أحدث المقالات

مدخل

التقرير أو الإقرار أو الإمضاء معناه سكوت النبي2 عن أمرٍ عَلِم به، ووقع بين يديه، وقد استفاد علماء الاجتهاد الإسلامي من التقرير النبوي و.. الكثير من النتائج الفقهية؛ لأنّ النبي لم يكن يعيش بمعزل عن مجريات الأحداث بل كانت تقع أمامه يومياً وقائع وظواهر عديدة جداً، فسكوته عن بعضها إذا كان يفيد حكماً تشريعياً فمن الطبيعي أن يمدّنا بالكثير من المعطيات في هذا المجال أو ذاك، وهذا ما يجعل نظرية حجية التقرير في غاية الأهميّة بالنسبة للاجتهاد الشرعي، ولا يُفترض بعلماء أصول الفقه الإسلامي تجاهل هذا الموضوع، سيّما الشيعة الإمامية الذين ـ كما أشرنا في دراسة أخرى حول حجية الأفعال النبوية ـ بدؤوا يغيّبون هذه الموضوعة عن دراسات أصول الفقه الإمامي، ربما لكونها غدت واضحةً وبيّنة.

وقد استفاد علماء أصول الفقه الإسلامي نظرية حجيّة التقرير من أدلّة حجيّة السنّة، سيما دليل العصمة، فكانت حجية التقرير مذهب جمهور العلماء([1])، لا أنه لا خلاف فيها كما ادّعى ابن العربي([2])، حيث خالف في ذلك قلّة قليلة، كما فيما نُسب إلى أبي بكر الباقلاني (403هـ)، وذهب إليه الجويني (478هـ) في خصوص كتاب «التلخيص»، من اعتقادهما أنّ السكوت لا يعمّ؛ لأنه ليس بخطاب([3])، فيكون منحصراً بتلك الواقعة لا يُتعدّى عنها، فيُستفاد منه الجواز لذلك الفاعل لا لغيره، فلو شرب زيدٌ الماء جالساً أمام رسول الله 2، وسكت النبي عن فعله ولم يعلّق؛ فإنّ أقصى شيء تعطيه هذه الحادثة هو جواز شرب الماء في تلك الحال لزيد نفسه فقط، ويصعب أن نقوم بتعميمها لغيره بحيث نقعّد الموقف بوصفه حكماً شرعياً لعامّة المسلمين.

وقد انتُقد الباقلاني وغيره بقانون اشتراك الأحكام بين المكلّفين؛ فإذا جرى حكمٌ على ذاك الفاعل جرى على غيره أيضاً، وقد نُقل هذا القول عن الجمهور([4]).

ولعلّ القاضي الباقلاني كان يقرأ الموضوع من زاوية معرفية لا واقعية، أي من زاوية إمكانية معرفة الموقف التشريعي من الحادثة بالنسبة إلينا، لا من ناحية أن سكوت النبي ـ بشروطه ـ لا يعني واقعاً دلالة الرخصة، تماماً كما ستكون طبيعة بعض ملاحظاتنا القادمة على حجيّة التقرير، فما يقوله الطرف المقابل الناقد للباقلاني والجويني صحيح، إلا أنّ المشكلة تكمن في عدم القدرة على تحديد طبيعة ملابسات الموضوع والحدث بالنسبة إلينا، بحيث نحتمل خصوصيات خفيت عنّا كان لها تأثير في تحديد الموقف، وحيث من المستحيل ـ عادةً ـ نفي هذه الخصوصيات المحتملة كان مقتضى القاعدة الغالبة هو عدم إمكان توظيف التقرير في الاستنباط الفقهي و.. في الحالات الفردية و..

ولهذا الموضوع صلة أيضاً بنظرية تاريخية السنّة النبويّة، وقد درسناه في محلّه، وتعرّضنا فيه بالمقدار الكافي لربط قاعدة الاشتراك بالبحث الحالي.

ولكي نمنهج دراساتنا هنا، يُفترض أن نعالج سلسلة من محاور البحث، توصلنا إلى نتائج في حجيّة التقرير، وهذه المحاور هي:

المحور الأول: مبدأ حجيّة التقرير، الأدلّة والمنطلقات

إنّ إثبات حجيّة التقرير يمكن أن يقوم على أسس عدّة([5])؛ ذلك أنّه:

أ ــ تارةً تُشاد قيمة التقرير وحجيته على أساس مبدأ العصمة، فيكون الموقف متوقّفاً على:

1 ــ إثبات وجوب النهي عن المنكر على النبي2 من جهة، كما لو صدرت معصية أمامه فوجب عليه النهي عن المنكر، فإذا لم ينه ــ والمفروض عصمته ــ دلّ ذلك على عدم حرمة الفعل المذكور([6])، فلو فرضنا أنّ النهي عن المنكر لم يكن واجباً على النبي فإنّ سكوته هذا لا يخلّ بعصمته؛ لأنّ المفروض أنّه لم يترك واجباً عليه، حتى يكون ذلك منافياً لقانون العصمة الثابت في علم الكلام الإسلامي.

إلا أنّ هذا الأمر قد يواجه صعوبةً على أساس أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شك في شمولها لرسول الله 2، ففي واقع الأمر المفهوم المثار أعلاه تامّ صحيح لا غبار عليه، فإثبات وجوب النهي عن المنكر عليه2 مما لا شك فيه؛ حيث هو ــ كسائر المسلمين ــ مشمول لما دلّ من الآيات على ذلك، إلا أنه لابدّ لإثبات فائدة هذا الكلام بالنسبة إلينا ـ على مستوى استنتاج موقف شرعي من سكوته ـ من تحقق شروط:

الشرط الأوّل: أن نتأكّد أنّ الفعل أو الترك حرام حتى يكون نهي النبي2 نهياً عن منكر، وهذا التـأكّد نستفيده من عدم سكوت النبي، وإلا فلو سكت كشف ذلك عن عدم حرمة الفعل.

الشرط الثاني: أن نُحرز أن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت متحقّقة حتى يجب على النبي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ذكر الكثير من الفقهاء أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما شروط، منها أن يحتمل الآمر والناهي التأثيرَ في الطرف الآخر المأمور والمنهي، ومنها أن لا يخشى الآمر والناهي الضرر على نفسه من الأمر والنهي، وإلا سقط التكليف عنه، وطبقاً لهذه الأسس الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نرى أنّه لعلّ سكوت النبي2 كان لأجل عدم احتمال التأثير على تقدير شرطية هذا الاحتمال، حتى لو قلنا بعدم شرطية عدم الخوف عليه، إذ ذلك من خصائصه على ما قيل([7])، كما ربما صدر الفعل الحرام من فاعله جاهلاً بالحرمة، فلا معنى لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر هنا؛ لعدم صدور الحرام منه حسب الفرض، فسكوت النبي2 لا يدلّ على الجواز، بل يدل على عدم لزوم الأمر بالمعروف عليه، وهو أعمّ من جواز الفعل الذي صدر من الطرف الآخر ومن عدم جوازه، كما بيّنا، يضاف إلى ذلك كلّه احتمال عروض ظرف ثانوي جعل الواجب غير ملزمٍ في حقّ النبي، كما لو صدر هذا الفعل أمام الرسول2، لكنه كان مشغولاً بواجب أهم، فسكوته يبعد فيه اكتشاف رضاه.

فدلالة السكوت على حكمٍ شرعي على أساس مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حكم العدم، إلا إذا أحرزنا الحرمة مسبقاً أو الجواز مسبقاً فلا حاجة للسكوت حينئذٍ، وبهذا ظهر أنّ ما صدر من بعض أصوليي أهل السنّة([8]) من جعل دليل الأمر بالمعروف مستقلاً عن دليل العصمة في غير محلّه، بل هو مبنيّ عليه، فلو لم يكن معصوماً فلا معنى للاستدلال بوجوب الأمر بالمعروف عليه؛ لاحتمال تخلّفه عنه، ولهذا وجدنا الغزاليّ يثير في كتابي: المنخول والمستصفى القول بأنّ النبي2 تجوز عليه الصغائر، فلابدّ من تقدير كون الفعل الساكت عنه كبيرة لا صغيرة، وإن لم يفرّق هو نفسه بينهما([9])، ولهذا لا مجال للتفكيك بين نظريّتنا في العصمة ومسألة حجيّة التقرير على أساس الأمر بالمعروف.

2 ــ وقد لا يتوقف السكوت الإمضائي على مبدأ الأمر بالمعروف بل يقوم على مبدأ لزوم تعليم الجاهل؛ فإذا وجب على النبي2 تعليم الجاهلين بدينهم وجب عليه تصحيح أخطاء الناس كلمّا شاهدها، فإذا صدر أمامه شيء حرام واقعاً لزمه البيان؛ لأنّ هذه هي وظيفته الإلهية، وحيث فرضناه معصوماً لم يكن بالإمكان تخلّفه عن هذا البيان.

وهذا التقريب للاستدلال أفضل من سابقه؛ لأنه أبعد عن الغموض الموجود في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنّما المهم هنا أن يكون ثابتاً لزوم تعليم النبي2 الناس أمور الدين بهذا المعنى للتعليم، أي بحيث لو صدر فعلٌ أمامه للزم بيان حكمه، حتى لو كان قد بينّ هذا الحكم مراراً في المسجد النبوي أو غيره، وقد شرط بعضهم ــ كالتلمساني (771هـ) والرهوني (773هـ)([10]) ــ في التقرير أن لا يكون النبي2 قد بيّن قبل ذلك بياناً يسقط معه وجوب الإنكار، بل حتى معه نحتمل علم الطرف الآخر وعدم نهي النبي له لعدم التأثير؛ إذ من أين نحرز جهله لكي نطبّق قانون تعليم الجاهل؟!

إذن، نحن أمام ثلاثة احتمالات:

الأول: أن يكون صاحب الفعل جاهلاً بحرمة الفعل، فيجب على الرسول بيان الحكم له من باب وجوب تعليم الجاهلين وإرشادهم، لا من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا الاحتمال مخترَق بافتراض أنّ الرسول قد أصدر بياناته الشرعية في هذا الموضوع مراراً، أو صدر ـ مع ذلك ـ حكمه في القرآن الكريم أيضاً بشكل صار واضحاً عند المسلمين ولم نلحظه نحن، فعلى هذا التقدير لو قلنا بعدم وجوب البيان عليه سقط الاستدلال في هذه الحال.

الثاني: أن يكون صاحب الفعل عالماً بالحرمة، فيرتكب فعله عاصياً، ويكون بحيث اجتمعت عنده شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان احتمال التأثير فيه موجوداً، ولم يكن هنا من عنوان ثانوي يرفع التكليف بالأمر والنهي عن كاهل النبي، وهنا يجب على النبي 2 أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ فعدم فعله ذلك يكشف عن عدم حرمة الفعل أو الترك.

الثالث: وهو مطابق للحالة الثانية مع احتمال سقوط وجوب الأمر والنهي عن النبي إمّا لعنوان ثانوي أو لعدم احتمال التأثير، وهنا يصعب الاستنتاج من سكوت الرسول 2 حليّةَ الفعل والرخصة فيه.

وحيث يصعب في الفعل النبوي السكوتي غالباً تحديد الاحتمالات الثلاثة صعُب عمليّاً التوصّل إلى استنتاج الحكم الشرعي بالرخصة من سكوته، والقول بأنّ الاحتمالات التي أثرناها نادرة الحصول فتلحق بالعدم أو يعمل على الأعم الأغلب كما أشار لذلك الدكتور النملة([11])، غير صحيح؛ فهي احتمالات معقولة، وحوادث التقرير التي وصلتنا على مستوى الأحداث الفردية ليست بالهائلة المتوقف علم حالها على التقرير حتى ندّعي الاطمئنان، وقاعدة الأعم الأغلب إن لم ترجع إلى الاطمئنان فلا دليل عليها.

هذا كلّه على صعيد تشييد حجية التقرير على أساس مبدأ العصمة.

ب ــ وأخرى تُبنى حجية التقرير على سائر أدلّة حجيّة السنّة النبويّة، وقد عالجنا في دراسة أخرى اختصّت بحجية الفعل النبوي هذه الأدلّة، وقلنا: إنها لا تدلّ على حجيّة الفعل، والسكوت درجةٌ من الفعل، بل مثل آية التأسّي أوضح في عدم الدلالة؛ إذ هي منصرفة إلى الفعل النبوي من حيث هو سلوك وفعل، فلا تشمل الحكم بجواز فعلٍ فعله غير النبي2 بمحضره، نعم تدلّ على جواز سكوت النبي2 لا كشفه عن جواز الفعل في حقّ الطرف الآخر، من هنا فالاستدلال بالإجماع ـ سيما إجماع الصحابة ـ على الاستناد إلى تقريره([12])، غير صحيح.

ج ـ وثالثة تُبنى حجية التقرير ـ كما يطرح السيد باقر الصدر([13]) ـ على مقولة عقلانية المشرّع؛ بمعنى أنّ هذا المشرّع أو المبيّن للشرع عندما يواجه موقفاً ما يخاف منه على دينه وشريعته فإنّه ـ لا محالة ـ يتصدّى لمواجهته؛ إذ في عدم تصدّيه نقضٌ للغرض، فمن الناحية العقلانية يفترض أن يبادر إلى تحديد موقف ما من الحدث الذي وقع أمامه، ولمّا لم يفعل، فهمنا أنّه لا ضير في هذا الفعل شرعاً.

وهذه المقولة تعطي كشفاً ما، غير أنّها لا تستطيع في الحوادث الفردية أن تدلّنا على شيء بشكل واضح، على خلاف الظواهر العامّة كما سوف نبيّن؛ لأنّ صدور الفعل من الفاعل أمام النبي لا يضرّ بالشريعة ما دام النبي ليس بمعصوم حسب فرضية هذا التأسيس لحجية التقرير؛ فسكوت النبي لن يسبّب أيّ مشكلة في هذا الإطار على مستوى وعي المحيطين به، سيما إذا كان قد بيّن هذا الحكم وموقف الشرع من هذا الفعل في مناسبات أخرى، وبعبارة أخرى: إذا تغاضينا عن فرضية عصمة النبي وأعدنا إنتاج حجية التقرير على أساس عقلانية صاحب الشرع، فقد فتحنا في المجال لتقصيره، والتقصير شيء واللاعقلانية شيء آخر، فكيف نضمن أنّ النبي ـ وهو غير معصوم ـ لم يقصّر في هذا الحدث الذي وقع أمامه؟ بل كيف عرفنا أنّه لم يكن معذوراً في السكوت؛ فلعلّه لم يستطع ذلك لموانع لا دراية لنا بها، وهذا لا ينافي عقلانيّته؟

هـ ـ  ورابعة تبنى حجية التقرير على أساس ظهور حال النبي وهو المعصوم، في أنّه مسؤول عن الشريعة وشؤونها، فعندما يواجه سلوكاً لا ترتضيه الشريعة ثمّ يسكت عنه فإن ظاهر حاله الرضا بذلك، وتكون الدلالة حينئذٍ استظهارية، لا عقلية كما هي الحال في الاعتماد على مقولة العصمة([14]).

وهذا الأساس لحجية التقرير يمكن أن يخضع للمناقشة أيضاً على صعيد الظواهر الفردية والجزئية؛ إذ من أين بدا لنا أنّ ظاهر حال النبي هو التعليق على كل ما يقع أمامه؟ وكيف عرفنا أنّ هذا الظهور الحالي منعقد في تمام المواقف التي يقفها النبي بحيث لا يكون معذوراً في الترك ولا مضطراً له طبقاً للمناقشات التي أسلفناها؟ فهذه الفرضية أنموذجية قد لا تكون واقعيّةً في التطبيق، إلا إذا أرجعناها إلى إحدى المنطلقات السابقة، فتسجّل عليها الملاحظات المتقدّمة.

وهناك مشكلة في حجية التقرير النبوي يصعب حصولها في تقرير المعصومين اللاحقين للنبي2 وفقاً للنظرية الشيعية؛ وهي أنه قد يكون سكوت النبي أو أحد الأئمة في عصر النبي عن أمرٍ ما لسبب بسيط وهو احتمال أن تشريع  الحرمة لم يكن قد صدر بعدُ وفقاً لنظرية التدرّج في بيان الأحكام؛ فقد يكون الحديث وقع أمام الرسول2 في العام الثاني للهجرة أو الخامس للبعثة قبل صدور تشريع تحريمه، ثم جاء تشريع الحرمة دون أن يصلنا بلاغه، لأنه لم يكن قرآنياً، أو كان قرآنياً ولم نفهمه نحن اليوم من نصّ الكتاب، وفي مثل هذه الحال لن يجب على الرسول 2 على مختلف الصعد والمنطلقات أن ينهى عن شيء؛ لعدم صدور التشريع إلى تلك الفترة حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعلّم الجاهلين ولا ينقض غرضه و.. نعم إذا أحرز أن الفعل صدر في أواخر العهد النبوي جداً تقلّصت تدريجياً فرص هذه الملاحظة؛ ولهذا لا معنى لكلام الغزالي من أنه إذا كان الرسول ينتظر الوحي فلابد له من أن يأمر الفاعل بالتوقف([15])؛ إذ ليس كل الحالات انتظاراً للوحي، ولوحصل أن أمر بالتوقف فلا دليل يلزم بذلك ولم يبيّنه الغزالي نفسه.

وبهذا يتبيّن أنّ مشكلة حجية التقرير هي مشكلة معرفيّة كما ألمحنا في البداية، حيث يصعب التوصّل إلى اكتشاف حالة الدلالة السكوتية على موقف شرعي. وسيأتي أنّ هذه المشكلة لها إطارها الخاص، دون أن تسقط قيمة حجية التقرير بالمطلق.

نظرية التفصيل في الإقرار بين المنقاد للشرع وعدمه، وقفة نقدية

ذكر بعض الأصوليين أنّ من شروط حجية التقرير أن يكون من أقرّه الرسول2 من المؤمنين المنقادين للشريعة، ومعه لا يكون سكوته عن فعلٍ صدر أمامه من شخصٍ غير مسلم دالاً على جواز هذا الفعل([16]).

إلا أنّ هذا الكلام غير واضح؛ لأنّ المستند لحجية التقرير ــ كما لاحظنا ــ ليس سوى الأمر بالمعروف أو تعليم الجاهل و..، وكلا المعيارين صادق في المسلم وغيره، المنقاد للشرع وغيره، فما هي الخصوصية التي توجب أخذ هذا القيد أخذاً قواعدياً في الحجية حينئذٍ؟! ألا يجب على الرسول 2 تعليم الكافرين والفاسقين إذا كانوا جاهلين؟! ألا يجب عليه أن يأمر الكافرين والفاسقين بالمعروف وينهاهم عن المنكر؟! ألا ينقض غرضه في مورد الكافر والمنافق؟!

الظاهر ـ فيما توحيه بعض الكلمات ـ أنّ الخصوصية التي دفعت هذا الفريق من علماء أصول الفقه الإسلامي للتمييز بين الكافر والمنقاد للشرع في نظرية حجية التقرير، هي أحد أمور:

أ ــ إنّ الكافر ممّن يغريه الإنكار، وفي كل مورد يكون فيه ذلك يسقط الإنكار، فيعلم عدم وجوبه على النبي2، فلا يُستفاد منه الإقرار([17])، ولعلّ هذا هو مراد من لم يحتجّ بالتقرير في حق الكافر؛ لعدم قبوله من الرسول قوله([18]).

وهذا الكلام لا يصحّ على إطلاقه، فليس كلّ كافرٍ يغريه الإنكار، ولا كلّ مسلم لا يغريه، سيما إذا صدر الإنكار من المعصوم غير النبي2، بل هو خصوصية من الخصوصيات التي أشرنا سابقاً إلى إيجابها العجز عن استكشاف الحكم من التقرير؛ إذ كيف نعرف عدم وجود العذر عند النبي2؟ وهذا معناه أنّ هذا المفهوم الذي أقحم هنا ـ وهو مفهوم الإغراء ـ يعيق عن استنتاج حجية التقرير بنحو أوسع من مسألة الكافر، كما في المنافقين وعدد من أصحاب المصالح والمنافع.

ب ــ إنّ الكافر غير مكلّف بالفروع، ومعه لا معنى للإنكار عليه فيها([19])، ولعلّ هذا هو مراد الغزالي في المنخول من أن النبي كان يعرض عن الكفار، وفي المنافق خلاف، لأنه كان ينحو به منحى المسلم([20])، فالإنكار يكون حيث يتخلّف الطرف الفاعل أمام النبي عن مسؤوليةٍ ما أو يخالف الشرع، وإذا كان الكافر غير مكلّف بالفروع الدينية فلا معنى للإنكار عليه حينئذٍ.

وهذا الكلام وجيه بناءً على صحّة هذه النظرية، وهي محلّ نظر، يوكل تفصيلها إلى محلّه.

ج ـ ما ذكره السمرقندي (539هـ) وغيره من أنه لا حاجة لإنكار الرسول في حقّ الكفار؛ لأنه سبق وأن شهر إنكاره، كما أن عدم إنكاره على أهل الذمّة إنما يرجع لعقد الذمام ومصالح المسلمين([21]).

وهذا الكلام مردود؛ إذ كأنه افترض الإنكار خاصاً بالتوحيد وأمثاله، مع أنّه يمكن أن يكون الأمر من الفروع التي لم يسبق له أن أنكرها في مناسبة أخرى، فهذه الملاحظة تجري في المسلم وغيره، وتعيق أصل حجية التقرير، لا أنها تسمح بنظرية التفصيل التي نحن بصددها فعلاً، وأما مسألة حماية عقد الذمة، فإنه يكفي في الإنكار هنا البيان القولي الهادئ، وهذا لا يضرّ بعقد الذمة، فهو لا يمنعهم أو يمارس القوّة ضدهم، وإنما يرشدهم في إطار دعوي متزن وعقلاني.

حجية التقرير بين الظواهر العامّة والحوادث الخاصّة، النظرية المختارة

من هنا، لا نجد دليلاً على حجيّة التقرير إلا في موضعٍ واحد، وهو أن يكون الأمر المسكوت عنه ظاهرةً متكرّرة في حياة الناس والمسلمين بحيث تعكس أثرها على الدين أو تعدّ جزءاً منه، ففي هذه الحالة إذا لم نعثر على أيّ دليل يفيد رفض النبي2 أو استنكاره:

1 ـ فإمّا أن يكون المسلمون جاهلين لذا يمارسون هذه الظاهرة فيجب عليه تعليمهم بمقتضى وظيفته، وظاهرةٌ من هذا النوع يفترض عادةً أن تصدر بيانات عدّة من النبي2 أو من الإمام% فيها أو يصدر بيانٌ واحد مؤثر في مواجهة الظاهرة، وهو ما يصلنا عادةً، فمع عدم وصوله يحصل اطمئنان ـ عرفاً ـ بعدم وجوده، مما يكشف عن الرخصة في هذا الفعل.

2 ـ أما إذا كان المسلمون عالمين بالحكم يفعلون الفعل مع علمهم، فلا شك في أنّ النبي2 كان قد أمرهم ونهاهم؛ لبعُد احتمال عدم التأثير ــ ولو في بعضهم ــ فيحُرز عادةً تحقق شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يكشف ــ على تقدير عدم الردع ــ عن الرخصة في الفعل على الأقلّ، ولمّا لم يصلنا أمره أو نهيه مع أنّ المسألة عامة يحصل اطمئنان عرفي بعدم صدوره، دون أن يكون هنا مجال لإشكال عدم صدور التشريع؛ لأن المفروض أن العادة ظلّت مستمرّة حتى وفاة الرسول أو وفاة الإمام العسكري شيعياً، مما يعني أنه لو أريد صدور تشريع لصدر، وبعد صدوره كانت العادة مستمرّة حسب الفرض، فيكون السكوت دالاً.

ومن هذه الظواهر العامة التي تفيد فيها الإمضاءات؛ حجيّةُ الظهور، وحجية الخبر الموثوق أو خبر الثقة أو حجيّة الاطمئنان مما استفيد في علم أصول الفقه منه، إلى غيرها من الظواهر العامة الكثيرة، سواء كانت عقلائيةً، أو إسلاميةً متشرعيّة، أو محلّيةً كما في بعض عادات العرب، أو زمنيةً كبعض الظواهر العامة التي تظهر في بعض الحقب الزمنية وهكذا.

من هنا يظهر لنا:

أ ــ أن الظاهرة لابدّ أن تكون على مرأى المعصوم ومسمعه حتى يصدق أنّ سكوته كاشفٌ عن إمضائها، فلو لم يعلم بها، كما لو كانت بعضَ عادات الروم، لما أمكننا بالدليل المتقدّم استكشاف الإمضاء؛ إذ هو فرع العلم، اللهم إلا إذا قيل: إنّ المعصوم لا يغيب عنه شيء في العالم، وأنّه مسؤول عن هذا العلم بالواقع، ولو لم يكن عن طريقٍ عادي، وقد قيل: إن للشافعي في مسألة شرطية اطلاع الرسول قولان([22])؛ وقد نفى بعضهم الدلالة([23])، وعليه فلو شككنا في علمه بهذه العادة أو تلك ولم يكن الأمر ممّا لا يخفى عادةً ـ كما عبرّ الشيرازي في اللمع([24]) ـ لم يمكن إجراء قانون التقرير؛ لعدم التأكّد من تحقق عناصره، والأصل العدم؛ من هنا فالعبرة بالعلم، بلا فرق بين أن يقع الحدث أمام عينيه أو في غير مجلسه مع علمه به، وهذه النقطة الأخيرة في عدم التمييز بين المحضر والعلم حيث المهم هو العلم، أشار إليها غير  واحـد مـن الأصوليين([25])، وهـي تنفـع ـ ميدانياً بشكل أكبر ـ على نظرية شمول حجية التقرير للحوادث الفردية بشكل عام.

ب ــ أنّ المسألة ــ كما يظهر من الدليل ـــ لابدّ أن تكون محلّ ابتلاء المسلمين أو البشر أو ذات تأثير مترقّب، حتى لو لم تقع ـ فعلاً ـ داخل ابتلائهم، بحيث تضرّ بأمر الدين على تقدير عدم شرعيّتها، أما لو لم تكن كذلك ولم يبتل بها المسلمون، فلا دليل يثبت لزوم تصدّي المعصوم% لبيان حكمها بعنوانها على تقدير المنع عنها.

ج ــ نعم، هناك شيء، وهو أنّ الرسالة الإسلامية رسالة عالمية خالدة خاتمة ممتدّة في الزمان والمكان؛ فإذا ظهرت ظواهر بعد عصر حضور المعصومين(، أليس من وظائف المعصوم بيانها ولو عبر قواعد عامة؟

الحقّ في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الخميني (1409هـ)، كما تشير إليه كلماتٌ له في مباحث الاجتهاد والتقليد([26])، ونقرّب الفكرة من وجهة نظرنا من خلال القول: إنّ الرسالة الإسلامية بمصادرها الرئيسة ـ مثل الكتاب والسنّة ـ إذا لم تُشر إلى حكم ظاهرة مستجدّة بعد عصر الحضور، ولو عبر القواعد والأسس والمبادئ، بحيث يهتدي إليها الفاحص المجتهد لا خصوص المعصوم؛ فما معنى بيان الشريعة في الكتاب والسنّة وأنّ فيهما ما يحتاج الناس؟! نعم قد يكون صدر ردع ولم يصل إلا أنّه مع ذلك نبقى على القواعد العامة ونرى عدم وصول الردع على المستوى العلمي كافياً، وكلّما تعاظمت الظواهر كلّما اشتدّت مسؤولية البيان على الكتاب والسنّة.

قد يُقال: إنّ هذه مسؤولية الناس حيث قصّروا فغاب الإمام، والجواب: إنّ أهل البيت يعلمون بالغَيبة فكان عليهم البيان للناس قبلها ولو عبر قواعد عامة، فليس هذا عذراً؛ وإلا ألا يصدق عليهم التقصير في حقّ من لا ذنب له ولا مسؤولية على عاتقه إزاء موضوع الغيبة ممّن جاء في العصور اللاحقة مع أنهم قادرون ـ رغم الغيبة القسرية ـ على إيصال الدين إليه؟ وهذا ليس من باب ضياع الكتب والنُسخ والروايات ممّا لا ترجع مسؤوليته إلى أهل البيت، وإنّما من باب عدم إصدارهم قبل وقوع الغيبة ما يفيد المكلّف الذي سيأتي بعدها الحكمَ الشرعي حينئذٍ، ولو عبر بيان أوّلي تقعيدي عام يُرشد ويفيد، مضافاً إلى أنّ هذا الإشكال يجري على قواعد الكلام الإمامي لا غير.

د ـ أن لا تكون هناك موانع تمنع الرسول عن الإنكار، وهو ما صرّح به بعض الأصوليين([27])؛ لأنّه مع وجود المانع يسقط التكليف عنه، فلا دليل العصمة ولا غيره بقادر على كشف الحكم الشرعي من سكوته، والمانع هنا يمكن إخضاعه للاحتمالات العقلانية؛ فمجرّد احتماله احتمالاً منطقيّاً صرفاً لا يضرّ بقدرتنا على الاستدلال كما حصل مع أنصار النظرية المشهورة في حجية التقرير وفقاً للمناقشات التي سجّلناها عليها؛ لأنّ الظواهر العامّة يمكن أن يكون هناك مانع عن إنكارها ليوم أو يومين، أمّا لا يمكن ذلك عبر مرور سنين عديدة، فبحساب الاحتمال يبعد جداً استمرار وجود المانع فترات طويلة إلا في حالات نادرة، وهذا واضح؛ بخلاف القضايا الفردية التي تحدث أمام الرسول فإنّ فرضية المانع فيها ـ وهي محدودة زماناً وغير معلومة الملابسات ـ قريبة للاحتمال العقلاني عادةً.

هـ ـ انطلاقاً من مجمل ما تقدّم، يتبع التقرير حدود الظاهرة المقرّ بها؛ فإذا جاءت الشريعة وكانت عند العرب عادةٌ فإنّ عدم النهي عنها سيكون إقراراً بهذه العادة وترخيصاً بها، وهذا من أبرز فوائد مسألة التقرير، أي عادات العرب قبل الإسلام، لكن يفترض هنا تقييد ظاهرة التقرير هذه بحدودها التاريخية، بمعنى أنّه لو احتملنا أنّ الواقع التاريخي والظروف الاجتماعية والزمكانية تلعب دوراً في ترخيص هذه العادة أو تلك، لم يكن يمكن عبر السكوت اكتشاف الترخيص المطلق بحيث حتى لو وضعنا العادة نفسها في مجتمع مختلف تماماً كانت جائزةً بملاك التقرير؛ لأنّ التقرير يعبّر ـ عادةً ـ عن دلالة لبيّة ليس لها بُعد لفظي إطلاقي، ومن ثم يُفترض الوقوف عند النطاق المؤكّد منها، فمثلاً لو جرت العادة على عدم تولية النساء قضايا الملك والسلطة، وسكتت الشريعة عن ذلك، ولم نجد نهياً نبوياً في هذا الخصوص، واحتملنا احتمالاً معقولاً ولديه مبرّراته أنّ الإقرار كان على أساس أنّ عدم تولية المرأة آنذاك كان أمراً مبرّراً نتيجة جهلها ووضعها الثقافي والاجتماعي المتدهور، فإذا تغيّر وضع المرأة هذا تغيّر جذرياً ـ كما قد يقال في عصرنا الحاضر ـ فمن غير المعلوم إمكان التمسّك بالإقرار هذا؛ لاحتمال اختصاصه بظروف ذلك العصر وحالات المرأة فيه.

من هنا، لا يحتاج الإمضاء في السِيَر العقلائية إلى إجراء الاستصحاب ـ خلافاً لما يراه السيّد الصدر([28]) ـ فقد تصوّر أنّ الإمضاء للعادات العقلائية يكون مختصّاً بذلك الزمان، فتسريته إلى زماننا بحاجة إلى الاستصحاب، ووجه الضعف في هذا الكلام أنّه إذا علمنا مركزَ الإمضاء وأنّه لا يتغيّر بالأزمنة فلا حاجة للاستصحاب حينئذٍ؛ لانعدام الشك في المرحلة اللاحقة، وأمّا إذا شككنا فإنّ مرجع الشك ليس إلى العنصر الزمني البحت وإنّما إلى تقيّد الإمضاء بظروف الظاهرة الممضاة في عصرها، كالمثال الذي ذكرناه قبل قليل؛ وفي مثل هذه الحالة يندرج الموقف في مسألة الشك في تاريخيّة السنّة، وقد بحثنا في دراسة أخرى هذا الموضوع، وبيّنا هناك أنّ الاستصحاب لا ينفع في ذلك الميدان.

مقولة التقرير القرآني، وموازاة تقرير السنّة

و ـ وعبر النقاط المتقدّمة، نعرف أنّ بالإمكان توسعة مقولة التقرير لتمتدّ من سكوت النبي وأهل بيته إلى سكوت القرآن والشريعة حتى لو لم تكن السيرة النبوية حجةً أساساً؛ وهذه نقطة جديرة بالانتباه؛ فإنّ نزول القرآن لإصلاح الحياة البشرية وهداية المجتمع، ثم عدم إشارته لظواهر اجتماعية عامّة وكذلك ظواهر بشرية واسعة الانتشار، معناه رضاه بها مادامت تتصل بشأن الدين وهداية البشر في حياتهم؛ والشاهد على ذلك أنّ القرآن جاء شريعةً كاملة فإذا سكت عن أمرٍ ما ـ وهو حرام ومرفوض أو يهدّد مصالح الدين ـ فإنّ هذا شاهد عقلاني على رضا الشارع سبحانه وتعالى بذلك، وإلا لبيّن وأوضح، وهو المعصوم الكامل المفيض بالخير على الناس، الذي لا يقصّر في البيان لهم لتكون له الحجّة البالغة ولا حجّة لهم عليه، سيما وأنّه نصّ في كتابه على تبيانه لكلّ شيء، فهذا ومثله دليلٌ على حجية التقرير القرآني، حتى لو أنكرت السنّة النبوية، نعم الظواهر الجزئية لا معنى لحجّية هذا التقرير فيها، وبهذا تمتاز تقريرات النبي عن غيره بناءً على النظرية المعروفة من حجية تقريره في القضايا الجزئية، وهو ما توقّفنا فيه.

زـ في حالات محدودة تلحق بالظواهر والعادة العامة، يكون سكوت النبي2 دالاً على الترخيص لزوال المعوقات المعرفية السابقة التي أشرنا إليها، وذلك مثل أن يتزوّج أحد المسلمين بإمرأة من أهل الكتاب ويبقى على عقد الزواج إلى وفاة الرسول2، فهنا حتى لو لم تسمّ هذه بالظاهرة أو العادة، بل هي فعل شخص واحد، إلا أن استمرار السكوت مع استمرارها من هذا المسلم، وهو يعيش بين ظهراني المسلمين وعلى مرأى من النبي ومسمع، يكشف لنا عن جواز ذلك، وإلا لمنع؛ لبُعد احتمال وجود معوقات للمنع طيلةَ هذه المدّة، ولا أقلّ لبيّن الأمر في مناسبات أخرى ولو بغير توجيه الخطاب للطرف الفاعل نفسه.

ونتيجة البحث: حجيّة التقرير بناءً على دليل العصمة أو ظهور حال النبي والإمام في أنهما في مقام البيان، لكن على مستوى الظواهر العامة، لا على مستوى الأحداث الخاصّة، إلا إذا قامت قرائن في حدث خاص تبعّد احتمال عدم كاشفية السكوت، فيؤخذ بالقرائن حينئذٍ.

المحور الثاني: دلالات التقرير ومعطياته

ذكر بعض الأصوليين بعضَ الدلالات للتقرير، فخلطوا بينه وبين الفعل([29])، واعتبروا أن النبي2 قد يسكت ويساعد على الفعل، وقد يسكت وينسجم مرحّباً به، فأخذوا لذلك دلالات، مع أنّ هذا الأمر ملحقٌ بالأفعال؛ إذ تشمل الافعالُ الإشارةَ وغيرها([30])، لا بالإقرارات مثل ما نحن فيه.

وعليه، فالذي يظهر من دلالة التقرير أنها تابعة للشيء المُقَرّ؛ وذلك أنه إذا كان الفعل المقرّ به مجرّداً دلّ السكوت عنه على الرخصة فيه، فأثبت لنا الجواز والإباحة ــ بالمعنى الأعم ــ لا أزيد([31])، وأما إذا انضمّ إلى الفعل أمرٌ كان السكوت إمضاءً لما هو أزيد من محض الفعل، وذلك:

أ ــ قد يتضمّن الفعلُ إلزامات، مثل أن يقوم الناس بعمل على أساس إحساسٍ منهم وتبانٍ على لزوم الإتيان به؛ فإن السكوت هنا يكشف عن جواز الفعل من جهة وعن لزومه أيضاً؛ لأن المفروض السكوت عن كلا الأمرين، نعم تبقى نقطة الإلزام وملاكها، فقد يكون الإلزام المستكشف بالإمضاء إلزاماً عرفياً، فيمضي الشارع هذه الإلزامات العرفية دون أن يصّيرها شرعيةً من حيث العنوان الأولي، إلا مع قيام شاهد خاص، ومعنى ذلك أنّ العرف قد يقوم عنده إلزام في الفعل لكنّه لا ينطلق من تقعيد بشري عام، وإنّما من أعراف خاصّة محدودة فعندما يمضي الشارع هذا العرف فهو يمضي الإلزام في حدوده الخاصّة لا مطلقاً.

ب ــ وقد يتضمّن التقرير أحكاماً ارتكازيةً لا عملية، كما لو جرى العقلاء على الاحتجاج بأخبار الآحاد؛ فإن السكوت هنا كاشف عن إمضاء ليس عملية الاحتجاج بوصفها فعلاً فحسب، بل نكتة الحجيّة المركوزة في الذهن العقلائي، حيث يرون أخبار الآحاد تفيد التنجيز والتعذير، فالسكوت معناه هنا إفادة التنجيز والتعذير لا مجرّد الرخصة والإباحة، ولولا ذلك لما أمكن الاحتجاج في أصول الفقه بالعرف والسيرة العقلائية، للحصول على إلزامات تنجيزية؛ إذ سيقال للأصوليين حينئذٍ: إنّ أقصى ما يدلّ عليه السكوت عن السيرة العقلائية القائمة على الأخذ بأخبار الآحاد مثلاً هو الرخصة في الاعتماد عليها، ومعنى ذلك أنّه يمكننا العمل بها ويمكننا عدم العمل، وهذا شيء لا ينفع الأصولي في نشاطه؛ لأنّه يريد من السيرة أن يُصبح خبر الواحد ملزٍماً وحجّة قانونية واجتهادية، لا يفترض التنحّي عنها، وإلا كان معنى ذلك جواز العمل بالفتاوى القائمة على أخبار الآحاد وجواز تركها، وهو ما لا يرضاه الأصولي الهادف لإثبات حجية خبر الواحد.

ج ــ كما قد يتضّمن التقرير أحكاماً وضعية عملية، مثل أن يتبانى العرف والعقلاء على تصحيح عقود ومعاملات أو إبطالها أو اشتراط قيودٍ فيها، مثل تصحيح عقد البيع، وإبطال عقد الصغير غير المميّز، وشرطية العلم بالعوضين اللذين تقع المعاملة عليهما مثلاً وما شابه ذلك، وهنا يدلّ الإمضاء على شرعيّة هذه الأحكام الوضعية بتمامها، وإلا لوقع النهي عن بعض هذه القيود أو عن عنصر الإلزام الوضعي الموجود، وهذا ما نراه في سيرة علماء الشريعة الإسلامية حينما يستندون للعرف والسيرة العقلائية كي يصحّحوا المعاملات وما شاكل ذلك.

د ــ نعم، في تمام حالات التقرير ينبغي الاقتصار على القدر المتيقن، والدائرة الأضيق التي نتأكّد منها؛ لأنّ التقرير دليل لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقن، فقد نشك في بعض الحالات أنّ إقرار أمرٍ ما هل هو إقرارٌ له في تمام العصور والظروف، أو أنّ سكوت النبيّ و.. عنه لمدّة طويلة كان لظرفٍ خاص استطال هذه المدّة كلّها؟ وهنا لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقن، نعم، لا ينبغي إدخال الشك المحض الوسواسي هنا، لكن إذا كان الإقرار إقراراً لنصّ صدر أمام المعصوم، كأن ينسب شخص للدّين شيئاً ويسكت المعصوم وهو حاضر، فإنّ الظاهر هنا اعتبار هذا النص ـ طبقاً لما طرحناه من قيود وشروط ـ كأنه صادر من المعصوم فيؤخذ بدلالاته الإطلاقية الممكنة؛ ولعلّ هذا هو مراد جلال الدين المحلّي (864هـ) من أن إقرار النص بمثابة النص([32]).

وقد ميّزنا في أكثر من دراسة بين ما سمّيناه: الشك الافتراضي المحض، والشك الحقيقي، واعتبرنا أنّ حالات الشك الافتراضي المحض الذي يساوي محض أن نفترض دون أيّ معطيات عملية لهذا الافتراض.. لا تؤثر على الاستناد الفقهي في هذه المباحث، على خلاف حالات الشك الحقيقي النابعة من معطياتٍ ما دفعت ـ عقلانياً ـ إلى الشك وانبعاث التردّد في النفس.

هـ ــ ويقوم التقرير بدور التخصيص أو التقييد أيضاً، كما نصّ عليه جمعٌ من علماء أصول الفقه الإسلامي([33])، كما لو دلّ دليل عام أو مطلق على حرمة إيقاع معاملةٍ على شيء لا وجود له، ثم حصلت سيرة خارجية على القيام بعقود كالمزارعة والمساقاة قد يقال: إنها معاملة على ما لا وجود له ــ وهو الثمر ــ حين المعاملة، فإنّ الإمضاء والسكوت يخصّصان ذلك النصّ العام بغير العقود الثلاثة المعروفة هنا، وهي: المضاربة، والمزارعة، والمساقاة.

وهكذا قد يُنسخ التقرير على تقدير أن يكون قد سبقه تحريم، مع احتواء الشروط الأخرى، كما تبنّاه جماعة كالشوكاني وغيره([34])، بناءً على جريان نسخ السنّة للكتاب أو السنّة للسنّة.

و ــ وهل يدلّ الإمضاء على الإباحة بالمعنى الأعمّ أو الأخص، بقطع النظر عما تقدّم؟ قد يُقال بالدلالة على المعنى الأخص أي تساوي الطرفين، بحيث يستكشف عدم كراهة الفعل، بل عدم وجوبه واستحبابه([35]).

والصحيح أنه ما لم تقم قرينة خاصّة، فلا يُستفاد من التقرير سوى إباحة الفعل بالمعنى الأعم المقابل لحرمته، إذ محض سكوت النبي2 عن فعلٍ صدر أمامه قد يجامع وجوب هذا الفعل، فهو متساوي النسبة إلى وجوبه واستحبابه وإباحته، أمّا كراهة الفعل، فعلى تقدير استكشاف حجية التقرير من مسألة الأمر بالمعروف لا يُعلم من السكوت عدم الكراهة لعدم وجوب النهي عن المكروهات، إلا إذا قيل باستحبابه على النبي2 وأنه لا يترك المستحبّ، وأما على تقدير استكشاف الحجية من تعليم الجاهلين، فالظاهر الشمول هنا؛ لأنّ تعليم الإسلام بالنسبة للنبي2 ـ ولا نقول ذلك بالنسبة لسائر المسلمين ـ يعني تعليم تمام أجزائه ومفاهيمه، ومنها المكروهات والمستحبّات، تمسّكاً بالإطلاقات التي أمرته بتعليم ما أنزل إليه من ربّه، وبإبلاغ الناس الدين، بناء على شمول مثل هذه الإطلاقات لما يصله بالإلهام لا بالوحي القرآني فقط، فسكوته كاشفٌ عن عدم الكراهة، وإن نسب إمام الحرمين الجويني إلى بعض المتكلّمين التفصيل بين الواجبات؛ فيجب على الرسول تبليغها، والمستحبات فلا يجب عليه ذلك([36]).

زـ وكما يكون الإمضاء على الفعل، يكون أيضاً على الترك، فلو تُرك فعلٌ أمامه2 دلّ على جواز الترك، طبقاً لما تقدّم، وهذه نقطة جديرة، أشار إليها الدكتور عبد الكريم النملة([37]).

*     *     *

الهوامش



([1]) انظر: عبد الكريم النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 2: 835.

([2]) ابن العربي، المحصول في أصول الفقه: 112.

([3]) جلال الدين المحلّي، شرح جمع الجوامع 3: 230؛ والشوكاني، إرشاد الفحول 1: 221؛ والمرداوي، التحبير 3: 1493؛ وانظر رأي الجويني في التلخيص 2: 246 ـ 247.

([4]) المرداوي، التحبير شرح التحرير 3: 1493؛ والشوكاني، إرشاد الفحول 1: 222.

([5]) ذكر القاضي أبو بكر بن العربي (543هـ) في المحصول في أصول الفقه: 112، أنّ أحداً من العلماء لم يذكر الدليل على حجية التقرير، مع أنه موجود حسب الظاهر، كما سيتبيّن من هوامش هذا البحث، حتى في عصره وما سبقه.

([6]) استند إلى دليل الأمر بالمعروف ــ وحتى تعليم الجاهل ــ صريحاً جماعة منهم: إبراهيم الزلمي، أصول الفقه الإسلامي: 33؛ ومحمد رضا المظفر، أصول الفقه 2: 68؛ ومحمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 158؛ وعبد الكريم النملة، الجامع لمسائل أصول الفقه: 138؛ واستند لروح هذا الدليل ومبدأ العصمة: السمرقندي، ميزان الأصول: 461؛ وابن المقدسي الحنبلي، أصول الفقه 1: 354؛ والرهوني، تحفة المسؤول 2: 200؛ والإمام المهدي ابن مرتضى، منهاج الوصول: 572 ـ 573؛ ومحمد الطيب الفاسي، مفتاح الوصول: 240 ـ 241؛ وحسن حنفي، من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه 2: 439؛ وجلال الدين المحلّي، شرح الورقات في أصول الفقه: 170.

([7]) المرداوي الحنبلي، التحبير شرح التحرير 3: 1492 ـ 1493.

([8]) انظر: محمد سليمان الأشقر، أفعال الرسول 2: 96؛ وعبد الكريم النملة، المهذب في أصول الفقه المقارن 2: 835.

([9]) الغزالي، المنخول: 316 ـ 317؛ والأشقر، أفعال الرسول 2: 97.

([10]) التلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول: 584 ـ 585؛ والرهوني؛ تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السّول 2: 199 ـ 200.

([11]) النملة، المهذب 2: 836.

([12]) فعل ذلك عبد الكريم النملة، المهذب في أصول الفقه المقارن 2: 835.

([13]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 158 ـ 159.

([14]) المصدر نفسه: 159 ـ 160.

([15]) الغزالي، المنخول: 317.

([16]) راجع: الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 222 ـ 223؛ والسمرقندي، ميزان الأصول في نتائج العقول: 460 ـ 461؛ وعبد الكريم النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 2: 836؛ ومحمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: 111.

([17]) انظر: جلال الدين المحلّي، شرح جمع الجوامع 3: 229؛ نعم هو أطلق القيد ولم يحصره بالكافر، بل نحن عمّمناه هنا واستفدنا منه.

([18]) انظر: المسوّدة في أصول الفقه لآل تيمية 1: 201.

([19]) راجع: جلال الدين المحلّي، شرح جمع الجوامع 3: 229.

([20]) الغزالي، المنخول: 317.

([21]) السمرقندي، ميزان الأصول: 460 ـ 461؛ وهو الظاهر من الإمام المهدي ابن يحيى بن المرتضى، منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول: 572، وغيره ممّن مثل لعدم لزوم الإنكار بمن يذهب من الكفار إلى الكنيسة.

([22]) العبادي الشافعي، الآيات البيّنات 3: 230.

([23]) انظر: أبو الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج: 21؛ والتلمساني، مفتاح الوصول: 591 ـ 592.

([24]) أبو إسحاق الشيرازي، اللمع في أصول الفقه: 148.

([25]) انظر: جلال الدين المحلّي الشافعي، شرح الورقات في أصول الفقه: 172؛ والحنبلي، أصول الفقه 1: 354؛ ومحمد الطيب الفاسي، مفتاح الوصول إلى علم الأصول في شرح خلاصة الأصول: 240.

([26]) روح الله الخميني، الاجتهاد والتقليد: 80، نشر آثار.

([27]) انظر: الشيرازي، اللمع في أصول الفقه: 147؛ وحسن حنفي، من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه 2: 439.

([28]) انظر: الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 403؛ ومباحث الأصول، ق2، ج2: 540 ـ 541.

([29]) لاحظ ما وقع فيه الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 223؛ والمرداوي، التحبير 3: 1491؛ والأشقر، أفعال الرسول 2: 100 ــ 101؛ وانظر: محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: 110؛ والخضري بك، أصول الفقه: 238.

([30]) نصّ الأصوليون على شمول الأفعال للإشارة في مواضع، فانظر ـ على سبيل المثال ـ : العبادي الشافعي، الآيات البيّنات 3: 224.

([31]) نصّ الأصوليون على دلالة الإباحة في السكوت، فانظر ـ على سبيل المثال ـ : ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 2: 149؛ وابن الجوزي، الإيضاح لقوانين الاصطلاح: 55.

([32]) جلال الدين المحلّي الشافعي، شرح الورقات في أصول الفقه: 170.

([33]) راجع: القرافي، نفائس الأصول 3 : 20 ـ 21؛ والعقد المنظوم في الخصوص والعموم: 687 ـ 688؛ والأنصاري، فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1: 607 ـ 608؛ وابن اللحام، المختصر في أصول الفقه: 152، ناسباً له إلى الجمهور؛ والشوكاني، إرشاد الفحول 1: 222؛ وكذا الدكتور النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 4: 1620؛ حيث نسبه إلى الجمهور، وإن ذكر أيضاً ص 1621 أنّ مذهب بعض العلماء عدم التخصيص؛ لعدم كون التقرير ذا صيغة، فلا يقع في مقابل ما له صيغة، وأوّله بأنه وإن لم تكن له صيغة بيد أنه حجّة قاطعة فيُقدّم على الدلالة الظنية للعموم.

([34]) الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 222؛ وعلى تفصيل محمد بن عبد الحميد الأسمندي، بذل النظر في الأصول: 352 ـ 353؛ والرهوني، تحفة المسؤول 2: 200.

([35]) انظر: العبادي الشافعي، الآيات البينات 3: 230.

([36]) الجويني، التلخيص 2: 249.

([37]) النملة، المهذب في علم أصول الفقه المقارن 2: 837.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً