أحدث المقالات

بين المنطق الحسنيّ والعمل الحسينيّ(*)

أ. عماد الدين باقي(**)

ترجمة: صالح البدراوي

 

مقدّمةٌ ــــــ

يسعى كاتب هذا المقال إلى نقد ذلك التصوّر السائد بين الناس بأن الإمام الحسن× هو رمز الصلح والسلام، والإمام الحسين× هو رمز المقاومة والبسالة، من خلال إجراء دراسة إجماليّة وتقييم للمذاهب والآراء التفسيريّة التي طرحت بشأن حادثة عاشوراء الكبرى. ويرى أن الخطأ الحاصل هو في نوع الزاوية التي تم النظر من خلالها إلى ثورة سيد الشهداء. ويعدّ التفسير المزاجي، والتزييف، والتقطيع في الأخبار التاريخيّة الواردة في شأن هذه الثورة الخالدة، من أسباب ظهور هذا الاعتقاد. وبعد أن يقوم بترتيب مقاطع من تاريخ عاشوراء إلى جانب بعضها البعض يخلص إلى أن الإمام الحسين× كان رمز السلام،والابتعاد عن الحرب والنزاع، وليس رجل الحرب والثورة. وفي الختام يدفع بكلامه إلى الاقتراب من النتيجة التالية: إذا كان المصلحون يطلقون نداءات معارضة الحروب، والابتعاد عن استخدام العنف، فإنّما ينطلق ذلك من هذا الفهم الذي يحملونه عن ثورة الإمام الحسين×.

تساءل البعض من أصدقائي في الأيام الأخيرة عن موضوع المحاضرة وعنوانها، وعندما أجبتُ أنها بعنوان «صلح الإمام الحسين» ظنّوا في البداية أنّي ارتكبت خطأً لغويّاً، وكانوا يسألون بقولهم: ما هي علاقة صلح الإمام الحسن بعاشوراء؟ وعندما كنتُ أصرِّح لهم أنكم سمعتم الأمر بشكلٍ صحيح، وأني كنتُ أقول: صلح الإمام الحسين×، كانوا يتعاملون مع قولي بحالة من الدهشة والتعجب.

ورد في الروايات في شأن الأئمة^: «كلّهم من نور واحد». وأريد هنا أن أزيل الجدار الذي أقيم بين الإمام الحسن والإمام الحسين، وكأن أحدهما رجل الحرب والبأس، والآخر رجل الصلح والسلام، فأجيب بالقول: نحن الذين بنينا هذا الجدار ، ويجب أن نزيله بأيدينا.

الهرمونيتيك يعني علم التفسير، وليس التفسير بعينه. وفي الرؤية الهرمونيتيكية (مذهب التأويل والتفسير ـ حسب لغتنا الفارسيّة ـ) يُنظر إلى النصّ، والمؤلِّف، والمفسِّر، بشكلٍ مستقلّ، كلٌّ على حدة. من الممكن أن يكون النصّ عبارة عن حادثة، أو كتاباً، أو فيلماً، أو ظاهرة معينة، وهي مقولة مستقلّة عن المؤلِّف والصانع، ومستقلّة كذلك عن المفسِّر. الحادث أو النزاع الذي يقع في مكان ما عبارة عن نصّ وحادثة واحدة، ولكن من الممكن أن تتفاوت في شأنه نسبة إدراك الشهود والمشاهدين للحادثة، ويرويها كلٌّ منهم بنحو معين، بل وحتى أن يكون مفسِّرون بعددهم. من الممكن أن يكون لكلّ منهم زاوية معينة أو لحظة معينة من الحادثة أكثر بروزاً من غيرها، أو أن يستنتج منها مفهوماً مختلفاً تحت تأثير العوامل العاطفية أو الفكريّة والذهنية المختلفة. لا يمكن أن ندين المفسّرين بفهم الحادثة أو النصّ على النحو الذي نعتقده. ولكن وفقاً للرؤية الهرمونيتيكية، التي تعطي الأصالة والاستقلال لكلٍّ من العناوين الثلاثة، المتمثلة بـ «النصّ» و«المؤلِّف» و«المفسِّر»، من الممكن أن يفقد النصّ أو أصل الموضوع أصالته بمرور الوقت، ويحل تفسير المفسِّر محله. ويمكن أن نشاهد ما يشبه هذه القضية في تفسير عاشوراء وثورة الإمام الحسين أيضاً.

أعتقد أن القول بأن الإمام الحسين× هو رجل حرب وبطل معركة أصبح اليوم افتراضاً مسلَّماً به، ومتواتراً، ومتحقِّقاً على أرض الواقع. وعلى الرغم من أنه استشهد في هذه المعركة إلا أنه لم يُغلَبْ، بل يُنظر إليه على أنه المنتصر فيها. ومهما تجد من تفاوت واختلاف بين المفسرين عند تصفّح أدبيّات الموضوع فإنك تجد أنهم يجمعون على أمر واحد، وهو بسالة الإمام الحسين×، وروح المنازلة لديه، وعزمه على الشهادة، مع وجود هذا الاختلاف، وهو أن البعض يرى أن الإمام الحسين أرغم على اختيار الاستشهاد، وذهب البعض الآخر إلى أن الإمام الحسين توجَّه إلى الكوفة بقصد الاستشهاد. ويُنظر اليوم إلى الإمامين الحسن والحسين‘ على أنهما مصداقٌ ورمزٌ لمنهجيّن. فكلما دار الحديث عن الصلح والسلام فرمزه الإمام الحسن، وكلما دار الحديث عن الحرب والبسالة والثورة والاستشهاد فرمز ذلك هو الإمام الحسين. وقد ترسخ هذا الأمر حتى أصبح مضرباً للأمثال. وعندما يُراد التمييز بين الأفراد والقادة يقولون: إن فلان منهجه حسيني، والآخر منهجه حسنّيّ. وقد تم تأليف عدد لا يحصى من الكتب والمقالات حول صلح الإمام الحسن. وبدلاً من الحديث عن «حرب الإمام الحسين» وعن «صلح الإمام الحسن» أريد أن أتحدث هنا عن (صلح الإمام الحسين). الإمام الحسين كان رجل السلام، لا بمعنى أنه لم يكن رجل حرب، بل إن أهمّ خاصّية فيه وأولاها هي رغبته في السلام، وليس نزوعه إلى الحرب.

المشكلة تكمن هنا، في أنهم بادئ ذي بدء يفسِّرون التاريخ ويحرِّفونه وفقاً لميولهم وأهوائهم، ومن ثم يصوغون للإمام الحسين رمزاً معيناً، وبناء على ذلك يقومون بتحديد الاستراتيجية الشيعيّة أو الاستراتيجية السياسيّة، وينشرون الكثير من الأقوال على المنابر، وفي الخطب والصحف والكتب، في باب الدروس السياسيّة لعاشوراء. وعلى هذا الأساس تندلع معركة معينة، ويصبح المقاتلون فيها مساندين لهذه الأيديولوجيا، في حين أنّ هذا المبدأ في التفسير خاضع للمناقشة.

كان الإمام الحسين× يحظى بمحبة الناس، بحيث إن يزيد كان يقول: «حسينٌ أحبُّ الناس إلى الناس». وعلى هذا الأساس لم يكن الحسين بن علي هو البادئ بالحرب. إن طغيان حكومة يزيد هو الذي صنع هذه التراجيديا المأساوية في التاريخ. وقد أجبر يزيدُ بعد وفاة أبيه الإمامَ الحسين على البيعة، فكان عليه إما أن يبايع أو يُقتل. ومن هنا بدأت القضية؛ لأن نفس مسألة عدم مبايعة شخصية شرعية ومحبوبة، كالإمام الحسين، كان كافياً لإلغاء شرعية الحكومة القائمة على الظلم، ولم يكن بحاجة إلى الجدال وسفك الدماء. وبما أن الإمام× لم يكن مستعدّاً للرضوخ لما يمارسه يزيد من إجبار اضطر إلى الهجرة من المدينة إلى مكة، وهي حرم الله الآمن، ويحرم فيه القتال وسفك الدماء، ولكنهم لم يتركوا الإمام الحسين× لشأنه في مكة أيضاً، وأوجدوا حالة دعت الإمام× إلى أن يقول: «اللهم نحن عترة نبيّك محمد، وقد أخرجونا من حرم جدّنا». فضيّقوا عليه الخناق بحيث اضطر الإمام إلى أن يقطع مناسك الحج، واستعدّ للسفر. وفي هذه الأثناء وصلت رسائل أهل الكوفة، ودخل الإمام الحسين معها مرحلة جديدة؛ لأن التصدي للظلم تكليفٌ شرعي، ولكن كل تكليف مشروط بشرط الاستطاعة والقدرة.

واستجاب الإمام لطلب أهل الكوفة، وأخذ يعدّ العدة اللازمة بدقة، وبعث مسلم بن عقيل لهذا الغرض. في البداية كانت جميع عوامل تحقيق النصر متوفِّرة، ولكن الأوضاع انقلبت بعد ذلك. المسألة المهمة هنا أن مسلم بن عقيل كان سفيراً للبيعة، وسفيراً للتشاور، أي كان من المقرَّر أن يأخذ البيعة من الناس بالإضافة إلى رسائلهم، وأن يتشاور مع زعماء الكوفة أيضاً. وعلى الرغم من أن الإمام الحسين كان مدعوّاً من قبل الناس فقد تشاور أيضاً مع وجوه القوم. وبينما كان هو وأنصاره في الطريق إلى الكوفة جاءه خبر استشهاد مسلم وهانئ. وعاد الإمام× وتشاور مع أصحابه في الصحراء في شأن مواصلة المسيرة. وبناءً على ذلك لا يمكن أن لا تتشاور مع نخبة القوم وزعمائهم والأصحاب الذين يجب أن يدفعوا ضريبة الحرب، سواء كانوا موافقين أو معارضين، والتصميم على مواصلة الطريق الذي من الممكن أن يقود إلى الحرب.

ومنذ أن اصطدم الإمام بجيش الحرّ عبّر عن مساره السلمي، مع أنّه لم يكن قد وقع آنذاك أيّ صدام عسكريّ أو حصار. وتحدث الإمام الحسين مع جيش العدو قبل صلاة الظهر، وقال: لم أقدم إلى الكوفة من تلقاء نفسي، وإنّما قصدتها بناء على ما كتبه أهل الكوفة إليّ أن أَقْدِم، فإن أعطيتموني النصف من أنفسكم قدمت الكوفة، وإن اعتذرتم لي رجعت إلى المحل الذي جئت منه. وبعد صلاة العصر تحدث ثانية بحديث يشبه كلامه السابق. وبعد الانتهاء من صلاة العصر أصدر الإمام أوامره بالعودة، وتحرك الركب نحو الحجاز. ولكن الحرّ أصدر أوامره بالحؤول دون رجوع الإمام. من هنا كان الحرُّ يرى نفسه مقصّراً؛ بسبب خطئه هذا، والتحق بأصحاب الإمام الحسين، واستشهد تكفيراً عن خطئه.

هنا يتَّخذ الإمام× قراره بالعودة، إلاّ أنّهم يمنعونه من ذلك. وبعد ذلك يأتي عمر بن سعد بجيشه، ويقول له الإمام: إذا كنتم تكرهون نزولي بينكم رجعت إلى المحلّ الذي أتيتُ منه.

حتى هذه اللحظة قال الإمام ثلاث مرات: إنهم لو تركوه فإنه يريد العودة إلى الحجاز. وفي المرة الرابعة قال الإمام يوم عاشوراء، مخاطباً جيش العدو المؤلّف من أهل الكوفة: أيها الناس، لقد لبيتُ دعوتكم لي، وإن رغبتم عني اتركوني أذهب إلى مأمني في الأرض. وبشكل عامّ اقترح الإمام مقترح الصلح، والعودة، والحؤول دون وقوع الحرب، خمس أو ستّ مرات. وفي كل مرة يقترح عليهم التحاور في شأن الحرب. وبناء على مقترح الإمام× عقدت عدة اجتماعات سرية مع عمر بن سعد. وأسفرت الاجتماعات عن نتيجة إيجابيّة، وكتب عبيد الله بن زياد أنه يرى أن يتركوا الإمام الحسين ليذهب إلى أيّ مكان يريده، ولكنّ الشمر بن ذي الجوشن أثناه عن هذا الرأي.

لماذا كان الإمام يكرِّر طلبه بالحوار والعودة؟ لماذا كان يفضل الصلح؟ لأنّه طالما كانت هناك فرصة لتحقيق الصلح وتجنُّب الحرب فالذي لا يجتنبها يتحمَّل مسؤوليّة جميع الدماء التي تُراق فيها. وفي يوم عاشوراء عندما طلب أحدهم من الإمام أن ينزل على حكم ابن زياد ويسلِّم نفسه أجابه الإمام قائلاً: أنت أخو أخيك، الذي أعطى الأمان لمسلم بن عقيل، ولكن ابن زياد قتله. أتريد أن أذلّ نفسي بيدي، أي تأخذني إلى ابن زياد ليقتلني، مثل: مسلم. لم يكن الإمام مستعدّاً لتسليم نفسه؛ لأنه كان متأكِّداً من الذلّة والقتل، ولأن الله تعالى لم يسمح لأيّ شخص أن يقبل بالذلّة.

يعود البريق الذي اكتسبته ثورة الإمام الحسين وخلودها إلى طهرها ونقائها الفريد من نوعه. فعندما اضطربت الأحوال في الكوفة، وبلغ القمع ذروته، وتغيرت الأوضاع، وغابت إمكانيّة تحقيق النصر للإمام، كان من الممكن تغيير المعادلة، وينتصر الإمام الحسين، فيما لو تم اغتيال عبيد الله بن زياد. كان بإمكان المؤيِّدين للإمام ومسلم بن عقيل، ومن خلال ما يمتلكونه من العيون، القيام باغتيال ابن زياد حاكم العراق بكلّ سهولة، وبالتالي تغيير مسار التاريخ. ولكن مسلم الذي كان يخبر مستوى تفكير الإمام اعترض على اغتيال حاكم سفّاك حتى في أسوأ الظروف المحيطة به، وقال في معرض إجابته عن سبب مخالفته هذه: «الإيمان قيد الفتك»، أي إن الإيمان يعارض الاغتيال، ولا يستطيع المؤمن أن يقرر مصير الإنسان وحياته حتى لو كان عدوّاً له. ولذلك كانت حركة الإمام الحسين ضدّ فكرة الحرب وضدّ الاغتيال أيضاً. ولم يقبل الإمام باستخدام العنف ـ ما أمكنه ذلك ـ ضدّ أي شخص، حتى ضد عدوه، فما بالك بأن يستخدم العنف ضد أصحابه!

في ليلة عاشوراء جمع الإمام أصحابه، وخطب فيهم، وقال لهم: لم أعرف أصحاباً أفضل منكم، وطلب منهم أن يتخذوا الليل جملاً، ويأخذ كلٌّ منهم بيد أخيه، ويتركوا الركب، وينجوا بأنفسهم.

لاحظوا لو حذف جزء من النصّ، أو نقل إلى الهامش عند شرح النصّ وتفسيره، ماذا سيحصل؟ ولكي أبين أن الإمام الحسين كان رجل الصلح والسلام لم أقم بإضافة أيّ شيء إلى النص، ولم أكتشف قضية جديدة، بل استخدمت نفس الأدلة التي كانت تساق بهدف تحويل الإمام الحسين إلى رمز للبسالة. والذي حصل أن الرؤية وحدها هي التي تغيرت فقط. وبتغيير الرؤية لنصّ أو حادثة لطالما سمعناها منذ عدة قرون سيتغيَّر التفسير في شأنها أيضاً. الإمام الحسين كان رمزاً للصلح والسعي إلى السلام، كان رجل السلام الذي لم يستسلم أمام العدوان والحيف، وقاتل ببسالة وشرف.

حركة الإمام الحسين كانت أوّلاً جهاداً دفاعياً، أو على رأي الشيخ صالحي نجف آبادي نوعاً من المقاومة. وثانياً: كانت حركة عقلائية تماماً. الإمام الحسين أفضل نموذج يمكن أن نشير إليه كرمز للثورة ضد الحرب. إذا أردنا أن نشير في عالمنا اليوم إلى أنموذج لمؤسسة أو حركة معادية للحرب فإن الإمام الحسين يمتلك جميع مواصفاتها؛ إذ كان يأبى أن يحارب، وسعى بشتّى الطرق لكي يمنع ذلك. لينظر الذين يقرعون طبول الحرب إلى هذه المواقف؛ إذ عندما رأى الإمام أن الحرب واقعة لا محالة أغمض عينيه؛ لكي يفسح المجال أمام كل مَنْ يريد أن يترك ذلك المكان، فماذا يعني هذا السلوك؟

الذين يمتلكون زمام القيادة في إدارة جيش أو بلد ما ليس لهم الحق في اتخاذ القرارات بدلاً عن الآخرين، ليس لهم الحق، ولا يسمح لهم، باتّخاذ سياسة معينة أو تدابير وإجراءات خاصّة تقود البلد إلى الحرب، أو حتى إلى الانزواء؛ لأنه إذا وقعت حربٌ ما، أو فرضت عليهم المقاطعة، فإن الناس هم الذين سيتضرّرون من ذلك، ويدفعون فاتورته الباهظة، دون أن يكون لهم دورٌ في اتخاذ القرار بالحرب، أو أن يكون لديهم علم بما يجري خلف الكواليس من التدابير التي تقود إلى الحرب. ولعله يمكن القول، وفي حالة واحدة فقط: إن الناس كان لهم دور في وقوع هذه الحرب؛ وذلك إذا لم تكن هناك رقابة وسيطرة على الأخبار، ولا تصبح السرّية ذريعة لعدم اطلاع الناس والإعلام على الكثير من الحقائق التي تجري خلف الكواليس، وأن يجري تصويتٌ حرٌّ على المبادرة بالحرب أو عدمها. ومن الممكن أن لا تقوم حتى الدول الغربيّة بهذا الإجراء، إلا أن قدوتنا يجب أن تكون أفضل منهم. إذا كنتم تدّعون أنكم حسينيون يجب أن تتأسوا به. إن قمة الصورة الإنسانيّة لحركة الإمام الحسين وجماليّتها يمكن مشاهدتها في الصورة التالية. إنه لا يريد أن يلزم الآخرين ويجبرهم على البقاء، ويقاتلوا، ويقتلوا، في مكانٍ بات من المقرَّر أن تقوم الحرب فيه، حتى إذا كان زعيمهم إماماً معصوماً وابن رسول الله|. التاريخ ليس سرداً للقصص. إنه للعبرة والعظة. ومن هذا المنطلق نقول، استلهاماً من سنة الإمام الحسين: الإصلاحيّون بثقلهم الاجتماعيّ، البالغ على الأقلّ عشرة ملايين صوتاً من الأصوات غير المجبرة، ليسوا قوة يمكن تجاهلها اليوم، ويصار إلى عدم أخذ آرائهم بنظر الاعتبار في القرارات التي تحتاج إلى دعمهم ودعم باقي مكوّنات الشعب الأخرى لها.

والنقطة الأخرى هي أنّ الإمام الحسين لو كان يهدف إلى خوض القتال فإن عظمة حركته وتعقلها تكمن في أنه كان يعرف مبدأ التوازن في القوى، ويتمسَّك به بكل قوّة. وهو نفس الأمر الذي عمل به الإمام الحسن كذلك. الوجه المشترك لحركة هذين الأخوين، اللذين سُمّيا بـ (الحسنَيْن) بكلّ جدارة واستحقاق، هو هذا الاستيعاب والفهم لمبدأ التوازن في القوى. فعندما لا يتوفّر التكافؤ في القوى لا ينظران إلى الحرب على أنها عقلائية وإنسانيّة، بل لا ينظران إليها على أنها إلهيّة ومرضية لله تعالى، ولو كانا يرونها إلهيّة ومقدَّسة لكانا مكلّفين بخوضها. ومن حيث المبدأ لا يمكن لحرب غير عقلائية، ولا إنسانيّة، أن تكون إلهيّة ومقدسة. والحقيقة أنني لا أتعامل هنا مع المسألة برؤية مَنْ يعمل في حقل علم الاجتماع؛ لأنه وفقاً لرأي عالم الاجتماع لا توجد لدينا في الأساس حرب مقدّسة وأخرى غير مقدّسة، بل الحرب هي عبارة عن ظاهرة اجتماعيّة. وبغضّ النظر عمَّنْ يقول الحق أو الباطل في هذا العالم الذي لا يوجد فيه أيّ توازن للقوى فإن أغلب القوى ودول العالم، وحتى الكثير من أصدقائنا وحلفائنا، هم معارضون لسلوكنا، فكيف يمكننا ويحقّ لنا أن ندقّ طبول الجدال؟ إذا كان قدوتنا الإمام الحسن والإمام الحسين‘ فكيف يمكننا، ونحن في هذه الحالة من عدم التكافؤ، أن ندخل ميدان الحرب ونرتجز، بل نبعد عن أنفسنا أروع من أولئك الأصدقاء، ونمعن في تأليب العالم على أنفسنا أكثر، ونزيد من عدم التكافؤ على أنفسنا؟ أيّ شيء من هذا الأمر ينسجم مع نموذج الإمام الحسين، ومنهجه، وعقلانية حركته؟!

ما هو الشيء الذي خلّد الإمام الحسين؟ الثورة المعارضة للحرب، والأنموذج المناهض للحرب، والمؤسسة المعارضة للحرب، لا تعني الذلّة والمنهج الاستسلامي، بل تعني أننا لسنا الذين نبدأ الحرب. نحن معارضون للحرب كحرب في حدّ ذاتها، ولمن يبدأ الحرب؛ إذ لا يمكننا القول: إن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، والاعتراف بكرامة الإنسان، والقبول بأن تسحق حياته بكل سهولة. والحديث مع مَنْ يحملون لواء الدفاع عن حقوق الإنسان والدول والقوى الغربيّة يدور كذلك حول هذا الأمر بالذات، إذ نقول لهم: كيف تتحدثون عن كرامة الإنسان وحقوقه، وتعترضون على إعدام شخص مجرم وإنْ تمت محاكمته بشكلٍ عادل؛ لأنه يسلب حقّ الحياة من الإنسان، ولكنّكم في نفس الوقت تؤيّدون الحرب؟ نحن وأنتم نقول: إن حقّ الحياة يجب أن لا يُسلب، حتى من الأشرار والمجرمين، وأنه لابدّ من معاقبتهم، ولكن ليس بالموت. نحن وأنتم نقول: إنه يجب أن لا نسمح بأن يقرِّر الإنسان مصير أخيه الإنسان، ولو نظرنا إلى الأمر من زاوية دينيّة أيضاً فإن الروح هي أمانة من الله، وتعود إليه؛ وهو وحده الذي يملك الحق في سلبها فقط. وحتى في مسألة قصاص النفس بالنفس، التي تتعلَّق بالفرد الذي يقتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فإن الله تعالى يوصي وليّ الدم أنه حتى في هذه الحالة، وبالرغم من أن الحق معكم، فإنْ تعفوا وتصفحوا فهو خيرٌ لكم. وبناءً على ما تقدَّم كيف يحقّ للدول المدافعة عن حقوق الإنسان في الغرب أن تعترض على موت شخص واحد، ولكنهم يدخلون حرباً عسكريّة أو اقتصاديّة يقتل فيها الإنسان، أو يصبح الناس فيها فقراء أفواجاً أفواجاً، دون أن يكونوا قد ارتكبوا ذنباً أو يحاكموا؟

ما هو مفهوم معارضة الحروب؟ إذا كان الإمامان الحسن والحسين‘ نموذجين للصلح ومعارضة الحروب فلا يعني ذلك التخاذل والاستسلام والقبول بالذلّ، بل يعني ذلك أنهما لا يبدآن بالحرب، هذا أولاً.

وثانياً: إنهما يعارضان الحرب بذاتها وماهيتها.

وثالثاً: إنهما يبذلان ما في وسعهما من أجل تلافيها وعدم وقوعها، كما فعل ذلك الإمام الحسين، ولكن إذا تمت محاصرتهم، وفرضت عليهم الحرب، بالرغم من كلّ ما بذلوه، فإنهم لا يرضخون للذلّ والهوان والاستسلام، ويقاتلون بتلك الحمية والإباء، حتى الاستشهاد، بحيث يتركون بصماتهم المؤثِّرة على مسار التاريخ.

ليست عظمة الإمام الحسين في كونه مقاتلاً أبيّاً استشهد في معركة غير متكافئة، بل إن عظمته تكمن في تجلي إنسانيّته بأروع صورها، وبالعقلانية في معركته، وفي استشهاده وهو إنسان مسالم يسعى إلى الصلح. وهذا هو المفهوم المراد بعبارة «الحسين المظلوم»، التي تستخدم في الكثير من أدب عاشوراء. نحن نعارض الحرب، ويجب أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل الحؤول دون وقوعها، ولكن إذا تعرضنا للهجوم والعدوان فسنخوضها بكل بأس وشجاعة؛ لأن كرامة الإنسان ستتعرض في الهجوم والعدوان إلى الذلّة والمهانة والسحق، ويجب التصدي لذلك بالحرب. وحتى في حرب كهذه يجب أن لا نضع الأصول والثوابت الإنسانيّة تحت أقدامنا، وهذا ما جاء في القرآن الكريم وسنّة رسول الله|: إذا وقعت الحرب فلا تقتلوا أسيراً، ولا تمثِّلوا بالقتلى، ولا تحرقوا زرعاً، ولا تمنعوا الماء عن العدوّ، ولا تدخلوا بيتاً دون إذن من صاحبه، ولا تؤذوا النساء والأطفال، ولا تقطعوا الأشجار، ولا تقتلوا الأنعام المحلّلة، وإذا جنح العدو للصلح فاعقدوا الصلح، ولا تقاتلوا.

الكثير من فقهاء المسلمين لا يجيزون الجهاد الابتدائي، ويقولون بالحرب الدفاعية فقط؛ لأن أعراض الناس ودماءهم هي أساس الشريعة في الفقه الإسلاميّ. فمتى ما تعرّضت حيثية المرء أو حياته للخطر يجوز قطع الصلاة. إذا قلنا: إن التاريخ مصدر للشريعة والفقه والتفقه، واعتبرنا حركة الإمام الحسين دليلاً على الاجتهاد، فالحكم الشرعي يقضي أيضاً بحرمة الحرب. إذاً يجب أن نطلق صرخة السلام والصلح في وجه الحرب ودعاتها في الداخل والخارج، ونطالب بصوت واحد بعالم مفعم بالسلام والحرية والقيم.

 

إشاراتٌ نقديّة لمقال عماد الدين باقي ـــــــ

1ـ فتح السيد باقي زاوية لرؤية جديدة في تحليل ثورة عاشوراء ودراستها تستحق التقدير والثناء. وممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الحسين×، كباقي الأئمّة المعصومين^، هو رجل الصلح والمحبة والسلام، والابتعاد عن الحروب والعنف. الإشارات التي ذكرها المتحدث الكريم عن منهج الإمام الحسين× في شأن اجتناب الاشتباك وبدء الحرب صحيحة، إلا أن ذلك لا يعني أنه لم يتم الالتفات إلى هذه الملاحظات على مر التاريخ، وأن باقي المحللين غفلوا عنها. القضية الأساسيّة تكمن هنا في أن هذه الأمور يجب أن ينظر إليها برؤية جامعة لمسألة عاشوراء، وليس برؤية أحادية ذات بُعد واحد. وتجدر الإشارة إلى أن السيد باقي وقع في تحليله هذا في فخّ الرؤية الأحادية، وأهمل أهداف الإمام الحسين×، والقضية الأساسيّة في ثورته واعتراضه.

ولو ألقينا نظرة متفحصة على التحليلات المنجزة منذ اندلاع الثورة الحسينية الخالدة سنصل إلى هذه النقطة المؤلمة، وهي أنّ النظرة الأحادية المحدودة لهذه الحادثة الكبرى ستنجم عنها نتائج خاطئة، تلك النتائج التي انطوت أحياناً على التزييف والتحريف وقلب الحقائق. ومن أنواع التحريف التي عرّضت ثورة عاشوراء العظيمة للخطر الجادّ «التحريف في الهدف» من هذه الحركة المقدَّسة. إنه نفس التحريف الذي قيّم صرخة المصلحين الكبار وقادة الفكر الدينيّ المجدّدين، أمثال: الإمام الخميني&، والشهيد مطهري&، على أن بروز هذا التحريف من قبل الأصدقاء كان أشد إيلاماً، وأكثر وقعاً في حدّ ذاته من استشهاد الإمام الحسين بن عليّ‘. وقد تهجّم المتحدِّث في بداية كلامه على أولئك الذين ينظرون نظرة هرمونيتيكيّة حسب رغبتهم لحادثة عاشوراء، ولكن عندما ينبري هو لتحليل هذه الثورة وشرحها يقع من حيث لا يدري في نفس هذا الفخّ، وأخذ يحلِّل حادثة عاشوراء استناداً إلى افتراضاته المسبقة، ورغباته الشخصية والحزبية، فاتجه هو أيضاً نحو التفسير والتحريف الذي ينسجم مع رغبته وأهوائه.

2ـ حقيقة الأمر أنّ ثورة الإمام الحسين× عبارةٌ عن ثورة إصلاحيّة شاملة، والإمام× كان قبل كل شيء مصلحاً كبيراً، يريد الإصلاح بمعناه الواسع، وعلى مستوى المجتمع برمته، ومثلت الحكومة في ثورته شكلاً واحداً من أشكال هذه الحركة الإصلاحيّة فقط. هذه الرؤية تقرأ من عنوان كربلاء فلسفة شاملة جامعة، تمثل الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والمعنويّة والثورية فيها بعضاً من أبعادها فقط. ومن هنا يمكن أن نستنتج أن التحليلات التي نتجت عن قضية عاشوراء كانت متأثرة بظروف زمانيّة ومكانيّة خاصّة، غالباً ما كانت أحادية الرؤية، في حين أن هذه الحادثة العظيمة تحمل قابلية التحليل الجامع الشامل، ولا ينبغي تقييدها في أبعاد خاصّة.

3ـ إن تحديد أئمة الدين في نماذج محدودة ذات أفق ضيق يعدّ في حدّ ذاته ظلماً مضاعفاً لهذه الشخصيات جليلة القدر. ولا خلاف هنا في مَنْ يمثل رمز الصلح ومَنْ يمثّل رمز الحرب والثورة؛ ذلك أنّ أيّاً من هذه القوالب والأطر لا تعكس حقيقة شخصية أولئك الكرام ومنهجهم. الإمام الحسن والإمام الحسين وبقية الأئمة المعصومين^ هم النموذج الكامل لمنهج الإيمان بالتكليف، ومعرفة الواجب في المجتمع الإسلاميّ. وهذا المنهج هو الذي يجعل حركة الإمام وسلوكه يتلاءمان مع كل زمان ومكان. وطبقاً لهذه الرؤية فإن التشاور والتقييم العامّ وغير ذلك يمكن الاهتمام بها إلى ما قبل مرحلة التكليف. ولكن بعد معرفة التكليف الإلهيّ وتحديده لا يبقى عادة أي مكان لطرح هذه الموضوعات. الإمام الحسين لم يتشاور إطلاقاً مع أصحابه في شأن التكليف الإلهيّ لثورته، ولو أقدم على هذا الأمر لأخذ بنصائح وآراء أكابر القوم، كابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن عمر، عندما تحرَّك من المدينة، وأعرض عن التحرك نحو الكوفة.

4ـ الأمر المثير للدهشة أن المتحدِّث وقع في العديد من التناقضات الكلاميّة، وتوصَّل إلى النتائج التي يصبو إليها استناداً إلى تلك التناقضات. فيقول في أحد المواضع: «إن المؤمنين ليس في وسعهم التقرير في شأن مصير أي شخص، حتى لو كان عدواً». ويقول في موضع آخر: «الذين يتصدّون لقيادة الجيش أو بلد من البلدان ليس لهم الحقّ في التقرير بدلاً عن الآخرين». وهنا يجب أن نسأله: إذا كان المدير والحاكم وقائد المجتمع لا يملك الحقّ في اتّخاذ القرار في شأن مجتمعه فَمَنْ يتمتَّع بهذا الحقّ؟! وهل أن فلسفة اختيار القائد والإمام والآمر تعني شيئاً آخر غير هذا المعنى، وهو أن تكون صلاحيّة اتّخاذ القرار اللازم في شأن المجتمع عند الضرورة بيده، وأن الناس ملزمون أيضاً باتّباعه؟! وهل تعني الإمرة شيئاً آخر غير هذا؟!

5ـ صحيحٌ أن الإسلام دعا قبل كل شيء إلى الصلح والمحبة والسلام، ولم يكن سبّاقاً في البدء بأية حرب، وحتى في معارك الجهاد الابتدائي للنبيّ| يلاحظ نوعٌ من الدفاع أيضاً. ولكن يجب أن لا نبعد عن أنظارنا أن الهيكل المعوج للانحراف لا يستقيم أحياناً إلا بالسيف. وعندما لا يؤدي سلاح المنطق والاستدلال والدعوة مفعوله فإن الدم وحده هو الذي يضمن الحياة الإنسانيّة الطيبة. وفي تلك الظروف الخاصّة التي كانت تحيط بالإمام الحسين× كان المجتمع الإسلاميّ بحاجة إلى ثورة دموية، وعمليّة استشهادية هادفة، تضمن له الحياة الاجتماعيّة والدينيّة الإسلاميّة الصحيحة.

مثَّلت حركة الإمام الحسين× من المدينة إلى كربلاء ثورته على الظلم والاستبداد والانحراف، وليس للثورة أيّة صلة بالصلح والسلام. وعندما كان يتحاشى الاشتباك والمنازلة أحياناً أثناء مسيره لم يكن ذلك بدافع الخوف من خوض غمار الحرب؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما خرج أساساً من المدينة، بل السبب في ذلك يعود إلى أنه لم يرغب في القتال بأي ثمن كان، ومن ثم تذهب دماؤه هدراً. ولكن عندما آن الأوان، وحان الوقت المناسب، لانطلاقة عاشوراء سلّ سيفه من غمده، وهجم بكل رجولة وإباء على جيوش الظلم والظلام والجهل، ولم يتراجع قيد أنملة حتّى لحظة الاستشهاد. وبناء على ذلك فإن الثورة الحسينية تمثّل من جهةٍ تضحية استشهادية أصيلة ستبقى إلى الأبد كأسمى قيمة أخلاقيّة في السلوك الإنسانيّ، ومن جهةٍ أخرى تمثل حركة متعقلّة عميقة الرؤية قام بها شخص مسؤول في وجه حالة من فقدان العدالة الشاملة.

6ـ التطبيقات والتحليلات التي قام بها السيد باقي في ما يتعلَّق بالوقت الحاضر ضعيفة جداً، وذات نظرة أحادية. كان بإمكان الإمام الحسين× أن يمنع وقوع الحرب وسفك الدماء بإعلان بيعته ليزيد، فلماذا امتنع عن ذلك؟ وهل يجب علينا اليوم أن نبايع طغاة العالم وعتاته لكي نحول دون وقوع الحرب؟ هل يجب علينا أن نرضخ لهيمنتهم الظالمة لكي نمنع وقوع الحرب؟ لابدّ من القول هنا: إننا لم ولن نكون يوماً بادئين بالحرب، ولن توجد في بيانات قادة البلاد أيّة شواهد تدلّ على الرغبة في خوض الحروب، ولكن شواهد العزة، والتمسك بالأصول، والإصرار على حقوق الشعب الإيرانيّ، والوقوف في وجه التدخلات الظالمة لأمريكا وحلفائها، تشاهد في أقوالهم. وهذه الحركة تذكِّرنا بتلك الحركة الداعية للصلح، والمتَّسمة بالعزة، وذات المنهج الملتزم بالأصول، للإمام الحسين×، الذي قال: «واللهِ، لن أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولن أفرّ فرار العبيد».

____________________

(*) هذه المقالة قدّم فيها الأستاذ عماد الدين باقي قراءةً مختلفة في الحركة الحسينية. وفي آخرها يجد القارئ بعض المداخلات النقديّة لهذه المقالة.

(**) باحثٌ متخصِّصٌ في علم الاجتماع، وناشطٌ في مجال حقوق الإنسان، له مؤلَّفات عدّة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً