أحدث المقالات

استفسارات في التأييد والرفض

أ. رضا عليجاني(*)

ترجمة: علي الوردي

تمهيد ـــــ

تقتضي صلتنا المتدافعة ـ المتجاذبة بالتاريخ تطلعاً وانفتاحاً نحو التراث، كما تتطلب منا قدراً من الجرأة، يسمح لنا ويمكننا من القراءة الفاحصة والنقدية لموروثـنا الإنساني والإسلامي.

وقد تكون أفضل فرصة لهذا الانفتاح والجرأة هي في التعاطي مع موروث الباحث الاجتماعي الشهير الدكتور علي شريعتي. فقد أثارت مؤخَّراً نظريته حول «الأمة والإمامة» اهتماماً واسعاً شمل مؤيدي شريعتي ومنتقديه في الوقت ذاته.

ومن طبيعة هذه النظرية ـ الأمة والإمامة ـ أنها تتسم بالمرونة عند التعاطي معها، الأمر الذي يجعلنا قادرين على إخضاعها للدراسة والمراجعة والنقد والتمحيص، وحتى الاستفادة منها.

وقد شكل هذا الأمر منطلقاً لنا لمراجعة النظرية من خلال أربعة استفسارات محورية، قد تكون مثاراً لكلٍّ من مؤيِّدي شريعتي ومنتقديه.

لماذا لم يبحث شريعتي نظرية الأمة والإمامة بحثاً اجتماعياً؟ ــــــ

لماذا اقتصر شريعتي في طرحه لنظرية «الأمة والإمامة» على البعد الإسلامي لها، أي إنه أطَّرها في إطار إسلامي خالص لم يُخرجها منه؟ في حين أنه نوَّه مرات عديدة إلى أن كافة آرائه وأفكاره لابد من قراءتها من زوايا: إسلامية؛ واجتماعية، في الوقت نفسه.

لقد استخدم شريعتي في إحدى المرات مفردة (السياسي)، بدلاً من مفردة (الاجتماعي)، لكنه فيما بعد، ونظراً للظروف التي كانت تحيط به، ارتأى أن يستخدم كلمة أقل تأثيراً، كـ (الاجتماعي)، بدلاً من (السياسي)، وذلك عند وصفه البحوث بأنها تنقسم إلى: سياسية، واجتماعية؛ و…

إذاً نستكشف أن الاجتماعي لدى شريعتي هو السياسي. فما هو الحل؟ ومن أين نبدأ؟ من هو المفكِّر؟ وما هي مهمته؟ و… مع هذه المجموعة من نظريات شريعتي السياسية، المقولبة بقوالب اجتماعية.

إذاً فالسؤال الأول هو: إذا كانت مسألة الأمة والإمامة تشكل النظرية السياسية لدى شريعتي فلماذا لم يتناولها في بحوثه الاجتماعية، ولو لمرة واحدة على الأقل؟

لقد اتسم شريعتي بمراجعته وقراءته الجديدة لكثير من المفردات الإسلامية، كالأمر بالمعروف، والجهاد، والحج، والشهادة، و… وقد تناول هذه المفردات في بحوثه الإسلامية، كما تناولها في بحوثه الاجتماعية أيضاً؛ وذلك بغية إخراجها من حيِّز النظرية إلى حيِّز التطبيق، وإنزالها إلى مستوى الممارسة.

لكن لماذا لم يتعامل مع نظرية الأمة والإمامة على نفس الشاكلة؟

هذا هو السؤال الأول الذي ربما يجدر بنا أن نوجِّهه ـ أولاً ـ إلى منتقدي شريعتي؛ لنستكشف طبيعة (الأمة والإمامة)، ومكانتها لدى شريعتي، كي لا يحاولوا إخراجها عن طبيعتها، وينزّلوها منزلة النظرية السياسية له؛ وذلك لأن شريعتي في واقعه لم يكن معارضاً لفكرة الإتمام بشخص ما وحسب، وإنما كان كثيراً ما يقول لتلامذته بأنكم تتمتعون بنعمتين كبيرتين: إحداها: غياب القائد والإمام من بينكم([1])، إذاً من كان هذا رأيه لا يعقل أنه يريد أن يضع لنا، من خلال أطروحة الأمة والإمامة، إستراتيجية في كيفية البحث عن الإمام واتباعه من غير ردّ أو اعتراض.

لماذا طرح شريعتي نظرية الأمة والإمامة؟ ــــــ

قسّم الكثيرون ممَّنْ حاول دراسة حياة وأعمال وأفكار الدكتور شريعتي حياته الثقافية والفكرية، بعد عودته من أوروبا، إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: امتدت بين السنوات 45 و 48، وهي فترة وجوده في مدينة مشهد؛ والمرحلة الثانية: بدأت من 48 وحتى 51، وهي فترة ارتياده المنبر في حسينية إرشاد في طهران، والتي تعتبر فترة وصوله القمة؛ والمرحلة الثالثة: وقد بدأت من 51 وحتى وفاته، وهي الفترة التي أعقبت خروجه من السجن.

وقد أمضى شريعتي 18 شهراً في السجن الانفرادي. وفي هذه المدة حاول مراجعة أفكاره وتقييمها. وبذلك تكون المرحلة الثالثة من حياته مرحلة تبلور وتكامل أبرز نظريات وأفكار الدكتور علي شريعتي.

لكن مع ذلك فقد طرح نظريته الموسومة بالأمة والإمامة في المرحلة الثانية من حياته، وليس في المرحلة الأولى، أو الثالثة.

وهناك اختلاف جوهري في الفكر الإسلامي لدى شريعتي. وهذا الاختلاف هو بين مرحلتي وجوده في مشهد ووجوده في طهران. ومرجع هذا الاختلاف إلى الأحداث التي وقعت خلف الستار، والتي نسيها جيلنا ـ وللأسف ـ بالرغم من معاصرته لها، وغابت عن الجيل الحاضر؛ لكونه لم يشهدها.

ومن خلال إطلالة نقوم بها على الأحداث التي وقعت خلف الستار آنذاك يمكننا التعرُّف على دوافع شريعتي من تأسيس وطرح نظريته «الأمة والإمامة». فهل كان دافعه طرح نظرية سياسية لإخراج إيران من الأجواء السياسية المتأزِّمة والمشحونة في ذلك الوقت، وبالتالي إيجاد حالة من التحوُّل والتغيير في إيران أم أن المسألة كانت شيئاً آخر؟

انتقال شريعتي من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة الشيعية ــــــ

لقد كانت النظرة التي يحملها شريعتي عن التشيُّع، عندما كان في مشهد، نظرة برّانية، وليست جوّانية، أي إنه كان ينظر إلى المذهب الشيعي من خارج دائرته. فكانت رؤيته (البرانية)  ـ في الأعوام 45 وحتى 48 ـ «رؤية بعيدة عن الطائفية».

وفي تلك الفترة كان الانطباع الذي يحمله عن التشيع يتلخص بأنه «ملتقى الروح السامية والآرية». وكان هذا عنوان أحد مقالاته التي نشرت آنذاك.

والملفت في تلك الفترة أيضاً أنه اهتم اهتماماً بالغاً بشخصية الإمام علي، الذي وصفه بأنه إنسان متعدِّد الأبعاد والجوانب.

وقد ذكر شريعتي في مقدمة كتابه «إسلام شناسي مشهد» «أن معرفة الإسلام هي مقدمة ضرورية لمعرفة التاريخ الإيراني». وكما هو واضح فإنه يشير إلى معرفة الإسلام، وليس معرفة التشيع.

فعندما يستعرض حادثة الغدير في كتابه المذكور يتعاطى معها كباحث تاريخي، من غير تركيز أو اهتمام بها، معتمداً في ذلك على مصادر غير شيعية.

وقد أثارت هذه الفقرة من الكتاب غضب الجمهور الذي قرأ الكتاب؛ وذلك أن شريعتي عندما أفرد فصلاً للحديث عن وفاة النبي أشار إلى أن النبي عندما كان مريضاً، وقدم إلى المسجد، ورأى المسلمين يأتمّون بأبي بكر، ابتسم فرحاً، وائتم به معهم.

وبهذه القصة أثار شريعتي طائفة من القرّاء، وأوجد لديهم ردود فعل سلبية ربما كان في غنى عنها.

لكنه قام فيما بعد بنشر كتاب «محمد خاتم النبيين» في حسينية إرشاد. وتضمن الكتاب مقالين له، حمل أحدهما عنوان (من الهجرة إلى الوفاة).

وكان (من الهجرة إلى الوفاة) خلاصة لمقاله السابق، الذي أثار صخب الجمهور، والذي ورد في كتابه ((إسلام شناسي مشهد)).

وعندما تحدث في هذا المقال عن قدوم النبي إلى المسجد اكتفى بذكر تبسُّمه عندما شاهد المسلمين، واستثنى ذيل الرواية الذي يشير إلى ائتمام النبي بأبي بكر.

ونظراً لاتساع رقعة انتشار الكتاب، ووجود (حسينية إرشاد) في طهران العاصمة، وتصاعد الخلافات الداخلية، والحساسية المفرطة لرجال الدين تجاه الحسينية، وتجاه شريعتي في الوقت ذاته الذي بدأ يثير فضولهم بشكل عجيب، نظراً لكل تلك الأمور المتراكمة ظهرت بوادر حملة شعواء من رجال الدين، ممَّن كان يعرف بالولائيين، ضدّ شريعتي ونشاطاته.

وعرف هؤلاء بالولائيين؛ بسبب موالاتهم أئمة الشيعة الاثني عشر. وكان شريعتي متهماً من قبلهم بالإساءة للطائفة الشيعية وأئمتها.

وكان من بين الولائيين كلٌّ من: السيد مرتضى العسكري؛ والسيد مرتضى الجزائري، والسيد علي الطهراني، والشيخ حسين اللنكراني، والشيخ قاسم إسلامي، وعلي الأنصاري، وعبد الله جعفري، وحسين روشني، وإبراهيم الأنصاري الزنجاني، وعطائي خراساني.

وقد أدت الضغوط التي مارسها هؤلاء على الحسينية ـ التي كان يتخذها شريعتي منبراً لطرح أفكاره ـ إلى قيام المسؤولين عن الحسينية بإعداد ندوة لمناقشة إثارات شريعتي، وذلك بتاريخ 23/9/1350هـ ش. وفي ذلك الحين لم يكن شريعتي قد أعار الموضوع أهمية، لكنّ الأمر بدا مختلفاً بعد إعداد المسؤولين للندوة. وبدأ شريعتي شيئاً فشيئاً يلتفت للخطر المحدق بمشاريعه الفكرية، والذي بدأ يهدِّد حياته بشكل مباشر.

لقد كانت أبرز النقود التي يوجِّهها شريعتي لمتبنيات كسروي هي تشتُّتها وضياعها، وتحولها إلى هامشية؛ وذلك لعدم أخذه بنظر الاعتبار التنافر والتناشز الاجتماعي المحيط به.

إذاً كان شريعتي يحذر من أن يتحوَّل بما يحمله من مشاريع وأطروحات إلى شخص هامشي وعديم التأثير، على غرار ما كان عليه كسروي بنظره. وقد عكس ذلك بوضوح أثناء سفره إلى الحج، وعندما كان يحاضر في مجاميع الحجّاج.

وكانت مجاميع الحجّاج تتألف من العامة، ممَّنْ لا شأن لهم بالفكر، ولا بالثقافة. كما تتألف من ذوي الاهتمامات الفكرية والثقافية، والمتابعين لما كان يحدث في حسينية إرشاد في طهران.

وقد أشار شريعتي خلال محاضراته في مجاميع الحجّاج إلى محاور اختلاف الشيعة والسنة، والآراء التي تميِّز إحدى الطائفتين عن الأخرى. وكان من جملة ما قاله: إننا غير ملزمين بالتمسُّك بمعتقدات أحد الطرفين، وتجاهل كل ما لدى الطرف الآخر، وإنما نحن ملزمون فقط وفقط بالبحث عن واقع الأمر وحقيقته..؛‌ وذلك لأن مسألة المذهب وما نحمل من معتقدات تعتبر من الأمور الحساسة للغاية، وبمجرد ظهور اللبس أو سوء الفهم فيها فستكون التبعات جسيمة بكلّ ما للكلمة من معنى. إذاً فلابدّ من تجاهل الكثير من الأمور، وعدم الإصرار عليها، وفي المقابل لابدّ من الأخذ بالأمور المتَّفق عليها، والتي تعرفونها جيداً([2]).

ويقول شريعتي في الفقرة الأخيرة من كلامه: إنني أنطلق من الأمور المعروفة لديكم، والممضاة عندكم.

ومن هذه النقطة انعطف شريعتي باتجاه مرحلة جديدة، وهي التي وصفناها سابقاً بالمرحلة الثانية من حياته.

والمرحلة الثانية هي المرحلة التي بدأ فيها شريعتي ينظر إلى الشيعة من الداخل، وينطلق في تقييمه من صميم التشيُّع.

وقد اعتبر أن الطائفة الشيعية هي طائفة المناضلين والمعارضين والمناهضين للخلافة. أما نظرية الإمامة والعدل فهي انعكاس لروح المعارضة والمقاومة.

إذاً يحاول شريعتي في هذه المرحلة جرّ موضوعة «النزاع المذهبي» إلى الداخل الشيعي. وقد تجسد ذلك في كتابه الذي أصدره فيما بعد تحت عنوان «التشيع العلوي والتشيع الصفوي».

وهكذا بعدما كان شريعتي يناقش المسألة على مستوى الإسلام، وعلى مستوى الحضارة والثقافة الإسلامية، بدأ الآن يقحمها في صميم الثقافة والتاريخ الشيعي، لينتهي به المطاف جاعلاً الإمامة والعدل والشفاعة والتربة الحسينية و… أحد طرفي النزاع المذهبي الشيعي ـ الشيعي.

لكن الأهم من ذلك هنا، والذي ربما يكون مادة سؤالنا الثالث، هو الانطباع والرؤية التي يحملها شريعتي إزاء النظريات الشيعية التقليدية، وبالتحديد موضوعي: التنصيب؛ والنص.

والجدير ذكره أن هذه المسألة، مضافاً إلى رؤية شريعتي التي ذكرناها، لم تَنَلْ حظاً كافياً من البحث والدراسة حتى هذه اللحظة.

والساحة الوحيدة التي تناولت موضوعي التنصيب والنص هي ساحة الفكر الديني. وقد حدث ذلك في نهاية العقد الأربعين، بحسب التاريخ الشمسي.

وكان الرائد في تناول هذه الموضوعات هو الدكتور شريعتي، الذي لم يسبقه أو يلحقه إلى دراستها أحد.

خلف ستائر نظرية الأمة والإمامة ــــــ

نحاول هنا عرض الموجود خلف ستائر نظرية الأمة والإمامة؛ كي نقف على الدواعي والأسباب التي أدت إلى نشوء هذه النظرية، والعوامل التي ساهمت في تطوُّرها.

إن جزءاً من هذه الأسباب يعود إلى الكتاب المثير للجدل «إسلام شناسي مشهد»، الذي ضمَّنه شريعتي فقرات مثيرة، كابتسامة النبي، وصلاته خلف أبي بكر، وما رافق ذلك من الضجة التي أثارها الولائيون، والتي انتهت إلى إحساس شريعتي بالخطر الذي بدأ يهدِّده من ناحية حسينية إرشاد وما حولها.

وبطبيعة الحال لم يكن خوف شريعتي على نفسه، وإنما على مشاريعه الفكرية، التي كان يحاول تكريسها في المجتمع.

وقد نشأ شريعتي في عائلة تقليدية محافظة، فلم تكن العقلية التي يحملها بمنأى عن تلك الأجواء التي عاشها. وكان منطلقه باتجاه الإصلاح ناشئاً من عقيدة يحملها. وقد أدى به صدقه واندفاعه إلى طرح كل ما عنده من شكوك وإثارات وأفكار بصورة علنية، من على المنبر، أو من خلال الكتب والمقالات.

فعندما كان يواجه في مقتبل عمره (14 عاماً) معضلة فلسفية، ولم يكن يقدر على حلها، بحيث يصل به الأمر إلى ما وصل بـ (صادق هدايت)، فإنه كان يتوجَّه إلى المسبح العميق الواقع في منطقة (كوهسنگي) في مشهد؛ لينتحر هناك. وهكذا كانت حياته رهينة أفكاره، ولم تكن أفكاره مجرد معلومات ومحفوظات تضج بها ذاكرته.

إذاً لم يكن شريعتي ليوافق على الرواية الشيعية المشهورة حول مقولَتْي: التنصيب؛ والنصّ أو الوصاية (والشورى) ـ على حد تعبيره ـ. وقد صرح بذلك في أكثر من موضع.

و من أحد هذه المواضع الدروس التي كان يلقيها في مشهد عامي  1345 و1346هـ ش، والتي نظّمها وأصدرها لاحقاً ضمن كتابه «إسلام شناسي مشهد».

ومن المواضع التي تناول فيها مقولتي الوصاية والشورى مقالة نشرت في م. آ. 28. وكانت هذه المقالة ملخَّصاً لدروس كان قد ألقاها في جامعة مشهد حول التاريخ الإسلامي عامي 46 و47هـ ش.

وكان من حسن حظه أن هذه المقالة نشرت مستنسخة، وعلى نطاق محدود، وليس على هيئة كتاب.

وقد طبت هذه المقالة على نطاق واسع، ولأول مرة، عام 1362هـ ش، أي بعد الثورة، في م. آ. 28.

ومن جملة ما ذكره شريعتي في تلك الدروس: لقد بدأت بوفاة النبي بوادر أول أزمة مستعصية في الإسلام. ولم يكن المسلمون قد اعتادوا هذا النوع من الأزمات، فلم يكن بمقدورهم إيجاد الحلول المناسبة لها، أو معرفة ما يفعلونه لتجاوزها، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الأزمة ظهرت بشكل مفاجئ وسريع. كما أنها كانت خطيرة للغاية.

فموضوع الزعامة لم يكن موضوعاً هيناً على مجتمع حديث العهد بالإسلام، تركه محمد فجأة، من دون أن يترك له نصّاً صريحاً يشير إلى خليفة محدَّد يخلف محمداً؛ ليدير شؤون البلاد، ويسوس المجتمع الإسلامي..، الذي يفتقر إلى تجربة التصرف في مثل هذه الأمور([3]).

ولابد من الإشارة إلى أن شريعتي لا ينكر واقعة الغدير، وإنما يقرّها بشكل كامل، لكن فهمه وتفسيره لها يختلف عن الفهم التقليدي السائد منذ عشرة قرون وإلى يومنا هذا.

ثم ينوه شريعتي في تتمة حديثه السابق([4]) إلى أنه ورغم ما كان بين علي وأبي بكر من الخلافات فإنها لم تمنع علياً من البيعة لأبي بكر، كما لم تمنعه من المشورة معه. ثم ينتقد جملة من مواقف أبي بكر، وخصوصاً في ما يتصل بموقفه من خالد بن الوليد، ثم يضيف قائلاً: إن من أغرب الأعمال التي قام بها أبو بكر هي تعيينه للخليفة من بعده؛ فإن شرعية خلافة عمر إنما تتأتى من تنصيب أبي بكر له… وهذه الإشكالية لا يلتفت لها الشيعة في أغلب الأحيان؛ لأنهم لا يعيرون التنصيب أهمية تذكر. إذاً فهو ـ أي أبو بكر ـ لم يكن يقرّ مبدأ الانتخابات. ومن هنا يخالف شريعتي النظرية الشيعية التقليدية السائدة حول موضوع الإمامة. لكنني أقرّ مبدأ الانتخابات وأؤمن به. وهذا هو حال كل شخص محايد، فإنه يستغرب المنطلق الذي انطلق منه أبو بكر في تعيين الخليفة بعده. فعلى أي أصل أو سنة اعتمد؟ وماذا كانت حجته في ذلك؟

نشاهد هنا بوضوح الصراحة التي يتحدث بها شريعتي. لكن الأهم منها هو ما أشار إليه في م. آ. 35 ـ أقصد مدوَّناته، التي اشتملت على جملة من تحقيقاته في المسألة، والتي كان قد أعدها كمسودة لمحاضراته ـ.

وقد بدأ شريعتي في تلك المدوَّنات بنقد الأطروحة السنّية، لكنه أتبعها بفصل كامل حمل عنوان «نقد الشيعة». وقد وجَّه فيه جملة من الاستفسارات للأطروحة الشيعية في مسألة الخلافة والتنصيب.

وننقل هنا بعضاً من تلك التساؤلات، من غير تصرف أو تعليق([5]):

إذا كان خليفة النبي السياسي معيناً من قبل الوحي فإن النبي لا يمتلك صلاحية الترديد أو التأخير أو الإبهام أو الإجمال فيه، حتى لو اشتمل ذلك على مصلحة.

إذاً لماذا بايع علي أبا بكر؟ ولماذا لم يتصدَّ الأصحاب للخليفة الأول، ولم يواجهوه؟ لماذا كان أبو بكر يتمتع بالأهلية للخلافة؟ لماذا عزل الأنصار أنفسهم في السقيفة عن عصابة أبي بكر وعمر، وانفردوا بفكرة الانتخاب؟ لماذا اختار العباس مبدأ البيعة وليس العمل بالوصية؟ لماذا اعترف علي بالجهاز الحاكم عند إعانة الخلفاء ومؤازرتهم في بعض المواقف؟ فإن الاعتراف بالنظام أو الجهاز الحاكم يختلف اختلافاً كلياً عن الاعتراف بالحاكم نفسه. لماذا شارك علي في الشورى التي عقدها عمر، وأبدى رأيه فيها، وانتخب؟ لماذا دافع عليٌّ بنفسه عن عثمان عند قيام الثورة ضده؟ لماذا رشح علي نفسه بعد مقتل عثمان؟ لماذا لجأ علي إلى طلب البيعة للحسن، وليس إلى الوصاية أو التنصيب؟ لماذا لا نجد ذكراً للغدير الذي يشكل أبرز معالم التنصيب والوصاية لدى الشيعة، لماذا لا نجد له ذكراً في نهج البلاغة، الذي جمعه ودوَّنه السيد الرضي، العالم الشيعي الكبير؟ وبصدد نقده للخلفاء وتوبيخه العامة، لماذا لجأ علي إلى الكفاءة والمؤهِّلات، بدلاً من مبدأ الوصاية والتنصيب؟ لماذا اعتبر علي نفسه الخليفة المباشر بعد النبي، والمنصّب من قبله، ولم يعتبر نفسه الوصي الإلهي، واعتبر الخلفاء غاصبين ومتجاوزين على حق الغير، لكن غير مخالفين للوصاية الإلهية؟ لماذا كان علي يقتدي في الصلاة بالخلفاء الموسومين بغصب الخلافة الإلهية، ونقض النص القرآني الكريم، ونقض السنة، وبالتالي الكفر والخروج عن الملة؟ لماذا اعتبر علي نفسه، خلال 25 عاماً من دولة الخلفاء، شخصاً عادياً يستحق الحكم، لكنه ليس الحاكم، ولم نجدْه يدَّعي أنه الحاكم الرسمي، من دون ممارسة الحكم في الظاهر؟

إذاً هذه الإشكاليات التي يطرحها شريعتي إنما تعكس بوضوح وجهة نظره الشخصية، وتعبّر عمّا يكمن خلف ستار (نظرية الأمة والإمامة)، التي ستعرض على قاعة المسرح فيما بعد.

كيف جمع شريعتي بين رفض الرواية الشيعية وبين نظرية الأمة والإمامة؟ ــــــ

نظراً لما مر بنا فإن السؤال الثالث يمكن طرحه على النحو التالي: إذا كان شريعتي لا يقرّ الرواية الشيعية التقليدية لمسألة التنصيب والوصاية فكيف أسس نظريته «الأمة والإمامة»، ومن ثم حاول تبرير مصادرة حقّ الأمة في الانتخاب، والذي يعني تولي الخلفاء زعامة المسلمين من دون انتخابات؟ وإذا كانت رؤية المرء لأصل وقوع الحادثة مختلفةً اختلافاً جوهرياً عن الرؤية السائدة فما الذي يدعوه للبحث عن مثل هذه المبرِّرات؟

لكن شريعتي غير موجود الآن ليجيبنا عن هذا السؤال، إلاّ أنه ربما يكون بمقدور أصدقائه ومؤيديه، وحتى منتقديه، تولي الإجابة بالنيابة عنه.

لقد طرح شريعتي بحث الأمة والإمامة ثلاث مرات. وكانت هذه المرات الثلاث جميعها في عام 48هـ ش.

وقد جاء في مطلع البحث الذي كتبه حول الأمة والإمامة: «المقدمة: الإصلاح يمهد للنهضة»([6]). ويبين معنى قوله هذا بأن الذين حاولوا التفسير بصورة حداثوية بدأوا من النهضة، في حين كان الأجدر بهم البدء من الإصلاح المذهبي أولاً؛ لأن الإصلاح المذهبي هو المسؤول عن تكريس النهضة في المجتمع. وهذا هو بحدّ ذاته ما نحتاجه نحن اليوم.

لكن لماذا افتتح شريعتي مقالته الأمة والإمامة بـ«الدعوة للإصلاح المذهبي»، أي إنه بدأها ببحث عملي وليس نظري؟ فهو لم يبدأ ببحث تنظيري، وإنما بدأ ببحث إستراتيجي، أعقبه بدراسة لنظرية ماكس فيبر، ومن ثم التنويه إلى أن «الواجب على كل نظام حاكم قبل كل شيء هو العمل على الإصلاح المذهبي في المجتمع»، والذي يتم عن طريق «تحرير المذهب من أغلال الاستبداد الفكري والمعنوي»([7]).

ثم يعقب شريعتي على هذه المقدمة الإستراتيجية والعملية باستعراض فكري لنظريته الأمة والإمامة. ويبدأ من هذه النقطة فيقول: لقد كنت متردِّداً في موضوعين من مواضيع التاريخ الإسلامي، بحيث لم أستطع إدراك فحواهما: الأول: هو موضوع الإمامة. فما هي الإمامة؟ وألم يكن من الأفضل أن يقوم الناس بعد رحيل النبي بممارسة عملية انتخابية متطوِّرة وديمقراطية لينتخبوا القائد؟! والثاني: هو ما يتصل بولاية العهد التي أُنيطت بالإمام الرضا.

إذاً يصرح شريعتي هنا بعدم إدراكه لفحوى الإمامة، ويفضل الخيار الانتخابي على خيار الوصاية والتنصيب، ثم يضيف قائلاً: إن ما سمعته وقرأته بهذا الصدد لا يتلاءم بأي شكل من الأشكال مع المنطق المعاصر، ولا يناسب الرؤية الاجتماعية الحديثة. كما لا يتوافق حتى مع النزعة التحررية للإنسان، ويتقاطع إلى حدٍّ كبير مع الكثير من المبادئ والقيم الإنسانية.

ويرى شريعتي أنه توصَّل إلى ما يطلق عليه «نتائج جديدة»، فيقول: ولا أدَّعي أن قولي هو الحق المطلق، وسواه باطل، بل كل ما أقول إنما هو على سبيل التنظير، الذي قد يصيب؛ وقد يخطئ. والغرض منه هو الدعوة لإعمال الفكر والتأمل لا غير([8]).

إذاً يصف شريعتي موضوع «الأمة والإمامة» بالنظرية التي يريد من خلالها الدعوة للفكر والتأمل، ولا يطرحها جازماً بصحتها، ويؤكد على أن «موضوع الأمة والإمامة لم يكن مفهوماً بالنسبة لي، ولم أكن قادراً على الإلمام به».

لكنّنا تسأل: ما الذي كان مجهولاً لدى شريعتي؟ وما هو الجانب الذي لم يكن قادراً على فهمه من مسألة الإمامة؟ وما هو الداعي الذي جعله يصرّ على عدم فهمها؟

من الممكن أن يكون الداعي الذي جعله يصرّ على ذلك هو نفسه الذي جعله يفضل مبدأ الانتخابات والديمقراطية على مبدأ التنصيب.

فعلى الراغبين باستخلاص منهج سياسي من نظرية الأمة والإمامة التي طرحها شريعتي أن يتمتعوا بالموضوعية، وبروح البحث، وأن يتعاملوا معها بقدر كبير من الإنصاف العلمي والأخلاقي.

يقول شريعتي في أحد أعماله الفكرية([9]): إذا كان التشيع هو ما يقول به هؤلاء فأنا لست فقط غير معتقد به، وإنما أجد من واجبي الشرعي، ومن منطلق محبتي للعترة الطاهرة، أن أتصدى له، وأقف في وجهه([10]).

ويضيف: إني أحاول جاهداً أن  أتجنب تكرار المكررات، وأنأى بنفسي عن الجمود، واتباع طريقة السلف في الحكم على المسائل وعلى الآخرين؛ لأن المسائل والوقائع التاريخية التي وصلتنا قد هيمن عليها الطابع المذهبي والطائفي، كما تعرضت لكثير من التشويه، الذي كان سببه المصالح السياسية والطبقية، الأمر الذي أضاف عبئاً كبيراً على الباحث العلمي، وجعل البحث والتنقيب في المسائل التاريخية يبدو عسيراً ومضنياً إلى حدٍّ كبير.

والجدير ذكره أنه ليس من السهل على مفكري الشيعة وباحثيهم قبول هذه المعتقدات والأحكام التي ضجّ بها التاريخ والإقرار بها، على الرغم من أن بعضهم يؤمن بها إيماناً تعبدياً محضاً، ويتعاطى معها بصورة عمياء، لا يجرؤ معها على فتح عينيه ليشاهدها على حقيقتها؛ والسبب في ذلك هو خوفه من نفيها. كما أن قسماً منهم يشكّكون في صحتها، ويتعاطون معها على أنها مسائل غير استدلالية، أي لا يمكن إقامة الدليل عليها؛ لكونها خارجة عن نطاق الاستدلال أصلاً([11]).

إن شريعتي يتمتع بشفافية كبيرة دعته لذكر كل خصوصياته الفكرية والعائلية والروحية والمعنوية، وحتى النفسية، وذلك في كتابه الموسوم بـ «الكويريات».

ومن النادر أن نجد شخصاً في تاريخنا المعاصر يفصح عن مكنوناته وخصوصياته كما أفصح عنها شريعتي.

وقد قال تتميماً لما تقدم قبل قليل: ولكني؛ إذ لم أكن قادراً على تجاوز عليّ وطريقته، لم أكن في الوقت ذاته قادراً على تقبل نظام الحكم السلفي التقليدي، وتقديمه على حكم الأكثرية([12]).

فهو في الحقيقة يقول: إنني لم أكن قادراً على تجاوز الديمقراطية، كما لم أكن قادراً على تجاوز عليّ في نفس الوقت.

وهذا بالتحديد هو ما كان يختلج في نفسه وفي ذهنه. وقد نشأت «نظرية» الأمة والإمامة ضمن هذه الأجواء التي كان يعيشها شريعتي.

يقول: «ليس الإمام بالتنصيب أو الوراثة… كما ليس بالترشيح»([13]). وكان ذلك رداً على ما اشتهر في ذلك الوقت على لسان كلٍّ من المهندس بازرگان والأستاذ محمد تقي شريعتي. فقد كان الدكتور علي شريعتي في البدء تلميذاً لهذين العلمين، وقد أخذ عنهما تلك النظرية.

وبغية تطبيق النظرية على الديمقراطية كانا ـ أي بازرگان ومحمد تقي شريعتي ـ يعتقدان بأن تنصيب الإمام هو نوع من أنواع الترشيح. فمن حق أيّ شخص أن يطرح مرشَّحه. والنبي بدوره طرح مرشَّحه. وبهذه الصورة فسَّروا مسألة الإمامة.

لكن شريعتي وجد بأن هذا ليس ترشيحاً؛ لأن الترشيح يعني أن أقوم أنا بترشيح شخص من الأشخاص، ثم يكون لك الحق أن تمنحه رأيك، في الوقت الذي يكون بإمكانك منح رأيك للآخرين أيضاً. ويوافقني العديد من المفكِّرين والباحثين في هذا الرأي. وأنا شخصياً كنت أعتقد خلاف ذلك في بادئ الأمر، لكني وجدت فيما بعد أن ذلك لا يمكن تقبُّله؛ لعدم انسجامه مع المفاهيم المعاصرة([14]).

يؤكد شريعتي هنا على أن موضوع الوصاية لا يمكن اعتباره نوعاً من أنواع الترشيح، الذي هو من المفاهيم والمصطلحات المعاصرة.

ومن هنا بالضبط يتبلور سؤالنا الرابع الموجَّه لشريعتي، وهو: لماذا ينتهي المطاف بشريعتي إلى اعتبار الإمامة نوعاً من أنواع الترشيح، بعدما كان يرفضه، كما لاحظنا ذلك؟

لماذا بحث شريعتي الإمامة بحثاً معاصراً؟ـــــــ

بعدما كان يعتبر الإمامة عنصراً منهجياً تصدى للبحث فيه في ما مضى، لماذا أصبح شريعتي اليوم يبحثها بحثاً معاصراً، ويقرؤها ضمن المفردات المعاصرة؟

يظهر أن شريعتي قد وصل هنا إلى مفترق طرق. وبرأيي فإن مشروعه تغلَّب على طبيعته وأسلوبه السائد في التفكير، مما أدى إلى قيامه بمراجعة موضوع الأمة والإمامة مراجعةً تختلف عما هي عليه في مواضيع أخرى، كـ «الانتظار مذهب المعارضة».

لكن كل ذلك، وكل ما عرضنا له من أعمال شريعتي، إنما يمثل جانباً نظرياً بحتاً، وليس تطبيقياً أو (سياسياً). ويبقى «فقط» في إطار التنظير لـ (نظرية مقترحة غير مقطوع بصحتها).

ومن هنا يمكننا توجيه الدعوة لمنتقدي شريعتي؛ بغية دراسة «نظرية الأمة والإمامة»، لكن بكل موضوعية وإنصاف علمي وبحثي؛ لأنه من الظلم أن يمر المرء على آراء شريعتي مرور الكرام، من غير أن يقف ويتمعَّن فيها، ثم يدعي في النهاية بأن الحل الذي اقترحه شريعتي للمجتمع الإيراني يأتي عبر نظرية الأمة والإمامة.

فلشريعتي آراء وأفكار كثيرة، تعكس فلسفته ونظرياته ومبادئه السياسية أيضاً. لكن الأمر هنا يختلف؛ إذ إنه بصدد التمييز بين الديمقراطية من جهة وبين النظرية الرسمية للشيعة الإمامية من جهة أخرى. وكما يصرح هو بذلك فيقول: إنّي لا أريد أن أَدَعَ أو أُقْصي حكم الأكثرية، كما لا أريد في الوقت نفسه أن أَدَعَ علياً وأصحابه.

ومرادنا من السؤال الرابع الذي طرحناه هو ما الذي أدى بشريعتي أثناء استعراضه لنظرية الأمة والإمامة إلى ربطها بالديمقراطية الحديثة، بينما كان معروفاً عنه رفضه لمبدأ الانتخابات؛ وذلك أنه لا يريد قراءة الماضي بمفردات الحاضر؟

وبالإضافة لذلك فإن الديمقراطية في الفترة التي شهدت تبلور نظرية الأمة والإمامة كانت مفهومةً بطريقة مختلفة عما هي عليه الآن. إذاً كيف ربط شريعتي بين الأمة والإمامة وبين الديمقراطية الحديثة؟

وعلى أية حال يبدو أن شريعتي مرّ هنا بنقطة تحوُّل، دفعته للقيام بالتوفيق، وربما بإيجاد مخرج للتناقض الذي يراه قائماً بين الإمامة والديمقراطية.

يقول شريعتي في أحد المواضع: إنني كنت متردِّداً في مسألة الإمامة، ولم تكن هذه المسألة مفهومة بالنسبة لي، بل إن مبدأ الانتخاب الذي أقرّ به السنّة كان ـ برأيي ـ أكثر تطوراً من الإمامة لدى الشيعة.

ثم يقول لاحقاً، وفي موضع آخر: إنّ كلتا النظريتين تعكس الحق، وتتفق مع الحقيقة. فنظرية الانتخابات تتفق مع الحق والحقيقة بصورة دائمة، بينما تتفق نظرية الوصاية مع الحق والحقيقة بصورة مؤقَّتة.

كما يذكر شريعتي في مقالته «الأمة والإمامة» بأن مبدأ الإمامة مؤقَّت ومرحليّ، بينما مبدأ الديمقراطية يتَّسم بالدوام والاستمرار.

إذاً فهو يمنح الأصالة للديمقراطية مرة أخرى.

ومن هنا تأتي مؤاخذتنا له، فإنها تتصل بمحاولته تحديث مبدأ الإمامة، وجعله مبدأ عصرياً، وتبريره تلك المحاولة.

ويدافع شريعتي عن الحل الذي ابتدعه لرفع التناقض بين مبدأي  الإمامة والديمقراطية. لكنه أخفق في دفاعه. والمشكلة أن دفاعه الفاشل هذا قد أسيء فهمه أيضاً، وخصوصاً من قبل نقّاده، الذين أصروا على جعل نظرية الأمة والإمامة تعبّر عن الفلسفة السياسية لشريعتي، في حين أنه لم يكن بصدد عرض فلسفته السياسية على الإطلاق.

ومن ناحية كونه شخصاً فكرياً ـ سياسياً معاصراً فقد تأثَّر بنظرية الديمقراطية المرشدة، التي تعرّف عليها بصورة مفاجئة، بعدما طرحت في مؤتمر دول عدم الانحياز في باندونغ.

فبعد الحرب العالمية الثانية نالت حوالي 60 دولة استقلالها، وكان أغلبها من الدول الإفريقية، التي تتألف من المجتمعات القبلية المتخلِّفة.

فقد استقلت معظم هذه الدول بشكل مفاجئ، في الوقت الذي شهد عدد منها ثورات قامت بها نخب وأقليات.

وعلى أية حال فإن أهم ما تناوله المجتمعون في مؤتمر عدم الانحياز هو أن شعوبنا ليست في وضع يمكِّنها من إقامة انتخابات ديمقراطية؛ وذلك لأن غالبية مجتمعاتنا تؤلِّفها القبائل، التي ينعدم فيها الفرد، وينصهر ضمن القبيلة. وعادةً ما لا ينفرد الشخص برأيه، وإنما يكون رأيه هو رأي الرئيس. ومن ناحية أخرى فإن التخلف والجهل منتشر في بلداننا إلى أبعد الحدود، بحيث يصل الأمر ببعض الشعوب أنها تفضِّل المحتلِّين على القوى الوطنية. وهذا الأمر يجعل إقامة الانتخابات فكرة غير مجدية.

وقد اتفق الأطراف المشتركون في مؤتمر عدم الانحياز على أن يسبق الانتخابات فترةٌ زمنيةٌ، يتم فيها تأهيل الناس وتثقيفهم بالديمقراطية، كي تصل الشعوب إلى مستوى يمكِّنها من المشاركة في الانتخابات، وتكون الانتخابات مجدية بالنسبة لهم.

هذه الأطروحة جاءت في الوقت الذي كان فيه شريعتي يائساً من التوفيق بين الديمقراطية الغربية الحديثة من جهة وبين نظرية الإمامة من جهة أخرى، إلى أن لاحت في الأفق نظرية الديمقراطية المرشدة، فسارع إلى تبنيها، وكأنّه عثر على الحل الضائع.

ففسر بهذه النظرية المعاصرة ـ الديمقراطية المرشدة ـ  نظرية الإمامة التأريخية التي يتبناها الشيعة، فاعتبر أن أطروحة الإمامة هي نوعٌ من الديمقراطية المرشدة؛ وذلك لأن مجتمع الحجاز، الذي بعث فيه النبي، بقي متمسكاً بطابعه القبلي، وانحطاطه، وتخلُّفه، عقيب وفاة النبي، مما لم يسمح بإقامة انتخابات ديمقراطية، فكانت الإمامة الحل المؤقَّت لذلك المجتمع.

وهكذا نرى أنه كلما تعرض شريعتي لنظريتي الديمقراطية المرشدة والإمامة حاول أن يرفقهما بهذه المفاهيم الثلاثة: القبلي؛ المتخلف؛ المنحطّ.

وفي نهاية الكتاب يحاول شريعتي تبني هذا الحل، وطرحه كنظرية، ثم يعقِّب عليه بقوله: وهذا لا يتعدى كونه موضوعاً قابلاً للتأمل.

إن موضوع الديمقراطية المرشدة وجدواها التطبيقية، أي مدى إمكانية تحويلها إلى واقع عملي، بعد الحرب العالمية الثانية هو بحدِّ ذاته موضوعٌ مستقلٌّ يتطلّب دراساتٍ وبحوثاً معمقةً.

وقد تعرض له المهندس سحابي مرات عديدة، وكتب بهذا الخصوص، في مقال نشرته له مجلة إيران فردا (إيران الغد): لقد تحوَّل مصدَّق بعد حل المجلس النيابي من كونه شخصاً ليبرالياً ديمقراطياً إلى تبني الديمقراطية المرشدة.

وقد أثبتت التجربة بأن تطبيق الديمقراطية المرشدة بعد الحرب العالمية الثانية اشتمل على جوانب إيجابية كثيرة. كما اشتمل على جوانب سلبية أيضاً.

فقد حققت هذه الديمقراطية نجاحاً في بعض البلدان، وأسهمت في تنمية اقتصادها، وحتى في تكريس الحرية فيها، لكنها مع ذلك أخفقت في بلدان أخرى، وفشلت فشلاً ذريعاً.

والملاحظ في هذه الديمقراطية أن القادة والزعماء الذين يتقلَّدون زمام الحكم في ظلّها غالباً ما تحلو لهم السلطة، فيتمسكون بها، ولا يتركونها بعدئذٍ أبداً.

ويستثنى من ذلك عدد قليل، منهم: سدارسنغور، الذي حكم السنغال، ثم استقال بعد أن قبل بمبدأ الحكم المؤقَّت.

لكنّ بحثنا، الذي نريد من خلاله تطبيق نظرية الإمامة الشيعية على الديمقراطية المرشدة، ليساً بحثاً سياسياً على الإطلاق.

فشريعتي منذ أن اقتحم هذا البحث وإلى أن خرج منه لم يبتغِ من ورائه مغزىً سياسياً قط، وإنما تناوله من زاوية عقائدية محضة. وكما أسلفنا سابقاً فإن شريعتي لم يتطرق إلى الموضوع الإمامة، لا في اجتماعياته، ولا في كويرياته، وإنما اقتصر على دراساته الإسلامية، ومن منطلق الإصلاح المذهبي فحسب.

تفسير شريعتي لنظرية الإمامة بين النقد والتمحيص ــــــ

من جملة ما يمكن إيراده على التفسير الذي يقدِّمه شريعتي لنظرية الإمامة: هل أن الرؤية الشيعة التقليدية تعتبر الإمامة أمراً مؤقَّتاً كما اعتبرها هو؟

ليس الأمر كذلك على ما يبدو.

ومما يمكن إيراده عليه أيضاً: هل أن الصدر الأول للإسلام شهد ظهور مبدأ سياسي يعرف باسم الديمقراطية؟

ومن الواضح أن أمراً كهذا لم يكن مطروحاً في ذلك العهد.

وهذا لا ينفي وجود بعض النظريات السياسية هنا وهناك، إلا أن المسلمين الأوائل لم يعهدوا شيئاً باسم الديمقراطية.

لقد كانت أداة المستبدين للوصول إلى سدة الحكم هي القوة والغلبة، بينما كانت أداة المعتدلين، ممَّنْ هم أكثر إنسانية ومرونة فكرية، وخصوصاً الشيعة، هي إحراز رضا الناس وكسب مودَّتهم.

وكان الإمام علي يرى بأن تولي الحكم لا يتم إلا بعد موافقة الناس وكسب رضاهم. وهذا ما نلاحظه في مواضع كثيرة من نهج البلاغة.

ومن ناحية أخرى فإن مفهوم البيعة لم يكن يُراد منه ما يُراد من مفهوم الديمقراطية في عصرنا الحاضر.

فقد كانت البيعة آنذاك تؤخذ من أصحاب الحل والعقد، أو على الأقلّ من القاطنين في مراكز المدن، أما باقي المدن والبوادي، التي تقع في الأطراف، فقد كانت تأتي لاحقاً لتبايع. وبالمبايعة يتم إقرار الحكومة، وإعطاؤها الزكاة، وجباية الضرائب لها، وعدم الثورة ضدها.

في حين كان الإمام علي ينطلق من منطلق إصلاحي وإنساني، يبتغي منه بسط العدل والقضاء على الظلم. كما أنه في الوقت ذاته كان يرى بأن البيعة إنّما تتحقَّق بطرفين؛ فإنْ عهد الناس إليّ بالبيعة فأنا أعهد إليهم أن أحكمهم بالعدل.

لكنّ هذه الرؤية لا يمكنها أن تجسِّد مبدأ الديمقراطية بمفهومه المعاصر. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القوى في تلك الفترة كانت متمركزة، ولم يكن أحدٌ يفكر في تقسيم القوى أو توزيعها على مراكز متعدِّدة. فإن الحاكم أو الخليفة أو السلطان، إضافة لكونه زعيماً سياسياً، كان هو القوة التنفيذية، وهو القوة القضائية، وهو القوة البرلمانية المشرفة على تنفيذ القوانين، وهو السانّ لها أيضاً، بالعودة إلى أحكام الدين.

ولم يكن في ذلك الوقت ما يعرف بالديمقراطية، ليكون بديلاً يخلف إمامة المعصومين الاثني عشر.

والحاصل أن مسألة الديمقراطية لم تكن مطروحة أصلاً. كما أن الإمامة لم تكن أمراً مؤقَّتاً، وإنما دائمياً، كما هو الحال عند بعض الفرق الشيعية، التي تعتقد باستمرار الإمامة ووجودها حتى هذه الساعة.

والسؤال الثالث الذي يمكن توجيهه إلى شريعتي هو: هل أن تلك الفترة القصيرة شهدت تثقيفاً وإعداداً ليكون المجتمع مؤهَّلاً للديمقراطية غير المرشدة؟

هذا ما لم يعهده تاريخ الشيعة الاثني عشرية، الحافل بقياداته الشابّة، بل الصغيرة، البالغة 7 أعوام فقط، كما هو حال بعض الأئمة.

فهل كان هؤلاء الأئمة، بإمامتهم المبكرة تلك، يريدون أن يوحوا إلى الناس بأنهم سائرون في طريق الديمقراطية، وعازمون عليها بعد أن ينموا ويكبروا؟

ليس الأمر كذلك.

اذاً نستخلص مما تقدم أنه من غير الصائب ربط الديمقراطية المرشدة، التي تمثل موضوعاً سياسياً معاصراً، بموضوع الإمامة، الذي يعد بمثابة النظرية السياسية (والكلامية) للشيعة في ذلك العصر. وقد أخفق شريعتي في توفيقه بين الموضوعين.

مع العلم أن معضلة الديمقراطية والحالة التي عليها المجتمعات المتخلفة لا تزال قائمة ومطروحة على الطاولة السياسية.

ومع ذلك كله يمكن، من خلال عدة حلول، تقليص الفواصل بين القاعدة (الشعب) والقيادة، كالعمل على تنمية المجتمع المدني، وغيره من الحلول الأخرى، على أن لا تكون الديمقراطية المرشدة من بين هذه الحلول.

وهنا لابد من لفت النظر إلى أنه عندما كان شريعتي يحاول تسليط الأضواء على موضوعة الديمقراطية المرشدة في محاضراته؛ ليتمكن من خلالها إعطاء تفسير مقنع لنظرية الإمامة الشيعية، كان يستهدف بالديمقراطية المرشدة المجتمعات المتخلفة والمنحطة والقبلية، ولم يكن يستهدف مجتمعه الإيراني؛ لأن شريعتي لم يكن يعتقد بأنه مجتمعٌ منحطٌّ أو متخلفٌ أو قبليٌّ.

والدليل على ذلك أنه لم يُشِرْ إلى موضوع الإمامة في كافة نظرياته التي استهدف فيها المجتمع الإيراني.

وبغضّ النظر عن هذا الأمر فإن إقرار الديمقراطية المرشدة في مجتمع ما يتطلَّب اندلاع ثورة في ذلك المجتمع، ثم انتصار الثوار، ليتمكنوا بعد انتصارهم من تأجيل الانتخابات، وإدارة شؤون الدولة بصورة مؤقَّتة.

فكم دولة في العالم شهدت اندلاع ثورات انتهت بانتصار الثوار؟ يبدو أن عدد الدول التي حصلت فيها الثورات لا يتجاوز الخمسة في المائة من مجموع دول العالم.

وعليه لو كانت هذه النظرية تمثل الحل السياسي الأمثل لشريعتي فلابدّ أن تشكل حلاًّ يعود بالنفع على سائر دول العالم، في حين نجد أن 95% من هذه الدول سوف لن تكون مشمولة بهذا الحل؛ نتيجة عدم اندلاع الثورة فيها. إذاً من حقنا أن نسأل: ماذا سيكون المخرج السياسي المقترح لهذه الدولة المتبقية؟

مع العلم أنه حتى عندما ساق شريعتي أمثلته السياسية؛ ليسلط الضوء من خلالها على نظرية الديمقراطية المرشدة، التي يبتغي من ورائها تفسير نظرية الإمامة الشيعية، لم يذكر أن «كل مكان» اندلعت فيه الثورة فإن الحل هو الديمقراطية المرشدة، أو لابد من اللجوء لها.

فقد كتب([15]): إن كل ثورة لابد من أن تحمل بياناً سياسياً، أو ما يطلق عليه بدستور الثورة، ويتم انتخاب الزعيم بعد انتصار الثورة بالرجوع لهذا الدستور. ويضيف شريعتي قائلاً: ويتم تعيين الزعيم من قبل القائد الأعلى، أو من قبل أحد الأحزاب السياسية، أو عن طريق «انتخاب الناس له».

إذاً فشريعتي لا يقترح حلاً واحداً مشتركاً لسائر الثورات، وإنما يقدم حلولاً مختلفة.

وهذه جملة من الموضوعات السياسية التي حاول شريعتي من خلال المزج والتوفيق بينها الوصول إلى نقطة يستطيع من خلالها الانطلاق نحو تذليل المعضلة التي طالما شغلت ذهنه، أي إشكالية الديمقراطية والإمامة.

إلاّ أنه ـ كما هو واضح ـ أخفق في إيجاد سبيل للتوفيق بين المسألتين. بل إن هذا المخرج الذي خرج به لحلّ الإشكالية مباين لمتبنَّيات شريعتي بأسرها. وهي التي امتازت دائماً بطابعها الإنساني والقيمي والمثالي.

وإذا ما ابتعدنا عن هذا وذاك نجد أن شريعتي ـ وكما جاء في سيرته ـ نأى بنفسه في المرحلة الثالثة من عمره عن هذه الموضوعات، وأصبح لا يتحدث عنها، ولا يذكر شيئاً عن «الأمة والإمامة».

حتى أنه في هذه المرحلة استعاض عمّا يعرف بأصالة القائد بأصالة القيادة. وبذلك أصبح يرى أن المفكرين والمثقفين يؤلفون عناصر بديلة، أو على الأقل امتداداً للأئمة والأنبياء.

ونجده، بعد أن حاول تعميم مبدأ الإمامة في ما سبق، يتحوَّل الآن ـ أي في المرحلة الثالثة من عمره ـ ليطرح موضوعاً مختلفاً تماماً عن السابق، فيقول في أحدى الدراسات، التي تناول فيها مقولات العرفان والمساواة والحرية: إن هذه الموضوعات الثلاثة ـ أي العرفان والمساواة والحرية ـ تشكل أهم أبعاد الإنسان، بل إن الإمام الذي يأتم به الإنسان هو هذه الأبعاد الثلاثة… وإمامة الإنسان في عصرنا الحالي تتجسد في هذا التثليث([16]).

وبهذا ينتقل شريعتي بمبدأ الإمامة، الذي هو من المبادئ الظاهرية البحتة، إلى أعماق الباطن. وكأن مبادئنا التي في أعماقنا تأخذ بنا وتتولى قيادتنا. وبهذا تصبح الإمامة مبدأً وجودياً ونفسياً وباطنياً محضاً.

وبهذه الطروحات والأقوال يختتم شريعتي المرحلة الثالثة من عمره، والتي تشكل أقصى ما توصَّل إليه.

بناء على ما تقدم، ومن أجل فهم أعمال شريعتي، وإعطائها حقها في الوقت نفسه، لابد من قراءتها من خلال إيديولوجيته هو، وليس من خارجها. فعلى سبيل المثال: لو حاولنا إخراج نظرية «الأمة والإمامة» من السياق الذي طرحت فيه، ومن الإيديولوجيا التي فهمت من خلالها، لأصبحت لا تعدو كونها نظرية فاشية، يحاول الفاشيون تكريسها بشتى السبل والوسائل.

الهوامش

________________________

(*) باحث متخصّص في الهرمنوطيقا والكلام الجديد.

([1]) راجع: م. آ. 16، بحث برخيزيم وكامي فراپيش نهيم:  204.

([2]) م. آ. 29: 305

([3]) م. آ. 28: 265.

([4]) في الصفحة 277.

([5]) نقلاً عن: م. آ. 35:  176.

([6])م. آ. 26: 265.

([7]) المصدر نفسه: 471.

([8]) المصدر نفسه: 487.

([9]) وبالتحديد م. آ. 19.

([10]) المصدر السابق: 90.

([11]) المصدر السابق: 35.

([12]) المصدق السابق: 37.

([13]) في م. آ. 15.

([14]) المصدر السابق: 47.

([15]) في م. آ. : 577.

([16]) م. آ. 2: 42.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً