أحدث المقالات

ترجمة: مشتاق الحلو

أطروحة دين بلا ربّ، الخلفية والمكوّنات ـــــــ

أين الرب؟ أنا أجيبكم! نحن قتلناه، أنا وأنت! مات الرب! ونحن الذين قتلناه!

لا نعلم، هل كان نيتشه وهو يكتب هذه الجمل القصيرة المتوالية والمرعبة، يعلم بأنّ جرّار دونروال بكى حزناً قبله في أساطيره عام 1854م، وردّد: مات الرب! بقى بيت الرب خالياً في السماء، أبكوا يا أطفال! فلا أب لكم بعد اليوم.

تطلّب الأمر مائة عام لظهور وجوديّة Existentialism كير كجارد، ونيتشه، وهايدغر، وسارتر، أي منذ ستينيات القرن المنصرم بدأت فكرة موت الرب تستقرّ في ضمير الفكر الأخلاقي والفلسفي للغرب المعاصر وعقليّته، وقد مضى مائة وخمسون عاماً على فكرة موت الربّ التي وردت في كتابات نيتشه إثر التكرار أو الاقتباس، وقدّمت تفاسير مختلفة لها خلال هذه الفترة، وفي زحمة هذه التفاسير، لا تبدو تفاسير اللادينيين عجيبةً بقدر تفاسير المتديّنين غير الإلهيين، ومنذ هذا العقد بدأ بعض اللاهوتيين أو من يتمتّعون بنصيبٍ من عالم اللاهوت ويحسبون على المتدينين، بكتابة أفكار عدّها الكثيرُ من الناس كالتي استندت إلى خطّ مائل.

وقد ردّ جون روبينسون، أسقف وولويتش، في كتابه mالصدق والصراحة مع الربn عام 1963م، على فكرة الربّ بصفته موجوداً خارجياً، ورجّح فكرة الرب كأساسٍ للوجود، وبدأ إنكاره هذا في مقاله التالي، من العنوان: mعلينا الكفّ عن هذا التصوير للربّn. ونشر توم آلتيزر في أمريكا عام 1966م الإنجيل المسيحي غيرالإلهي، وكتب الستركيز mطريق التعاليn عام 1971م، والذي حمل العنوان الفرعي التالي: mالإيمان المسيحي من دون الإيمان بالربّn.

وانطلق هذا النمط من الأدب اللاهوتي منذ ستينيّات القرن المنصرم، ليستمرّ بشكلٍ متواصل إلى يومنا هذا، وكتب كرن ارمسترونغ تاريخ الرب([2]) عام 1993م، وسمّى أي.ان.ار ارمسترونغ كتابه mدفن الربn عام 1998م، بوصف ذلك نتيجةً طبيعيّة لموته.

ومنذ ربع قرن، أدّت كتب دون كيوبيت إلى ظهور نحلةٍ مسيحية باسم mبحر الإيمانn، ومن هذه الكتب mبحر الإيمانn([3])في عام 1984م، وmما بعد الربn في عام 1997م؛ الذي سعى للحفاظ على أقلّ ما يمكن من معنى للإيمان الديني في حال موت الرب.

mدين بلا ربn لري بيلينغتون، أحد آخر نتاجات الأدب اللاهوتي بلا رب، وعلى الرغم من أنّ الديانة والإيمان المسيحيّين شكّل الأرضية الأساسية لهذا الكتاب، لكنّه يمتاز على نظائره بميزتين: الأولى، تّباع أنموذج الأديان الشرقية لصياغة صورةٍ من الفهم الديني والتدين المسيحي من دون الإيمان بالرب. والميزة الثانية، تعميم الانتقادات الواردة على الفهم الديني والتديّن الإلهي ـ بضربٍ من القياس ـ على الأديان الغربية الأساسية، أي اليهودية والمسيحية والإسلام.

وقد وفّرت للمؤلّف خلفيّتُه المعرفية والعلمية والتنقيبية آليات السير في طريقٍ متمايز عن أقرانه؛ فهو خبيرٌ بالأديان الشرقية، كالبوذية والطاويّة، كما صدرت له كتب كفهم الفلسفة الشرقية، والفلسفة الحسية، والشرق الوجودي، أمّا كتابه الأخير mدين بلا ربn، والذي تأثر بالكتب الثلاثة المذكورة، فلم يكن في صدد تبيين الإمكان النظري والانسجام في مقولة: التديّن بلا رب، بل هو مسعى لإثبات مدّعيين: أوّلهما، أنّ التدين الذي لا يبتني على مفهوم الرب، ممكن من الناحية العملية في عالم التديّن المتعالي وحاضرٌ بكل حيوية. وثانيهما، أنّ الالتزام بتدينٍ كهذا في الفترة الأخيرة وما بعد الحداثة أمرٌ مطلوب، بل ضروري بالنسبة للمتديّنيين ولا مفرّ منه.

وبناءً على هذا الفهم الجديد الذي يقدّمه هذا الكتاب للدين، يقرّ من ناحية بإشكالات وتساؤلات عصر الحداثة على الإيمان بالله، فيما يفتح ـ من ناحية أخرى ـ أفقاً جديداً للدين والإيمان في حياة الناس اليومية، كي يلعب دوراً إيجابياً فيها؛ ولهذا السبب لم ير المتديّنون أو اللادينيون أنفسهم وحدهم مخاطبين بهذا الكتاب، أمّا قمة إبداع الكتاب فتكمن في نقله أفق الالتزام الديني من معادلة الإيمان بالله/ عدم الإيمان بالله، إلى طلب العلو/ عدم طلب العلو، ومن خلال هذا النقل، تقلب المعادلة القائمة تأريخياً، وهي: التدين يساوي الإيمان بالله، وعدم الإيمان بالله يساوي عدم التدين.

أخلّ بيلينغتون بالمعادلة القديمة القائمة، بإدخاله مفاهيم العلو وطلب العلوّ في تحليلاته، واستخدامها بدل الربّ والإيمان به، والذي بيّن بدوره الإشكالات النظرية والعملية للالتزام بها، كما سعى لتبيين إمكان التدين دون الإيمان بالربّ، وأنّه ليس مطلوباً فحسب، بل ضروريّ لا مفرّ منه؛ لتكون لنا حياة أكثر متعةً، بصفتنا بشر، وتديّن أكثر عقلانية، بصفتنا متدينين.

وقد انطلق الكتاب من السؤال التالي: لماذا يدّعي كلّ من المسيحية واليهودية والإسلام امتلاك الأمر المتعالي؟ ومن أين لممثلي هذه الصيغ الثلاث من الإيمان بالربّ تقديم أنفسهم، كلّما ذكر البعد الخامس لجون هيغ؟

يعتقد الكاتب أنّ ادعاء الامتياز في امتلاك الأديان التوحيدية الحقيقةَ يبتني على افتراض أنّ التدين يعني الإيمان بالربّ وقبول إرادته، وما يجب مناقشته ودراسته هو تمكّن المؤمنين بالربّ وحدهم من الإدلاء بكلامٍ معتبر وموثوق عن جوهر الطبيعة والوجود، وجود هدفٍ للحياة أو عدمه، طبيعة البشر ومصيره، ويبدأ الكاتب بيان هذا الإشكال بالتشكيك في فائدة مقولة الربّ.

ويسعى المؤلّف في الفصلين: الثالث والرابع من الكتاب لشرح الأصناف والأبعاد المختلفة من الإبهام في مفهوم الربّ، ويستدلّ بوجود دلالات متعارضة لهذا المفهوم، بحيث نضطر لبيان مرادنا منه كلّما استخدمناه؛ إذاً لا فائدة منه ولا جدوى، إضافةً لذلك، تسبّب الدلالات المتعارضة الإبهامَ في اللغة، ومن الممكن أن يجرّنا ذلك في هذا المجال المحدّد إلى تبعات اجتماعية خطيرة.

ويذكر المؤلّف في الفصل الثاني شواهد أخرى لإثبات المدّعى نفسه بالنسبة للدين.

تلك الفصول الثلاثة، إلى جانب الفصل الأول الذي خصّص لبيان الموضوع ومراجعة سوابق البحث وأدبياته، تشتمل على أهمّ البحوث المقدّماتية، خاصّة شرح المصطلحات الأساسية، وتقرير الموضوع، وتخطيط سير الأبحاث.

وفي زحمة ما ورد في هذه الفصول، يكشف الكاتب عن جوهر الكتاب وهدفه الأساس؛ حيث تصبّ تمام بحوث الكتاب في هدفٍ واحد، وهو تفسير ظاهرة الدين في التجارب البشرية دون التمسّك بمفهوم الربّ؛ وبعبارة أخرى: تخليص الدين من اللاهوت وبيان عدم جدوائيّة مفهوم الربّ نفسه، أمّا الطريق الذي يسلكه لنيل هذا الهدف، فهو إعادة قراءة تراث التجربة الدينية، آخذاً بعين الاعتبار توفّرها لدى الجميع، دون حاجةٍ للإقرار بما وراء الطبيعة، وبعبارة أخرى، يقصد المؤلّف أنّ الدين ليس هبةً إلهية نزلت عن طريق العبادة أو الانكشاف الوحياني على عددٍ محدّد من البشر السعداء، فليس له سير نزولي من الأعلى إلى الأدنى، بل هو جزءٌ طبيعي من التجارب البشرية، يمارسه أضعاف عدد من ادّعوا التديّن؛ ولهذا السبب يسعى المؤلّف، وبتجنّبه مفهوم الرب، لمخاطبة من لا يعتبرون أنفسهم متدينين بالقول: إنّ الكثير من تجاربهم اليومية والطبيعية هي في حقيقتها تجارب دينية؛ فهدف الكتاب الإجابة على الحاجة التالية: العرفان دون لاهوت؛ التجربة الدينية من دون ربّ.

وقد خصّص الفصل الخامس لتناول أفكار المؤلّف حول العرفان والانحياز له، ويعتبر الكاتب العرفانَ والفهم العرفاني من تجربة الأمر المتعالي واللامتناهي قمّةَ مراحل التكامل في تاريخ التدين، وذلك بناءً على دراسات كرن ارمسترونغ في تاريخ الأديان. ويرى الفارق بين الوحدانية التي تحقّقت مع الأديان التوحيدية وتعدّد الآلهة في الأديان البدائيّة ضئيلاً، وإن كانت الوحدانية أكمل من التعدّد، فلم تخطُ سوى خطوة بسيطة أكثر مما خطاه التعدّد؛ لأنّها هيّأت ـ بشكل معقّد وخفي ـ الأرضية لإعادة تعدّد الآلهة، وذلك باحتفاظها على صورة شبه إنسانية وشخصانية من متعلّق التجربة الدينية. وبناءً على رأي الكاتب، أصبحت إعادة الصياغة هذه ممكنةً بل حتمية، فالمؤمنون يعتبرون ربّهم الشبيه بالإنسان موجوداً متصفاً بكلّ محاسن ثقافتهم ومَجمَعاً لها، وقد تسبّب اتساع الثقافات المتديّنة وكثرة تلوّنها في تقديم كلّ جماعة موحّدة ربّها الواحد بثوبٍ يتمايز عمّا تقدّمه الجماعة الموحّدة الأخرى، والنتيجة واضحة: صيرورة تاريخ الأديان التوحيدية مشحوناً بالآلهة الواحدة المتنوّعة والمتلونة؛ فالحالة لا تختلف كثيراً عن تنوّع الآلهة في فترة تعدّدها، علماً أنّ هناك فارقاً أساسيّاً، وهو أنّ كثرة الصور الشبيهة بالإنسان التي صاغتها الأديان التوحيدية على مدى التاريخ فاقت بكثير عدد الآلهة في الأديان المتعدّدة الآلهة.

ويعدّ المؤلّف التجربة العرفانية ثالث المراحل التاريخية للتدين، ويتضمّن العرفان مدلولاً غير معروف ومرموز وحتى غيبي، لكنّ الادعاء المهمّ للمؤلّف في هذا المجال، هو أنّ التجربة العرفانية ليست بعيدة عن متناول الأفراد كافّةً، بل هي حاصلة بالفعل لكثير منهم دون أن يعتبروها عرفانيةً أو يسمّوها بذلك.

ويتضمّن الفصل الخامس مواضيع حول ماهية التجربة العرفانية في المناخ التاريخي للأديان التوحيدية، ولم تقتصر هذه الدراسات على تمحيص التعاريف النظرية، بل شملت دراسة حالات العرفاء البارزين أيضاً، وهيأت الظرف للخروج بقاسم مشترك من التجارب العرفانية في الأديان الشرقية والغربية.

وبعد تناولٍ إجمالي للنقد التقليدي الذي تقدّم على العرفان وخاصّة العرفان الديني، ركّز المؤلّف على مسألتين:

المسألة الأولى، إنّ التجارب العرفانية وإن عدّت عامل جمعٍ وتوحيد بين الأديان، لكنّها اشتملت على فضاءات أوسع من الفضاء الإيماني المعهود؛ فهي تشمل ـ من جهة ـ الأديان اللامتجانسة الشرقية والغربية، كما تستوعب ـ من جهة أخرى ـ حالاتٍ لا تنسجم مع أيّ صنف من التدين الشرقي والغربي.

المسألة الثانية: على الرغم من أنّ العرفان المقنّن المنسجم مع الأديان التوحيدية أصبح متناغماً مع الأنظمة الكلامية المنغلقة، لكنّ عامّة المتدينين الملتزمين مازالوا متعاطفين معه.

أمّا التقييم النهائي الذي توصّل إليه الكاتب للتجربة العرفانية، في حدود ما يرتبط بأبحاث الكتاب، فهو أنّ التجربة العرفانية، بناءً على التعريف المختار، تتعالى عن التفسير العقلاني والنقاشات الاستدلالية، وهي ـ على حد تعبير فتغنشتينـ من المجالات التي يجب السكوت عنها، وللدليل المذكور عينه، من الأفضل لنا البحث عن خلفيات تحقّقها، بدل البحث عن ذاتها وآلياتها الداخلية، أي الخلفيات الأكثر سعةً من دائرة التديّن الرسمي أو حتى التجارب العرفانية المشروطة بدينٍ من الأديان المعروفة.

وقد اختصّ كلّ من الفصل السادس والسابع والثامن بدراسة ظروف تحقّق التجارب العرفانية في كلّ من الهندوسية والبوذية والطاويّة حسب الترتيب، كما تناولت هذه الفصول ـ بالدراسة والتحليل ـ إمكان تحقّق التجارب الروحية دون الاعتقاد بالربّ، وغير المعتمدة على الأنظمة اللاهوتيّة في الديانات الشرقية، وفيما يحجر الربّ في عرفان الأديان الإلهية لصالح ألوهية مبهمة غير محدّدة، يرى الفرد الذي يتمتع بالتجربة العرفانية ـ في الأديان الهندية ـ نفسه متحرراً من مخالب الأوهام (في الفيدا والفيدانت) لحظة الانجذاب الروحي، أو يفقد جميع ذاتيته (في ترافادا البوذية)، وتحقق الوحدة مع الطبيعة في الطاوية، أرضيّة متمايزة عن الانجذاب والفناء الذي يعدّ جوهر التجربة العرفانية.

وتدنو التجربة العرفانية الصينية خطوةً من الروحانية العلمانية، فهي لا تترقّب حصول أيّ مكاشفة روحية أو تجلّ عرفاني أبعد مما يحدث في الطبيعة عادةً، وفي تعاليم الكنفوشيوسية، نرى بوضوح نفي mالعالم الآخرn لصالح العلاقات الإنسانية الحاضرة، وكذلك استبعاد mتربية الروحn لصالح الاهتمام بحوائج الإنسان النفسية والعقلية.

وقد خصّص الفصل التاسع من الكتاب لاختبار فكرة التجربة الدينية والروحية دون ربّ في مجالات الفنّ والطبيعة والعلاقات الإنسانية، وتسير بحوث الكتاب في هذا الفصل على منهج الدراسات التاريخانية لأي.إن. ويلسن، والجمالية والفلسفية لدون كيوبيت، كما تبحث عن الابداعات الفنية والبيئية والعلاقات الروحية الدنيوية المنتمية لهذا العالم في الوقت عينه، وقد سمّى الكاتب هذا الفصل mالدين الناسوتيn أو الدين اللامقدّس، مؤكّداً على خصوصية الظواهر الفنية أو المواقف الفنية في قدرتها ـ على حد تعبير تنيسون ـ على أ، تجتاز بالإنسان حدودَ الزمان والمكان، وتوفّر هذه الخصوصية في الفنّ استعداداً روحيّاً لخوض تجربة عرفانية، ويعتقد الكاتب أنّ هذه الميزة نفسها موجودة في النظرة العرفانية، لاسيما في العرفان الشرقي، وهي تؤدّي إلى أن يرى الفرد طبيعته الباطنية متّحدةً مع الطبيعة الخارجية في حالات الانجذاب والفناء خارج إطار الزمان والمكان.

لكن ليس كلّ الناس سعداء إلى درجة يمكنهم خوض تجارب عميقة مع الفنون الجميلة. كما أنّ الحياة الحديثة والصناعية لم تترك لنا مجالاً للانجذاب والتفاعل مع الطبيعة، وعلى الرغم من ذلك، مازال هناك مجال يدفع بعموميّته الكاتب للبحث فيه عن التجارب العرفانية دون الرب، وهو علاقتنا فيما بيننا.

وقد كتب الكاتب المعروف، مارتين بوبر، كتاباً تحت عنوان (Ich undDu) عام 1922م، اعتبره بيلينغتون ـ بصفته يهوديّاً وجوديّاً (Existentialist) ـ أوّل من ربط بين الإيمان بالله الغربي وعدم الإيمان بالله الشرقي، فقد فكّك بوبر بين علاقة mأنا ـ ذلكn وعلاقة mأنا ـ أنتn. ففي العلاقة الأولى، لا يؤدّي طرف النسبة مع الإنسان إلى انتماء أو مسؤولية، وهي قائمة على أساس النفع الذي يتلقاه mأناn من mذلكn، فهناك قطيعة كاملة بين طرفي العلاقة، وحسب زعم بوبر، فالرب أصبح الآن كـmذلكn بالنسبة لـ mأناn عند المتدينين، بينما ترفع علاقة mأنا ـ أنتn أيّ حواجز وموانع بين طرفي العلاقة، وتعكس وجود انسجام وتوازن داخلي، فليس في هذه العلاقة ثنائية حتى يمكن ـ على ضوئها ـ افتراض وجود فاصلةٍ ما، وخلافاً لعلاقة mأنا ـ ذلكn التي تتألّف من ثلاثة أجزاء: أنا، ذلك، ووجه العلاقة، ليس في علاقة mأنا ـ أنتn إلا العلاقة القائمة، ويعتبر بيلينغتون هذه العلاقة عين التجربة الدينية، وتصنع هذه المعادلة من العلاقات الإنسانية جسراً من الأرض نحو الأمر المتعالي، ويبحث المؤلّف عن هذه المعادلة حتى في أكثر العلاقات جسديةً ودنيويةً، أي في العلاقة الجنسية بناءً على المنحى الطاوي.

وقد بحث الفصل العاشر في علاقة الدين بالأخلاق في ظلّ مفهوم الدين بلا ربّ، حيث اعتقد الكاتب أنّ توصيف الربّ بالحسن أو السوء، أو تأليف علاقةٍ بينه وبين المحاسن والمساوئ الأخلاقية، سواءً من قريبٍ أو بعيد، يبتني على تصوّرٍ شبه إنساني له؛ فتجربة الأمر المتعالي تقع في العرفان ـ خاصّة العرفان الدنيوي (الأرضي) لمقولة: دين بلا ربّ ـ خارج إطار الحسن والسوء.

وعليه، فالأخلاق أمر ثقافي تماماً، يبتني على تراكم تجارب الحياة البشرية المشتركة، وهو مستقلّ عن الدين في الحدوث والبقاء، علماً أنّ القيم الأخلاقية التي لابدّ وأن تدور في فلك الثقافة، وتتغيّر من فترةٍ لأخرى، من الممكن أن تدخل مرةً جديدة إلى المجتمع عن طريق الإلزام الديني للمتديّنين، بعد إعادة صياغتها في إطار الأديان القائمة، وقد ينسب المتدينون، في حالةٍ كهذه، التزاماتهم الأخلاقية إلى الإلتزامات الدينية، لكن لا يمكن افتراض أنّ الأخلاق نابعة من الدين إلا إذا نظرنا إلى علاقة المؤسّسة الدينية بالثقافة والقيم الأخلاقية بشكل مقلوب.

ويدرس الكاتب في هذا الفصل النتائج التربوية والتعليمية للقراءة الأخلاقية غير المؤمنة بالله، ويوصي بأن لا يُستند في التعاليم الأخلاقية للأطفال إلى العقائد الدينية بأيّ شكلٍ من الأشكال.

أمّا الفصل الأخير الذي يحمل العنوان المألوف والشيّق mالذات الفاقدة للصورةn، فيبدأ بجملةٍ لمارتن هايدغر: أصبحنا بالنسبة للآلهة من الماضي، ولا زلنا بالنسبة mللوجودn حدث؛ فالإنسان هو نغمة الوجود التي بدأ بالترنّم بها.

يذكّر المؤلّف في هذا الفصل بمسألة موت الرب، ويعتبر أنّ الصورة الخيالية له كانت أسطورةً مفيدة للأزمنة الغابرة، كأسطورة بطليموس حول مركزية الأرض، لكنّها غير ممكنة وغير مجدية لما بعد العدميةPost – Nihilism، كما يعتقد بأنّ استحضار معاني الربّ والألوهية، بشكل لاإرادي ومبهم في أذهان أغلب الناس، دليلٌ كافٍ لتجنّب العودة إليها بعد وضع الربّ جانباً، وإن فصل نفسه بين الألوهية والرب.

من ناحية أخرى، يذكّرنا تلازم الإيمان بالرب وتقبّل بعض الوجوه التاريخية أو شبه التاريخية، كرموزٍ دينية، بأنّ هذه الفبركة الدينية ضاعفت من صعوبة الإيمان بالربّ في زمننا، لكنّ المشكلة الكبرى في هذا المخاض ما يؤدّي إليه هذا النحت للشخصيات إلى تشكيل مبدأ للاقتداء والتماثل؛ الأمر غير المبرر ولا المعقول، لا بالممكن ولا بالمقدور، كما أنّ مثل هذا المنحى التقليدي التبعي في التديّن يتنافى مع الاستقلالية الفردية والحياة الطبيعية؛ ولهذا تسلب من الفرد إمكانية الحياة الروحانية والغنية بالتجارب العرفانية الأصيلة. كما يعتبر انتقاء نصوص معينة وإضفاء صفة القداسة عليها وإعطائها منزلة الحقيقة المطلقة، وهي ميزة الأديان التاريخية القائمة، كأخذ النداء بدل المذياع نتيجة استبدالهما، كاستبدال الألوهية بالربّ.

أمّا رابع نقطة يذكّر بها المؤلّف في الفصل الختامي، فهي أنّ افتراض وجود ارتباط بين الدين والأخلاقيات، في الحقيقة، مغالطة تفتقد لأيّ استدلال، حيث يرى أنّ ليس لمصطلح الأخلاق المسيحية أيّ محتوى، ويذكر شواهد على أنّ فحوى ما يسمّى بالأخلاق المسيحية كان متوفراً في أماكن مختلفة ـ خاصة عند الشرقيين ـ منذ قرون ما قبل المسيحية، وبهذه الطريقة ينتزع المؤلّف، الدين والتجربة الدينية من الربّ، والشخصيات التاريخية وشبه التاريخية الدينية، والكتابات المقدّسة، والتعامل الأخلاقي، وكلّ الأشياء والأماكن والأزمان المقدّسة، كي يطرح مدّعاه التالي على القراء: الدين في درجاته العليا، ذات بلا صورة.

نتائج الكتاب ـــــــ

القسم الأخير من الفصل الحادي عشر، والذي يقدّم آخر ما أتى به الكتاب، يحمل عنوان mالمتديّن في عصر ما بعد الحداثةn، ويعدّ هذا القسم بمثابة خلاصة واستنتاج لما جاء في الكتاب حول رسم صورة من الحياة الدينية في عصرنا الراهن على أساس فكرة mدين بلا ربn.

يبدأ الكاتب ببيان نتائج هذه الحياة للمتديّن المتخلّي عن فكرة الربّ في عصر ما بعد الحداثة، ويمكن تلخيص الخصائص التي يذكرها كالتالي: التناغم مع المعتقد القائل بعدم إمكان اختزال عالم الوجود في البُعد المادي لما له من أبعاد متعدّدة، ويبتني هذا الأمر على تجربة شخصٍ يرى نفسه مستغرقاً ومنجذباً لأمر ما، في بعض الأحيان، وخارجاً عن أطر الزمان والمكان، وتختلف الظروف التي تساعد على الوصول إلى التجربة الروحية من شخصٍ لآخر؛ فالعمل والفراغ سيّان بالنسبة لفردٍ كهذا، فله الفرصة للتأمّل حين السكوت، وربما تكون له طرقه الخاصّة للمراقبة والوساطةMediationوحياته لا تنقضي في انتظار الحياة الآخرة، فهو يكسب معنى لحياته الفعلية، ويترك المستقبل للمستقبل. ولا يبدو نمط حياته خشناً ومنفوراً بالنسبة للآخرين، وقد ينتقد الآخرين، لكنّه يحترم تمايز قيمهم عن قيمه، فيما لا يتقبّل بعض التصرفات، لكنّه لا يهدف إلى تغيير مثالي للعالم، ولا يقدم على فعل إلا إذا اقتضت الظروف ذلك، ويترقّب دائماً النظم والتغيير الاعتيادي والطبيعي للأمور والأشياء؛ ولا يضع نفسه موضع الريادة، ولا يحضر في معبد وإن كان لا يحتقر من يفعل ذلك، كما لا يفتخر بتسميته mمتديّناًn.

ويعتقد المؤلّف أنهّ إذا أمكن تحقّق أنموذجٍ كهذا من الحياة وتعميمه، فسوف تواجه الأديان التوحيدية تحدّيات كثيرة، من أهمّها دورها في الحياة.

وآخر كلامٍ له، والذي مهّد له بطرق مختلفة خلال أحد عشر فصلاً، هو أن لا بقاء للدين منذ اليوم إلا في إطار التجربة الروحانية، التجربة التي يمكن تسميتها الوحدة مع mاللانهايةn أو الفناء فيها، والمهم أن لا نعتبر الدين ظاهرةً خارجية، بل طاقةٌ باطنية، تبهج الإنسان وتنعشه، ويمكنها التسامي به دائماً، وإلهامه أحياناً.

كتاب دين بلا ربّ، وقفات نقديّة ــــــــــ

بعد استعراضٍ مسهب واستخلاصٍ مركّز لأفكار كتاب دين بلا رب واستدلالاته، من المناسب مراجعته مراجعةً نقدية ولو باختصار.

1 ـ أحد صفات الكتاب التي قد تزعج القارئ، أسلوبه اللاذع وأحياناً استهزاؤه ببعض الطقوس والعقائد المسيحية، والمثال على ذلك ما ورد في الصفحة 138 منه، حيث يصف شغف المسيحيين الإنجيليين بالعبادات بـmالإشباع الذاتي الدينيn؛ فأمثال هذا التعبير غير اللائق، يجعل لغة الكتاب ـ خاصّةً في الفصول الجدلية ـ دفاعيةً وانحيازية. إضافةً لذلك، بعض الأحكام القاسية التي يصدرها دون تقديم أبسط دليل، تضاعف من ثقل هذه النقاشات الجدلية؛ فعلى سبيل المثال، في الصفحة 129 منه، يعتبر mالعظة على الجبلn (إنجيل متى 7: 5) تفسيراً بوذيّاً رائعاً، دون أن يقدّم أدنى دليل لذلك.

ويعدّ هذا النوع من النواقص هامشي، ولو لم يتطرّق الكاتب لأيّ منها لما نقص من استدلالات الكتاب شيء، وإتيانه بها ما أضاف شيئاً على احتجاجاته، سوى أنّه كشف عن فقدان الحيادية العلمية في بعض الفصول، وأكتفي في هذا القسم، بذكر هذا القدر من النواقص ونقاط الضعف، وأتناول في النقاط التالية أموراً تخصّ صميم الفكرة واستدلالاتها.

2 ـ أهمّ هدف للكتاب، حسب ادعاء المؤلّف، فتح أبواب التجربة الدينية لأكبر عددٍ ممكن من الناس، عبر تخليصها وتنقيتها من الربّ والدين واللاهوت، ويبدو أنّ أهم توقّع يحصل عند كلّ قارئ مهتمّ، هو توصيف التجربة الدينية التي يدعو الكاتب لها وتعريفها، أو على أقلّ التقادير، تحديد مراده منها بشكل دقيق، لكنّه لا يجد تلبيةً لتوقّعاته؛ فلا نجد في الكتاب كلّه شيئاً عن كيفية التجربة الدينية أو العرفانية التي يدعو لها، أو عن خصائصها وعلاماتها، سوى توصيفات في غاية الإبهام، خالية من أيّ إبداع، كـmالتجربة أمر إلهيn أو mالفناء في اللانهايةn ممّا لا يتعدّى شرح الأسماء أو استبدال إبهامٍ بآخر.

وتتضاعف هذه الإبهامات مع ضمّ بعض التناقضات إليها في مجال ظروف تحقّق التجربة الدينية؛ فمثلاً، حين يريد تعميم دائرة إمكان الاستمتاع بالتجربة الدينية لجميع الناس، في آخر الصفحة السادسة من الكتاب، يعدّ هذه التجربة غير متوقفة وحتى غير مرتبطة بالأمور الفوطبيعية، بينما يعتبر الفرد المتديّن في عصر ما بعد الحداثة معتقداً ببُعد غير مادي لعالم الوجود، وذلك حين يذكر خصائصه في الصفحة 137. وهذا البُعد يقوّم حدوث التجارب العرفانية، ويؤكّد المؤلّف في الصفحة 17 على وجود عالم ما وراء الطبيعة وعدم احتياج معقوليّته إلى لاهوت رباني.

3 ـ تتجلّى في الفصل الرابع ـ خاصّةً الصفحة 33 فما بعد ـ عدم رغبة المؤلّف في الاستدلالات التي أقيمت لصالح الوحدانية، وفي الغالب يطرحها بشكل مبسّط وسطحي، ولا يراعي في طرحها جانب الأمانة العلمية، بل يتجاوز الموضوع دون أدنى إشارة إلى الجهود الجديرة بالاهتمام لبعض المتألّهين الذين تناولوا الموضوع بشكل تحليلي؛ فعلى سبيل المثال، لم يُشر نهائياً إلى الإلهيات الطبيعية Natural Theology التي طرحها سوينبرن، ودبليو.ال.كريغ، وجي.بي.مورلند التي لا تعاني بشكل عام من المشاكل النظرية التي أشار لها، كما لم يولِ اهتماماً في دراسته النقدية لعلم المعرفة المعدّل وأبرز منظّريه.

4 ـ يبدو أنّ المؤلّف وضع العناصر العرفانية المتوفّرة في النصوص والخلفيات الدينية والثقافية المختلفة إلى جانب بعضها دون مراعاة الدقّة التحليلية المفروضة؛ ثمّ قام بتكرار ادّعائه تقدّمَ التجارب العرفانية الشرقية على التجارب العرفانية الوحدانية علواً، دون تقديم أيّ دليل واضح، إضافة لذلك، يبدو أنّ الكاتب قد خلط بين العرفان الطبيعي والعرفان الوحداني بتحليل سطحي، غاضّاً النظر تماماً عن العرفان الإلهي، فيما كان بإمكانه منع هذا الاضطراب في التحليلات، لاسيما في الفصل الخامس، اعتماداً على التفكيك الثلاثي الذي ذكره لأول مرة آر. زينر في كتاب mالعرفان: لاهوتي وناسوتيn.

5 ـ يبدو أنّ بيلينغتون سعى كثيراً للخروج بقاسمٍ مشترك بين أصناف العرفان جميعها، فطرحه بصفته جوهراً للتجربة العرفانية، لكنّ افتراضات منحى كهذا تعاني من المشاكل عينها التي يعاني منها منحى mالحكمة الخالدةn والمنحى الكلاسيكي، وهي المشاكل التي تشاهد في الاعتقاد الجازم بالأحدية Monism قبل وأكثر من أيّ منحى آخر، وقد طرح دبليو. تي. استيس هذا المنحى وناقشه في معرض كلامه عن العرفان والتجربة الدينية في كتابه التقليدي mالعرفان والفلسفةn، وكذلك الدوس هاكسلي في الحكمة المتعالية.

6 ـ من جملة المشاكل التي نشاهدها في الكتاب غفلة الكاتب عن الكتب التي قدّمت استدلالات فلسفية لصالح التجارب الدينية المؤمنة بالله، وذلك لتغاضيه عن العناصر الدينية والثقافية للتجارب الدينية؛ فعلى سبيل المثال، تجاوز الكاتب أفكار وليام الستون وكيت يندل دون إبداء أيّ اهتمامٍ بها.

7 ـ كحكمٍ ختامي على الكتاب بمجموعه، علينا القول: إنّ الكتاب ـ ومن خلال مجموعة المقدّمات التي ضمّها إلى بعضها ـ قلّما قدّم نقطة إبداعية، إضافة إلى أنّ بعض هذه المقدّمات لا تتمتع بالانسجام فيما بينها، والأهمّ منها، لا يبدو أن النتيجة النهائية ـ أي أنّ الدين خالٍ من الربّ والكتاب المقدّس والأسوة والأخلاق وحتى هموم الصدق والحقيقة ـ ناتجة عن تلك المقدمات وتركيبتها الاستدلالية، كما لا يمكنه أن يتمتّع بقيمة معرفية أكثر من كتب كيوبيت وكرن ارمسترونغ التي أشرنا لها سالفاً، وعلى الرغم من ذلك، يمكن لهذا الكتاب أن يكون عنصراً مفيداً في أيّ مكتبة مختصّة فيما يتعلّق بالدين والتجربة الدينية وفلسفة الدين، فهو يمثل منحى مهتمّاً بالعرفان، لاسيما في التراث الشرقي بعيداً عن الإيمان بالربّ.

*   *     *

الهوامش

(*) باحث متابع في الشأن الثقافي.

[1] ـــ هذا المقال مراجعة ونقد للكتاب التالي: Ray Billington, Religion Without God, Routledge, 2002.

[2] ـــ نشرت دار نشر مركز، ترجمة فارسية له تحت عنوان mمعرفة الله منذ إبراهيم إلى اليومn.

[3] ـــ ترجمه للفارسية حسن كامشاد، ونشرته انتشارت طرح نو عام 1999م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً