أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا­­­­

المدخل

الموضوع الذي أريد أن أتحدّث عنه بإيجازٍ بالغ، يدور حول إشكاليّةٍ لطالما جرى الحديث حولها، وهي أنّ عالم الدين أو المثقّف ـ بناءً على أنّ العالم الديني والمثقّف بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ـ هل يجب عليه أن يكون ملتزماً تجاه قضايا أمّته أو أنّ القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الكبرى التي تمرّ بها الأمّة لا تعني العالمَ ولا تعني المثقّف تماماً كما لا تعني العالم الكيميائي في مختبراته، ولا تعني الفيزيائيّ في حساباته ودراساته؟

هذا الموضوع ليس جديداً في حقيقة الأمر، بل هو موضوع غربيّ قبل أن يكون شرقيّاً في الفترة الأخيرة، لاسيّما في فرنسا، حيث طرح في بدايات القرن العشرين جدلٌ واسع حول نشاط المثقّف، هل هو نشاط التزامي أو هو نشاط حيادي وعلمي ولا شأن له بهذه القضايا اليوميّة التفصيليّة التي تحدُث في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة؟ فإذا انتقل إلى الحياة السياسيّة والاجتماعيّة فهو ناشطٌ سياسي ويتحرّك بوصفه ناشطاً سياسيّاً، لا بوصفه مثقّفاً؛ لأنّ هويّته الثقافيّة لا تعبّر عن أيّ أداء سياسي أو اجتماعي يمكن أن يقوم به.

إذن، ظهر هذا الجدل مع الحركة الوجوديّة في فرنسا، وأسهم فيه جان بول سارتر (1980م) وغيره من العلماء والمفكّرين الغربيّين في تحديد دور المثقّف والعالم، هل دوره بما هو مثقّف أو عالم دورٌ ملتزم تجاهَ قضايا الأمّة الكبرى؟ تجاه القضايا الوطنيّة أو الدينيّة؟ أو أنّ دوره دورٌ محايد، وعليه أن يبحث في الأمور بشكل محايد؟

وحتى في ساحتنا الإسلاميّة، لو درسنا هذا الموضوع وتأمّلنا وحلّلنا الخلفيّات القابعة في ذهنيّات التيارات الفكريّة والعلميّة الموجودة في الساحة ـ على طوائفها ومذاهبها المتعدّدة ـ سنجد انقساماً في الرأي، فهناك فريقٌ يذهب إلى أنّ المثقّف ـ والعالم الديني كذلك ـ لا ينبغي له أن يخوض غِمار هذه المتغيّرات، وأنّ هذا من شأنه أن يُضعف قدرته العلميّة وحضوره العلمي، وهناك رأي آخر يُصرّ ويقول: لابدّ للعالم الديني وللمثقّف أن يلعب دوره وتكون له كلمته في هذه الأمور.

اتجاهان: الانتماء والتنزيه

إذن، هناك اتجاهان بالنسبة إلى هذا الموضوع:

أ ـ اتجاه التنزيه واللانتماء: وهو الاتجاه الذي يرفض مشاركة العالم والمثقّف في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وفي القضايا التي تعني الأمّة في عصرنا الراهن.

ب ـ اتجاه الواقعيّة والالتزام: وهو الاتجاه الذي يطالب العالم والمثقّف بالحضور الاجتماعي والسياسي.

ولكي نكون منصفين، يجب أن نقرّ بأنّ الفريق الأوّل له مبرّراته، والفريق الثاني أيضاً له مبرّراته، فأولئك الذين يطلبون من عالم الدين أن لا تكون له أيّة علاقة أو أيّ تصريح أو أيّ تدخّل أو أيّ نشاط على المستوى الاجتماعي والسياسي، بحجة التفرّغ للجانب العلمي، لهم مبرّراتهم، وهذه المبرّرات ليست وهميّة، فيجب أن نأخذها بعين الاعتبار، كذلك الحال في الذين يدعون إلى واقعيّة عالم الدين والمثقّف، وإلى دخوله معترك الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، أيضاً لهم مبرّراتهم ولهم قناعاتهم العلميّة والفكريّة والدينيّة.

سأحاول في البداية أن أذكر بعض مبرّرات هذين الاتجاهين، ومن ثمّ نتوصّل من خلال هذا العرض والتحليل الذي سنقوم به بايجاز، إلى قناعة ـ ولو أوّليّة ـ في هذا الموضوع.

الاتجاه الأوّل: التنزيه وعدم الانتماء، الهواجس والمنطلقات

وهو الفريق الذي يحذّر ويتحفّظ عن استهلاك المؤسّسة الدينيّة والمرجعيّة الدينيّة واستهلاك علماء الدين والمثقّفين في النشاط السياسي والاجتماعي وما شابه ذلك. وأسمّي هذا الاتجاه بـ «اتجاه التنزيه وعدم الانتماء»؛ لأنهم ينزّهون أنفسهم عن الدخول في المتغيّر اليومي، ويعتبرونه منافياً لشأن العلماء، حتى أنّ بعض المعاصرين، عندما سُئل في إحدى المجلّات الثقافيّة البيروتيّة عن رأيه في العمليّات الاستشهاديّة، وعن جواز قتل المدنيّين الصهاينة ردّاً على قتل الصهاينة للمدنيّين الفلسطينيين، كتب: «عفواً، لا نتدخّل في الأمور اليوميّة»، ولعلّه يعتبر مثل هذه القضايا مما يستحقّ أن يُتنزّه عنه ولا يُدخل فيه؛ إذ من الممكن أن يلوّث ساحته.

من هنا نميل إلى تسمية هذا الاتجاه بـ«اتجاه التنزيه وعدم الانتماء»، والذي ينطلق في تصوّره هذا من عدّة قناعات وهواجس:

أوّلاً: تراجع القوّة العلميّة والمعرفيّة

الإشكاليّة الأولى في دخول العالم أو المثقّف في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، هو تراجع القوة العلميّة والمعرفية، فإنّنا قد جرّبنا النشاط السياسي والاجتماعي المُفرط لعلماء الدين والمثقّفين، ووجدنا أنّه ترك أثراً سلبيّاً على الحجم العلمي للمؤسّسة الدينيّة وللجامعات معاً، وهذه قناعة يحملها الكثيرون منّا، فبعد أن دخلت المؤسّسة الدينيّة وعلماء الدين مجال هذه المعتركات المتغيّرة اليوميّة الجزئيّة، واشتغلوا في العمل المؤسّساتي والتنظيمي والسياسي، وانهمكوا في القضايا الاجتماعيّة، وجدنا تراجعاً علميّاً بحيث لم نعد نملك على المستوى الفكري مثل السيد أبو القاسم الخوئي والميرزا النائيني والمحقق العراقي، بل لم نعد نملك مثل الإمام الخميني والشهيد المطهّري.

وهؤلاء العلماء الكبار وإن دخلوا الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، ولكنّه كان بعد أن أنهوا دراساتهم العلميّة، فالإمام الخميني مثلاً دخل إلى العمل السياسي، وكان عمره ستّين سنة، وكان مجتهداً في الفقه والأصول وعالماً بارعاً وأستاذاً في الفلسفة والعرفان، وقد قضى تلك المراحل كلّها، يعني إنّما تحوّلوا إلى علماء في تجربتهم الداخليّة هذه، وليس في تجربتهم السياسيّة أو الاجتماعيّة.

إذن، هناك مشكلة ينبغي أن نتنبّه لها، وهي أنّ الإفراط في دخولنا النشاط السياسي والاجتماعي والإفراط في دخولنا مجال المتغيّر اليومي، سوف يؤدّي ـ بشكلٍ أو بآخر ـ إلى تضاؤل وتراجع حجم إنتاجنا العلمي والمعرفي، لذلك نجد اليوم حالة من السطحيّة في وسط المثقّفين، وحالة من السطحيّة في وسط العلماء أيضاً ـ كما يرى هؤلاء ـ فيكتفي بعضهم بأنّ يحفظ بعض المصطلحات، ويمرّ على «كرّاسات» قليلة في المواد العلميّة المختلفة، ليطّلع اطّلاعاً سريعاً على العلوم بشكلٍ عام، ثمّ بعد ذلك يدخل المجال الاجتماعي والسياسي مدّعياً أنّه صاحب خبرة ومهارة، ولذلك بدأت تنفتح ادّعاءات المرجعيّة وادّعاءات الثقافة، ورأينا أنصاف المثقّفين وأرباعهم وأنصاف العلماء وأرباعهم، يتنطّعون للوصول إلى منصب المرجعيّة الدينيّة، كما يتنطّعون على ادّعاء كونهم مفكّرين وأصحاب مشاريع فكريّة كبرى وغير ذلك.

أعتقد أنّ هذه المشكلة جديّة، ومن اللازم أن لا يجرّنا الانشغال بالمتغيّر اليومي نحو نتائج من هذا النوع. وأعبّر بـ «المتغيّر اليومي» قاصداً به الحركة والحراك الاجتماعي والسياسي الذي يحصل يوميّاً في أرجاء العالم.

إنّ دخول عالم الدين والمثقّف غمارَ المتغيّرات اليوميّة هذه يؤدّي إلى تفتيته، وعدم قدرته على إنتاج النظريّة الإسلاميّة، وعجزه عن تحقيق الإبداع، في حين أنّ المطلوب منه أن يقوم بالدرجة الأولى بإبداع النظريّات والأفكار وما شابه ذلك، انطلاقاً من كونه عالماً ومثقّفاً.

هذه أوّل إشكاليّة يسجّلها هذا الفريق، وهي ليست إشكاليّة عابرة، وقد سجّلتها شخصيّات كبيرة، إذ يذهب هؤلاء إلى أنّنا بعد عام (1980م)، لم نشهد ظهور مفكّرين عمالقة، وفقهاء فحول كبار، ولا فلاسفة كبار، كما كنّا نشهد من قَبْل. وكلّ أولئك العمالقة الذين عرفناهم كانوا من نتاج مرحلة ما قبل الدخول في المتغيّر السياسي والاجتماعي هذا، وهذا ما يدعونا إلى أن نتجنّب الإغراق والخوض في المتغيّر السياسي والاجتماعي، حتى لا يرتدّ ذلك سلباً على المستوى العلمي المطلوب من المؤسّسة الدينيّة والجامعات والمؤسّسات الثقافيّة.

بعضٌ آخر يقول: إنّ علينا أن نؤخّر النشاط السياسي والاجتماعي إلى ما بعد الانتهاء من مرحلة التعلّم، فالطالب يحتاج إلى التفرّغ لكي يستمرّ في دراسته، ثمّ بعد أن أصبح فقيهاً عالماً.. يدخل في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة ليقوم بدوره في المجتمع، فالطالب الأفضل هو الذي تفرّغ للعلم منقطعاً عن المحيط، وعلى الطالب أن يعتزل أربعين سنة (وهي مرحلة الخلوة كما يسمّيها العرفاء).

وقد يقال في المقابل: إنّ هذه الفكرة قد تخلق فجوات، وقد أثبتت التجارب أنّ الاعتزال في الفترات الأولى، أدى إلى الاصطدام بالحياة الاجتماعيّة في الفترات اللاحقة، وترك آثاراً سلبيّة، فالذي كان منعزلاً لفترة طويلة عن الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، آخذاً بعين الاعتبار التحوّلات السريعة التي تطرأ على المجتمع الإنساني، لن يستطيع أن يتوالم مع مجتمعه بسهولة، إضافةً إلى أنّه لا يستطيع أن يقوم بدوره؛ إذ لا يعلم شيئاً عن الحياة الواقعيّة وكيفيّة التعامل معها، وإذا دخل في الحياة السياسيّة قد يُخدع بسهولة ويصبح أداةً بيد المستغلّين ليستغلّوا مكانته الاجتماعيّة لتحقيق أهدافهم، وهو لا يشعر بذلك.

لقد تغيّرت الظروف اليوم، وتطوّرت وسائل التواصل الجمعي، فبإمكان الطالب أن يخصّص وقتاً قصيراً من يومه للتواصل مع الشرائح الثقافيّة ولمتابعة ما يجري في العالم، وقراءة آخر الكتابات على مستوى الساحة السياسيّة والاجتماعيّة، لكي يساهم قدر استطاعته، حتى لا يكون إنساناً سطحيّاً لا يعرف ما يجري من حوله، أو يُخدع بسهولة.

إنّ المشكلة الأساسيّة أنّنا كلّنا ننتمي إلى لونٍ واحد من الشرائح الاجتماعيّة، وهي طبقة علماء الدين، ولدينا طريقتنا الخاصة في التعبير، ولدينا عاداتنا الخاصة، لذلك إذا اعتزلنا لفترة طويلة عن مجتمعاتنا، قد نُصاب بالدهشة أحياناً، وقد نشعر بالغربة عن الناس العاديين الذين نعيش معهم أحياناً أخرى، لهذا من الخطأ في تقديري أن يعيش الطالب خمس سنوات معتزلاً بعيداً عن بلده، بل عليه أن يذهب إلى بلده كلّ سنة ما أمكنه، ليس لأجل بلده، بل لأجله هو قبل بلده، كي لا يعتزل عن الناس في ظلّ هذه المتغيّرات السريعة؛ لأنّ الناس تتغيّر بسرعة، والتركيبة الاجتماعيّة تتغيّر بسرعة فائقة، وحضور الطالب بين الناس يستطيع أن يوفّر له رافداً يُخرجه من هذه العزلة، وهذا المقدار كافٍ له، فنحن لا نطلب منه من اللحظة الأولى أن يكون قائداً حزبيّاً أو ناشطاً سياسيّاً أو فاعلاً اجتماعيّاً قويّاً من الدرجة الأولى، بل يجب أن يكون له حضور، وهذا الحضور يراكم الوعي تدريجيّاً، فيتمكّن في المرحلة اللاحقة من أن يمارس دوره بشكلٍ طبيعي.

ثانياً: معضلة الانحياز في العمل السياسي والاجتماعي

الإشكاليّة الثانيّة التي يطرحها هذا الفريق، هي معضلة الانحياز في العمل السياسي والاجتماعي، وهي إشكاليّة ينبغي التفكير فيها جيّداً. إنّهم يقولون: إنّ الدخول في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة لا يعرف الحياد، فالسياسة والاجتماع يتطلّبان انحيازاً إلى طرف من الأطراف، فلا يمكنك أن تكون ضمن هذا المدار السياسي والاجتماعي في قريتك أو مدينتك أو وطنك أو أمّتك الدينيّة أو القوميّة، إلا إذا كنت منحازاً، فيجب أن تختار فريقاً، وإلا كيف تستطيع أن تخوض نشاطاً في هذا المجال الاجتماعي أو ذاك المجال السياسي؟

إنّ هويّة العمل السياسي هي هويّة انحيازيّة، لا يستطيع الذي يشتغل في العمل السياسي والاجتماعي أن يكون حياديّاً، في حين هويّةُ العالم بوصفه عالماً، وهويّة المثقّف بوصفه مثقّفاً، وهويّة المفكّر بوصفه مفكّراً.. هي هويّة حياديّة تقوم على الموضوعيّة العلميّة، فإذا أراد أن يعالج مسألةً فكريّة أو أن يبحث في مسألة علميّة، فلا ينبغي أن تكون له خلفيّة انتمائيّة تضغط على بحثه العلمي، الأمر الذي يؤدّي إلى انحيازه ناحية نتائج معيّنة، تحرف بحثه العلمي عن الموضوعيّة والمنهجيّة في معالجة الأمور.

عندما يدخل المثقّف أو العالم في هذه الدائرة المغناطيسيّة السياسيّة الاجتماعيّة، يُفرض عليه ـ بشكلٍ أو بآخر ـ نوعٌ من الانتماء والانحياز الذي يضغط على طرائق تفكيره ويلزمه في النهاية الخروج بنتائج مرسومة سلفاً، وهذا ما يؤدّي ـ شئنا أم أبينا ـ إلى نوعٍ من تعليب الأفكار، كما يؤدّي إلى أدمغة معلّبة تُنتج أفكاراً قيلت لها من قبل، في وقتٍ تحتاج الحركة الفكريّة فيه إلى الحياديّة والموضوعيّة والحريّة. والمفكّر يجب أن يقرأ الأمور من موقع الشخص الذي يشرف على جميع النظريّات، ويكون على مسافة واحدة منها.

هذه إشكاليّة ثانيّة تستدعي إحجاماً عن هذا الاستغراق في إدخال عالم الدين والمثقّف في المتغيّر السياسي والاجتماعي.

ثالثاً: الحكم على الفكر الكلّي من خلال التجربة الجزئيّة

الإشكاليّة الثالثة هنا هي إشكاليّة معرفيّة منهجيّة، فالعالم أو المثقّف عندما يدخل في التجربة السياسيّة والاجتماعيّة، سوف يحكم على النظريّات العلميّة من خلال تلك التجربة التي لا تعبّر سوى عن مصداق جزئيّ، لا يمكنه عبره من أن يحكم على النظريّات الكليّة، لكن الدخول في التجربة سوف يؤدّي به إلى هذه الإشكاليّة المنهجيّة، فيحكم على النظريّات العلميّة أو الدينيّة من خلال فشل أو نجاح تلك التجربة العمليّة في لحظة زمنيّة محدّدة.

من هنا نجد بعضاً من الذين دخلوا في التجربة السياسيّة أو الاجتماعيّة وأصيبوا بالفشل، يحسبون ذلك على الدين أو العلم، فيقولون مثلاً: إنّنا جرَّبنا المشروع الاسلامي، في إيران أو العراق أو لبنان أو الجزائر، ورأيناه فاشلاً، وعليه فالدين لا يستطيع أن يدير المجتمع.. بينما لا يمكن الحكم على تلك النظريّات الكبرى من خلال دراسة مصاديق جزئيّة معدودة، قد يكون الخلل فيها آتياً من ناحيّة أخرى غير تلك النظريّات والأديان نفسها.

عندما يدخل المثقّف والعالم في الإطار الميداني، فسوف يُنتج نظريّاته من داخل هذا المربع المصداقي ـ إذا صحّ التعبير ـ فيحكم على النظريّات الكبرى من خلال التجربة الجزئيّة، ويقول مثلاً: لا يصحّ أن نفكّر بالمشروع الإسلامي؛ لأنّني في العقد الفلاني خُضت تجربةً في مكانٍ ما، وفشلت تلك التجربة. فيخرج بنتيجة عامّة من خلال حالة جزئيّة تجريبيّة خاصّة، في حين أنّ المفترض بالبحث العلمي أن يكون متحرّراً من أن يُحبَس داخل إطار مصداق جزئي واحد، بل عليه أن يستوعب في رؤيته تمام الاحتمالات، وأن يأخذ بعين الاعتبار الظروف المتغيّرة.

عندما نلاحظ الذين انتقدوا المشروع الإسلامي ممّن كان إسلاميّاً قبل عشرين عاماً، سنجد أنّ أغلب انتقاداتهم ترجع إلى انتقاد التجارب الجزئيّة، أيّ إنّه جعل التجربة الجزئيّة التي خاضها في حياته في زمان معيّن وفي مكان معيّن، معياراً للحكم على نظريّة عامّة، وهذا خللٌ منهجي.

عندما اُدخل عالمَ الدين أو المثقّف في الإطار التجريبي هذا، أكون قد خنقته للوصول إلى نتائج من هذا المنظار، كأنّني وضعت على عَينَيه نظّارات معيّنة، وفرضتُ عليه أن يقرأ الأمور من خلالها، وهذا ما يؤدّي إلى ولادة النظريّات التي تتأطّر بشكلٍ أو بآخر بإطار وقائع جزئيّة محدودة، ولا يعطي للنظريّات الاجتماعيّة أو السياسيّة حينئذ طابع الشمول ولا طابع التحليل المطلق.

طبعاً نحن هنا إنّما ننقل وجهة نظر هؤلاء بحسب تحليلنا لخلفيّاتهم المعرفيّة.

رابعاً: الدخول في التجربة والخضوع لسلطة الأمر الواقع

تعدّ الإشكاليّة الأخيرة هذه من الإشكاليّات الصعبة بالفعل، وهي التأثّر بالسلطات الحاكمة في المجتمع، إذ إنّ دخول المثقّف أو عالم الدين إطارَ المتغيّر السياسي والاجتماعي يوجب تأثّره بالسلطة الحاكمة، وإذا كان المفكّر أو المثقّف تحت حكم السلطة، فالسلطة هي التي تُصدر قرارها، وهو يجتهد لها وينظّر.

فإذا كان الزعيم يريد أن يتصالح مع العدوّ الإسرائيلي، فسنجد أنّ نصوص الصلح والسلام من الآيات والروايات، تأخذ حيّزاً كبيراً من اهتمامات العلماء والمفكّرين في المجتمع، وسنجد الاجتهاد الفقهي يحاول كثيراً لكي ينظّم نظريّة رائعة تتّصل بعلاقات الصلح والمسالمة مع الأعداء.

وإذا كان الزعيم السياسي يعتقد بنظريّة الجهاد والحرب والمقاومة والممانعة ضد العدوّ الإسرائيلي، سنجد في المقابل أنّ المفكّرين والفقهاء والمثقّفين يحاولون طرح نظريّة نضاليّة متكاملة مستقاة من التراث ومن نصوص الكتاب والسنّة؛ لأنّهم باتوا ـ بدخولهم إطار المتغيّر الاجتماعي والسياسي ـ تحت حكم السلطات المسيطرة على هذا المجال، أي مجال السياسة والدين والمال والإعلام والأكثريّة، إلى غيرها من أنواع السلطات، فيصبح كقطعة معدنٍ وقعت في حقل مغناطيسي لا قدرة لها على الحركة خارج قواعد الحقل نفسه.

وقد رأينا أنّ بعض السلطات عندما كانت تميل لتحديد النسل وتنظيمه، كان بعض الفقهاء والمثقّفين ينظّرون ويجتهدون لتبرير ذلك، ويمارسون قراءات متنوّعة للنصّ الديني، بينما عندما عدلت هذه السلطات بعد عقدين من الزمن عن مشروعها هذا، عاد الخطاب من جديد لاستحضار نصوص الحثّ على الإنجاب وتكثير النسل، والاجتهاد لتبرير الكثرة العدديّة هذه المرّة!

وبهذا يغدو المثقّف أو العالم محكوماً لهذا التوازن القائم في الواقع الاجتماعي والسياسي. ليس هذا فحسب، بل كما يقول الدكتور الطاهر لبيب ـ أحد علماء الاجتماع التونسيّين المعاصرين ـ: نحن ابتلينا منذ عام (1980م) تقريباً إلى يومنا هذا بنوعٍ من المثقّف يسمّيه عالم الاجتماع هذا بـ«المثقّف المقاول» أي التاجر([2]).

فهذا المثقّف يكتب حسب ما يُدفع له، فإذا كانت الدفعة سلفيّة فسوف يكتب تفسير القرآن، وإذا كانت الدفعة ليبراليّة، فسوف يكتب في نقد التراث ونقد العقل الإسلامي؛ لأنّه يريد أن يعيش، وهو أيضاً إنسانٌ يحتاج إلى الأكل والشرب، فإذا دخل في إطار هذه التوازنات الاجتماعيّة والسياسيّة، وقلنا له: عليك أن تُقحم نفسك في هذا المدار شديد الجذب والدوران، فهو مضطرّ ـ شاء أم أبى ـ أن يحقّق توازناً ما، فهو يريد أن يعيش، فإذا كان مأكله واقتصاده مرتبطاً بشكلٍ أو بآخر بانتمائه السياسي والاجتماعي، فسوف يفرض عليه ذلك تلقائيّاً أن يتّخذ موقفاً ما، وإلا لن يتمكّن من الاستمرار في الحياة.

إنّ دخول العالم أو المثقّف ضمن مدار هذه السلطات، سوف يؤدّي إلى أن يتحوّل إلى مثقّف مقاول، يتاجر بعلمه ودينه ولو من حيث لا يشعر أحياناً؛ كي يحصل على لقمة العيش. وقد قيل عن بعض كبار المثقّفين ـ وقد توفّي مؤخّراً رحمه الله ـ: إنّه بعد أن قضى عمره في نقد التراث الإسلامي، كتب في آخر عمره تفسيراً للقرآن الكريم، نتيجةَ علاقة طيّبة مع بعض شيوخ المال في إحدى الدول الخليجيّة.

إنّ هذه الإشكاليات ـ ولنقل بتعبير أدقّ: «الهواجس» ـ يراها أنصار التنزيه تحذّر العالم والمثقّف من الدخول في القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة اليوميّة، وهي محاذير جديّة لا يمكن الاستهانة بها؛ إذ نراها بأمّ أعيننا، ونرى كيف أثّرت بالفعل على الحركة العلميّة والثقافيّة في الآونة الأخيرة.

خامساً: مخالفة السيرة التاريخيّة لعلماء الدين

هناك وجهة نظر، أطرحها هنا للتفكير، وهي تقول: إنّ أهل السنّة بالعموم كانوا ـ حسب التسميات السياسيّة اليوم ـ «موالين» للسلطة، فيما الزيديّة والإسماعيليّة كانوا «معارضين»، لكنّ الإماميّة لم يكونوا معارضين ولا موالين، بل كانوا «محايدين» لم يشاركوا في العمل السياسي حتى يكونوا معارضة؛ لأنّ المعارضة شكلٌ من أشكال المشاركة في العمل السياسي، أو فقل: كانت معارضتهم صامتة ليس فيها فعالية سياسيّة، وهذا ما استمرّت عليه سيرة علماء الإماميّة، فالدخول في الحياة السياسيّة مخالفٌ لهذه السيرة المستمرّة التي تلقّتها الإماميّةُ جيلاً بعد جيل.

ويؤيّد ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ ثقافة التقيّة التي ورثتها الإماميّة عن أئمة أهل البيت النبوي^، حيث كانوا يمارسون التقيّة بأنفسهم، ويدعون أتباعهم لممارستها، وقد وردت فيها نصوص كثيرة عنهم. والمشاركةُ السياسيّة ـ بل المعارضة ـ ليست إلا خرقاً لقواعد التقيّة، فعندما تدخل في سياق معارضة فقد كَسَرت كلّ معايير التقيّة التي جرى الحديث عنها في لسان أهل البيت^. وأما قضيّة الإمام الحسين× فهي قضيّة خاصّة لا يمكن أن نقيس عليها.

لكن دعوني أعلّق هنا على هذا الكلام، ولو أنّنا ما نزال بصدد شرح الموقف الأوّل: ربما يكون هذا الكلام في بعض الحقب الزمنيّة صحيحاً، حيث لا نجد أيّ مشاركة سياسيّة تُذكر للطائفة الإماميّة، لكن في حقيقة الأمر لا نستطيع أن نغضّ الطرف عن تجارب علمائيّة كثيرة، حتى في التراث القديم، والتي تخبرنا عن مشاركتهم في العمل السياسي. فالطائفة الإمامية حينما توفّرت لها الظروف للمشاركة في العمل السياسي لبّت النداء، وبإمكانك أن تأخذ الهجرة العامليّة العلمائيّة إلى إيران في العصر الصفوي، لترى كيف أنّ العلماء عندما سنحت لهم الفرصة لم يقصّروا في خوض مجال التجربة السياسيّة، بل قدّموا العون للسلطة التي يرونها أقرب إلى الحقّ.

إذن، ربّما لا نجد مشاركة سياسيّة من قبل الطائفة الإماميّة، بسبب عدم توفّر الإمكانيّات اللازمة؛ لأنّ شدّة القمع لم تكن تسمح لها حتى أن تكون معارضة، فضلاً عن المشاركة، فلا ينبغي أن نجعل من التراث دليلاً للقول بأنّه ينبغي لعلماء الدين أن يبقوا على الحياد وفي عزلة؛ لأنّ التراث ليس على وتيرةٍ واحدة.

أضف إلى ذلك، حتى ولو كانت سيرة العلماء بأكملهم على هذه الطريقة، فهذا لا يُلزم مجتهداً بالأخذ برأيهم، فالعلماء في نهاية المطاف يُستدلّ لهم لا بهم. ونحن إنّما نستدلّ بكتاب الله وسنّة نبيّه وأهل بيته^، ولا نستدلّ بأقوال أو سيرة العلماء، وإنّما اُخذ بالإجماع والشهرة بوصفهما طريقاً للوصول إلى السنّة، فإذا كانت عندنا آياتٌ من الكتاب العزيز، وآيات الجهاد وآيات الاجتماع الإنساني وآيات الحدود والقصاص والديات، فلا نستطيع أن نتجاهل هذه كلّها، لأجل اجتهاد العلماء في فهم النصوص، خاصّةً وأنّ فهمَهم لها ليس حجّةً على مجتهدٍ آخر، كما أنّ الاستدلال هنا قائمٌ على السيرة. والسيرةُ دليل لبّي يحتمل وجوهاً متعدّدة، فالقضيّة خلافيّة وليس ذهاب بعض العلماء في الماضي إلى طريقة معيّنة في العمل السياسي بمُلزمٍ للعلماء في المرحلة اللاحقة أن يتبعوا الطريقة عينها إلى الأبد، لاسيّما وأنّ الظروف تتغيّر، وربّما لو كانوا موجودين في زماننا هذا، لكانت لهم مواقف مختلفة.

أكتفي بهذا القدر من الهواجس والإشكاليّات التي ربما ينطلق منها الفريق الأوّل؛ لأنتقل إلى الاتجاه الثاني، ومن خلال عرضنا لهذا الاتجاه تتبيّن بعض الملاحظات التي قد تسجّل على طريقة تفكير الاتجاه الأوّل رغم جديّة إشكاليّاته وأهمّيتها الفائقة.

الاتجاه الثاني: الواقعيّة والالتزام، دوافع ومبرّرات

من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه، يجب أن يكون المفكّرُ والعالم في بطن الحياة اليوميّة، ليعيش واقعها، ويصبحَ إنساناً واقعيّاً يفكّر لحلّ المعضلات والمآزق الحقيقيّة لا أن يحلّق في الفضاء، ويبحث عن قضايا خياليّة لا وجود لها في الخارج.

صحيحٌ أنّ هناك إشكاليّات قد تصيب العالم والمثقّف في دخوله الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وهي تستحقّ الدرس بجدّيّة ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكن في المقابل، هناك أولويّات لنشاط عالم الدين أو المثقّف أو المرجع الديني أو الفقيه، تتطلّب منه أن يكون واقعيّاً وأن يكون ملتزماً الدخول في المتغيّر السياسي والاجتماعي، بأيّ شكل من أشكال الدخول.

نحن هنا لا نتحدّث عن قضيّة التحزّب (أي شرعيّة وضرورة الانتماء للأحزاب) ولا عن تأسيس دولة، ولا عن العمل السياسي من موقع الفتوى الدينيّة بما يعتبره العلمانيون خرقاً لمدنيّة الدولة وعلمانيّتها، أو أيّ شكلٍ آخر من أشكال الحضور بخصوصه، وإنّما نتكلّم عن أصل الحضور في المتغيّر السياسي والاجتماعي فارغاً عن قيوده، وشروطه و..، حتى لا يختلطَ الأمر علينا.

إذا أردنا أن نحلّل الخلفيّات المعرفيّة لهذا الفريق، سنجد المبرّرات الآتية:

المبرّر الأوّل: المعرفة للتغيير والعمل، لا لذاتها

أستعير هذا التعبير من الفكر الماركسي ـ وإن لم يكن التعبير حكراً عليه ـ باعتباره مدرسةً فكريّة لم يعد يُتحسّس منها الآن. هناك فكرة ماركسيّة معروفة تحوّلت إلى ثقافة، وهي تقول: «إنّ المعرفة للتغيير، وليست للمعرفة نفسها». هي فكرة غير خاصّة بالماركسيّة، وإنّما هي فكرة عملانيّة يعيشها الكثير من أبناء البشر.

وهذا الفريق من العلماء والمفكّرين أيضاً يفكّرون بهذه الطريقة نفسها، حيث يقولون: أنا لماذا أتعلّم؟ هل لكي أكتشف شجريّة الشجر وحجريّة الحجر، وأنهمك في البحث عن الماهيّات وحقائق الأشياء؟ أو أتعلّم لكي أعرف كيف أزرع الحنطة، وكيف أحصدها، وكيف أغرس الشجرة وكيف أجني ثمارها، وكيف أحميها من الحشرات الضارّة، وكيف أوصلها للمواطن الفقير الذي يحتاجها، فتنتظم شؤون الحياة؟ هل يهمّني معرفة حجريّة الحجر أو يهمّني أن أعرف كيف أستفيد من هذا الحجر لأبني به بيتاً أو مسجداً أو مستشفى أو دار أيتام..؟

ثمّة اتجاهان للجواب عن هذه الأسئلة:

اتجاه يرى أن العلم والمعرفة مطلوبان بالذات، وبتعبير الفلسفة الصدرائيّة: العلم يوجب السعة الوجوديّة للإنسان، من هنا يميل هذا الاتجاه دائماً لتخطّي ظواهر الأشياء والدخول في باطنها، بعيداً عن فوائدها العمليّة والواقعيّة، ولذلك يبحث عن ماهيّات الأشياء وحقائقها الوجوديّة، ويريد معرفة شجريّة الشجر وحجريّة الحجر لذاتها لا لكي يستفيد منها في واقعه اليومي، ويُصرّ على أن يقضي عمرَه على أن تحصل المعرفة من أجل المعرفة لا من أجل استخدامها في الحياة بالضرورة، فقد نجده يقضي عمره لكي يبحث عن قضايا لا فائدة منها في الخارج، فقط لأنّها معرفة في ذاتها، والمعرفة بذاتها مطلوبة عنده، فإذا قيل له: ما الفائدة من وراء ذلك؟ سوف يجيب: إنّ المعرفة بذاتها أمر جميل وتوجب كمال الإنسان وشحذ الذهن، والذي وصل إليها هو الذي يعرف لذة المعرفة وقيمتها الحقيقيّة، والذي لم يتذوّق المعرفة هو كالطفل الصغير الذي لا يعرف لذّة الغريزة الجنسيّة إلا أن يبلغ مرحلة النُضج، وكذلك العلم، لا يستطيع أن ينال لذة اكتشاف شجريّة الشجر إلا ذاك الذي بلغ هذه المرتبة من المعرفة.

لكن من وجهة نظر الفريق الآخر، العلم ليس مطلوباً في حدّ نفسه، وإن كانت بعض المدارس الفلسفية تعتقد بذلك، لكن في الثقافة الدينيّة والأخلاقيّة والعرفانيّة ليس العلم بما هو صور ذهنيّة مطلوباً، بقدر ما هو مهم لكونه طريقاً للكمال ورقيّ الإنسان نحو غاياته المنشودة، فالعلم هو الذي يساعدنا في الوصول إلى الكمالات المطلوبة للإنسان، سواء في حياته الماديّة أم الأخرويّة، وسواء في حياته السياسيّة أم الاجتماعيّة أم الأسريّة..

إذن، العلم ليس مطلوباً في حدّ نفسه، لكي أجلس فأنال مجموعة من الصور الذهنيّة وأضعها في عقلي ثمّ أكتفي، وننهى العالمَ أو المثقّف عن الاهتمام بقضايا الأمّة الكبرى بذريعة أنّها تمنعه من الاستمرار في حياته العلميّة، إذ ما فائدة العلم الذي يبقى في الذهن؟ وماذا نجني من ورائه؟ فإنّ العلم والمعرفة ليسا إلا بداية المشوار، لأنّني أعرف لكي أعمل بحسب التعبير الديني، أو أعرف لكي أغيّر بحسب التعبير الماركسي.

نحن نريد المعرفة لكي نعمل ونحقّق تكاملاً، ولا ينبغي أن ننظر للمعرفة في حدّ نفسها بوصفها صنماً يُعبد، فماذا أستفيد من المعرفة إذا كانت صنماً؟ لا أستطيع أن أحقّق بها شيئاً في حياتي. إذا جلست في زاوية بيتي أو اجتهدت في قضيّة معيّنة، ثمّ بقيت في بيتي فماذا أستفيد؟ ما الفائدة من تحصيل هذه الصور الذهنيّة في عقلي؟

للأسف الشديد هذه كانت وما تزال ثقافة موجودة في أوساطنا، والتاريخ يحدّثنا عن أولئك الذين كتبوا عشرات الكتب ولم ينشروها إلى أن صارت هذه عادة يُعمل بها، بل بعضهم كان يُتلف الكتب التي يكتبها، وأنا سمعت من بعض الأساتذة الفقهاء أنّ أحد الفقهاء الكبار الذين توفّوا في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، كانت لديه عشرات المجلّدات، لاسيّما في علم الرجال، لكنّه أوصى أبناءه بعدم نشرها إطلاقاً! وبالفعل لم تنشر إلى يومنا هذا.

وعليه، أوّل قضيّة ينطلق منها القائلون بضرورة دخول العالم والمثقّف مجال المتغيّر السياسي والاجتماعي هو أنّ المعرفة ليست للمعرفة، بل الغاية من ورائها هو العمل والتغيير والصنع والإبداع في الواقع الإنساني؛ لأنّ انتقال المعرفة الإنسانيّة من مرحلة الكمون في العقل إلى مرحلة الظهور في الواقع الاجتماعي والسياسي، هو الذي يستطيع أن يؤثّر على المستويات الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتربويّة في الإنسان والمجتمع.

المبرّر الثاني: العلاقة الجدليّة بين النظريّة والتجربة

المبرّر الثاني للزوم الدخول في الحياة العامّة والاجتماعيّة، هي العلاقة الجدليّة بين النظريّة والتجربة، فإنّ الكثير من أنواع النظريّات تحتاج ـ في تقويمها وتطويرها ـ إلى التجربة العمليّة، فلا يمكن أن ننتج نظريّة علميّة في زاوية المكتبات دوماً، بل لابدّ أن نرى تأثيراتها على أرض الواقع ونجرّب القضايا النظريّة في الواقع الخارجي، هكذا نستطيع أن نقوّم تلك النظريّات ونستخرج نقاط الخلل والقوّة فيها، فإنّ إنتاج النظريّات العلميّة، خاصّةً في العلوم الإنسانيّة، بحاجة إلى الدخول في واقع الحياة.

وكما نعلم، فإنّ الكثير من النظريّات التي ظهرت في الغرب كانت ناتجة عن تجارب قام بها العلماء في مختبراتهم وعياداتهم، مثل سيغموند فرويد (1939م) في تجاربه الخاصّة في علم النفس، أو في تجارب بعضهم على المستوى السياسي والإداري كما فيما يقال عن ابن خلدون (808م)، وأبي علي مسكويه الرازي (421هـ). كيف يمكن إنتاج النظريّات التي تتعلّق بالفكر السياسي أو الاجتماعي أو التربوي أو التاريخي، بمنطق تجريدي متعالٍ عن واقع الحياة؟!

إنّ هناك علاقةً جدليّة بين التجربة والنظريّة العلميّة، فالنظريّات العلميّة تؤثّر على واقعنا المعاصر والواقع بدوره يؤثّر على النظريّات العلميّة.

ولكي أوضح الأمر أكثر، أستعين بفكرتين:

الفكرة الأولى: وهي الفكرة التي طرحها السيد محمّد باقر الصدر (1980م) في أبحاثه المنطقيّة والمعرفيّة حول التواتر، وذلك في كتابه «محاضرات تأسيسيّة» الذي طُبع مؤخّراً، فهو يقول بأنّ التواتر يحصِّل اليقين، لكنّ حصول التواتر له عوامل ـ كما درسناه في أصول الفقه وعلوم دراية الحديث ـ ومنها العوامل الذاتيّة، ومن جملة هذه العوامل خبرةُ الإنسان بالواقع الميداني، فلو ذهب شخصٌ لا خبرة له بالسوق والتجارة وحيل التجّار، ودخل إلى السوق وسأل أيَّ تاجر: بكم هذه؟ فاُجيب: والله رأس مالها عليّ كذا وكذا، ثمّ ذهب إلى الآخر وسأله نفس السؤال، فأجابه بالجواب نفسه، ثمّ ذهب إلى الثالث وسمع الشيء عينه، فسيحصل له يقينٌ بذلك.

هنا يقول السيد الصدر: هذا إنسانٌ بسيط لا يعرف التعقيدات الموجودة في السوق بين التجار؛ لهذا هو يعتبر أنّ احتمال اجتماع مصلحة هؤلاء التجّار الثلاثة معاً، هو احتمالٌ ضئيل جدّاً بحساب الاحتمالات، خاصّة لو كانوا من أسواق متعدّدة، وبهذا سيحصل له وثوقٌ بكلامهم. أمّا الذي له خبرة في الحياة الميدانيّة ولديه وعي كافٍ بالسوق ويعرف التجّار وأيمانهم المغلّظة وأساليبهم وأفانينهم، ويعرف كيف تلتقي مصالحهم، فسيقول: لو يأتي عشرة من هؤلاء لن يحصل لي اليقين.

هذا ما يمكن تطبيقه في مجالات كثيرة، وعلى سبيل المثال: دراسة الأحاديث والروايات، يمكننا أن نطبّق هذه الفكرة هناك، فالباحث بمقدار خبرته بظاهرة الكذب في حياة الناس وخبرته في دوافع الكذب في شخصيّة الناس اليوميّة، يستطيع أن يصل إلى نتائج أضمن وأقرب إلى الواقع في تقويم الأحاديث، وكذلك من يملك خبرةً بالسياسة، يستطيع أن يقوّم النظريّات السياسيّة بنظرة أكثر وعياً، ويعرف ما إذا كانت قابلة للنجاح أو لا؛ تبعاً لوعيه بطبائع البشر وتحولات الحياة السياسيّة بينهم.. وكذلك الحال في سائر النظريّات المتّصلة بالشؤون الإنسانيّة.

الفكرة الثانيّة: وهي التي طرحها المؤرّخ ابن خلدون (808هـ)، وهو من الذين كانوا يشاركون في العمل السياسي والسلطوي بمعنى ما. إنّ لابن خلدون نصّاً لا بأس أن ننقله بعينه، حيث يقول في مقدّمته المشهورة: «لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النقل، ولم تُحكّم أصول العادة، وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ، ولا قيس منها الغائب بالشاهد، والحاضر بالذاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم..».

ينتقد ابن خلدون في عبارته هذه التعاملَ السندي المحض مع الأخبار التاريخيّة، بل على المؤرّخ أن يعرف أصول العادة وقواعد السياسة والأحوال في الاجتماع الإنساني، وكذلك عليه أن يقيس الأوضاع الراهنة على الماضي، ليعرف الحقائق والوقائع الماضية بنظرة أكثر وعياً، فكلّما كنتَ تملك خبرةً في العصر الحاضر، أمكنك أن تقيس ما في العصر الماضي على العصر الحاضر فتحكم بصحّة تلك القضيّة وعدم صحّتها من موقع مضاعفة خبرتك بالشخصيّة الإنسانيّة الفرديّة والاجتماعيّة، فعندما نجعل العصر الحاضر مقياساً لدراسة الماضي ولو في الجملة، فسوف تخوّل التجربة الميدانيّة الإنسانَ أن يعي قضايا الاجتماع والسياسة، ولا يصبح إنساناً مثاليّاً يفكّر في فضاء خيالي لا وجود له في الخارج، ويحلّل القضايا التاريخيّة من هذا المنطلق، الأمر الذي قد يؤدّي إلى بساطة نظريّاته وتحليلاته.

وللأسف الشديد نحن في ما يتعلّق ببعض قضايا الفكر السياسي، وبعض القضايا الكلاميّة، مثاليّون؛ لأنّنا لم نعش التجربة الميدانيّة، وإلا فإنّ الدخول في التجربة الميدانيّة سوف يغيّر كثيراً من نظرتنا للأمور، فلنلاحظ مثلاً أنّ العلماء في الفترة الأخيرة (أي في القرن العشرين) لمّا دخلوا غمار المتغيّر السياسي والاجتماعي، وخاضوا التجربة القانونيّة والسياسيّة، تغيّرت نظريّاتهم، فكانوا سابقاً يرون الأحكام الشرعيّة كلّها من الثوابت، واعتبروا أن كلّ نصٍ صدر عن المعصوم فهو ثابتٌ إلى يوم القيامة، لكن لمّا دخلوا غمار المتغيّر، وجدوا أنّه من المستحيل ـ بحسب العادة ـ أن يبقى المعصوم 300 سنة وهو لا يستخدم إلا الأحكام الأوليّة؛ لأنّ طبيعة الحياة متغيّرة فتحتاج إلى أحكام مرحليّة، إلى جانب الأحكام الثابتة، فبدأوا يلتفتون إلى أنّ المعصوم له شخصيّتان: الشخصيّة التبليغيّة المعنيّة بتبليغ الأحكام الإلهيّة الثابتة، والشخصيّة التدبيريّة التي تدير الأمور الزمكانيّة في ظلّ الأحكام الثابتة، وهي شخصيّته بوصفه حاكماً، ولذلك طرح السيد الشهيد الصدر في كتابه «اقتصادنا» أنّه إذا جاء في الرواية تعبير: «قضى رسول الله»، فهذا يدلّ على أنّها حكم ولائي، وكذلك طرح السيّد الخميني (1989م) فكرة «الأحكام الولائيّة» التي كان يصدرها أهل البيت^، وأتى بمسألة الزمان والمكان وتأثيرها على الاجتهاد والاستنباط الفقهي.

إنّ علينا أن نلتفت إلى أنّ النصوص الدينيّة ـ الآيات والروايات ـ لم تكن نصوصاً متعاليّة عن الزمان والمكان في ظرف صدورها، وإنّما كانت تصدر في ظلّ الظروف الاجتماعية والسياسيّة المختلفة، فالخبرة بهذه الظروف تساعدنا كثيراً على فهمٍ أقرب إلى الواقع، إذ الظروف السياسيّة والاجتماعيّة تشبه بعضها بعضاً، وهناك عناصر مشتركة فيها، فيمكن أن نستفيد من التجربة المعاصرة لمعرفة تلك الظروف المشابهة لها في ظرف صدور النصوص الدينيّة والتاريخيّة.

وهذا كلّه يعني أنّ الدخول في التجربة الميدانيّة السياسيّة والاجتماعيّة ينشّط الوعي المعرفي، لا أنّه يشلّه؛ إذ يعطي الإنسان صورةً أوضح للنصوص التاريخيّة، ويزوّده بوعي أكمل للتاريخ نفسه، كما يساعده في تحليل بنية الاجتماع الإنساني والفرد الإنساني في هذا المجال.

وعليه، فالعزلة لا تساعد دوماً على إنتاج النظريّات الصحيحة، بل الذي يعتزل الساحة الواقعية قد يُنتج لنا نظريّات معزولة تجافي الواقع في بعض الأحيان، لاسيّما في العلوم الاجتماعيّة والقضايا المتّصلة بالعلوم الإنسانيّة، كالاجتماع والسياسة والتربية والاقتصاد وغيرها من هذه العلوم التي تقع في صلب نشاطاتنا في الفقه والأخلاق وما شابه ذلك.

هذا مبرّرٌ آخر يدفعنا إلى إقحام المثقّف والفقيه دائرةَ التجربة حتى يعي طبيعة المتغيّر، ويعي النصوص الدينيّة والتاريخيّة أيضاً؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعي النصوص السياسيّة التي صدرت من الأئمّة^، إن لم يكن فاهماً لطبيعة الاجتماع السياسي الإنساني آنذاك، وكذلك لا يستطيع أن يفهم النصوص التربويّة بشكلٍ صحيح ما لم يكن واعياً بالتركيبة النفسيّة الإنسانيّة وردود أفعال الناس، إذاً، كلّما خاض التجربة أكثر، كلّما استطاع وعي النصوص التي صدرت في ظروف واقعيّة. فالدخول في التجربة يساعد العالم أحياناً، وليس تأثيره ضرريّاً، بل بإمكانه أن يستفيد من تلك التجربة لتصويب نظريّاته، وجعلها أكثر واقعيّةً وسلامة.

المبرّر الثالث: المنطلق الأخلاقي والديني

ينطلق هذا المبرّر من أنّك مرجعٌ دينيّ أو فقيه أو مفكّر أو مثقّف، لكنّك في نهاية المطاف إنسان، والإنسان مسؤولٌ تجاه بني جنسه، فما معنى أن تنزّه نفسك عن قضاياهم؟ ما معنى أن تقول: أنا ليس لي علاقة بهذه الأمور؟ ليس هذا سلوكاً أخلاقيّاً! أليست هذه وظائف إسلاميّة أن ينصر المسلم المسلمَ الآخر؟ أليست وظائف أخلاقيّة أن يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان؟ هل المثقّف يخرج من سلطنة الأحكام الأخلاقيّة إذا صار مثقّفاً؟ هل طالب العلم أو المفكّر يخرج من سلطان الأحكام الدينيّة إذا صار عالماً؟ هل أنّ عامة الناس يجب أن ينصروا إخوتهم المؤمنين، أما العالم أو المثقّف فلا يجب عليه ذلك؟!

إذا كان الإنسان ينطلق من أساسيّات قِيمه الدينيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، فلا فرق بين أن يكون عالماً أو غير عالم، بل يجب عليه أن يكون له موقف في مثل هذه القضايا، لا معنى للحياد في مثل هذه الأمور.

لا نقول: يجب أن يكون له موقف في كلّ جزئيّة، ولا نطلب منه أن يصدر بياناً في كلّ تفصيل، لكن نقول: يجب أن يكون له حضور، فليس مقبولاً لا على المستوى الأخلاقي ولا الإنساني ولا الروحي ولا الديني، أن يعيش الإنسانُ في عزلة وبقيّة الناس تعاني من مشكلات وأزمات.

فعلى سبيل المثال، قضيّة فلسطين من أهمّ قضايانا الكبرى، مع ذلك لا نجد حضوراً لكثير من المثقّفين والعلماء في هذه القضيّة، وكأنّها غير موجودة!

هذا الوضع من وجهة النظر هذه ـ وهو الحقّ ـ مخالفٌ لأبسط المعايير الأخلاقيّة والدينيّة، فما معنى أن أنزّه نفسي عن الدخول في هذه القضايا؟ خاصّة وأنا أدّعي بأنّ رؤيتي الدينيّة هي رؤيّة تستوعب جميع مرافق الحياة، وليس هناك واقعة إلا ولها حكم؟ فيجب عليّ أن أحدّد موقفاً في هذه القضيّة أو تلك، وإلا ـ ولا أريد أن أقيس ـ فما هو الفرق بيني وبين أولئك الذين خذلوا الإمام الحسين×؟

إذن، الدافع الأخلاقي والروحي والديني يتطلّب حضوراً للواعين والمثقّفين والعلماء في الشأن السياسي والاجتماعي، كلٌّ بما يتناسب مع وضعه وبما يتناسب مع موقعه.

موقفٌ مختار

إذا أردت أن أجمع الصورة، أجد أنّ هناك هواجس عند الفريق الأوّل، ومبرّرات عند الفريق الثاني، وأعتقد بأنّ أفضل هاجسين طرحهما الفريق الأوّل هما:

1 ـ مشكلة الإنتاج المعرفي: هنا علينا أن نقرّ ـ رغم أنّنا نؤيّد الاتجاه الثاني من حيث المبدأ ـ بأنّ الإنتاج المعرفي قد تضاءل في الفترة الأخيرة، وهذه حقيقة واقعة، فقد تراجع ظهور المبدعين والمفكّرين الكبار في الآونة الأخيرة، إذاً، يجب أن تكون هناك حلولٌ لتفادي هذه المشكلة الحقيقيّة، وربّما يكون العمل المؤسّساتي هو الذي أدّى إلى تراجع ظهور المبدعين والمفكّرين الكبار، فإنّني سمعت أنّ بعض العلماء الكبار الذين لهم تأثيرهم في الحوزة العلميّة، صار بصدد التفكير بأنّ العمل المؤسّساتي الذي دخل الحوزة العلميّة هو رغم جودته، غير أنّه قتل الإبداع الفردي، حيث تحوّل إلى مطحنةٍ تطحن الطاقات الفرديّة الإبداعيّة لتذوب في داخل المؤسّسة، فإذا كان العمل الإداري في المؤسّسة ضعيفاً، ستموت الطاقات الإبداعيّة الفرديّة.

هذا أحد العوامل التي ربّما أثّرت في هذا التراجع، لكنّه لا علاقة له بدخول العالم أو المثقّف في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، وربّما هناك عوامل أخرى أثّرت على هذا التراجع، فدراسة هذا الموضوع بحاجة إلى تأنٍّ ومن جميع الزوايا.

وقد يكون دخول العالم أو المثقّف في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، من العوامل التي أثّرت على هذا الموضوع، لكن ينبغي أن نعلم أنه ليس العامل الوحيد، بل هناك عوامل متعدّدة، ومن جهة أخرى لا يعني وجود التراجع هذا، أن نعتزل مجال الحضور، مادام الحضور ضروريّاً ويحمل مبرّراته الأخلاقيّة والدينيّة والعلميّة، بل علينا أن نفكّر في هذه القضيّة مليّاً، ويجب أن يكون هناك تنويعٌ في الأدوار ووحدة في الهدف ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ؛ لأنّ هذه القضيّة إذا استمرّ هذا الوضع ستؤدّي إلى شكلٍ من أشكال تسطيح المعرفة والوعي، حيث نجد بالفعل الآن ظاهرة التقليد في أوساط بعض المثقّفين والباحثين وعلماء الدين.

إذن، هذه مشكلة حقيقيّة، لكنّه يمكن تداركها والمحافظة على أساسيّات الدخول في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة.

2 ـ إشكاليّة العلاقة مع السلطة: هذه الإشكاليّة أيضاً مهمّة لا يمكن الاستهانة بها، ولا نقصد بالسلطة هنا السلطة السياسيّة فحسب؛ لأنّ قضيّة السلطة السياسيّة صارت فزّاعة بالنسبة إلينا في العالم العربي بالخصوص.

إنّ السلطة تعني السلطة السياسيّة والسلطة الماليّة والسلطة الإعلاميّة وسلطة الأكثريّة والأغلبيّة التي يخاف كثير منّا أنّ يواجهها رغم إيمانه بعدم صحّة مداريّة هذه السلطة، لكنّه يخاف ويستند في خوفه هذا إلى مبرّرات، بل هناك سلطة المثقّفين أنفسهم، حيث يحذفون بعضهم بعضاً، وهم أدعياء التحرّر والتعدّديّة والنقد، لكنّهم أصبحوا يمارسون السلطة على بعضهم بعضاً، ويُقصون ويحاربون بعضهم بعضاً! هذا ما أقصده من كلمة «السلطة»، أيّ المفهوم العامّ لها.

أعتقد أنّ الحلّ يكمن في تصحيح فكرة «الانتماء»، نحن مشكلتنا في بعض بلدان الشرق أنّ الانتماء عندنا أُحاديّ، وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (1981م) إشارةً سريعةً في سياق بحثٍ له في حواراته مع هنري كوربان (1978م)، فنحن لا نتصوّر الانتماء إلى مذهب أو حزب أو جهة معيّنة مع عدم الاعتقاد بجميع معتقداتها.

على سبيل المثال، إذا صار شخصٌ من أبناء المذهب الفلاني، هناك قائمة بمجموعة آراء هذا المذهب، يجب أن يلتزم بها، فإذا ترك واحدةً منها، فهذا يعني أنّه قد خرج من انتمائه هذا! وهذا ما أسمّيه بـ«الانتماء أحاديّ الشكل»، فإذا كنتُ منتمياً لهذا الفريق السياسي فهذا يعني أنّه يجب عليّ أن أقبل بكلّ ما يقوله هذا الفريق، وإن لم أكن مقتنعاً به؛ لأنّني لا أستطيع التحرّر من أيٍّ من مقولاته، فالانتماء عندنا يساوي التعبّد والتقليد، فإذا قام شخصٌ من داخل هذا الفريق بنقدٍ ولو جزئي، فسوف نعتبره غير منتمٍ. وهذه إشكاليّة خطيرة جدّاً؛ لأنّها هي التي تقتل الحركة الثقافيّة في أوساطنا.

فعندما أقول: أيّها المثقّف وأيّها العالم بإمكانك أن تنتمي إلى التيار الديني أو الاجتماعي أو السياسي (أ)، فهذا لا يعني أن كلّ ما يصدر عن وجوه تيّار (أ) يجب عليك أن تدافع عنه، فإذا انتمى شخصٌ مّا إلى حزب معين، فلا يجرؤ أن ينتقد أيّ شيء صدر عن ذلك الحزب! وإذا انتقده سيُقال له: إنّك قد خرجت عن إطار الانتماء؛ لأنّ فهمنا لفكرة الانتماء فهمٌ مغلوط؛ إذ لا نستطيع أن نوفّق بين فكرة الانتماء السليم ـ سواء كان انتماءً دينيّاً أم سياسيّاً أم اجتماعيّاً ـ وبين فكرة النقد.

إنّ هذا هو ما يوجب أن يتحرّز العالم والمثقّف من أن يدخل الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، إذ يراه منافياً لحريّته ومعتقداته، ولا يستطيع أن ينتمي إلى أيّ حزب أو جهة معيّنة؛ لأنّه انتماءه هذا يساوي التعبّد والتسليم، وهذا ما لا يتحمّله المثقّف والمفكّر، وهو ما أفضى به إلى أن يقف جانباً ويتّخذ طابع المعارضة ويخنق نفسه فيها، حتى قال بعضهم: ليس المثقّف إلا معارضاً للسلطة، وهذا غير صحيح، لماذا يجب أن يخرج من عنوان المثقّف إذا كان مؤيّداً لسلطةٍ من السلطات العادلة؟ فإنّ المثقّف يبقى مثقّفاً والعالم الديني يبقى عالماً دينيّاً حتى لو كان مؤيّداً لسلطةٍ ما، إذا كان يراها عادلة؛ إذ عنوان المثقّف يعني حريّة التفكير، وحريّة التفكير كما يتحرّر فيها من الدفاع، كذلك يتحرّر فيها من النقد، فيدافع حيث يتطلّب الدفاع، وينتقد حيث يتطلّب النقد.

إذن، مشكلة ثقافتنا الشرقيّة، هي الخلل في مفهوم الانتماء، ومفهوم الموالاة والمعارضة، حيث إنّ النقد يساوي عندنا معارضة، والانتماء يساوي التقليد، والمولاة تساوي التسليم المطلق، هذه مفاهيم غير صحيحة، بل يمكن أن تنتمي لجهة معيّنة، ثمّ تنتقد بعض التفاصيل.

فإذا أردنا أن نتخطّى هذه الإشكاليّة علينا أن نصحّح الوعي الاجتماعي ونغيّر مفهوم الانتماء عندنا، فإنّ الانتماء ليس إلا نتيجة التقاء الأطراف في الخطوط العريضة والاستراتيجيّات العامّة، فيمكن للعالم أو المثقّف أن يكون منتمياً إلى جهة معيّنة وفي الوقت نفسه يكون منتقداً لبعض تفاصيلها، فإذا فسحنا في هذا المجال، سنجد أنّ المثقّف أو العالم الديني سيرحّب بالمشاركة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة من دون أن يمسّ ذلك بحريّته في الفكر أو التعبير؛ لأنّه سيشعر بأنّه صار قادراً على أن يقول كلمتَه، حتى وإن لم تكن متطابقة مئة بالمئة مع الجهة التي ينتمي إليها، سواء كانت جهةً دينيّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة.

وعليه، فالحلّ ـ في تقديري ـ يكمن في تصويب مفهوم الانتماء، فإذا صوّبنا هذا المفهوم وحدّدنا معاييره، صار بإمكاننا أن نستقبل في أحضان التجربة السياسيّة والاجتماعيّة أعداداً وافرة من العلماء والمثقّفين، وسيستطيعون القيام بعمليّة التحليل العلمي دون سيطرة السلطة، وفي الوقت نفسه سيتمكّنون من التعبير عن انتمائهم السياسي والاجتماعي والديني.

لماذا أخسر هؤلاء العلماء والمفكّرين، فلا يشتركون في أيّ عمل سياسي أو اجتماعي أو ديني، بحجة أنّنا لو شاركنا في عملٍ من الأعمال فإنّنا سوف نُخنَق، ولن يُسمح لنا بذكر نقدٍ واحد؟! إذا صرتُ في المذهب الفلاني، لا أستطيع أن أنتقد ولو التفاصيل الاعتقاديّة فيه، أو إذا انتميت إلى تيّار مرجع معيّن صار ممنوعاً عليّ أن أنتقده على تصرّف فعله أو بيان أصدره؛ لأنّه يفسّر بمعنى الضدّية والخروج عن الانتماء! لكن إذا صحّحنا هذا المفهوم، أستطيع أن أجمع بين انتمائي وموالاتي ومحبّتي لجهة معيّنة، وفي الوقت نفسه أحافظ على حريّتي في التفكير والتعبير، وإحساسي بذاتي ـ بوصفي مفكّراً وعالماً ومثقّفاً ـ في أن أمارس دوري في التفكير، ولا أعيش في الوقت نفسه عقدة النقد كما يعيشها بعض المثقّفين، بل أمارسي دوري في النقد وأمارس دوري في الدفاع عن هذه السلطة، حينما تكون هذه السلطة على الحقّ، فلماذا أعيش هذه العقدة أو الثنائية: (إمّا أن أكون معارضاً أو أن أكون موالياً)؟

نحن عندنا في أصولنا الاجتهاديّة الإسلاميّة ـ الإماميّة في الحدّ الأدنى ـ خلفيّات تسمح لنا بمثل هذه الأمور، فعلى سبيل المثال التمييز بين الموافقة الالتزاميّة والموافقة العمليّة الذي درسناه في أصول الفقه، يوفّر أرضيّةً مناسبة للجمع بين النقد والالتزام العملي، فلا يجب على الإنسان أن يلتزم نفسيّاً بالفتوى الشرعيّة، لكن عمليّاً يجب أن يلتزم بها، فالذي عنده مالٌ تعلّقت به فريضة الخمس، يجب عليه أن يدفعه، لكن بإمكانه أن يكون في نفسه رافضاً كلّياً لهذا الشيء، وبإمكانه أن ينتقده علميّاً، إذاً نستطيع أن نستعين بمثل هذا الأصل الاجتهادي لكي نميّز بين مقام البحث العلمي والنقد والتحليل وبين مقام العمل.

تخشى الأحزاب عادةً من النقد؛ لأنّه قد يجرّ إلى تراجعٍ عن العمل، لكن إذا استطعنا أن نقدّم هذه الفكرة، بأن نجمع بين الطاعة وبين النقد، وأنّ الطاعة والنقد ليسا متناقضين، يمكن أن نتخطّى هذه الإشكاليّة، فإذا توفّرنا على وعي بالجمع بين الطاعة والنقد خاصّة وفق هذه الأصول الاجتهاديّة، بإمكاننا أن نغيّر من العقليّة الحاكمة في أكثر من موقع في بلادنا العربيّة.

ولو استطعنا أن نصوّب فكرة الانتماء وتمكنّا في أن نحقّق في المؤسّسة الدينيّة والثقافيّة تنويعاً للأدوار، للوصول إلى هدف واحد، سنتجاوز الهواجس التي دفعت الفريق الأوّل للتنحّي جانباً، وسنستطيع أن نأخذ بيده لينضمّ إلى ميدان التجربة والمشروع الإسلامي الكبير الذي أطلقه كبار الرموز النهضويّين في الأمّة مثل الإمام الخميني والإمام محمّد باقر الصدر والإمام موسى الصدر..

وبناء على ما تقدّم، يمكن الجمع بين الاتجاه الأوّل والثاني، ضمن هذه الحلول التصالحيّة، ولكنها ليست تصالحاً للتصالح وإنّما تصالح واقعي، من خلال تصويب فكرة الانتماء، والالتزام بفكرة تعدّد الأدوار ومن خلال رفع الهواجس التي عاشها الفريق الآخر.

تبدأ عمليّة التصالح هذه، من تطمين النفوس، أعتقد أنّ الفريق الأوّل الذي تحدّثنا عنه قَلِق، وعندما يكون أمامك إنسانٌ قلق، لا تستطيع أن تتعامل معه كما تتعامل مع إنسان غير قلق، فإنّ الإنسان القلق يقرأ الأشياء بطريقة مختلفة، عليك أن تعطيه الطمأنينة في البداية كي تدخل معه في حوار بنّاء، لكنّ بعض النقّاد الذين اشتغلوا بعمليّة النقد الديني، لم يراعوا هذا القلق الموجود عند الفريق الآخر، وكانت طريقة نقدهم أحياناً جارحة، هي عاديّة لكن بالنسبة إلى هؤلاء جارحة، يجب علينا أن نراعي بعض الأمور، فالخطوة الأولى هي أن نطمئنهم، يجب أن يشعروا بجدّ بأنك متحرّق للدين كما هم متحرّقون، فإنّ المشكلة الأساسيّة هي أزمة العلاقة وأزمة الثقة قبل أن تكون أزمة المعرفة، هناك فريق يقول: أنتم قدّمتم السياسة على الدين، أنتم سيّستم الدين ولم تديّنوا السياسة، وفريق آخر يقول: أنتم انعزاليّون رجعيّون متخلّفون.

هناك أزمة ثقة بين الفريقين قد ترجع في بعض الأحيان إلى عدم التواصل والمشاركة فيما بينهما، فالتجربة تقول: عندما يبتعدون عنك فإنّهم ينسجون لك صوراً مُرعبة ومخيفة في مخيّلتهم، ربّما إذا جلسوا معك خمس مرات ذابت كثيرٌ من هذه الصور، إذاً التواصل الاجتماعي بين الفريقين ضروري جداً، كما أنّ الطمأنينة التي يمنحها الإنسان من خلال أسلوبه، والخطّة التي يضعها للعمل ضروريّان كذلك، فنحن نعيش في فترة حسّاسةً، وهؤلاء الأشخاص نتيجة ما رأوه في الآونة الأخيرة ازداد قلقهم، وهذا مثل الشخص الذي لديه حساسيّة في جلده، حيث يلتهب بأدنى احتكاكٍ بسيط.. يجب أن نراعيهم ونتفهّمهم.

وليس المقصود من المراعاة تأجيل العمل أو المداراة الزائدة عن حدّها الطبيعي، كلّا، بل المقصود من المراعاة أن تقول ما تقتنع به، لكن الطريقة التي تستخدمها يجب أن يكون فيها شيءٌ من طمأنة الطرف الآخر وتفّهم وضعه.

إنّ اعتقادي الشخصي هو أنّ الإشكاليّة تنبع من حالةٍ نفسيّة، وترجع إلى أزمة ثقة كبيرة حصلت من جهة، وكذلك ترجع إلى إشكاليّة سلطويّة كنت قد تحدّثت عنها في مكانٍ آخر من جهة أخرى، إذ يشعر كلّ فريق بأنّ هناك فريقاً قد حذفه من الساحة، فلو تعاونّا على المشاركة في السلطة ـ بالمعنى العام الذي شرحناه ـ ربّما شعر كلّ واحد أنّه يستطيع أن يلعب دوره في الحياة، وأنّ الطرف الآخر لا يريد أن يفنيه عن بكرة أبيه.

كلمة أخيرة حول واقعنا العام

رغم هذا كلّه، يجب أن لا يغيب عنّا أنّ الوضع في المنطقة كلّها هو وضع متشنّج. هذا التشنّج الطائفي الذي صنعه الغرب في المنطقة، وأعانه بعضنا ـ ببساطته ـ عليه، يُلقي بثقله على أوضاعنا الداخليّة، وهذا يعني أنّ لدينا مشكلةً داخل ـ حوزويّة، وأخرى خارج ـ حوزويّة، فإذا ارتاحت الأوضاع السياسيّة والمذهبيّة هذه ـ لأنّني أعتقد أنّ الأوضاع المذهبيّة سببها الرئيس سياسيّ ـ ربّما عُدنا إلى حالة من الهدوء والطمأنينة.

إنّنا نعيش اليوم في أزمة هويّة، فكلّ واحد يخاف على وجوده وهويّته، وهذا ما يولّد بدوره أزمة ثقة، حيث يشعر الشيعي بأنّ السنّي يريد أن يفنيه عن بكرة أبيه، ويشعر السنّي بأنّ الشيعي قادم إليه يريد أن يجتثّ التسنّن من العالم. والعربي يشعر بأنّ الفرس يريدون أن يلغوه من الخارطة، والفرس يشعرون بأنّ العرب يعادونهم. هذا الشعور بأزمة الهويّة هو الذي يعطّل النهضة.

ثمّة باحثون يرون أنّ مشكلة تراجع الحركة النهضويّة الكبرى في العقدين الأخيرين ـ أي حركة العقلانيّة الإسلاميّة المحدَثة التي جاءت مع جمال الدين (1897م) ورفاعة الطهطاوي (1873م) وخير الدين التونسي (1890م) ومحمد عبده (1905م) ومحسن الأمين (1952م)، وصولاً إلى مالك بن نبي (1973م) والطباطبائي (1981م) والخميني (1989م) وابن عاشور (1973م) ومحمّد باقر الصدر (1980م) وموسى الصدر (مولود عام 1928م)… ـ تكمن في أنّ الظروف السياسيّة والاجتماعيّة تحوّلت من مرحلة النهضة التي تتميّز بنقد الذات والانطلاق، إلى مرحلة الخوف على الهويّة. وعندما يعيش مجتمعٌ هذا الخوف، فهو لا يسمح لك بأنّ تنتقد. إنّه يقول لك هنا وهناك: أجّل النقد، خوفاً من أن يهاجِمنا الطرف الآخر، ولذلك يمنعوك من النقد الداخلي، فتشعر أنت بالضيق، ويقع التصادم.

إذن، الشعور بأزمة الهويّة وأزمة الخوف على الوجود كرّسه الغرب في الفترة الأخيرة، عبر العولمة، وبعد سقوط النظام العراقي (2003م)، وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتامبر (2001م)، هذه الأحداث خلقت وضعاً جديداً عند الشعوب، وتركت أثرها على الوضع الحوزوي؛ إذ ليس الوضع الحوزوي بِدَعاً من الأوضاع التي نحياها، فلا ينبغي أن نفصل وضعنا الداخلي عن المشهد العام الذي يحيط بالمنطقة والعالم الإسلامي عموماً.

___________________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في «مرفأ الكلمة للحوار والتأصيل» في إيران، عام 2011م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والإضافات والتوضيحات.

([2]) يضع عالمُ الاجتماع التونسي الدكتور الطاهر لبيب (مولود عام 1942م)، المثقفَ العربي في العصر الحديث ضمن أربع مجموعات: المثقف الملحمي، والمثقف التراجيدي، والمثقف البدائلي، والمثقف المقاول.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً