أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ محمد هادي معرفت(*)

ترجمة: حسن علي مطر

المقدّمة ــــــ

يحتل القرآن الكريم مكانة ممتازة وفريدة بين جميع النصوص المقدّسة والكتب السماوية. وهذه حقيقة سامية يعترف بها جميع المختصين في الشأن الديني، والباحثين في الشأن القرآني. وعلى الرغم من ذلك يجب القول بمرارة: إن مجال العلوم والدراسات القرآنية لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقه من قبل المسلمين. ولا يزال البحث في هذا الشأن متعثّراً في خطواته الأولى، على أمل أن يقوم الباحثون في المجال القرآني ـ لما يضطلع به هذا الكتاب المقدَّس من الدور الفريد في التعاليم الإسلامية، وأسلوب حياة المسلمين، وازدهار العلوم الإسلامية ـ ببذل المزيد من الاهتمام بهذا الفرع المعرفي. ونأمل أن يكون هذا الحوار خطوة في هذا الاتجاه.

نبذةٌ عن حياة الشيخ معرفت ــــــ

_ نرجو منكم أن تقدّموا لنا نبذةً مختصرة عن حياتكم وسوابقكم العلميّة.

^ إني محمد هادي معرفت. ولدت عام 1308هـ.ش من أسرة علمية، في كربلاء المقدّسة. يعود نسبنا إلى الشيخ عبد الهادي من كبار العلماء في جبل عامل. ونجله هو الشيخ علي الميسي، الذي هاجر إلى إصفهان في العصر الصفوي بوصفه واحداً من العلماء الكبار. وقد توارث أولاده وأحفاده مكانته إلى هذه اللحظة، حيث كان أكثرهم من العلماء الكبار، وبذلك عُرفت هذه الأسرة بوصفها من الأسر العلمية. ومن هنا فقد احتفظنا بهذه السلسلة العلمية على مدى ثلاثة قرون.

وقد كان الوالد من كبار العلماء في مدينة كربلاء المقدّسة. وقد درستُ على يده الكثير من المناهج الدراسية المألوفة في الحوزة العلمية، إلى «شرح اللمعة الدمشقية» و«المطوَّل». كما أكملت دراسة مرحل السطوح في كربلاء المقدّسة على يد أساتذة من أمثال: الشيخ حسن([1])، وهو من التلاميذ المقرَّبين من الآخوند الخراساني. كما قرأتُ «القوانين» على يده، ودرستُ «الرسائل» و«المكاسب» على يد الحاج الشيخ يوسف النياروندي، وهو من التلاميذ المقرّبين للشيخ النائيني، كما درستُ عنده دورةً كاملة في بحث خارج الأصول، وبهذا المقدار درستُ الفقه أيضاً.

ثم انتقلت إلى مدينة النجف الأشرف حوالي عام 1370هـ، حيث حضرتُ دورةً كاملة في بحث خارج الأصول عند السيد الخوئي، كما درست على يد كبار العلماء، من أمثال: السيد الحكيم، والشيخ حسين الحلّي، والآغا باقر الزنجاني، كما حضرت بحوثاً خاصّة عند الفاني الإصفهاني.

وفي الفقه درستُ عند الشيخ حسين [الحلّي]، والسيد الحكيم. وكما أشرتُ فقد حضرت دورة أصولية كاملة ـ استغرقت سبع سنوات ـ على يد السيد الخوئي. وفي الحقيقة لم يكن انتقالي إلى النجف الأشرف إلاّ لحضور درس السيد الخوئي. ثم بعد أن قدم سماحة السيد الإمام الخميني بدأتُ حضور درسه في الفقه منذ البداية، وخاصّة أن موعد درس السيد الإمام لم يكن يتضارب مع درس السيد الخوئي؛ لأن تلامذة السيد الخوئي الذين بدأوا حضور درس السيد الإمام كانوا يريدون الاستفادة من درسه أيضاً، فكان الإمام الخميني يبدأ درسه في الصباح بعد نصف ساعة من انتهاء درس السيد الخوئي، الذي كان يلقيه في مسجد الشيخ الأنصاري، المعروف بـ «مسجد الترك». وكنا نحضر عند السيد الإمام طوال الوقت، حيث كان سماحته يلقي دروس كتاب «الحكومة الإسلامية»، تحت عنوان «ولاية الفقيه». وحيث كان سماحته يلقي الدرس باللغة الفارسية، ويتمّ تسجيل الدرس على أشرطة الكاسيت، كنت أقوم بترجمته إلى اللغة العربية مباشرةً. وهكذا كان أغلب كتاب «الحكومة الإسلامية» بقلمي.

وبطبيعة الحال كنتُ في الوقت نفسه أباشر التأليف أيضاً، وهو أمرٌ منفصل، وكانت نتيجة تلك الكتابات تأليف كتاب يحمل عنوان ولاية الفقيه، ليطبع بعد ذلك في إيران.

وعلى أيّ حال فقد أقمنا في النجف حتّى عام 1350هـ.ش. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى قم المقدّسة، ومنذ ذلك الحين ونحن نقيم في مدينة قم. وبذلك كانت دراستي قد تواصلت في كلٍّ من: كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وقم المقدّسة. فلم أكن يوماً منفصلاً عن هذه الحوزات الثلاث. وفي قم حضرتُ درس كبار العلماء، من أمثال: الشيخ الأراكي، ولكنّ حضوري الأكثر كان عند الميرزا هاشم الآملي.

ويقوم التقليد في الحوزة العلمية على أساس أن يباشر الطالب تدريس الكتاب فور إكمال دراسته؛ ليتضح له مستوى فهمه واستيعابه لذلك الكتاب، بمعنى أنه لا يكفي للطالب أن يكون ناجحاً في دراسة العلم، بل يجب عليه بالإضافة إلى ذلك أن يكون ناجحاً في تدريسه أيضاً. وهكذا فقد باشرتُ التدريس منذ البداية. فكان نصف وقتنا مخصّصاً للدراسة، ونصفه الآخر للتدريس. وكنتُ ناجحاً في التدريس منذ البداية.

متى بدأ الشيخ معرفت نشاطه الفكري؟ ــــــ

_ ويبدو أن مقالاتكم كانت تنشر منذ ذلك الحين في صحف ومجلات كربلاء. فمتى بدأتم الكتابة؟ وكيف كان مسار نشاطكم الفكري؟

^ أثناء دراستنا كان هناك إصرارٌ من قبلنا على فهم الدروس جيّداً، حتّى كنت حينها أقول لنفسي: يا له من عملٍ شاقّ هذا الذي نزاوله نحن طلاب العلوم الدينية؛ لأنني رغم رؤيتي للعامل الذي يخرج إلى العمل من بداية الصباح، ولا يعود إلاّ عند الغروب، أراه في الحدّ الأدنى يجد متَّسعاً للراحة في فترة الليل. في حين أن الأمر بالنسبة لي على المستوى الشخصي كان مختلفاً ـ وكان هناك الكثير من أمثالي ـ؛ إذ كنت أبدأ النشاط العلمي والفكري قبل أذان الفجر بنصف ساعة (حيث نقضي الوقت في مباحثةٍ جماعية)، ونواصل البحث إلى طلوع الشمس، ثمّ نتناول شيئاً من الطعام، لنواصل الدراسة بعد ذلك إلى أن يحين موعد أذان الظهر. والله يشهد أننا لم نكن نجد فرصةً حتّى للقيلولة في فترة الظهيرة. ثم كان نشاطنا على الرغم من ذلك يبدأ في الليل بعد صلاة المغرب والعشاء؛ إذ يتعيّن علينا التحضير للدروس التي نريد تدريسها، أو نستعيد استذكار الدروس التي قرأناها. وأذكر ذات ليلة أنّي كنت منهمكاً في كتابة درس الإمام الخميني الذي أعدّه الأصدقاء، ولشدّة انهماكي لم أعلم بمضيّ الوقت إلاّ بعد أن ارتفع صوت المؤذِّن يدعو الناس إلى صلاة الفجر! هكذا كنا نعمل برغبة وتفانٍ، حتّى لم نكن نشعر بالتعب. ولم نكن لننقطع عن الدراسة والتدريس حتّى هذه اللحظة. وبطبيعة الحال فقد كنا طلاّب علم منذ أن فتحنا أعيننا على الحياة.

وفي بداية الدراسة في كربلاء بدأت حركتنا بالتأسّي ببعض الحركات الفكرية الإسلامية. وكان خلف هذا النشاط أحد السادة. وقد قرأتُ على يده بعض كتب المقدمات، من قبيل: المنطق وحاشية الملا عبد الله، وكذلك بعض العلوم الرياضية، من قبيل: الحساب والهندسة والجبر والمقابلة والهيئة والنجوم؛ فقد كان متقدّماً علينا في هذه الأمور، حيث كان قد درسها على يد كبار الأساتذة. كما كان يحمل أفكاراً ثورية، ومن هنا كان يعمل على استقطاب الطلاب الشباب المنتسبين إلى الحوزة العلمية، ويتحدَّث معهم حول برامجه ومشاريعه، ومن بينها الإعلان عن مجلة اسمها «أجوبة المسائل الدينية»، مرفقةً بدعاية لها تقول: «نحن على استعداد للإجابة عن جميع أسئلتكم الدينية». فتجمّع الطلاب الشباب والفضلاء، وباشروا الإجابة عن الأسئلة التي كانت تأتي من كافّة المحافظات العراقية. وكانت مجلّةً ناجحة، وقد استمرّت في الصدور لمدّة طويلة.

ومنذ ذلك الحين بدأنا الكتابة بلغة معاصرة (حيث كان هذا هو أسلوب الكتابة السائد في حينه). وقد كان هذا هو الدافع إلى مواصلة الكتابة بنفس الأسلوب عند انتقالنا إلى النجف الأشرف، فكانت لي مساهماتٌ في هذا النوع من الصحف، حتّى أثناء تواجدي في النجف الأشرف.

وبالإضافة إلى النجف ساد هذا النشاط في المدن الأخرى، وكانوا يقصدوننا ويطلبون منا المساهمة والمشاركة فيها بكتابة المطالب والمقالات.

وفي تلك الفترة باشرتُ تأليف كتاب «تناسخ الأرواح» في النجف الأشرف، حيث ظهرت في حينها موجةٌ من الاعتقاد بين الناس في طهران وبغداد بأن أرواح الأشخاص بعد الموت تعود لتحلّ في أبدان أخرى، وكانت هذه الموجات تتكرّر بشكلٍ مستمرّ.

أذكر أن الأستاذ «أبو القاسم باينده» في طهران كان يكتب في هذا الشأن موضوعات تفصيلية في صحيفة «اطّلاعات»، وقد أحدث بذلك ضجّةً كبيرة. ثم عمد الأستاذ مكارم إلى تأليف كتاب في هذا الشأن. وقمتُ بدوري بتأليف كتاب «تناسخ الأرواح» في النجف الأشرف، وبعثتُ به إلى جامعة بغداد. ويعود تاريخ ذلك إلى عام 1345هـ.ش. وبطبيعة الحال فإن هذه المقالات كانت تصل إلينا ونحن في النجف.

وفي تلك الفترة كنت أدرِّس بعض العلوم الفرعية، من قبيل: الهيئة والرياضيات، ثم أضيف لها درس التفسير أيضاً.

وبجهود من السيد محمد كلانتر، وتمويل من أحد التجار المحترمين في طهران، تمّ بناء جامعة باسم «جامعة النجف الأشرف»، حيث كانت تدرّس بعض المناهج الحوزوية، ولكنّها لا تحمل صفةً رسمية. فكنتُ في فترة ما بعد الظهر أدرّس هناك شرح اللمعة والتفسير وغيرهما.

وقد اشتملت هذه الجامعة على مكتبة عامرة وشاملة، وكنت أطالع فيها الكتب، وهناك أدركت الحقيقة المرّة.

ففي أثناء مطالعاتي بشأن القرآن تنبَّهْتُ إلى عدم وجود كتاب شيعي في مجال علوم القرآن. ومباحث علوم القرآن تضمّ مسائل من قبيل: معرفة القرآن، وتاريخ القرآن، وكيفية النزول، والقراءات، وجمع القرآن، وتأليف القرآن، وهكذا إلى ما يقرب من أربعين عنواناً من العناوين ذات الصلة بالقرآن. وجدتُ أن إخوتنا من أهل السنّة ـ قديماً وحديثاً ـ قد ألّفوا كتباً متكاملة في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال: نجد الإمام بدر الدين الزركشي (في القرن الهجري السابع)، وجلال الدين السيوطي (في القرن الهجري الثامن) ـ وهو تلميذ الزركشي بواسطةٍ واحدة ـ قد ألّفا كتباً قيِّمة في هذا المجال. وهكذا واصل علماء أهل السنّة الكتابة والتأليف في هذا الموضوع دون انقطاع، من قبيل: إعجاز القرآن، وترجمة القرآن، وما إلى ذلك.

وفي أثناء البحث وجدتُ أننا نمتلك من المصادر في هذه المسائل ما يفوق مصادرهم، ولكننا مع ذلك لم نكتب في هذا المجال. وكان الوزر في ذلك علينا بوزرين: الأوّل: يتمثل في عدم مبادرتنا إلى التأليف في هذه المسائل؛ والآخر: يتمثل في أننا لم نكتب في هذه الموضوعات رغم توفّر مادتها ومصادرها.

يمثل الإمامية نسبة الثلث في العالم الإسلامي، وبذلك فإننا نمثل شريحة هامة في المجتمع الإسلامي. وعلى الرغم من تناغمنا في فترة من الزمن مع سائر علماء الإسلام، بل وتقدُّمنا عليهم، فقد تعرّضنا إلى مرحلة من الفتور والخمول تخلّينا فيها عن حمل أعباء هذه المسؤولية. فعلى سبيل المثال: في فترة صدور مجلة «أجوبة المسائل الدينية» وصلنا سؤال يقول: «هل تجوز ترجمة القرآن أو لا؟». وقد تعيَّن عليّ أن أجيب عن هذا السؤال، وقد تشعّب الجواب حتّى أضحى بحجم مقالةٍ. وقد كان تاريخ نشر تلك المقالة متزامناً مع مقالة «جامعة النجف»، ولكنْ تمّ نشرها في المجلة التي كانت تصدر في كربلاء؛ لأن فكرة إمكان أو عدم إمكان ترجمة القرآن الكريم كانت قد أحدثت في تلك الفترة ضجّةً في كافّة المجتمعات الإسلامية.

إن القرآن ليس كتاباً عادياً، فهو ـ بالإضافة إلى كونه كتاباً علمياً ـ كتابُ هدايةٍ، وهو كذلك ينطوي على الكثير من الفنون. ومضافاً إلى ذلك يمتاز القرآن بأنه ـ مع اشتماله على المضامين الحقيقية ـ على درجةٍ عالية من السبك والبلاغة، كما أنه في أرقى المستويات الفنية. فإذا أراد مترجم القرآن أن يُسجِّل لنفسه إنجازاً قد يمكنه أن يعكس هذه المعاني والحقائق في إطار الترجمة، ولكنّه لا يستطيع القول بأن ما قام به هو ترجمة القرآن.

يقوم العالم المسيحي بترجمة العهدين (القديم والجديد) إلى جميع لغات العالم، ويسمّون هذه الترجمات «توراة» و«إنجيل»، مع أنها ليست سوى ترجمات لهما؛ إذ إن المهم بالنسبة لهم هو ترجمة المعاني. وفي أيّ قالب لفظي عمدنا إلى سكب تلك المعاني سوف يكون المضمون والمحتوى واحداً.

ولكن الأمر بالنسبة إلى القرآن الكريم مختلف؛ فإن القرآن ـ بالإضافة إلى اشتماله على المعاني ـ يمتاز بأسلوبه الفريد. ومن هنا يقال: إن القرآن عصيٌّ على الترجمة. وكان هذا الموضوع في تلك الفترة على جانب كبير من الأهمّية، ولذلك تمّ توجيه السؤال إلينا في هذا الشأن. وعندما عقدتُ العزم على كتابة مقالة في هذا الموضوع قال لي أحد الأصدقاء، وهو مدرّسٌ في النجف: إن لديه بعض الكتب في هذا الموضوع، فزوّدني بسبعة كتب لعلماء معاصرين، ولكنّني لم أجد في أيٍّ منها رأياً لعلمائنا وحوزتنا العلمية في هذا الشأن، باستثناء سطرين في كتاب «مصباح الفقيه» للحاج الآغا رضا الهمداني، وهو كتابٌ تفصيلي في شرح شرائع الإسلام.

فعندما بلغ الشيخ رضا الهمداني إلى بحث ما إذا عجز المكلَّف عن قراءة سورة «الحمد» باللغة العربية هل يستطيع أن يكتفي بقراءة ترجمتها؟ ذكر أنّ الفقهاء قالوا بعدم الجواز. إلاّ أن الهمداني ذهب إلى جواز ذلك، مستدلاًّ بأن النبي الأكرم| أمر سلمان الفارسي بأن يترجم سورة الحمد للإيرانيين المقيمين في شبه جزيرة العرب. وقد استفاد الشيخ الهمداني من هذه الرواية جواز أن يقرأ الأجنبيّ سورة الحمد بلغته. بَيْدَ أن فقهاء المذاهب الأخرى لم يجيزوا ذلك. ولم أعثر على شيءٍ آخر غير هذين السطرين. الأمر الذي مثّل كارثةً بالنسبة لي. ولذلك تخلَّيْتُ عن مواصلة التفسير ـ الذي كنتُ قد بدأت به منذ فترة، ووصلت فيه إلى نهاية سورة البقرة ـ، وباشرتُ الكتابة في هذا الموضوع. وها قد مضى ما يقرب من ثلاثين سنة ولا زلتُ أعمل على هذا الموضوع. وفي تلك الفترة تمّ تشكيل لجنة في النجف الأشرف، وقد انتظم أعضاؤها من الفضلاء، الذين تعيَّن على كلّ واحدٍ منهم أن يقدِّم على مدى الأسبوع تحقيقاً في بُعْدٍ من أبعاد العلوم الإسلامية، وقد أخذتُ على عاتقي التحقيق بشأن علوم القرآن. وكان هذا تمهيد الأبحاث التي كنتُ أطرحها في تلك الاجتماعات الأسبوعية.

حول كتاب (التمهيد) ــــــ

_ ما هي الخصوصيّة التي يمتاز بها هذا الكتاب، بالقياس إلى الكتب المشابهة له؟

^ لقد كتب المعاصرون ـ ناهيك عن المتقدِّمين ـ الكثير من الكتب في كل بُعْدٍ من هذه الأبعاد، ولكنْ لا شيء منها يعكس وجهة نظر الشيعة. فقد أحسن الدكتور محمد حسين الذهبي تأليف كتابه «التفسير والمفسِّرون» في جزءَيْن، وقد درس فيه تفسير «الفخر الرازي» و«مجمع البيان» و«تفسير شبّر» بشكلٍ دقيق، حتّى أصبح هذا الكتاب منهجاً دراسياً يُدرّس في كافّة جامعات العالم، ولكنّه لم يعكس غير وجهة نظر أهل السنّة. ولذلك جاءني وفدٌ من جامعة طهران لبحث هذا الشأن، وقال لي: إن هذا الكتاب أخذ يُدرّس في الجامعة، وبدأ الأساتذة يحدِّدون المواد الدراسية للطلاب من هذا الكتاب، ولكنّهم لا يتمتّعون بالكفاءة اللازمة لنقد ومناقشة هذا الكتاب بما ينسجم مع تطلُّعات ثورتنا، وعليه لا بُدَّ من القيام بشيءٍ حيال ذلك.

لا أريد أن أتّهم الدكتور الذهبي بالعصبية للتسنُّن، فالمحقِّق بريءٌ من العصبية، ولكن للبيئة تأثيرها اللاشعوري على المحقِّق. لقد كان مؤلِّف هذا الكتاب باحثاً من أهل السنّة، عاش حياته في الأجواء المصرية. إنّه لم ينظر في الكتب إلاّ من بعيد، ولذلك عندما يصل إلى مؤلَّفات الشيعة يبدأ أولاً بالكتب التي صنّفها المسلمون، ليقول عندها: نبحث في كتب الفرق المنتسبة بنحوٍ ما إلى الإسلام، وفي الوقت الذي يثني فيه على «تفسير شبّر» يصف مؤلِّفه بالتشيُّع الغالي، وأنه قد فسّر الآية هنا بشكلٍ يوحي بتحريف القرآن. من هنا أخذتُ منذ ثلاثة أعوام أعمل على التفسير، وقد أنجزْتُ حتى الآن كتابة جزءَيْن من بين أجزاء كتاب «التمهيد»، ولكنّها حتّى الآن لم تأخذ طريقها إلى الطبع.

إن من بين خصائص «التمهيد» هي أنه يحتوي على جميع الأبحاث المرتبطة بالشأن القرآني، حيث نوظِّف ذات الأسلوب الذي اتَّبعه المحقِّقون من المسلمين ـ الأعمّ من الشيعة وأهل السنّة ـ في تناول المسائل القرآنية. لنفترض ـ على سبيل المثال ـ الأسلوب الذي اتَّبعه بدر الدين الزركشي في «البرهان»، أو السيوطي في «الإتقان»، أو الزرقاني في «المناهل»، أو الأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي في «التفسير والمفسِّرون»، فقد اتبعنا أثر ذات الأسلوب أيضاً. ويعود السبب في ذلك إلى أننا أردنا بيان وجهة نظرهم في هذه المسائل. من هنا فإن الذي يقرأ كتاب «التمهيد» يدرك هذه الحقيقة. فمثلاً: عندما نتناول بحث القراءات، وما إذا كانت القراءات السبع متواترة أم لا؟ سوف يطلع على آراء أهل السنة، كما يطلع في الوقت نفسه على آراء علماء الشيعة أيضاً، حيث يتمّ طرح آخر نظريّات الشيعة بشأن هذا الموضوع، الأمر الذي يُعتبر ميزة هامّة لكتاب «التمهيد». وقد سعيتُ أن أتجرّد من أيّ نوعٍ من أنواع العصبيّة أو الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.

فهرست بتأليفات العلاّمة معرفت ــــــ

_ هل يمكن لكم أن تقدِّموا لنا فهرستاً بتأليفاتكم؟

^ إن أوّل كتاب ألّفتُه هو كتاب «تناسخ الأرواح».

وبعد ذلك كان لي كتاب فقهي يحمل عنوان «تمهيد القواعد»، حيث كتبته في النجف الأشرف عام 1389هـ.

وبالإضافة إلى ذلك كتبتُ في تلك الفترة بعض المقالات أيضاً. وكان من بينها مقال بشأن ترجمة القرآن، الذي نشر في المجلة، وصدر في الوقت نفسه على شكل كتيِّب في النجف الأشرف.

وبعد أن انتقلت إلى قم، عمدنا إلى ترجمة كتاب «تناسخ الأرواح»، وأضفنا إليه بعض الإضافات والتحقيقات الأخرى، حيث بلغ ثلاثة أضعاف حجمه السابق، وطبع باللغة الفارسية تحت عنوان «بازگشت روح».

وقد طبع الجزء الأول من كتاب «التمهيد» هنا ما بين عامي 1352 ـ 1353هـ.ش، ثم تلاه طبع الجزء الثاني والثالث، حيث اقترنت طباعة الجزء الثالث بانتصار الثورة الإسلامية المباركة. وكانت تلك الكتب تطبع على نفقتي الخاصة.

وفي تلك الفترة ألّفت كتاباً بعنوان «حديث لا تُعاد»، وهو كتابٌ فقهي، ومن جملة قواعد الاستنباطات الفقهية في باب الخلل. وإن هذا الكتاب يحظى بأهمّية بالغة من الناحية الموضوعية.

ثم ألّفتُ بعد ذلك كتاباً آخر باللغة العربية تحت عنوان «ولاية الفقيه، أبعادها وحدودها». وعندما كنتُ أقرِّر كتابات الإمام الخميني&، وكنتُ أعرض عليه ما كتبته، قلتُ له ذات يوم بعد انتهاء الدرس: لقد كان تقريركم لأصل الحكومة الإسلامية جيّداً من الناحية الإثباتية، وقد ذكرتُم جميع الأدلة والمباني على ذلك، ولكن يبقى هناك شيءٌ، فإنكم لم تبيّنوا كيفية تشكيل وتطبيق الحكومة الإسلامية. فكيف نؤسِّس هذا النظام؟ وكيف نعمل على تطبيقه؟ وبطبيعة الحال لم نحصل في تلك الفترة على فرصة دراسة ومناقشة هذا الأمر، حتّى انتقلنا إلى إيران. وأتصوّر أني تمكّنت ـ بالاستلهام من دروس الإمام& ـ من تدوين بعض المسائل. ومن هنا جاء تأليف كتاب «ولاية الفقيه، أبعادها وحدودها» في هذا الاتجاه، حيث يبيِّن أنواع الحكومات. وأيّ حكومة يمكن لها أن تكون إسلامية أو لا يمكن لها أن تكون إسلامية؟ وما هي مقدّمات الحكومة الإسلامية؟ وبطبيعة الحال فقد اختلفت الكثير من آرائي حالياً، ولذلك استدركتُ على ذلك بتأليف رسالةٍ أخرى.

وفي تلك الفترة شاع الحديث عن امتلاك الأراضي، وكان اعتقادي يقوم على أن الأرض لا تدخل في ملك أحدٍ أبداً، فحتى الذي يقوم بإحياء الأرض لا يستطيع أن يمتلكها. نعم، تكون له الأولوية على الآخرين. فحتى الذي يبني داراً على أرض لا يمتلك رقبة الأرض أبداً، ومن هنا يمكن للدولة متى ما أرادت أن تجرّده منها، وذلك طبقاً لبعض الضوابط بطبيعة الحال، وبذلك تتوفر للدولة الإسلامية العادلة مثل هذه الإمكانية. وعلى أساسٍ من هذا المبنى قمت بتأليف كتاب تحت عنوان «مالكية الأرض»، حيث اشتمل على شرائط إحياء الأرض والكثير من الأمور الأخرى. وقد ألفت جميع هذه الكتب باللغة العربية، وقد تمّت ترجمتها إلى اللغة الفارسية، ولكن هذه الترجمات لم تأخذ طريقها إلى الطبع حتّى الآن.

وحالياً أبذل كلّ وقتي على تأليف «التمهيد»؛ إذ إن معرفة وشمولية موضوعاته تعدّ اليوم ـ من وجهة نظري ـ من الضروريات. وأتصوّر أنني إذا قصّرت في إنجاز هذا المشروع سوف يسألني صاحب العصر والزمان# عن ذلك، بمعنى أنني سوف أخضع للاستجواب. ومن ناحيةٍ أخرى أرى أنني لو تخليت عن هذا المشروع فسوف تمضي السنوات دون أن يبادر أحدٌ إلى مواصلة هذا الأمر. لقد أحدث هذا الكتاب ـ بحمد الله ـ حركةً ناشطة، بمعنى أن جميع الحوزات العلمية ـ ناهيك عن حوزة قم ـ تشهد اليوم نشاطاً كبيراً في مجال هذه المسائل، وهكذا الأمر في مشهد وإصفهان أيضاً، حتى أخذ البحث بشأن العلوم القرآنية طريقه ليكون حالياً في عداد المناهج التعليمية الرسمية. ولذلك أرى أني سوف أتعرّض للمساءلة عند أدنى تقصيرٍ في هذا الشأن.

لماذا ضعف الدرس القرآني في الحوزات؟! ــــــ

_ حيث لم تشهد الحوزات العلمية في بدايتها اهتماماً مباشراً بالقرآن الكريم، فما هو سبب عدم اهتمام الحوزات العلمية بالقرآن، من وجهة نظركم؟

^ بلى، كان هناك اهتمام من قبل الحوزات العلمية بالقرآن، فلم يكن الأمر تجاهلاً بالمرّة. غاية ما هناك أن الفقهاء إنما يأخذون من القرآن آيات الأحكام فقط، بمعنى أنهم يحصرون اهتمامهم بجمع آيات الأحكام الشرعية (أكثر من خمسمائة آية)، ويدرسونها من جميع الجهات؛ للوصول إلى كيفية استنباط الأحكام الشرعية منها. وهذا هو السبب الذي منع الفقهاء من بحث الآيات الأخرى. وهذا أمرٌ يرتبط بالفقهاء. وأما في الحوزة العلمية فينصبّ الاهتمام بتوضيح المعاني والمقاصد القرآنية. وهناك نشاطٌ في مجال التفسير من هذه الناحية. وقد ألّف علماء الحوزة العلمية كتباً في التفسير. وعلى الرغم من أنها ليست بالكثيرة، ولكنّها تفاسير جيدة، ومنها: «الميزان في تفسير القرآن»، للعلاّمة الطباطبائي.

وأما في ما يتعلق بتاريخ القرآن، وما هي المراحل التي قطعها القرآن مدّة نزوله؟ وكيفية هذا النزول، فيعود سبب عدم اهتمام الحوزات العلمية بهذه الأمور إلى أنهم لم يجدوا ثمرةً عملية كبيرة تترتب عليها.

ولكنْ من بين المسائل المرتبطة بعلوم القرآن مسألة «أسباب النزول»، وهو بحثٌ في غاية الأهمية، ولكن لا وجود للمصادر التي تحدِّد لنا أسباب النزول هذه.

_ ما هو سبب عدم وجود هذه المصادر؟

^ يعود السبب في ذلك إلى التساهل الذي حصل في صدر الإسلام. فعلى سبيل المثال: هذا جلال الدين السيوطي، الذي يعتبر فارس هذه الحلبة دون منازع، يقول: رغم كلّ الجهود التي بذلتها لم أعثر على غير 248 رواية بشأن آيات القرآن الكريم. وعليه يعود سبب ذلك إلى التساهل الحاصل في القرن الهجري الأوّل تجاه القيام بهذه المهمّة. نحن نعلم اليوم أن كلّ آية نزلت في مناسبة معينة، ولو تمّ ضبط تلك المناسبة لكان ذلك مؤثِّراً في فهم مضمون تلك الآية على نحوٍ أفضل. وقد تمّ ضبط بعض المناسبات إلى حدٍّ ما. ويكمن اختلافنا عن أهل السنة في هذه الناحية؛ فإنهم يقيّدون أنفسهم بأخذ الرواية عن رسول الله فقط، ولذلك نجد السيوطي يعترف بالعجز، حيث يقول: إن كل ما لدينا من الروايات إنما هو مأثورٌ عن التابعين، وأما عن شخص النبي الأكرم والمعاصرين للنبي الأكرم من الصحابة فلا نجد الشيء الكثير. وأما نحن، فحيث اتبعنا النبيّ الأكرم| في الالتزام بتعاليم وإرشادات الأئمّة الأطهار^، فإننا نجد ضبط مناسبة بعض الآيات مأثوراً عن الإمام الصادق×، بمعنى أن الإمام الصادق× ذكر أن هذه الآية قد نزلت في هذه المناسبة، ومن هنا نكون في سعةٍ أكثر من علماء أهل السنّة. فإذا كان السيوطي لا يمتلك في هذا الشأن سوى 248 رواية فإننا نمتلك في هذا الشأن ـ ببركة وجود الإمامين الباقر والصادق’ ـ أكثر من أربعة آلاف رواية، وهذا الأمر في غاية الأهمّية بالنسبة لنا. وقد ذكرنا ذلك لعلماء أهل السنة في بعض المؤتمرات، وقلنا لهم: إن السبب في افتقاركم من هذه الناحية يعود إلى عدم انتسابكم إلى مدرسة أهل البيت^. وإن كبار علمائكم المتقدّمين كانوا يجلّون الإمامين الباقر والصادق’، فما هو السبب الذي يمنعكم من مواصلة نهجهم في هذا الشأن؟!

_ على كلّ حال، يبدو أن الحوزة العلمية لم تعطِ المسائل المرتبطة بالقرآن حقَّها من الاهتمام، ولم تقُمْ بما يجب عليها في هذا الشأن.

^ نعم، يمكن القول: إن هذا ما كان عليه الحال سابقاً. أما الآن فقد بدأنا نشهد اهتماماً، حتّى أمكن لمجموعة من الباحثين جمع أربعة آلاف رواية، لم يتمكن السابقون من جمعها.

ويمكن لنا أن نذكر هنا ـ على سبيل المثال ـ بحث ترجمة القرآن الكريم. فلماذا لم يبحث العلماء في هذه المسألة؟ إن علماء السنّة حالياً لا يُجيزون ترجمة القرآن الكريم، بمعنى أنك لا تجد ترجمةً للقرآن صادرة عن مصر ولا عن غيرها من البلدان العربية الأخرى. نعم، قد تجد هناك بعض الترجمات المعنوية التي هي في الحقيقة من التفسير المختصر، حيث يقولون: لا مانع من هذا النوع من الترجمة؛ لأنها من قبيل التفسير، وليست ترجمةً حرفية للقرآن الكريم. وأما علماء الشيعة فقد أجازوا ذلك؛ مستندين إلى أمر النبي الأكرم| لسلمان بترجمة سورة الحمد إلى اللغة الفارسية. وبذلك لا يكون هناك إشكالٌ في ترجمة القرآن إلى أيّ لغةٍ من اللغات.

لقد كان التصوُّر السائد بين العلماء يقوم على عدم حاجة الكثير من الأمور للبحث، وقد أدّى بهم هذا النوع من التفكير إلى التخلُّف في الكثير من الأمور. بَيْدَ أننا قد التفتنا إلى أن هذا كان خاطئاً. وإن الكثير من الأمور التي كنا نتصوّر أنها لا تنطوي على فائدة ثبت لنا بالتجربة أن العكس فيها هو الصحيح. وإن بحث ترجمة القرآن ـ الذي كتبتُه هذا العام بشكل تفصيلي ـ، وهكذا بحث القراءات، وبحث تاريخ النزول، وبحث النزول التدريجي، قد أصبح مؤثِّراً في الفقه مؤخَّراً، وقد أثبتنا هذا الموضوع.

ومن بين الأبحاث بحث تواتر القراءات، فقد كان التصوُّر السائد هو القول بتواتر هذه القراءات بضرسٍ قاطع. وهكذا يقفلون بحث هذه المسألة باعتبارها أمراً مفروغاً عنه. ولذلك لم يكونوا يبحثونها، أو لا يجدون مبرِّراً لبحثها. في حين أن أول مَنْ بحث هذه المسألة في العصر الراهن هو السيد الخوئي، حيث قضى على تواتر القراءات من الجذور. كما فعل ذلك الكبار من علماء أهل السنّة، حيث قالوا: إن القرآن متواترٌ، وأما القراءات فهي غير متواترة. وقد طرح السيد الخوئي هذا الموضوع أيضاً، لكنّ الحوزة العلمية لا تزال تصرّ على عدم الاعتراف بهذه الحقيقة.

وأرى أن من خصائص كتاب «التمهيد» أن أهل السنة يصوِّرون الأمر وكأنّ التفاسير الشيعية قليلةٌ من الناحية الكمّية، ويحاولون القول: ليس هناك من تفسير لدى الشيعة، وإذا كان لديهم تفسير فهو لا يخلو من الضعف والنقص. وعلى سبيل المثال: إن التفسير المفصَّل لم يُعْرَف إلا في عددٍ قليل من التفاسير الشيعية، في حين أن من بين ما قمنا به في كتاب «التمهيد» هو التعريف بالكمّ الهائل من تفاسير الشيعة.

لغة القرآن الكريم ــــــ

_ بالالتفات إلى أن مسألة لغة القرآن تعتبر اليوم من المسائل الهامة، فما هي لغة القرآن، على ما يتمّ تداوله في المراكز والمؤسسات العلمية؟ هل هي لغةٌ عُرفية أم هي لغة عقلية وفقهية أم هي لغة الرموز والإشارات، حيث ذهب البعض إلى القول بأن لغة القرآن لغة مثالية، أم أن لغة القرآن ليست أيّاً من هذه الأمور، وكما يقول العلامة الطباطبائي: إن لغة القرآن هي لغته؟ وبطبيعة الحال فإنّ كلّ صاحب رأي في هذا الشأن يستدلّ لرأيه بآيات القرآن الكريم؛ فالذين قالوا بمثالية أو رمزيّة لغة القرآن استندوا في ذلك إلى المتشابِهات والحروف المقطَّعة، والذين قالوا بأن لغة القرآن لغة عقلية استدلوا لقولهم بالآيات العقلية. فما هي وجهة نظركم في هذ الشأن؟

^ في ما يتعلق بمسألة لغة القرآن أرى أن المسألة في حدّ ذاتها تنطوي على شيء من الغموض، ولا يتمّ الالتفات من قبل السادة إلى أصل المسألة وماهية السؤال، بمعنى أنهم لا يستطيعون طرح السؤال بشكلٍ صحيح. والدليل على ذلك أن العلامة الطباطبائي قد تناول هذه المسألة في تفسير الميزان، وبسبب غموض السؤال لم ينتبِه إليه أحدٌ.

قال سماحته في بحث التفسير بالرأي، في الجزء الثالث من «الميزان»: ما هو التفسير بالرأي؟ وما هو الأمر الذي تمّ النهي عنه بوصفه من التفسير بالرأي؟ وقد ظهرت تعبيراتٌ غريبة في هذا الشأن، ومنها: التعبير القائل: «مَنْ فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»([2]). وهذه عبارةٌ قاسية جداً. ثم إنه كيف يتمّ التوفيق بين هذه العبارة والعبارة التي تدعو الناس إلى التدبُّر في القرآن بأنفسهم، وأن على العلماء والمفكّرين أن يتدبّروا في القرآن؟ ومن هنا نجد العلماء قد بحثوا في هذه المسألة كثيراً، ومن بينهم: العلامة الطباطبائي، حيث طرح مسألةً عجيبة بحسب الظاهر؛ إذ قال: إن القرآن في بيان معارفه لم يستند إلى المباني والأصول العقلائية. في حين أننا إذا أردنا أن نفهم مراد شخص من كلامه فإننا نعتمد على العبارات والألفاظ وتركيب الكلمات في إطار الجملة التي يقولها، وذلك بطبيعة الحال من خلال الاعتماد والتعويل على سلسلة من القواعد العقلائية التي نطلق عليها مصطلح «قواعد علم التحاور والتخاطب»، وهي القواعد التي يتواضعون عليها فيما بينهم. وهذه القواعد يستند إليها كلٌّ من السامع والمتكلِّم في مقام التفهيم والتفاهم، ويعمل كلٌّ من المتكلِّم والمخاطب على إلزام الآخر بها. فإذا أقرّ شخصٌ أمام القاضي وقال: «اقترضت من زيد ألف دينار» فإنه سيلزمه بدفع هذا المقدار من الدين إلى الدائن، ولا يمكن للمدين أن يعتذر بعد ذلك بأنه أراد من الدينار المعنى المجازي، دون الحقيقي؛ وذلك لأن ظاهر اللفظ الذي يحمل على الحقيقة طبقاً لقواعد التحاور هو الحجّة، دون غيره، وإلاّ ففي غير هذه الصورة لن تكون عندنا في البين أصالة إطلاق، ولا أصالة عموم، ولا أصالة ظهور، ولا أصالة حقيقة. كما لا يجب أن نتوقَّف عند جزئية ما إذا كان هذا الشخص الذي أقرّ على نفسه بصريح العبارة، ونقول: ربما كان هذا الإقرار قد صدر منه سهواً، فهذا لا يكون صحيحاً؛ لأننا محكومون طبقاً لقواعد التحاور بأصالة عدم السهو أيضاً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر قواعد التحاور الأخرى. أما العلامة الطباطبائي فيقول: «إن البيان القرآني [في بيان مقاصده] لا يجري على هذا المجرى… وإن التفسير بالرأي المنهيّ عنه أمرٌ راجع إلى طريق الكشف، دون المكشوف. وبعبارةٍ أخرى: إنما نهى عن تفهُّم كلامه على نحو ما يفهم كلام غيره»([3]).

هذا في حين أن لدينا بحث بعنوان «حجِّية الظواهر» يُبحث في علم الأصول أيضاً، وهو يعني أن الذي يُفهم من ظاهر اللفظ ـ طبقاً لهذه القواعد ـ حجّة. فإذا صار البناء على تجاهل هذه القواعد عندما نصل إلى فهم القرآن كيف يمكن لنا أن نستفيد من القرآن؟ وكيف نفهمه؟ فعلى سبيل المثال: عندما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ (النساء: 103) يفهم الفقيه من ذلك أن للصلاة وقتاً محدَّداً، وهو الذي نجده مفصَّلاً في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾ (الإسراء: 78)، حيث يفهم الفقيه أن صلاة الظهرين تصلّى عند دلوك الشمس في وقت الظهيرة، وأن صلاة المغرب والعشاء تصلّى عند غسق الليل وبدايته، وأن صلاة الصبح تصلّى في وقت الفجر. فكيف فهم الفقيه ذلك؟ إنه إنما يفهم ذلك من خلال توظيفه لقواعد التخاطب وحجِّية ظواهر الكلام.

وعندما نقول: إن هذا السؤال مبهمٌ وغامض فلأنّنا حتّى الآن لم نفهم مراد العلامة. فما الذي يريده العلاّمة من هذا الكلام؟ هذا مبهمٌ، ويكتنفه الكثير من الغموض.

إن نظرية القرآن في إلقاء المفاهيم والمقاصد ذات صبغة عامة، ويبقى ذلك عند حدود ترجمة الألفاظ، بمعنى ما هو المفهوم من هذا اللفظ لغةً، وما الذي تعنيه هذه الكلمة في العُرف العام. ولو أراد شخص أن يُفسّر هذه الكلمة طبقاً لقواعد التحاور أو أصول اللغة، أو طبقاً لفهم العُرْف، هل يكون مفسِّراً أو مترجماً؟

إن معنى قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ (الإسراء: 78) هو وجوب إقامة الصلاة عندما تبلغ الشمس منتصف النهار. وعندما أفهم هذا المعنى هل أكون قد قمت بتفسير هذه الآية أم أنني قمتُ بترجمتها؟ إن هذا ترجمة، وليس تفسيراً.

إن القواعد المقرَّرة بين العقلاء إنما هي قواعد لترجمة الألفاظ، وليس تفسيرها. إنه لا يريد أن يحول بيننا وبين ترجمة القرآن، أو أن نفهم المعاني اللفظية أو اللغوية أو العُرفية لهذه الآيات. إلاّ أن العلاّمة يقول: إن هذا ليس تفسيراً؛ لأن التفسير هو «كشف الغطاء عن اللفظ المشكل»، بمعنى أن ما نقوم به لا يكون تفسيراً إلاّ إذا كان الكلام ينطوي على شيء من الغموض، ثمّ نأتي نحن ونكشف اللثام عن هذا الغموض. ومن هنا عبّر عن التفسير بـ «كشف الغطاء». إذن لا تحتوي الألفاظ على غير المعاني، وإن مفهوم الجملة بدوره واضحٌ أيضاً، بَيْدَ أن المراد الأصلي للكلام الكامن في قلب المتكلِّم لا يزال غامضاً. فمن أين يأتي هذا الغموض؟ إذ هناك أسبابٌ للإبهام والغموض في الكلام. وهناك ما يقرب من سبعة أو ثمانية أسباب تدعو إلى الغموض في القرآن الكريم، وتجعل من المراد الواقعي للكلام أمراً مبهماً.

_ هل التعرُّف على هذه الأسباب من مهامّ التفسير أم التأويل؟

^ هنا تبرز مسؤولية التفسير. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر ليس بمنزلة الترجمة، وقد ذكرتُ نموذجاً لذلك. ويمكن أن أذكر نموذجاً أوضح: فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24). إلى هنا نجد المعنى واضحاً للغاية، حيث لا غموض ولا إبهام في البين؛ إذ تأمر هذه الآية بوجوب إطاعة الله والنبي بشكلٍ كامل، على أن يتمّ تنفيذ الأوامر بحذافيرها، ولا يكون هناك جدلٌ ونقاش مع الله والرسول، من قبيل: «قال الله وأقول»، أو «إن الله قال، ولكنّ المصلحة تقتضي الخلاف»، بل عندما يأمركم الرسول بالعمل على ما فيه حياتكم وسعادتكم فما عليكم إلاّ الامتثال. وهذا يفهم من الآية دون غموض. ولكنّ هذه الآية فيها تتمّةٌ تقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)، بمعنى أنكم إذا لم تطيعوا الله والرسول فإن الله سيحول بين المتمرِّد وقلبه. فما الذي تعنيه هذه العبارة؟ لا غموض في هذه العبارة من الناحية اللغوية، فالمفردات المستعملة فيها واضحةٌ بأجمعها، ومن السهل ترجمتها، ولكنّ الغموض يكمن في المعنى المراد من هذه الألفاظ؛ إذ كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ هنا يبرز دور التفسير، بمعنى أن على المفسِّر أن يُشمِّر عن ساعدَيْه؛ ليوضح المعنى المراد من هذا التهديد. ولا يمكن للقواعد اللغوية أن تسعفنا في بيان المراد من هذا التعبير. فلا أصالة الحقيقة يمكنها أن تساعدنا في استجلاء المعنى أبداً، ولا أصالة العموم، ولا أصالة الظهور، ولا حجِّية الظاهر. وهذا هو الذي يعنيه العلامة الطباطبائي عندما قال: إذا أردت تطبيق القواعد العقلائية هنا ستكون قد وقعت في التفسير بالرأي. هنا نسأل العلامة: ما هو العمل في مثل هذه الموارد؟ يقول العلامة: إن للقرآن لغته الخاصّة. وهذا الأمر يصدق على كل مؤلّف أو صاحب اختصاص أيضاً؛ فإن صاحب الاختصاص في علم الكيمياء ـ على سبيل المثال ـ عندما يتحدَّث حول اختصاصه لا يفهم منه السامع العادي شيئاً، إنما يفهمه زميله في ذات المجال العلمي. وهكذا الأمر بالنسبة إلى القرآن؛ حيث يمتلك لغته الخاصة. وهنا نسأل العلامة الطباطبائي: كيف نحصل على فهم اللغة الخاصّة بكلّ شخص أو صاحب اختصاص؟ لا بُدَّ على كلّ حال من الدراسة والقراءة والتتبُّع، وبذلك يجب علينا أن نصل إلى لغة القرآن من القرآن نفسه. وفي ذلك رُوي عن أمير المؤمنين× أنه قال في وصف القرآن: «يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ»([4]).

فإذا كان هناكٌ من غموض في موضعٍ من القرآن أمكن لنا كشف النقاب عنه بالرجوع إلى المواضع الأخرى منه.

وهكذا يرسم لنا العلامة الطباطبائي طريق الوصول إلى مقاصد القرآن، وذلك من خلال استنطاق القرآن نفسه.

وعندما نراجع القرآن نجده يقول: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر: 19).

إن المجتمعات التي تنسى الله تنظم قوانينها بشكل بعيد كل البُعد عن إنسانية الإنسان، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾. وهكذا فقد أرشدنا العلامة الطباطبائي ببيانه الرائع إلى كيفية الوصول إلى لغة القرآن الخاصة. يقول سماحته: كيف يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء، إذ يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)، ولا يكون تبياناً لنفسه؟! يقول النبي: كلما واجهت عقبة فارجع إلى القرآن. فماذا لو واجهنا عقبة في القرآن؟ يصرِّح العلامة بأن علاج ذلك يكمن في الرجوع إلى القرآن أيضاً. فالقرآن يبيِّن مراده بذاته، فهو يمتلك لغته الخاصة، وذلك على مستوى التفسير، دون الترجمة. وهذا ما طلبته منا الحوزة العلمية، وهو ما أخذنا على عاتقنا القيام به فعلاً.

_ إن السؤال عن ماهيّة لغة النصوص الدينية هو بحثٌ كلامي. وإن ما ذكرتموه يندرج في اللغة العرفية، وإنّ لغة الرياضيات لغة دقِّية. وإن الذين يطرحون لغة الإشارة يتحدّثون عن التأويلات والبطون. فعلى سبيل المثال: يفسِّرون الطعام في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (عبس: 24) بالعلم. وإن الذين يطرحون هذا البحث في علم الكلام ينظرون إلى المسألة من هذه الزاوية.

^ نحن نتعرّض إلى هذه الأمر أيضاً. إن ما قلتُه هو الأساس الذي ذكرتُ له مرحلتين: المرحلة الأولى: تتمثل بالمفاهيم الظاهرية للقرآن بشكلٍ صرف. والمرحلة الثانية: الوصول إلى تلك الحقائق العالية التي تحتوي على ناحيةٍ عرفية، كما تحتوي على الناحية المتمثِّلة بلغة القرآن الخاصة.

_ وبذلك لم يكن بحث الترجمة مطروحاً في فهم النصوص.

^ إن هؤلاء قد خلطوا بين المباحث، وتصوّروا أن ما جاء في «مجمع البيان» تفسيرٌ، في حين أنه ليس تفسيراً. فهؤلاء قد ترجموا القرآن.

وتوجد هنا مباحث مختلفة ستجيب عن جميع المسائل:

فهل الأمثلة المذكورة في القرآن أو مشاهد الخلق وحياة الأنبياء ـ وليست من الأمثال ـ هي رمزية كلّها، بمعنى أنه ليس هناك من شجر وأنهار وما إلى ذلك، وإن هذه الأمور بأجمعها تعبّر عن لغة رمزية، أم لها حكم المثال؟

أو في ما يتعلق بآياتٍ من قبيل: قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ (الملك: 30)، التي تمّ تفسيرها بالإمام، وأنه لولا الإمام مَنْ يمكنه إرشادكم إلى الإمام الآخر؟ أو الذين سقطوا في أودية التأويل، فنحن نقول لهم: لقد أخطأتم؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب كلامهم. وهذا أمرٌ ثابت. وإن القرآن قد نزل على أرقى الأساليب في لغة العرب. أليست هناك استعارات ومجازات في اللغة العربية؟ أفلسنا نسمي العلم غذاءً وطعاماً للعقل؟

أو في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (القيامة: 22 ـ 23) قال المشبّهة: إن المؤمنين يشاهدون الله يوم القيامة بأعينهم الباصرة!

وقد ردّ عليهم الزمخشري في «الكشاف» قائلاً: «فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم؛ لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محالٌ، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص، والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظرٌ ما يصنع بي، تريد معنى التوقُّع والرجاء. ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليكَ من مَلِكٍ *** والبحرُ دونَكَ زِدْتَني نِعَما

وسمعت سروية مستجدية بمكّة وقت الظهر، حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلاّ من ربِّهم»([5]).

وهكذا كان العرب يتفاهمون بهذه الأساليب، ولا يحمل على النظر الحقيقي. وقد نزل القرآن على طبق هذه الأساليب. إن القرآن الكريم فيه من الاستعارة والكناية والمجاز والتمثيل بحيث لولا هذه الأساليب البلاغية لما كانت له تلك القيمة البلاغية، فضلاً عن أن يكون معجزةً. وكما يقول السكاكي: «إلقاء المعاني بنحو المطابقة [كأن تقول: أعطني ماءً؛ لأنني عطشان] نلحقه بكلام الحيوان». ولن تكون له أيّ قيمة بلاغية أو أدبية، فهو لا يختلف عن مواء القطط. فالكلام لا يكون في أعلى مستوياته إلاّ إذا تمّ تحسينه بأنواع الاستعارة والمجاز والكناية وما إلى ذلك.

_ وعلى هذا الأساس، إذا كان القرآن يعمل في بيان مقاصده على توظيف الاستعارة والكناية والمجاز والتشبيه إذن لا يمكن أن يكون له لغةٌ عقلية؛ إذ لو أراد شخص ـ على سبيل المثال ـ أن يتحدَّث بلغة حقوقية لا يلجأ أبداً إلى استعمال الاستعارات والكنايات وما إلى ذلك أبداً.

^ هذا هو مكمن إعجاز القرآن، فهو على الرغم من اشتماله على هذه الخصائص لا ينطوي على غير الحقّ واللغة الدقيقة.

_ إذن يمكن القول أيضاً: إن القرآن لا يعمل على توظيف اللغة العُرفية، وإلاّ لما صدرت عنه عباراتٌ من قبيل: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح: 10).

^ إن من بين خصائص الكناية في اللغة العربية إمكان الجمع بين المعنى الحقيقي والكناية، بمعنى أن الأمر هنا ليس من قبيل: مانعة الجمع. وقد سار القرآن على ذات الأسلوب. ومن هنا فإننا نصطلح على المعنى الظاهري بـ «التنزيل»، ونصطلح على المعنى الآخر الأكثر عمقاً بـ «التأويل». ومن هنا فقد رُوي عن النبي الأكرم| أنه قال: «ما من آيٍ إلاّ وله تنزيلٌ وتأويل».

وقد سُئل الإمام الباقر× عن هذا القول المأثور عن النبيّ| فقال: إن النبيّ قال في هذا الشأن: «ما في القرآن آيةٌ إلاّ ولها ظهر وبطن»، ثمّ سألوه عن معنى ذلك فقال: «ظهرها تنزيلها، وبطنها تأويلها».

لقد كانت هذه المسائل مطروحة منذ العصر الأول لنزول القرآن الكريم، فقد روي عن النبيّ| أنه قال: إن ظاهر القرآن لعامّة الناس، وأما المعاني الكامنة وراء هذه الظواهر فهو من اختصاص الخاصّة من العلماء.

أما الآية التي تقول: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24) فالمراد الظاهري لها هو هذا الطعام الذي نأكله عندما نجوع. هذا المعنى هو المقصود من دون شكٍّ. ولكنْ ألا يمكن أن نفهم من هذه الآية أموراً أخرى؟ نحن نقول: إن القرآن يشتمل على معاني أخرى. فقد رُوي عن الإمام× أن الله قد أراد به طعام الروح أيضاً، وكما أن جسم الإنسان يحتاج إلى طعام فإن روحه تحتاج إلى طعام أيضاً، وطعام الروح هو العلم.

والمراد بالباطن هو الفهم العام القائم على طبق القواعد. كما أن استعارة العلم بوصفه طعاماً للروح أمرٌ متعارف. وإن هذا النوع من التأويل هو تأويل مباشر، يقول به الشرع، ويقول به العرف، ويستسيغه العقلاء.

_ يقال: إننا إذا كرّرنا قراءة عشرة أسطر من بين مئة سطر لأكثر من مرّة يمكن لنا أن نستنبط أن الموجود هنا ليس هو الظاهر فقط، ويمكن لنا أن نثبت أن هناك شيئاً كامناً وراء هذا الظاهر. فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى القرآن؟ بمعنى أنه ما هي اللوازم القرآنية المترتِّبة على ذلك؟ يمكن أن تكون لدينا تفسيرات متنوّعة. وهنا عندما نقول: إن الطعام هنا طعامٌ روحي من الممكن لجيلٍ آخر أن يرفض هذا التفسير؛ لعدم علمنا باللوازم. فما هي اللوازم التي تعطي معنى هذا التفسير؟ يبدو أننا إذا قبلنا بمجال التأويل وجب علينا أن نقبل ببعض الأصول والقواعد في هذا الإطار، وإلاّ فإنّه في غير هذه الحالة سيكون التأويل من قبيل: الأمور الاعتباطية التي يقوم بها الكثيرون.

^ كما أشرنا سابقاً، هناك ضوابط لفهم المعاني الظاهرية، فلا يمكن استعمال كلّ لفظ لإفادة كلّ معنى. فلفظ «الماء» موضوعٌ للدلالة على الماء، ولا يحقّ لك استعماله في معنى «التراب»، أو أيّ معنى آخر غير الماء. من هنا فإن الحمل على المعاني الظاهرية ـ طبقاً للضوابط العقلائية المقرّرة ـ يحتوي على هذه الضوابط. من هنا إذا قال شخصٌ: «إن زيداً يطلبني مئة دينار» يحمل كلامه ـ طبقاً لهذا الضابط ـ على هذا المعنى، ولا يقبل منه الاعتذار بأنه أراد بذلك معنى آخر. والقضاء يحكم على الأشخاص طبقاً لظواهر إقرارهم واعترافهم. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المعاني «الباطنية»؛ فإن المعاني الباطنية تعني تلك الأفهام العامة. إننا نخالف الاعتباطية وعدم الضوابط. ومن هنا ـ على سبيل المثال ـ يأتي كلام الزمخشري المتقدِّم، إذ يقول: إننا عندما نفسِّر النظر إلى الله بمعنى «انتظار رحمته» يكون ذلك منا على طبق الضوابط والقواعد. وأما أنتم الذين تحملونه على الرؤية البصرية فترتكبون ما يخالف الضوابط. ويقول الزمخشري: إن تلك الجويرية الفقيرة عندما كانت تخاطب المستترين في بيوتهم، حتّى لم تكن لتستطيع رؤيتهم: «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم» كانت تريد القول: إن كلمة «النظر» لا تعني الرؤية في الأصل. وإنكم إنما حملتموها على هذا المعنى خلافاً للضوابط. وعندما نقول: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10)، حيث لا يكون الله جسماً، نفسِّر ذلك بالقدرة والسلطان. وفي عبارة: «قد استوى بشرٌ على العراق» نريد بذلك أنه سيطر عليه بشكلٍ كامل، أو عندما نقول: «قامت الحرب على ساقٍ» فهل يعني ذلك أن للحرب ساقاً حقيقة؟ حيث يقول الله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ (القلم: 42)، أي سوف يأتي يومٌ لا مزاح فيه، وتكون جميع الأمور ماثلة على حقيقتها على نحو الجدّ.

وعليه فإن الذي يضطرنا إلى أن نقول للناس: إن هذه «اليد» في قوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10) ليست هي اليد الجارحة، لا بداعي أن الله ليس بجسمٍ، بل لأن اللفظ هنا لا يعطي هذا المعنى، وإنما يعني أن الله سلطةٌ فوق السلطات، ولذلك قال رسول الله|: «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى». وعندما تصل إلينا البطون من مصدر معصوم ـ يقول: إن «الطعام» هنا يعني العلم ـ لا يتنافى ذلك مع ظاهر الآية. فعندما يُفسّر الطعام بالعلم لا يتنافى ذلك مع إطلاق الطعام على معناه الحقيقي؛ والسبب في ذلك يعود إلى وجود تناسب بين هذه الأمور، بمعنى أن هذا النوع من الكنايات والاستعارات أمرٌ معقول في اللغة، وفي عُرْف الفصحاء وبلغاء العرب.

ومن هنا فإننا نعتبر تفسير قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن: 19 ـ 20) بالإمامين الحسن والحسين’ وما إلى ذلك من التفسيرات كلاماً لا أساس له من الصحّة، فلا قال به محقِّقٌ، ولم تصدر فيه روايةٌ صحيحة([6]).

_ هناك روايةٌ تقول: إن هذا كان بهدف تشويه مفهوم أهل البيت.

^ أجل، فما معنى أن تكون هذه الآية تجسيداً لزواج الإمام عليّ× من السيدة فاطمة الزهراء÷، وتفسير النبيّ بأنه «البرزخ» بينهما! إن هذا كلامٌ باطل يستهدف سمعة الشيعة. صدِّقني أنك لا تجد هذا الكلام في كتبنا ومصادرنا الأصيلة. فلا وجود لها إلاّ في الكتب التي تمّ تأليفها في سهوٍ من الزمن، وقد استأنس بها العامّة، وقالوا بأنها من الروايات المشهورة! كيف أصبحت مشهورة وهي لا أساس لها أصلاً؟!

وعليه، فكما توجد ضوابط لفهم ظواهر القرآن كذلك هناك ضوابط تحكم الفهم العامّ والأسمى ـ الذي يُسمّى بالتأويل أو البطن ـ، وهو ذات التناسب. وإذا تم تجاوز تلك الضوابط فسوف نقف بوجه هذا التجاوز بقوّةٍ.

ضوابط التأويل ــــــ

_ ما هي الضوابط والأصول في مجال التأويل؟

^ إن من بين تلك الأصول والضوابط هو ما ذكرناه آنفاً. يجب أن يكون هناك تناسبٌ معنوي ـ عُرْفي قائم بين ظاهر اللفظ وباطنه.

ففي ما يتعلَّق بالنبي موسى×، حيث قال: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص: 17)، أنقذه الله من تلك المشكلة، وصارت له زوجة وحياة أسرية هادئة. عندما ساعد النبي موسى ابنتي شعيب× في نَزْح الماء ذهب ليستريح تحت ظلّ شجرة، وحيث شعر بالجوع قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: 24). يقول الإمام الصادق×: «لقد كان جائعاً ويريد طعاماً، ولكنّه لشدّة تأدُّبه في حضرة الله تعالى قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾».

من هنا بدأ الأمر. ثمّ جاءته إحدى البنتين؛ لتأخذه إلى أبيها، حتّى وصل إلى مرتبة النبوّة، حيث قال النبيّ موسى× حينذاك: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾، بمعنى أنك قد منحتني القوّة والعلم والنبوّة وجميع المواهب الأخرى، حتّى أصبحت شخصاً يتمتَّع بكافّة الإمكانات، ولذلك فإني أتعهَّد أمامك بأني لن أضع ما وهبتني إيّاه في خدمة المجرمين، بمعنى أنّني لا أسمح لأحدٍ بأن يستخدمها استخداماً خاطئاً. هذا هو ظاهر الآية. أما باطن الآية فيعني أن الله إذا وهب إنساناً ومنحه عقلاً وقدرة فعليه أن لا يصرفها في صنع الأسلحة الفتّاكة والقنابل الذرّية والكيميائية؛ ليبيد البشر. فما هي الضابطة في البين؟ إلغاء الخصوصية التي تسمّى في المنطق بالسَّبْر والتقسيم، بمعنى أن هذا الأمر هل يقتصر على النبي موسى× أم هو خاصٌّ بأمور من قبيل: النبوّة؟ وهل يتعلَّق الأمر بالمجرمين والطغاة الذين هم على شاكلة فرعون وهامان؟ يقول العقل: كلا، بمعنى أننا طبقاً لقاعدة السبر والتقسيم المنطقية نعمل على إلغاء هذه الخصوصيات. وخلاصة الكلام: إن كل موهبة ونعمة إلهية قد تُستغلّ من قبل الطغاة والمجرمين، وعلى الذي يمتلك مثل هذه المواهب أن لا يسمح للمجرمين بتوظيفها في مآربهم الإجرامية. فلكلّ هذه الأمور قوانين وقواعد ضوابط.

ترجمة القرآن ــــــ

_ إن السؤال المطروح بشأن الترجمة يقول: ما هي خصائص الترجمة الناجحة؟ وهل يمكن القيام بترجمة دقيقة للقرآن؟ وهل يمكن الحصول على ترجمة خالية من التفسير؟ ومع الالتفات إلى الظروف الراهنة كيف يمكن الحصول على ترجمة دقيقة، مع حفاظها على مقاصد وأهداف القرآن في التربية والهداية؟

^ لقد ذكرتُ في مؤلَّفاتي وكتاباتي ثلاث مسائل في هذا الشأن:

المسألة الأولى: هل يمكن لترجمة القرآن أن تعبِّر عن القرآن؟

والجواب هو النفي؛ لأن القرآن كما ينطوي على ناحية معنوية ينطوي كذلك على ناحيةٍ فنية.

وإنّ الناحية الفنية لا يمكن التعبير عنها أبداً، بل إن ناحيتها الفنية لا علاقة لها حتّى باللفظ. فأحياناً يكون هناك إعمالٌ للفنّ في ذات الوقت الذي يراعي فيها الدقّة في المعاني وكيفية بيانها.

ففي ما يتعلق بقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال: 24)، أو قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ (الإسراء: 29)، تجد الفن متجسِّداً؛ حيث ينطوي على كناية على تقبيح البخل، وفي الوقت نفسه هناك دعوةٌ إلى عدم الإسراف والتبذير، في قالبٍ وصياغة بلاغية رائعة وجميلة، ومع ذلك يبقى الناطق باللغة العربية يفهم معنى هذا الكلام. أما إذا أردنا أن نترجمه إلى لغةٍ أخرى ترجمة حرفية فسوف لن يرى فيها القارئ غير الأمر الناشز.

وعليه ليس بالإمكان ترجمة القرآن ترجمة تشتمل على جميع خصائصه الفنية والمعنوية.

ولكنْ في المقابل نقول: هل القرآن رسالة إلى العرب خاصّة أم أنه رسالة للجميع، وليس علينا إلاّ أن نوصل هذه الرسالة كما نزلت، كما يفعل بعض أئمة الجمعة، حيث يصرّون على قراءة الخطبة باللغة العربية، رغم أنه على المذهب «الحنفي»، مع أن «أبا حنيفة» يبيح قراءة خطبة الجمعة بغير العربية، ولكنهم يقولون: على هذا جَرَتْ العادة؟! وما هذا إلاّ مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23).

إذن لا تختص رسالة القرآن بالعرب خاصة، وعليه فالحدّ الوسط هو القول بترجمة القرآن ترجمة معنوية، مع إضافة بعض التفسيرات التوضيحية. كما يمكن فعل الشيء ذاته حتّى باللغة العربية أيضاً.

_ تُرجم القرآن الكريم مؤخَّراً في المملكة العربية السعودية إلى ثلاثين لغة.

^ تقتضي الضرورة الإسلامية أن يُترجَم القرآن الكريم ترجمة معنوية مختصرة، يتمّ تقديمها إلى جميع المسلمين في العالم. إلاّ أن المسألة المطروحة هنا هي أن هذه الترجمة لا تجري عليها أحكام القرآن، بمعنى أن الأحكام الفقهية المستنبطة بشأن التعاطي مع القرآن لا تنطبق على ترجمته. فلا إشكال في مسّ ترجمة القرآن بلا طهارة. كما لا تجوز قراءة ترجمة الحمد والسورة في الصلاة. وهكذا سائر الأحكام الأخرى.

_ هل الفقهاء مجمعون على هذا الرأي؟

^ أجل، لقد أجمع فقهاء الشيعة كلّهم على ذلك. وهكذا الأمر بالنسبة إلى فقهاء أهل السنّة، ولم يشذّ عنهم سوى أبي حنيفة.

_ هل لسماحتك أن تذكر لنا بعضاً من ضوابط الترجمة؟

^ إن الترجمة الدقيقة ـ التي تعبِّر عن جميع مزايا القرآن الكريم، وهي الترجمة الحرفية ـ غير ممكنة، بل هي بحكم مسخ القرآن، ويجب اجتنابها. وأما الترجمة المعنوية ـ التي تبيِّن معاني القرآن ـ فلا بأس بها. بَيْدَ أن هذا الأمر يحتاج إلى دقّة عالية. ولا يسعني إلاّ أن أذكر شرطاً واحداً لذلك، وهو أن تكون اللجنة الناظمة لهذا المشروع مؤلَّفة من مجموعة من ذوي الاختصاص في مختلف الحقول. من ذلك: أن يكون هناك متخصِّص في أساليب اللغة ودقائق البيان العربي، ولا يكفي مجرّد أن يكون المترجم عالماً باللغة العربية، بل عليه بالإضافة إلى اللغة العربية أن يكون ضليعاً في الأدب العربي والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع وما إلى ذلك، على نحوٍ دقيق وكامل، وأن يكون كذلك مهيمناً على النصّ واللغة. كما عليه أن يكون مطلعاً على مظانّ العثور على معاني الكلمات، فيجب عليه ـ مثلاً ـ أن يكون مطَّلعاً على مظنّة العثور على معنى عبارة: ﴿وَعَنَتْ الْوُجُوهُ﴾، أو كلمة ﴿التَّقْوَى﴾. إذن لا بُدَّ من إنجاز هذا المشروع من قبل لجنةٍ من عدّة أشخاص في مختلف الاختصاصات، لا أن يتمّ الاقتصار على مترجمٍ واحد. كما يجب على المترجم أن يكون متمكناً من اللغة المترجَم إليها بشكلٍ كامل.

الأمر الآخر: يجب أن يتمكَّن من الحصول على المعاني التي أرادها القرآن الكريم، بمعنى أن تكون لديه القدرة على استنباط المفاهيم القرآنية، وذلك بأن يكون فقيهاً، وأديباً، متقناً للفلسفة والكلام وعلم الاستدلال (المنطق)، وأن تكون لديه ـ مضافاً إلى ذلك ـ معلومات عامة في ما يتعلَّق بالعلوم الطبيعية والرياضية، وأن يتمكَّن من ترجمة الآيات من هذه اللغة إلى تلك اللغة.

_ ما هي الترجمة التي يحتاجها الناطقون بغير العربية؟ هل هي الترجمة العرفية أو التربوية أو التوجيهية؟ وما هو الهدف الذي ننشده من وراء الترجمة؟

^ إن الترجمة التي تقتصر على مجرّد بيان هدف القرآن الكريم ليست ترجمة. وعليه إذا أردنا للترجمة أن تكون ترجمةً يجب أن تكون في إطار القرآن نفسه، بمعنى أن يتقدَّم المترجم في عمله آية آية، ثم يقوم ببيان أن هذه الآية تشتمل على هذه المسائل، وهذه هي ترجمتها، وأن يكون ترتيبه للمسائل ـ ما أمكنه ـ بنفس نظم وترتيب الآية. فإن القرآن ـ على سبيل المثال ـ يعمل على تقديم الإجابة عن بعض العبارات الشرطية، وهو أمرٌ غير مألوف في اللغة الفارسية، أو تقديم المفعول على الفاعل، وهو وإنْ كان مألوفاً في اللغة العربية بَيْدَ أنه غير معهود في اللغة الفارسية. وعليه لا بُدَّ بشكلٍ وآخر من نقل المعاني، وحيث إنها ترجمة للقرآن فيجب أن تكون بلغة تتمتّع بالغنى الأدبي، وأن تكون في الوقت نفسه مفهومة لعامة الناس. يجب أن لا تكون ترجمة القرآن مبتذلة. إن الكتب التي تمَّتْ ترجمتها في القرون الأولى على يد المسلمين من اللغة اليونانية إلى العربية قد حافظت على مستوى تلك العلوم. إن مترجم الكتاب الفقهي يجب أن يكون بنفس المستوى العلمي لمؤلِّفه. وفي ترجمة القرآن إلى أيّ لغة أخرى تجب مراعاة أعلى المستويات الأدبية، فحيث تتوفَّر اللغة العربية على أساليب مختلفة يجب أن تغطي الترجمة هذه الأساليب الأدبية بشكلٍ محترم.

_ إن المشكلة التي تعاني منها الثقافة الشيعية تكمن في إساءة استغلال تلك الثقافة. هناك شخصٌ واحد من الشيعة أثار مسألةً في باب تحريف القرآن، ولكنّ أصداءها انعكست في الخارج وكأنّ هذا الرأي هو الرأي الغالب في الأوساط الشيعية. ونشهد نموذج ذلك في كتاب «فصل الخطاب»، للشيخ المحدِّث حسين النوري. ومع الالتفات إلى تأليفكم كتاباً تحت عنوان «صيانة القرآن من التحريف» كيف تشرحون هذه المسألة؟

^ عندما أردتُ تأليف كتاب «صيانة القرآن من التحريف» كنتُ في وارد الإجابة عن هذا السؤال؛ إذ كان الواضح عندنا أن العلماء والمفكِّرين والمحقِّقين الشيعة والفقهاء قاطبة ينكرون مسألة التحريف، ويُجمعون على أن القرآن محفوظٌ، وهو أمرٌ ثابت من ضرورة التاريخ. ولكنْ منذ القرن الهجري الحادي عشر ظهر بعضٌ من الذين عاشوا على هامش المحيط العلمي الشيعي، واتّخذ مواقف متطرِّفة، وروّج لهذه المسألة. فكنت أتساءل في حينها: ما الذي يمكن فعله؟ فإن بعض هؤلاء الأشخاص يتمتَّعون بمكانة مقدَّسة بين الشيعة، وهناك منهم مَنْ ألَّف الكتب الأخلاقية والحديثية، حتّى توصلت إلى نتيجةٍ مفادها: إن الحفاظ على سمعة التشيُّع وأصالة وحقيقة الشيعة أَوْلى من الحفاظ على هذه الجماعة القليلة. ومن هنا أخذتُ على عاتقي إيضاح هذه الحقيقة إلى العالم، وهي أن الشيعة منذ اليوم الأوّل قد اختطوا لأنفسهم مسيراً بتوجيهٍ من أمير المؤمنين×، واستمرّ الشيعة في عصر الإمامين الباقر والصادق’ في السير على ذات النهج. وكان هناك مَنْ يعيش على هامش الأمور، ولم يستوعبوا حقيقة المسألة. وعليه لا يجب عدُّ هؤلاء على التشيُّع. وكان هذا هو السبب الذي دفعني إلى تأليف هذا الكتاب؛ حيث قمتُ بتقسيم علماء الشيعة من صدر الإسلام إلى مجموعتين: جماعة المحقِّقين، وجماعة المحدِّثين. وإن جماعة المحقِّقين قد بدأت بالشيخ المفيد، وتواصلت إلى يومنا هذا مع السيد الخوئي والسيد الخميني. وقد ذكرتُ جميع آرائهم ومواقفهم بشأن هذه المسألة، حيث وقفوا بوجهها، واعتبروها مجرّد وَهْم لا يمكن أن يمتّ إلى الحقيقة بصلةٍ. وأما جماعة المحدِّثين فيبدأون من الشيخ الصدوق، وصولاً إلى الشيخ الحرّ العاملي والفيض الكاشاني صاحب تفسير الصافي، وقد استمرّت سلسلة هذه الجماعة إلى القرن الحادي عشر الهجري. وقد أنكرت هذه الجماعة مسألة التحريف، وانسجموا في ذلك مع جماعة المحقِّقين، حيث نجد الشيخ الصدوق يقول، في كتاب الاعتقادات، ما معناه: عقيدتنا تقوم على عدم تحريف القرآن، ومَنْ نسب إلينا القول بالتحريف فقد كذب وافترى علينا.

وقد استمرّ هذا التيار إلى زمن الشيخ الحرّ العاملي ـ حيث كتب رسالة في عدم تحريف القرآن ـ، والفيض الكاشاني في الكثير من مؤلَّفاته، ومن بينها: كتاب «الحقّ المبين»، في مجلَّدين. وعليه فإن المحدِّثين حتّى القرن الهجري الحادي عشر كانوا منسجمين مع المحقِّقين تماماً في مواجهة القول بتحريف القرآن، حتّى ظهر شخصٌ ادّعى أنه من تلاميذ العلاّمة المجلسي ـ وهو ادّعاءٌ لم تثبت صحته من سقمه ـ، وهو السيد نعمة الله الجزائري، وكان هو أوّل مَنْ بدأ بطرح هذه المسألة. وله كتابٌ بعنوان «منبع الحياة»، وموضوعه «جواز تقليد الأموات». ولستُ أعلم ما هو مدى العلاقة بين العنوان والمعنون في هذا الكتاب. إلاّ أن المعلوم أن هذا الشخص قد رفع منذ البداية راية المخالفة للشيعة. كان الشيعة يجمعون على عدم جواز تقليد الميت ابتداءً. وفي ذات هذا الكتاب تحدَّث عن مسألة تحريف القرآن، وساق ما ادّعى أنه أدلّة على التحريف. فما هو السبب الذي دعاه إلى ذلك؟ إن هؤلاء؛ حيث كانوا يؤمنون بولاية الأئمة^، لم يستطيعوا استيعاب أن لا يشتمل القرآن على ذكرٍ صريح لهذه الولاية، من هنا قالوا بأن القرآن قد اشتمل على آياتٍ صريحة في إثبات الولاية، وإن هذه الآيات هي التي طالتها يد التحريف. مع أن هناك روايةً صريحة عن أبي بصير يسأل فيها الإمام الصادق× عن سبب عدم ذكر أسماء الأئمّة في القرآن صراحة؛ كي يتمّ حسم النزاع وقطع الحجّة على الأعداء؟ فقال الإمام الصادق ما معناه: إن القرآن لا يتعرَّض إلى جزئيّات المسائل، وإنما يُقتصر فيه على بيان الأصول العامة، فيتمّ ـ على سبيل المثال ـ تشريع الزكاة، وأما مقادير الزكاة ونصاب وشرائط الزكاة فهو متروكٌ إلى بيان النبي الأكرم. وهكذا يتمّ تشريع الصلاة، وأما عدد الركعات في كلّ صلاة فمتروكٌ إلى بيان النبي أيضاً؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44). فالذي يبيِّن فروع الأحكام والتعاليم القرآنية هو رسول الله|. فالله سبحانه وتعالى هو الذي ذكر أصل الولاية في القرآن الكريم، وأما تحديد مصاديقها، وبيان جزئيّاتها وتفاصيلها، فهو موكولٌ إلى النبي الأكرم|.

وكما ذكرنا لم تتمّ إثارة هذه المسألة إلاّ في القرن الهجري الحادي عشر، حيث كانت وفاة السيد نعمة الله الجزائري سنة (1150هـ)، ليقتفي أثره بعد ذلك المحدِّث الميرزا حسين النوري، حيث كان مقيماً في سامراء في عصر الميرزا الشيرازي الكبير، وألَّف كتابه في تلك الفترة. يقول السيد هبة الدين الشهرستاني ـ وكان في وقتها من طلبة الدين اليافعين في سامراء ـ: عندما صدر كتاب الميرزا النوري حدثت ضجّةٌ في سامراء، فلم نكن ندخل في مجلسٍ حتّى نسمع اللغط بشأن الكتاب، يلي ذلك سيلٌ من اللعن والسباب والشتائم. الأمر الذي اضطرّ معه الميرزا النوري إلى أن يسعى جاهداً من أجل سحب الكتاب من المكتبات، ولكنْ بعد فوات الأوان.

_ قيل: إنه كتب في أواخر عمره كتاباً يعتذر فيه عن كتابه الأوّل.

^ إن الذي كتبه الميرزا النوري بعد ذلك كان بمثابة عذرٍ أقبح من ذنب. فقد ذكر في اعتذاره أنه لم يقصد بالتحريف المصحف الذي جمعه عثمان، وإنما التحريف طال القرآن الذي نزل على رسول الله!

وعليه فإن مسألة التحريف هي من المسائل التي كانت موضع إنكار علماء الشيعة طوال التاريخ، وإن المحقِّقين والمحدِّثين، منذ الشيخ الصدوق ـ وهو شيخ المحدِّثين ـ إلى خاتم المحدِّثين، وهو الشيخ الحرّ العاملي والفيض الكاشاني، كانوا على هذه العقيدة.

وقد ألّفتُ كتابي على هذا الأساس، حيث كان الأمر عندي دائراً بين التضحية بسمعة هؤلاء الجماعة بوصفهم من مشاهير علماء الشيعة وبين التضحية بسمعة المذهب، فرجحت عندي كفّة التضحية بهؤلاء، وإنقاذ سمعة التشيُّع والقرآن. وعندما رأى العلاّمة السبحاني كتابي سارع إلى إبداء استحسانه، وثمَّن موقفي، وقال لي: لقد نطقت بما كان يجول في صدورنا منذ أعوام.

وقد اتّصل بي العلاّمة العسكري هاتفياً، وقال لي: «لقد برَّدْتَ قلبي برَّد الله قلبك، وأثلجت صدري أثلج الله صدرك». لقد خدمتُ عالم التشيُّع خدمة كبيرة بإخراج هذين الشخصين من عالم التشيُّع. إن كل ما قمتُ به هو التضحية بهذين الشخصين، وليكُنْ بعدها ما يكون!

تحريف التوراة والإنجيل ــــــ

_ ما هو رأيكم في تحريف التوراة والإنجيل؟

^ طبقاً للمبنى الذي تبنّيناه، وذكرناه في هذا الكتاب، لم يحدث تحريفٌ حتّى في التوراة والإنجيل؛ إذ هناك نوعان من التحريف، وهما: التحريف اللفظي، والتحريف المعنوي. وقد ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ (النساء: 46؛ المائدة: 13؛ وانظر أيضاً: المائدة: 41). وفي الأصل فإن كلمة التحريف في القرآن ـ كما هو الحال في اللغة العربية ـ تعني التفسير غير الوجيه، بمعنى أن الشخص إذا حمل كلام المتكلِّم على غير معناه يكون قد عمل على تحريفه. وكان للشعراني تحقيقٌ في هذا الشأن، حيث يقول: التحريف من الحرف بمعنى الإمالة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ (الحجّ: 11)، ثمّ قال: إن المعاني حواضن، ويجب أن تجري الألفاظ ضمن حواضنها. ومن هنا يكون المعنى مركوباً واللفظ راكباً([7]).

إنّ استعمال اللفظ في المعنى الذي وُضع له يعني تركيب اللفظ على معناه، وعليه فإن لكل لفظ حاضنة يجب أن يجري ضمنها، فإذا استعمله السامع في معنى آخر، وقدّم له تفسيراً آخر، يكون ذلك بحكم صرف اللفظ وإخراجه من حاضنته الطبيعية. وعليه فإن التحريف يعني: «تفسير الكلام بما لا يريده المتكلِّم، ولا يدل عليه اللفظ». وفي جميع المواضع التي تحدَّث فيها القرآن عن تحريف كتب العهدين (العهد العتيق والجديد) إنما أراد التحريف المعنوي. وقد أجمع المفسِّرون على أنهم كانوا يترجمون النصوص الأصيلة ترجمةً خاطئة. إذن فالتحريف الحاصل هنا ليس هو التحريف المصطلح، فلم يحدث تلاعبٌ في أصل النصّ، بإنقاص كلمةٍ أو إضافة كلمة، حتّى يكون هناك تحريفٌ بالزيادة أو النقيصة، أو استبدال كلمة بكلمة أخرى. لم يحدث شيءٌ من ذلك، وإنما الذي حدث إنما كان في مجال الترجمة فقط.

_ يبدو أن من بين الأمور الهامّة التي يجب القيام بها في مجال العلوم القرآنية بيان عظمة القرآن؛ حيث يجب إجراء مقارنة بين الكتب المقدَّسة والقرآن الكريم؛ بغية إظهار عظمة وأهمِّية القرآن من هذه الناحية؛ لأنهم أنفسهم لا يعتقدون بأن الكتب المقدَّسة هي عين ما أنزل الله.

^ إن التوراة الأصلية هي ذات «الألواح العشرة» التي نزلت على النبيّ موسى×، وكان كلّ لوحٍ منها يشتمل على مجموعة من الأحكام.

ثم تلَتْها مزامير داوود وصحف إبراهيم وغيرها.

والبحث يدور حالياً حول ماهية التوراة والأناجيل الموجودة بين أيدينا.

إن الأناجيل الأربعة المتوفِّرة بين أيدي الناس في العصر الراهن هي كتبٌ ألَّفها تلاميذ أو تلاميذ تلاميذ السيد المسيح عيسى×، بمعنى أن الذين ألَّفوا هذه الكتب معروفون، وهم لا يدَّعون بأنها تمثِّل الإنجيل الذي نزل على عيسى×، وإنما يقرّ الواحد منهم بأنه طُلب منه كتابة سيرة السيد المسيح، وأنه استجاب لهذا الطلب. فكانت الأناجيل تنطوي على تاريخ ولادة السيد المسيح، وأسفاره، ولقاءاته، وتنتهي بصلبه. فلماذا تسمّى أناجيل؟

إذن ليست هذه الأناجيل هي التي تمثِّل الكتاب الذي نزل على السيد المسيح، بل هي كتبٌ منسوبة لأصحابها ومؤلِّفيها.

ثمّ هل الإنجيل كتابٌ على نحو ما نعرفه من معنى الكتاب المكوَّن من الصفحات بين الدفّتين؟ لأن الكتاب الذي يعنيه القرآن ليس كتاباً مكوَّناً من صفحات وأوراق مسوَّدة ببعض الكتابات، فإن هذا إنما هو المصطلح الشائع بيننا. أما الكتاب في القرآن فيعني الشريعة، ومجموع الفرائض والتكاليف والأحكام الإلهية. إذن ما يعنيه المسيح عيسى× بقوله: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ (مريم: 30) ليس الكتاب المعهود في أذهاننا، وإنما يعني أن الله آتاه شريعةً ومجموعة من الفرائض والأحكام.

والإنجيل معرَّب «أنجولا»، بمعنى بشارات وتعاليم السيد المسيح؛ لأن جميع تعاليم السيد المسيح كانت عبارة عن بشارات أو (بشائر). وقد سعى أصحاب الأناجيل ما أمكنهم إلى تضمين هذه البشائر في كتبهم، تماماً كما فعل ابن هشام في كتابة السيرة النبوية، حيث اشتملت على تاريخ حياة النبيّ وأسفاره وأخبار الوقائع والحروب وإبرام العهود ومواثيق الصلح وما إلى ذلك، كما اشتملت سيرة ابن هشام على ما يزيد على ستّة أجزاء من القرآن، جاء ذكرها عَرَضاً لبعض المناسبات، حيث يتمّ التطرُّق إلى بعض الآيات، وذلك ـ على سبيل المثال ـ حيث يقول: في هذا الموضع نزلت هذه الآية أو هذه الآيات على رسول الله|. وعليه فإنه يذكر سلسلة من تعاليم النبي مع ذكر بعض الآيات القرآنية وما إلى ذلك. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأناجيل الأربعة؛ إذ اشتملت على بشائر المسيح وأمثال ذلك.

وأما التوراة فهي كتابٌ مشتمل على تاريخ بني إسرائيل، من قبيل: الصحف التي كان الشعب الصيني يدوِّن فيها يوميّات حياته. إن التوراة التي بين أيدينا كتابٌ تمّ تأليفه بعد قرنٍ من وفاة النبي موسى×، حيث اجتمع كبار بني إسرائيل واتّفقوا فيما بينهم على كتابة تاريخ حياتهم وحياة شعبهم. وقد استمرّوا بالكتابة إلى ما قبل مئة عام من ظهور السيد المسيح. الأمر الذي يعني أن عملية تأليف التوراة قد استغرقت قرابة ثمانية قرون، حيث اشتمل على يوميات بني إسرائيل طوال هذه الفترة. ثمّ أضيف له لاحقاً تاريخ الأنبياء، ابتداءً من أبينا آدم× إلى النبي موسى، حيث ينتهي بوفاته.

وقد اشتملت هذه التوراة حتّى على الأحداث التي أعقبت وفاة النبي موسى، ومن بينها خروج «صفورا» زوج النبي موسى لقتال وصيِّه يوشع بن نون، كما في تاريخ الإسلام في واقعة الجمل.

ولم تشتمل التوراة على غير سبعة من الألواح العشرة التي نزلت على النبي موسى×، بالإضافة إلى خُطَبه وكلماته وأحكامه وشرائعه أيضاً. وإلاّ فإن اليهود أنفسهم لا يدّعون أن ما اشتملت عليه التوراة هو ما نزل على النبيّ موسى.

وعليه فإذا أردنا أن نجري مقارنةً بين القرآن الكريم وبين العهدين ـ أي التوراة (العهد القديم) والإنجيل (العهد الجديد) ـ ستكون هذه المقارنة عبارة عن تعاطي القرآن مع بني إسرائيل واليهود الذين استوطنوا يثرب. إن بني إسرائيل وأنبياءهم كانوا بأجمعهم من نسل إسحاق×، أما العرب فكانوا من نسل إسماعيل×، وحيث كان اليهود يعلمون بظهور نبي في يثرب فقد استوطنوا تلك المنطقة على أمل أن يبعث النبيّ من بينهم. وحيث لم يحصل شيءٌ من ذلك فقد انتهجوا سبيل التمرُّد وإثارة الفتن. وقد فتح القرآن ملفّاً واسعاً لبني إسرائيل، حيث فضح سلوكهم الشائن بحقّ الأنبياء، واستعرض تاريخهم المليء بالانحراف عن المشروع الإلهي. وجميع هذه الأمور موجودة في التوراة. ومثال ذلك: قصة يوسف، حيث توجد بتفاصيلها في التوراة، ولكنْ حيث كانت التوراة قد كتبت بأيدي المؤرِّخين من اليهود فقد تعرَّضت ـ مثل مصادرنا التاريخية ـ إلى الكثير من التشويه والتحريف والأوهام والخرافات والشائعات. أما القرآن فلا يذكر من تلك الأمور والأحداث إلاّ الحقائق الناصعة. وعندما نقارن قصة النبي يوسف بقصّة السيدة مريم العذراء÷ تتّضح لنا صحّة هذا الادّعاء؛ حيث تظهر هذه المقارنة مدى إسرافهم في إقحام الخرافات، وسيتّضح أن كتب العهدين إنما هي من تأليف البشر، وأن القرآن من تأليف غير البشر. وهذا ما عمل عليه الأستاذ عبد الوهّاب النجّار إلى حدٍّ ما.

_ في الختام إذا كان لديكم ما تضيفونه.

^ نعم، أريد بيان أمر بشأن نزول القرآن وتنزُّل الكلام الإلهي. فهناك مَنْ يُفسِّر ذلك بنزوله من مستوى إلى مستوى أدنى، فهو عنده بمعنى النزول من الأعلى إلى الأسفل. وهذا الكلام ينبثق عن ذات الجذور المستهلكة في ما يتعلَّق بقدم القرآن وكلام الله، والقول بأن كلام الله قديمٌ ليس بمخلوق. وهي المسألة التي كان يتّخذ منها الأشاعرة ذريعةً لذبح الناس، وكانوا يقولون بقِدَم الله؛ لأن الله نفسه قديم وأزلي، فيجب أن يكون كلامه مثله في القِدَم، فيكون القرآن قديماً وأزليّاً أيضاً، وعليه لا يكون مخلوقاً.

وهذا الكلام لا معنى له؛ فصحيح أن الله قديم؛ فتكون صفاته الذاتية قديمة أيضاً، ولكنّ الكلام ليس جزءاً من الصفات، بل هو من الأفعال، والفعل بطبيعته حادثٌ، والحادث لا يمكن أن يكون قديماً، وحيث يكون الكلام فعلاً يكون القرآن أمراً حادثاً.

وعليه ما الذي نعنيه عندما نقول: القرآن كلام الله؟ يجب أن نرى ما هو الكلام؟ إن الكلام عبارة عن الألفاظ والأصوات، فالكلام صوتٌ، والصوت لفظٌ. وعليه عندما نقول: إن القرآن كلام الله فهذا يعني أنه صوت الله، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾ (النساء: 164)، بمعنى أن الله كان يوجد الصوت، وكان هذا الصوت يبلغ أسماع النبيّ موسى×. وفي تعريف الصوت يجب القول: إن الصوت يعني تموّج الهواء، أو ما قيل: إن حقيقة الصوت هو التموّج الحاصل في الهواء. وإن الطبقة والدرجة التي يحدثها هذا التموّج تكون مسموعة بالنسبة إلى البعض، وغير مسموعة بالنسبة إلى البعض. ولذلك هناك أصوات يمكن للنمل أن يسمعها، ولكننا لا نسمعها. فليس كلّ تموّج للهواء مسموعاً لجميع الأشخاص. وهذا التموّج يحتاج إلى موجد. وأنا وأنتم نوجد هذا الصوت بواسطة الفم (أو الشفتين واللسان والأسنان)، أما الله فيوجد هذا الصوت في الهواء. وكلّ الصفات التي يتصف بها الله نتّصف بها نحن؛ فإننا نشترك مع الله في الاتصاف بالعلم والحياة والكلام، ومن هنا قال الحكماء والفلاسفة: «خذ الغايات، واترك المبادي»، بمعنى أننا نشترك مع الله في الغايات، دون المبادئ، بمعنى أن مبدأ هذه الصفات بالنسبة لنا أمور خاصّة وفي أنفسنا، إلاّ أن ذات الصفة لا تختلف عن الصفة التي يتّصف بها الله، غاية ما هنالك أن المبدأ بالنسبة لنا يختلف عن المبدأ بالنسبة له. فنحن عندما نريد أن نوجد الصوت في الهواء نستعمل هذه الوسيلة، أما النملة فقد تستعمل عضواً آخر. فلا فرق بين إيجادنا للصوت وبين إيجاد الله للصوت، ولكنّ الوسائط إلى ذلك تختلف، فنحن نستعلم أفواهنا، والله يمكنه إيجاد ذلك بوسائط أخرى، من قبيل: تحريك الهواء مباشرة. وعليه فالقول بأن القرآن كلامٌ قد تمّ تنزيله لا معنى له. فإن القرآن كلام الله، فهو ذات هذا الكلام العادي الذي يعني حصول التموّج في الهواء، مع فارق اختلاف مناشئه ومبادئه. كما أنه حادثٌ، وليس قديماً، من قبيل: صفة الخلق بالنسبة إلى الله ـ فإنّ الخلق من صفات الفعل، وليس من صفات الذات ـ، فالكلام من صفات الفعل أيضاً، وليس من صفات الذات. وليس الأمر بأن يكون ماكثاً في محلٍّ ثم ينزل إلى محلٍّ آخر أدنى منه. وكما كان النبي موسى يسمع كلام الوحي كان نبينا الأكرم يسمع الوحي أيضاً، مع فارق أن الغالب في وحي موسى هو الوحي المباشر، أما الوحي الذي كان ينزل على النبي الأكرم| فكان في الغالب ينزل عليه بواسطة جبرئيل×، وقلّما كان ينزل عليه الوحي مباشرةً.

الهوامش

(*) تمّ نشر هذا الحوار في العدد الثاني عشر من مجلة «كيهان فرهنگي» (السنة العاشرة)، وقد اشتملت على مباحث نافعة.

([1]) هو الحاج الشيخ حسن مير القزويني. المعرِّب.

([2]) العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 66.

([3]) انظر: المصدر السابق: 67 ـ 68.

([4]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 133.

([5]) محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنـزيل 4: 663.

([6]) يبدو أن الاستشهاد بهاتين الآيتين وقع سهواً، والأصحّ الاستشهاد لذلك بالآية 22 من سورة الرحمن، وهي قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾. المعرِّب.

([7]) أرى أن العكس هو الصحيح؛ لأنّ المتكلِّم يتّخذ من اللفظ وسيلة ومطية لإيصال المعنى إلى السامع، وبذلك يكون المعنى هو الراكب، واللفظ هو المركوب. والأمر سهلٌ. المعرِّب.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً