لم يكن لها تعلُّقٌ اجتماعيّ. ومن ثمّ يستخلص «يينغر» أن الدين ـ كما يجيب على الاحتياجات الفردية ـ يجيب أيضاً على المتطلَّبات الاجتماعية ([58]). وسيراً على المنهج نفسه يدَّعي «هنري برغسون» أنه سواء اعتبرنا الدين اجتماعياً بالذات أو بالتَّبَع، ففي كلّ الأحوال لا يمكن إنكار دَوْره الاجتماعي أو التشكيك فيه([59]).

الهوامش

(*) عالمُ اجتماعٍ، وأستاذٌ جامعيّ معروفٌ في مجال الدراسات الدينيّة من منظور الفكرَيْن: الاجتماعيّ؛ والسياسيّ.

([1]) لقد فصّل في المنطق بين نوعين من التعريف، يعتمد أحدهما على «الذاتيات»؛ والآخر على «الأعراض». وكلُّ واحدٍ من هذين النوعين، المسمّى أحدهما بـ «الحدّ»؛ والآخر بـ «الرسم»، ينقسم على أساس جلائه ووضوحه إلى: «التامّ»؛ و«الناقص». وبرأي المنطقي كلّما كان التعريف أقرب إلى «الحدّ» وفيه خصوصية «التامّ» كان أكمل وأتمّ. نعم، هناك تعريفاتٌ أخرى أقلّ قيمةً واهتماماً عند المعرِّف من غيرها، مثل: «الخاصة المركبة» و«شرح الاسم». لمزيدٍ من التفاصيل يرجع إلى كتب المنطق، نهاية باب التصورات. وكمثالٍ على ذلك انظر: (الدورة المختصرة في المنطق الصوري، المنطق: 98 ـ 82).

([2]) ينبغي الالتفات إلى أن هذا التعريف يختلف عن التعاريف التي بحَسَب مناهج البحث العلمي تُقام لتحديد الموضوع، وتكون في بداية البحث. فالمقصود في هذا النصّ هو تعريف «موضوع العلم»، وما لا ينبغي أن يقع بشأنه اللبس هو تعريف وتحديد «موضوع التحقيق».

 ([3])Turner, B.S. Weber and Islam, London, 1974, p.44.

([4]) هذا التمايز على مستوى نوع التعريف وموقعه في البحث كان مطروحاً أيضاً لدى المنطقيين المسلمين. وقد تناولته أبحاثهم بالتحقيق؛ يقول هادوي الطهراني: تبيّن في التعريفات «الحدّية» ذاتيات المعرّف أو ما يشكِّل حقيقته، بشكلٍ كامل… ولكنْ في التعريف «الرسمـي» يتّم الفصل والتمييز بين المعرّف عن غيره فحَسْب. كما يعلّق في الوقت نفسه بأن البناء على مثل هذا التعريف في مقدّمات العلم ليس ميسّراً؛ لأنه يستلزم الاطلاع على ذاتيات وحقيقة مسائل ذاك العلم، والتي لا تتسنّى إلاّ بعد الإلمام الكامل بذلك العلم. وينسب (هادوي) هذا الرأي إلى الخواجة «نصير الدين الطوسي» في كتابه «أساس الاقتباس»، يقول «الطوسي»: «إن الإحاطة التامّة بكُنْه التعريف يتيسر بعد تحصيل العلم بشكلٍ كامل». انظر: هادوي الطهراني، گنجينه خرد (بالفارسية) 1: 90 ـ 58. وينسب أيضاً الدكتور الخوانساري الاختلاف في هذا الباب، أي تقدّم أو تأخّر التعريف، إلى التفاوت في ماهيات العلوم، قائلاً: ومن الواضح أن التعريفات في العلوم الرياضية تتقدّم على القوانين الرياضية، في حين يتمّ الظَّفَر بها في العلوم الطبيعية في نتيجة الاختبار، ومن خلال الاستقراء، وتكون حصيلة القوانين الطبيعية. راجِعْ: خوانساري، م. دوره مختصر منطق صوري (بالفارسية): 84.

([5]) McGuire, B. Meredith. (1981) Religion: The Social Context. Wadsworth. California, p4.

([6]) يعتقد «اسبيرو« أنه لا يمكن تقديم تعريفٍ جامع وواحد عن الدين؛ لأن الدين ظاهرةٌ معقّدة ومتنوعة. راجِعْ:

 ـ Hamilton, M.B., Sociology of Religion, Routledge, London and New York (p. 68).

([7]) وقد استعنّا لمعرفة آراء «هاملتون»، إضافة إلى مراجعة النصّ الأصلي، بترجمة السيد ثلاثي لكتاب Sociology of Religion (في بعض الموارد)، ولكنْ نظراً لرعاية الوحدة النصّية، وتوفُّر النصّ الإنجليزي، رجَّحنا أن تكون الإحالات إلى النصّ الأصلي.

([8]) المقصود من «المعرِّف» هي المفاهيم المعروفة التي تستخدم في تعريف مفهومٍ غير واضح «المعرَّف». يقول د. خوانساري: «لا بُدَّ أن يكون المعرِّف أجلى من المعرَّف». انظر: د. خوانساري، المصدر السابق: 97.

([9]) مع أن «الظاهراتية» لا تزال تُعْرَف بعنوان «المنهج» رجَّحنا أن نبحث حولها في هذا القسم كواحدة من مجالات البحث عن الدين.

([10]) النوعية» أو «المصداقية» في الرؤية تنبع من كون العلم «تعميمياً» (Nomothetic) أو «تفريدياً» (Idiographic).

([11]) Robertson, Roland, The sociological interpretation of Religion, Basil Blackwell. Oxford,1970, p. 51.

([12]) ومن الواضح عند أهل الاختصاص أن تقديم تعريفٍ «جامع لكلّ الأفراد» و«مانع لكلّ الأغيار» بالمعنى الدقيق للكلمة عملٌ صعب، بل أقرب إلى المحال، سواء كان في مطلع البحث أو في نهايته. ومع ذلك فإن صرف الجهد والوقت وإعمال الدقّة الكافية في تحصيله أمرٌ ممكن، وينبغي السَّعْي إلى ذلك في أيّ علمٍ.

 ([13])Wilson, John F. and Slavens, Thomas, Research Guide to Religion Studies, American Library Association. Chicago, 1982, p.5 ـ 6.

([14]) يرجح حسين نصر استعمال كلمة «الأيديولوجيا» من دون معادلٍ لها؛ وذلك بسبب ما لهذه الكلمة من معنىً خاصّ؛ لجهة منبتها النظري وتعلُّقها الجغرافي. ولئلاّ يؤدّي استخدام معادلها إلى سوء فهمٍ وتفاهمٍ فإنه يرجِّح استخدامها كما هي عليه، دون ترجمتها. وهو لا يوافق على تعريف الإسلام بـ «الأيديولوجيا»، ويرى هذا التماثل بمثابة الوقوع في فخٍّ، نتيجته القبول بالترادف المعنوي بين فلسفةٍ لا دينية وفلسفةٍ دينية. راجِعْ: مقالة: «برخورد تمدُّنها وسازندگي آينده بشر» [بالفارسية]: 123، في كتاب نظرية برخورد تمدُّنها.

([15]) لقد وُجد بين المفكِّرين المسلمين المعاصرين مَنْ دافع عن كون الدين «أيديولوجيا»؛ نتيجة ملاحظة الأبعاد الاجتماعية في الإسلام، وبغرض مقابلة الأيديولوجيا المضادّة. ونرى هذا التوجُّه في كلمات الدكتور شريعتي وكتابات ما قبل الثورة لـ بازرگان. ويعترف الأستاذ مطهَّري أيضاً بالخاصية الأيديولوجية للإسلام، إلاّ أنه ينظر إلى وجود عناصر وأبعاد وراء الأيديولوجية في الدين أيضاً، حينما يقول: «…الإسلام دينٌ، ولكنه في الوقت نفسه مدرسةٌ وأيديولوجيا أيضاً. راجِعْ: مرتضى مطهَّري، پيرامون انقلاب إسلامي (بالفارسية): 63.

([16]) Britannica, Vol. 26:509.

([17]) Moyser, G., Politics and Religion in the Modern World, pp. 9 ـ 10.

([18]) Roberts, Keith A. Religion in Sociological Perspective, Wadsworth, California, 1990, p.9.

([19]) Ibid, p6

([20])Hamiltion, op. cit. p.160.

([21])Roberts,op.cit.,p.8.

([22])op.cit. Loc.cit.

([23]) ويليام هوردرن، راهنماي إلهيات بروتستانت (دليل العقائد البروتستانتية): 111، ترجمه إلى الفارسية: طه، وميكائيليان، طهران، علمي وفرهنگي، 1368هـ.ش.

([24]) جولين فروند، جامعه شناسي ماكس فيبر (علم الإجتماع عند ماكس فيبر): 204، ترجمه إلى الفارسية: عبد الحسين نيك كهر، طهران، نيكان، 1342هـ.ش.[1983م].

([25]) يقول «عزّتي»: «الشريعة أخصّ من الدين، ولكنها أعمّ من الفقه وأوسع نطاقاً منه؛ لأن الفقه لا يشتمل على أصول العقائد والأخلاقيات. في حين أن جميع الفقهاء والعلماء المسلمين عرَّفوا الشريعة بأنها مجموعةٌ من الأحكام والقوانين المرتبطة بمجال السلوك والكلام وعقائد المكلَّف». راجِعْ: رابطه دين وفلسفه (بالفارسية): 10.

([26]) جولين فروند، جامعه شناسي ماكس فيبر (علم الاجتماع عند ماكس فيبر): 190.

([27]) وقد عبَّر عن الإيمان الفاقد للشريعة بـ Deism. وهذا المصطلح يشير إلى مدرسةٍ بريطانية تنسب إلى اللورد «هربرت جربري» ولكنْ ما عدا ذلك يوجد مفهوم عامّ لـ «دئيسم»، وهو الذي يبيّن نوع الإيمان الديني لدى الكثير من المفكِّرين في عصر التنوير وما بعده. وعلى هذا الأساس المتبنّون لهذا الاصطلاح هم الذين يتبعون ديناً ومذهباً خاصّاً، ويعتقدون بإلهٍ خالق فوَّض لهم الأمر. ومن أهمّ أصول هذه المدرسة: عدم الاهتمام بـ «النبوّة، والاستغناء عن الوَحي، وعدم الاعتماد على الشريعة». لتفصيل أكثر راجِعْ: هوردرن، راهنمايي إلهيات پروتستانت: 35 ـ 36. وأيضاً: براون، ك. فلسفه وإيمان مسيحي: 5 ـ 70.

([28]) بارنز هـ. وبيكر هـ. تاريخ أنديشه اجتماعي (تاريخ الفكر الإجتماعي): 403، ترجمه إلى الفارسية: جواد يوسفيان وعلي أصغر مجيدي، طهران، كتاب الجيب، 1358هـ.ش.

([29]) المصدر السابق: 18.

([30]) فردريك هيغل، استقرار شريعت در مذهب مسيح (استقرار الشريعة في الدين المسيحي): 37، ترجمه إلى الفارسية: باقر برهام، طهران، آگاه، 1369هـ.ش.

([31]) مرسيا إلياد، دين پژوهي: 157، ترجمه إلى الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1372هـ.ش.

([32]) Hamiltion, op. cit. p.117.

([33]) هناك العديد من الأشخاص الذي تحدَّثوا عن كون الدين أمراً وَهْمياً، سيَّما القائلين بأصالة العقل في عصر التنوير وما بعده. أما «دوركايم»؛ بسبب نظرته إلى الأبعاد الوظيفية للدين؛ ولأنه يرى الأعمال والتعاليم الدينية كرموزٍ لمقاصد أخرى، وهي حفظ المجتمع، فقد خالف الدعاوى التي تزعم وَهْمية الدين، ويصرِّح قائلاً: لو كان الدين وَهْماً فلماذا توسَّع إلى هذه الدرجة؟ ولماذا استمرّ إلى هذا الحدّ. راجِعْ:

Hamition, M.B. Sociology of Religion. p. 68.

([34]) استيفان كوزر، فلسفة كانْت، ترجمه إلى الفارسية: عزت الله فولادوند، طهران، خوارزمي، 1367هـ.ش.

([35]) اسم كتاب لـ «بيتر برغر» بهذا العنوان، نشر في سنة 1969م.

([36]) Roberts, Keith A. Religion in sociological perspective.Wadsworthk California, 1990, pp.6 ـ 7.

 ([37])Ibid, p. 9.

([38]) Hammond Hammond, Philip, The Sacrad in a Secular Age, University of California Press., 1984, p. 4.

([39]) جان پول ويليام، جامعه شناسي أديان (علم اجتماع الأديان): 31، ترجمه إلى الفارسية: عبد الكريم گواهي، طهران، تبيان، 1377هـ.ش.

([40]) لويس كوزر، زندگي وأنديشه بزرگان جامعه شناسي (حياة وأفكار كبار علم الاجتماع): 198، ترجمه إلى الفارسية: محسن ثلاثي، طهران، علمي، 1370هـ.ش.

([41]) قد استعمل محسن ثلاثي في ترجمة كتاب «جامعة شناسي دين»، تأليف: مالكوم هاملتون، في مقابل كلمة Denomination مصطلح «التجمُّع المذهبي».

([42]) McGuire, B.Meredith, religion: The Social Context, Wadsworth.California, 1981, p.90.

([43]) سوف نوضِّح هذا الموضوع المتعلّق بتأثير التلقّيات النظرية على تعريف الدين بشكلٍ تفصيلي في القسم الرابع من هذا البحث، حينما نتحدّث عن المناهج النظرية في تعريف الدين.

([44]) إن كثيراً من الأديان المتبنّية لعالم ما وراء الطبيعية لا تقبل حصول التصفية الباطنية من دون الاعتقاد والاتّكاء على ما وراء الطبيعة. وفي المقابل لا يقبلون الابتناء الواقعي للبوذية والتديُّن فيها على هذا الاعتقاد، بل كلّ ما في الأمر أنه نحوٌ من المعاملة.

([45]) وإنْ كان يبذل الجهد في أدبيات الدراسات الدينية؛ لئلاّ يكون التباسٌ وخلطٌ لمفهوم الدين مع المفاهيم المترادفة، مثل: «السحر»؛ وذلك لغرض التشخُّص والشفافية الأكثر في مفهوم الدين. وقد خصَّص مجالاً لا بأس به من هذه الأدبيات لبيان وتوضيح هذا الأمر، أي التمييز بين الدين والسحر، ولكنْ بسبب أنه قلَّما يتّفق أن تحصل مثل هذه الشبهة في التلقِّيات المتأخِّرة لم نَرَ ضرورةً في الدخول إلى مظانّ هذا البحث. فمَنْ أراد التفصيل بشأن هذا الموضوع يمكنه الرجوع إلى المراجع التالية:

ـ كيدنز، جامعه شناسي (بالفارسية): 486؛

– Hamition, M.B., Sociology of Religion.

– Ringgren, H. and Strom, A. Religion of Man kind, pp xxiii ـ xxv.

– Turner, B.S. Religion and Social Theory, P.22.

([46]) Yinger, J. Milton, The Scientific Study of Religion, New York, MacMillan, 1970, p.97.

([47]) Robertson, Sociology of Religion, Penguin, England, 1969, pp.22 ـ 34.

([48]) حول التعريفات المضيّقة عن الدين راجِعْ:

Turner, B.S. Weber and Islam.

([49]) راجع: جامعيت شريعت، مجموعة مقالات (بالفارسية).

([50]) Fallding, Harold, Sociology of Religion, p.3.

([51]) Wach, Joachim, Sociology of Religion, Chicago and London, Phoenix Books, 1944, pp.17 ـ 34.

([52]) McGuire, op.cit, pp.4 ـ 7.

([53]) يعتبر المناطقة التعريف «الحدّ التام» أفضل أنواع التعريف وأتمّها، وهو تعريف الموضوع بالجنس والفصل القريب له، لكنّهم يقرُّون بأن الظَّفَر به أمرٌ صعب، بل محالٌ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على ذاتيات الأشياء. ومن هنا قد سلَّموا مسبقاً بأن التعريفات السائدة والمقبولة لدى العلماء هي التعريف بأعراض الأشياء ومشخّصاتها، والذي يعبَّر عنه بـ «الرسم التامّ والناقص». راجِعْ: محمد رضا المظفَّر، المنطق: 98 ـ 101.

([54]) من المعلوم أن إلغاء البحث عن حقيقة أمرٍ ما، والاكتفاء ببُعْده الوظيفي، هو نحوٌ من التغافل. كما أن الاقتصار في إثبات حقيقة وصحّة ظاهرةٍ ما على آثارها ووظائفها تُعَدّ حجّةً غير تامّة وبرهاناً ناقصاً. وكلا التوجُّهين سجّلا حضورهما في مبحث الدين. نعم، لم يسلما من الخطأ المنطقي.

([55]) يُعَدّ «مارسيل موس»، مثل «فيبر»، من جملة الذين تحدَّثوا بجِدٍّ عن إمكان إقامة تعريفٍ جوهريّ للدين؛ إذ لم يَرَ المانع في التعريف هو صعوبة الكشف عن ذات الدين، بل أرجع ذلك إلى تنوّع الأشكال الدينية في المجتمعات المختلفة مع الماهيات المختلفة، فيقول: في الحقيقة لا يوجد شيءٌ جوهري باسم الدين، وما هو الموجود هو الظواهر الدينية التي تجمَّعت تدريجياً في ما يُسمَّى بالأنظمة الدينية، وتمظهرت في وجودٍ أو ماهيةٍ تاريخية معيَّنة وسط تجمُّعات إنسانية وفي أزمنةٍ مشخَّصة. راجِعْ: جان بول ويليم، جامعه شناسي أديان (بالفارسية): 30.

([56]) لهذا اعتبر المفكِّرون المسلمون أن الانسان من جهةٍ جُبل على فطرته الدينية؛ ومن جهةٍ أخرى هو مَدَنيّ بالطبع. كما اعتقدوا أن الحياة الاجتماعية شرطٌ في رقيّه نحو الكمال. فالنظر الوَسَط بين الفردية والاجتماعية في الدين موجبٌ لتحقيق التلاؤم والانسجام، ومن هذا الحيث نرفع اليد عن حالة الاجبار في اختيار أحدهما. يراجَع بهذا الصدد آراء العلماء، من قبيل: الفارابي، العلاّمة الطباطبائي، الشهيد مطهَّري، محمد رضا حكيمي، وكثير من المتقدِّمين والمتأخِّرين.

([57]) Hamilton, op.cit. p. 97.

([58]) Ibid, p.118.

([59]) برغسون هنري، دو سرچشمه أخلاق ودين (منبعا الأخلاق والدين): 8، ترجمه إلى الفارسية: حسن حبيبي، طهران، شركة الانتشار، 1358هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً