أحدث المقالات

تقييمٌ نقدي لأدلة مصطفى ملكيان

د. آرش جمشيد پور(*)

ترجمة: وسيم حيدر

«إن العلاقة بين التعقُّل والتديُّن، والارتباط بين الإيمان والعقل، والصلة بين التعبُّد والاستدلال، تمثِّل ـ من وجهة نظري ـ أهمّ مشاكلنا»([1]).

مصطفى ملكيان

لقد تدرَّج مصطفى ملكيان عبر خمس مراحل فكرية. فطبقاً لما قاله بنفسه: إنه منذ عام 1380هـ.ش فما بعد قد توصّل إلى ما يعبِّر عنه بـ (العقلانية والمعنوية)([2])، حيث بدأ مشواره الفكري من الأصولية الإسلامية، ثم التقليدية، إلى التنوير الديني (أو التجديد الإسلامي)، والوجودية الإلهية، ليصل إلى ما هو عليه الآن، حيث أقام على نحوٍ مؤقّت في المرحلة الخامسة، التي هي من بنات أفكاره([3]). إن من الأسئلة الهامة حول انتقال (ملكيان) من هذه المراحل الفكرية هو السؤال القائل: ما الذي أزعج ملكيان من «التنوير الديني»، ودفعه ـ بمعزل عن المرحلة الرابعة «الوجودية الإلهية» ـ نحو مشروع «العقلانية المعنوية»؟([4]). إن الإجابة عن هذا السؤال هو ما يدعوه الدكتور مصطفى ملكيان بعدم التناغم بين التعبّد الديني وبين العقلانية. يرى ملكيان «أن قوام التنوير بالعقلانية، وقوام التديّن بالتعبّد، والتعبّد والعقلانية لا يتناغمان، وبالتالي فإن التنوير الديني ينطوي على نوعٍ من التناقض الداخلي»([5]). إن مسألة عدم التناغم بين التعبّد الديني والعقلانية تُعَدّ أحد الأبحاث الرئيسة في مشروع العقلانية والمعنوية، واستدعَتْ إجاباتٍ من قِبَل تيارين في منظومة الفكر الديني، وهما: تيار الحوزة العلمية؛ وتيار التنوير الديني([6]). وفي هذا المقال سنبحث في مدّعى الدكتور مصطفى ملكيان، وأدلّته. والنتيجة التي سوف نصل إليها هي أن الأدلة التي يسوقها ملكيان على إثبات عدم عقلانية التعبّد الديني غير قاطعة. ومن الواضح أني لا أردّ مدّعى ملكيان، غاية ما هنالك أني لا أرى كفاية الأدلة التي يسوقها على هذا المدّعى. وعلى هذا الأساس فإني أبقي الباب في مسألة عدم التناغم بين التعبّد الديني والعقلانية مفتوحاً، وأكتفي بتقييم وانتقاد أدلّة ملكيان فقط. والمراد من «الانتقاد» هنا ليس مجرّد بيان مواطن الإشكال في رأي الدكتور ملكيان فقط، بل سنعمل في الوقت نفسه على بيان نقاط القوّة في أبحاثه أيضاً.

ومن الضروري قبل كل شيء التذكير بهذه النقطة، وهي أن الدكتور ملكيان قد ذكر مسألة عدم التناغم بين التعبّد الديني والعقلانية في مواضع متعدّدة. وقد ورد ذكر هذه المسألة في طيفٍ واسع من مؤلَّفاته ومحاوراته وكلماته ومقترحاته وندواته ودروسه. وهذا التشتُّت يعقّد الأمر على الباحثين والناقدين لأفكاره. ولستُ أدّعي أني قرأت جميع الأمور المرتبطة بهذه المسألة، وإنما اكتفيتُ بقراءة خمسة من كتب مصطفى ملكيان([7])، وبعض كلماته والحوارات التي أجريت معه في ما يتعلَّق بمسألة التعبّد والعقلانية. وعليه فإن التفسير الذي أقدِّمه عن موقف الدكتور مصطفى ملكيان يقوم على ثلاث مجموعات من مؤلَّفاته، وهي: الكتب، والحوارات، والكلمات التي ألقاها في الأوساط العامة([8]).

في البداية يجب أن نعمل على تقرير مدّعى ملكيان. ويجدر بنا أن نميّز هنا بين مسألتين؛ إذ قد يتمّ الخلط بينهما، الأمر الذي يتسبَّب ببعض الغموض والإبهام. يتحدّث الدكتور ملكيان من حينٍ لآخر عن مسألة إثبات (الحجية المعرفية للوحي)([9]). ويبدو أن مراد الدكتور مصطفى ملكيان هو: هل المسائل المطروحة في النصوص المقدّسة تقدّم لنا معرفة عن عالم الواقع أم لا؟ يرى ملكيان أن الحسّ والعقل والشهود والعلوم التاريخية «تضع بين أيدينا معرفةً عن عالم الواقع»([10]). في حين أن سؤال مصطفى ملكيان يقول: «هل يقدّم الوحي لنا صورة معرفية عن عالم الواقع؟ إذ لربما عرّضنا الوحي إلى الوَهْم، ولربما دفع بنا إلى مجرّد الخيالات والأوهام، ولا يقرّبنا من الوقائع قيد أنملة»([11]). يذهب الدكتور مصطفى ملكيان إلى الاعتقاد بأن الوحي «نوعٌ من الشهود»، وأنه من أقسام التجربة الدينية([12]). وعليه يمكن طرح تساؤل الدكتور ملكيان على النحو التالي: هل تحظى التجارب العرفانية أو التجارب الدينية أو التجارب القائمة على الكشف والشهود بالاعتبار المعرفي؟ وهنا يوجد غموضٌ؛ إذ يمكن تفسير هذا التساؤل على شكلين. وعلى أساس أحد التفسيرين يمكن بيان السؤال الأول على النحو التالي: هل يحظى هذا النوع من التجارب بالاعتبار المعرفي لدى أصحاب هذه التجارب أنفسهم أم لا؟ بمعنى: هل يحقّ للأنبياء والعرفاء ـ من الناحية المعرفية ـ أن يعتمدوا على تجاربهم الدينية ـ العرفانية، واعتبار هذه التجارب مخبرةً عن الواقع؟ وهذا السؤال يرتبط بمجال فلسفة الدين وفلسفة العرفان. وعلى أساس التفسير الآخر يقول السؤال الثاني: هل تكون تجارب الأنبياء والعرفاء حجة على الآخرين أم لا؟ أرى أن هذين السؤالين مختلفان. فعندما نسأل عن عقلانية التعبّد الديني لا يكون سؤالنا عما إذا كانت التجربة الدينية للأنبياء معتبرةً بالنسبة إليهم أنفسهم أم لا؟ وإنما السؤال يقول: هَبْ أن الأنبياء كانوا على حقٍّ في اعتمادهم على تجاربهم الدينية، ولكنْ هل يحقّ للآخرين، الذين لم يعيشوا هذه التجارب، أن يعتمدوا على كلام الأنبياء ـ من الناحية المعرفية ـ، ويؤمنوا بمحتوى كشفهم وشهودهم؟ وعلى الرغم من ارتباط هذين السؤالين ببعضهما فإنّه يمكن القول بوجود الفرق بينهما. وإن الدكتور ملكيان يطرح هذا السؤال الأول أحياناً([13])، بَيْدَ أن جلّ أبحاثه تدور حول محور السؤال الثاني. وأنا في هذا المقال أبحث في السؤال الثاني، وسوف أكتفي في نهاية المقال بإثارة بعض المسائل حول السؤال الأول.

ما هو سبب عدم انسجام العقلانية مع التعبُّد الديني؟ «إن قوام التنوير بالعقلانية، وقوام التديُّن بالتعبُّد؛ وعليه فإن التعبُّد والعقلانية لا يتناغمان… إن العقلانية تقتضي أنني إذا ادّعيت أن (أ) هي (ب)، وطالبني شخصٌ بالدليل، قلتُ: إن (أ) هي (ب)؛ لأن (أ) هي (ج)، و(ج) هي (ب)». أما مقتضى التعبُّد فهو أن أقول: «إن (أ) هي (ب)؛ لأن فلاناً قال: إن (أ) هي (ب)». ومن الواضح أن هذين النمطين من الاستدلال لا يتطابقان مع بعضهما، فإنك لا تستطيع أن تدين بدينٍ إلاّ إذا كنت تؤمن مطلقاً بكلام شخصٍ أو أشخاص أسَّسوا لذلك الدين، أو كانوا من أئمّته»([14]). لقد استعملت في هذا المقال عبارة «التعبّد الديني» في أكثر من موضع. وإن ذكري لصفة «الديني» بعد «التعبّد» يأتي من باب إمكان الحديث عن «التعبّد» في غير الدائرة الدينية أيضاً. وسوف نرى أن بنية التعبّد في مجال العقائد الدينية يشبه التعبّد في المجالات غير الدينية في الكثير من الجهات. وهذا الأمر هو الذي يزيد من استعار جذوة النقاش بين الدكتور مصطفى ملكيان والمخالفين له.

ما الذي يمكن لنا قوله في مورد نقل الكلام المتقدّم؟ من الواضح أن الدكتور ملكيان يستعمل العقلانية بمعنى المعيارية. ومن هنا يندرج بحثه في دائرة أخلاق المعتقد. وطبقاً لتعاليم هذه الدائرة علينا أن نراعي سلسلةً من الأصول والقواعد في ما يتعلَّق بفعل الإيمان النفساني. إن أخلاق المعتقد تفرض علينا وظائف وتكاليف معرفية، ومن بين تلك الوظائف أن لا نقبل أيّ عقيدةٍ من دون دليل، أو بعبارةٍ أخرى ـ ربما كانت أقلّ إثارةً للجدل ـ: أن لا نقبل بأيّ أمرٍ غير بديهي من دون دليلٍ. يبدو من كلام مصطفى ملكيان المتقدِّم أنه يرى أن الإيمان بشيءٍ بلا دليل فعلٌ غير أخلاقي، بمعنى أن القبول بمعتقد من دون دليل عملٌ لا أخلاقي، تماماً كما هو الكذب بوصفه فعلاً غير أخلاقي. وهنا لا بُدَّ من دراسة مسألتين:

المسألة الأولى: هل قوام التديّن يكمن في التعبّد حقيقةً؟

والإجابة عن هذا السؤال رهنٌ بماهية المتدينين المأخوذين بنظر الاعتبار. فلو أخذنا عرفاء المسلمين بنظر الاعتبار ربما لم يكن للحديث عن التعبّد محلٌّ من الإعراب؛ إذ يدّعي العرفاء أنهم من خلال اتباعهم لتعاليم النبيّ توصّلوا إلى تجارب روحية مماثلة، وأنهم قد عاشوا تجربة التعاليم القرآنية بأنفسهم. وربما قال شخصٌ: إن العرفاء في الحدّ الأدنى قد قبلوا كلام الأنبياء في بداية الأمر من دون دليلٍ، ثم حصلوا على تلك المقامات والتجارب لاحقاً.

وعلى الرغم من صحّة هذا الكلام، لا يمكن اعتبار مثل هذا الإيمان عملاً غير عقلائي؛ لأننا نرى ما يماثله في غير المجالات الدينية أيضاً. فعلى سبيل المثال: إن الذين يمارسون عملية التحقيق في العلوم التجريبية والطبيعية يؤمنون في بداية الأمر بالكثير من المعطيات والمعلومات التي يأخذونها من أساتذتهم أخذ المسلَّمات([15]). كما أن الدكتور مصطفى ملكيان نفسه يذعن بأن العقلانية «لا تعني عدم التعلّم من الآخرين، وعدم الجلوس بين يدي الأساتذة؛ للاستفادة منهم، وعدم الاستعانة بتجارب الآخرين، أو عدم الاهتمام بمعطيات العلوم البشرية»([16]). ومن ناحيةٍ أخرى لو نظرنا إلى عامّة المتدينين عبر تاريخ الأديان نرى أنهم قد آمنوا بكلام الأنبياء بشكلٍ مطلق، دون أن يتوصلوا إلى تجارب مماثلة، وبقوا على إيمانهم النظري بتعاليم الأنبياء حتّى آخر لحظة من حياتهم. فما الذي يمكن أن نستنتجه من هذا البحث؟ إن النتيجة التي أصل إليها هي أن البنية التعبّدية في العقائد الدينية لا تختلف كثيراً عن بنية التعبّد في غير العقائد الدينية. أجل، إن العرفاء في بداية سيرهم وسلوكهم يقبلون بالتعبّد بكلمات أئمة الدين، بَيْدَ أن هذا السنخ من التعبّد ـ كما أسلفنا ـ موجودٌ حتّى في غير مجالات الدين، مثل: العلم، أيضاً.

المسألة الثانية: لو افترضنا أن قوام الدين بالنسبة إلى جميع المتدينين في الحقيقة والواقع إنما يكون بالتعبّد، وأنه ليس هناك متديّن يمكنه الوصول إلى مرحلة الكشف والشهود الشخصي أبداً، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل التعبّد منحصرٌ بمجال العقائد الدينية فقط؟ وهل نحصل على عقائدنا الدينية على أساس التعبّد بكلام شخصٍ أو عددٍ من الأشخاص الآخرين؟ وهل أن مخزون العقائد والمتبنيات العلمية والتاريخية والرياضية والفلسفية وما إلى ذلك من العلوم الأخرى هي بأجمعها حصيلة التحقيق والدراسات الشخصية لنا؟ هذه هي المسألة التي تدور حولها عامّة أبحاث الدكتور مصطفى ملكيان ومخالفيه، ولا سيَّما من المنتسبين إلى الحوزة العلمية.

وحقيقة الأمر هي أننا نحصل على الكثير من عقائدنا من طريق الشهود، ويصطلح علماء المعرفة على هذا النوع من المعرفة بـ «المعرفة من طريق الشهادة»([17]). والنقطة الهامة في البين هي أن المعرفة من طريق الشهادة إذا اقترنت ببعض القيود ستكون مبرّرة من الناحية المعرفية، ولا يمكن من الناحية الأخلاقية مؤاخذة شخصٍ على ما يؤمن به من طريق الشهادة. فإذا قبلنا بأن التعبّد في غير المجال الديني له ما يبرّره يجب في مثل هذه الحالة إعادة النظر في حكم أخلاق الإيمان الذي ذكرناه سابقاً. إن أخلاق الإيمان لا ترى في القبول بالمدّعى تعبّداً عملاً غير أخلاقي. فإذا لم نعتبر قبول العقائد على أساس التعبّد عملاً غير أخلاقي أمكن للمتديّن أن يدّعي أن اعتماده على كلام أئمّة الدين هو من سنخ الرجوع إلى المتخصِّص.

إن الدكتور مصطفى ملكيان مدركٌ لهذه المسألة، وقال في تأييدها: «…إن على الشخص في المجالات الأخرى، غير مجال تخصُّصه، أن يتّخذ موقف المتعبّد في حضرة جميع المختصّين في تلك المجالات»([18]). وعليه يمكن لنا أن نتساءل (كما تساءل ملكيان نفسه ذات السؤال): «كيف نقول من جهةٍ: إن التعبّد بالنسبة إلى الإنسان العصري يُعَدّ عملاً غير مقبول، ونقول في الوقت نفسه: إن ضرورات تطوّر العلوم تلزمنا بأن نتعبّد بالرجوع إلى المتخصِّص؟»([19]).

يمكن لنا أن نحدس جواب الدكتور ملكيان عن هذا السؤال على النحو التالي: «إن الرجوع إلى المتخصِّص هو رجوعٌ مبرَّر؛ وذلك لأحد الطرق التالية: الطريق الأوّل: إن الأمر الذي يبيح لنا الرجوع إلى المتخصّص هو عُرْف أصحاب ذلك التخصُّص. فعندما يجمع كافّة علماء الفيزياء على اعتبار أنشتايْن عالماً في مجال الفيزياء فإننا إذا رجعنا إليه بدورنا إنما نكون في الواقع قد رجعنا إلى إجماع علماء الفيزياء الذين يعتبرون أنشتاين فيزيائياً. يوجد هنا نوعٌ من الاتجاه العام، والاتجاه العام في الكثير من الموارد ـ ومنها: هذا المورد ـ يبدو مُجْدياً…. والطريق الثاني: أن نرجع أحياناً إلى عالم في مجالٍ علميّ معيَّن…؛ وذلك لأنه أثبت في مقام العمل أن كلّ ما قام به على أساس علمه كان موفَّقاً وناجحاً…. وفي هذا الرجوع ليس لدينا تجربة شخصية، بَيْدَ أن تجارب الآخرين تثبت أن هذا الشخص يتمتَّع بخبرة شخصية استثنائية…. وأما الطريق الثالث: أن نرجع إلى شخصٍ دون أن يكون لرجوعنا في الوهلة الأولى ما يبرِّره، ولكننا بعد هذا الرجوع الأوّلي ندرك أن رجوعنا إليه كان موفَّقاً ومبرَّراً»([20]). وعلى هذا الأساس فإن للرجوع إلى المتخصِّص في غير العقائد الدينية شروطاً لا تتوفّر في مجال التعبّد الديني.

فهل الأمر كذلك حقّاً؟

لنبدأ قبل كل شيء من الطريق الأول. إننا نؤمن بالآراء والنظريات الفيزيائية لـ (أَلْبِرْت أنشتايْن)؛ لأن سائر علماء الفيزياء يعترفون بأنه مرجعٌ بارز في علم الفيزياء. وعليه ألا يمكن للمتدينين العاديين أن يقولوا: إنهم إنما تعبّدوا بكلام أئمة الدين؛ لأن الكثير من العرفاء والفلاسفة والمفكّرين قد اعترفوا بأن هؤلاء الأئمة في الدين يمثّلون مرجعية هامّة وبارزة في مجال الأمور الروحانية؟ يمكن لنا أن نأخذ ـ على سبيل المثال ـ شخصاً مسلماً يتعبَّد بكلام النبيّ؛ لأنه وجد الكثير من أصحاب البصائر الثاقبة، من أمثال: مولانا جلال الدين الرومي، ومحيي الدين ابن عربي، وصدر المتألّهين، وشيخ الإشراق السهروردي، ومنصور الحلاّج، وبايزيد البسطامي، وعين القضاة، والكثير غيرهم، قد اعتبروه مرجعاً موثوقاً، ويعترفون بقدره وقيمته، أو صحة كشفه وشهوده. فهل هناك بين هذين السنخين من الإيمان بكلام أَلبرت أنشتايْن والنبيّ فجوةٌ لا يمكن سدّها؟ وما هو الفرق بين أن نؤمن بكلام أنشتايْن، اعتماداً على ثقة الفيزيائيين به، وبين الإيمان بكلام النبيّ، اعتماداً على ثقة هذا العدد الكبير من الفلاسفة والمتكلّمين والمفكّرين به؟

ولو قال شخصٌ: ليس جميع العرفاء في التاريخ يؤمنون بشأن ومنزلة النبيّ الأكرم، قلنا له في المقابل: وهل جميع علماء الفيزياء يؤمنون بجميع آراء ونظريات أَلبرت أنشتايْن في علم الفيزياء؟! يُضاف إلى ذلك أننا إذا رجعنا إلى العلوم الأخرى ـ ولا سيَّما العلوم الإنسانية ـ سوف نجد أن دائرة الاختلاف والتفاوت بين التعبّد في الدائرة الدينية والدائرة غير الدينية سوف تضيق أكثر. فعلى سبيل المثال: هناك الكثير من علماء النفس الذين يؤمنون تعبّداً بآراء ونظريات (سيغموند فرويْد) والفرويديين في مجال علم النفس، ولكنّ هذا لا يعني أن جميع العلماء والمختصّين في علم النفس طوال القرن المنصرم كانوا يقبلون بآراء فرويد ونظرياته في هذا المجال([21]).

إن هذه الأمور تثبت أن التفاوت بين التعبّد في الدائرة الدينية والتعبّد في غير الدائرة الدينية ليس بهذا الحجم الكبير، كما يبدو.

كما يمكن لنا أن نذكر ذات هذا الشيء بالنسبة إلى الطريق الثاني أيضاً. ألا يمكن للمتدينين الادّعاء بأن تجارب المتقدّمين منهم تثبت إمكانية الإيمان بتعاليم إمام الدين على أساس التعبّد؟ لنتصوَّر مرّةً أخرى ـ مثلاً ـ مسلماً يصل من خلال التعويل على الحياة الروحية والأخلاقية لأشخاصٍ من أمثال: جلال الدين الرومي، ومنصور الحلاج، وعين القضاة، وسائر العرفاء وعلماء الأخلاق في العصور المتقدّمة، يصل من خلال ذلك إلى نتيجةٍ مفادها إمكان الاعتماد على تعاليم النبي الأكرم.

وطبقاً للطريق الثالث يمكن للمتديّنين الادّعاء بأنهم حيث التزموا بالتعاليم الاعتقادية والأخلاقية لأئمة الدين فإنهم يعيشون تجربة آثار هذا الالتزام والتعهّد بالحياة الروحية ـ الدينية أيضاً.

يبدو أن الشروط التي يفترضها ملكيان في تجويز الرجوع إلى المتخصّص متوفّرة في دائرة التعبّد الديني أيضاً.

بَيْدَ أن هذا الأمر لا يمثّل نهاية للمطاف؛ إذ هناك أدلة أخرى لدى الأستاذ ملكيان أيضاً. ومن بين الأدلة الكثيرة والهامّة التي يسوقها ملكيان في إثبات عدم عقلانية التعبّد الديني: إننا لا نستطيع أن نحرز صحّة بعض العقائد الدينيّة قبل الموت. وإن الإيمان بالمعاد وعالم ما بعد الموت في الأديان الإبراهيمية هو من بين مصاديق هذا النوع من المعتقدات. إن مراد الأستاذ ملكيان من هذا الكلام هو أننا في ما يتعلَّق بالأمور غير الدينية عندما نرجع إلى المختصّ يمكن لنا أن ندرك صحّة رأيه من خلال الآثار المترتّبة على رأيه. فإننا ـ على سبيل المثال ـ وإنْ كنّا في بداية الأمر نؤمن بكلام الأطباء تعبّداً، ولكنْ عندما نستعيد عافيتنا ونبرأ من المرض بعد تناول الدواء نحرز صحة رأيهم في هذا العالم. ومن الواضح أن مثل هذا الأمر لا يصدق على الإيمان بالمعاد وعالم ما بعد الموت، فإننا من خلال الاعتماد على كلام الأنبياء لا نستطيع الوصول إلى صحّة آرائهم في هذه الدنيا أبداً، وإنما يمكن لنا التثبُّت من صحّة كلام الأنبياء عندما تقوم القيامة في العالم الآخر.

وعلى هذا الأساس فإن ملكيان يفرِّق بين التعبّد في الأمور الدينية والتعبّد في غير الأمور الدينية؛ فالأول من وجهة نظره غير عقلاني؛ وأما الثاني فهو عقلاني.

ولكن توجد هنا بعض النقاط الجديرة بالتأمُّل. يبدو أن الأمثلة التي يسوقها ملكيان لإثبات الفرق بين التعبّد الديني والتعبّد غير الديني أمثلةٌ انتقائية. ولا بأس بذكر مثالٍ لتوضيح الأمر. لنفترض أن شخصاً لا يمتلك أيّ استعداد لفهم المسائل الفيزيائية، كما أنه لا يمتلك حتّى معلومات بسيطة ومستهلكة في هذا العلم، ثم يذهب إلى متخصِّص بارز في الفيزياء، ويطلب منه أن يشرح له نظرية النسبية العامة والخاصة. من الواضح أن جهود هذا الفيزيائي في إفهام معنى النظريات النسبية لهذا الشخص ستبوء بالفشل. ومن الواضح أن هذا الشخص لن يتمكّن من فهم هذه النظريات حتّى آخر لحظةٍ من حياته. وعندها يمكن لهذا الشخص أن يقوم بأحد أمرين؛ فإما أن يتخلى عن جهوده في فهم النظرية النسبية؛ أو أن يؤمن بها تعبّداً. ولو افترضنا أن هذا الشخص آمن بالنظرية النسبية لا يمكن أن نعتبر إيمانه التعبّدي عملاً غير عقلاني، حتّى إذا بقي على جهله بالنظرية النسبية إلى آخر حياته.

وهكذا فإن المتدينين إذا صدّقوا بكلام الأنبياء في بعض الموارد، دون أن يتمكّنوا من تبيُّن صدقها قبل الموت، لا يمكن القول بأن تعبّدهم غير عقلاني. ثم إنه يمكن أن نفترض متديّناً لم يتوصّل إلى نتيجةٍ حاسمة بشأن الإيمان باليوم الآخر، يمكن لهذا أن يعلّق الحكم أو يؤمن بوجود اليوم الآخر والقيامة بعد الموت تعبّداً. فهل إذا آمن باليوم الآخر في مثل هذه الحالة يكون عمله غير عقلاني؟ يبدو أنه طبقاً لآراء ملكيان نفسه لا يمكن اعتبار الإيمان بوجود الآخرة تعبّداً في مثل هذه الحالة عملاً غير عقلائي. يرى الأستاذ ملكيان أننا عندما نتعاطى مع موردٍ لا عقلاني([22])، بحيث يتساوى هو ونقيضه من حيث النفي والإثبات، «يجب علينا الإيمان بتلك القضية التي تكون الآثار والنتائج المترتّبة على الاعتقاد بها أكثر ضماناً وتلبية لسلامتنا النفسية»، بمعنى أننا من الناحية الواقعية([23]) ـ أو بعبارةٍ أخرى: من الناحية المعرفية([24]) ـ لا يمكن لنا الانحياز إلى أيّ واحدةٍ من القضيتين. بَيْدَ أننا هذه المرّة ننظر إلى القضية بشيءٍ من البراغماتية([25])، وبرؤية ذرائعية تبحث في الآثار المترتّبة على الإيمان بها على مستوى السلامة النفسية، فنختار تلك القضية التي تضمن سلامتنا الروحية والنفسية بشكلٍ أكبر. وهذا الأمر لا يحدث في الدين والمذهب فقط. فعلى سبيل المثال: ما هو الدليل الذي تمتلكه على إثبات أن العالم الخارجي مستقلّ عن ذهنك ونفسك؟ ليس هناك أيّ دليل على ذلك. كما أنه لا يوجد هناك أيّ دليل على أن هذا العالم الخارجي ليس مستقلاًّ عن ذهنك ونفسك. ومع ذلك عندما تعتبر العالم الخارجي مستقلاًّ عن ذهنك ونفسك ستجد ذلك أضمن لسلامتك الروحية والنفسية. وهنا يأتي دور بحث ملاكات سلامة النفس والروح، وسيتّخذ البحث من الآن فصاعداً منحىً نفسياً، ومنحىً إنسانياً»([26]). وعلى هذا الأساس، فإنه طبقاً لرأي الأستاذ مصطفى ملكيان نفسه لن يكون الإيمان بالله أو الآخرة ـ شريطة أن يضمن لنا سلامتنا الروحية والنفسية ـ عملاً غير معقول.

تتّخذ انتقادات الأستاذ ملكيان ـ من حينٍ لآخر ـ شكلاً آخر أيضاً. يقول المخالفون لملكيان: إن لديهم دليلاً عقلياً على تعبّدهم. ويجيب الأستاذ ملكيان عن ذلك بقوله: «أوّلاً: هاتوا دليلكم العقلي على التعبّد بشخصٍ خاص. وثانياً: إن التعبّد إذا استند إلى دليلٍ سوف يخرج عن كونه تعبّداً»([27]).

ولنتجاوز الآن النقطة الثانية؛ لكونها أشبه بالنزاع اللفظي الذي لا ينطوي على أهمّية كبيرة؛ إذ إن إطلاق عنوان التعبّد أو التعقّل على التعبّد المستند إلى الدليل لن يغيّر شيئاً.

أما الدليل الأول لملكيان فإنه مثيرٌ للتأمُّل جدّاً. حقّاً ما هو الدليل على التعبّد بشخصٍ خاصّ؟ في الحقيقة إن الأستاذ ملكيان يطالب خصومه بأن يأتوا بدليل على تعبّدهم بشخصٍ بعينه. وخصومُه بدورهم يمتلكون أدلّةً على مثل هذا التعبّد. وإن التمسّك بوحيانية تجربة الأنبياء، والتشبّث بالمعجزات الصادرة على الأنبياء، من بين الأدلة التي يسوقونها على التعبّد بالأنبياء.

يبحث الأستاذ مصطفى ملكيان، في مقالٍ له بعنوان: «ملاك أحقّية كلّ دين»، في ملاكات تمييز الدين الحقّ من الدين الباطل. إن ذكر جميع المسائل المتعلقة بمقال الأستاذ ملكيان تطيل البحث دون طائل، ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى إحدى النقاط الهامّة. فكما تقدّم أن ذكرنا إن أحد أهمّ أدلة خصوم ملكيان لتبرير التعبّد بشخصٍ هو التمسّك بالمعاجز. ومن بين الأمور التي يذكرها الأستاذ ملكيان في مقاله أن الكرامة والموهبة والفيض أو الاستعدادات الربانية لا يمكنها أن تكون «دليلاً على صدق أحكام وتعاليم الدين»([28]).

يقول الأستاذ مصطفى ملكيان: لا بُدَّ أن يكون هناك نوعٌ من التناسب بين الدليل والمدّعى. وهنا يذكر الأستاذ ملكيان مثاله البديع؛ إذ يقول: «إن الذي يدّعي أن مجموع زوايا المثلث تعدل 180 درجة لن يستطيع إثبات ذلك من خلال حمل سلسلة جبال الهمالايا وإرسالها إلى أمريكا اللاتينية؛ إذ إن غاية ما نستطيع أن نفهمه من ذلك هو أن لديه قدرةً خارقة أو علماً يستطيع معه اجتراح مثل هذا الأمر المعجز، الذي لا يمكن لغيره أن يفعله»([29]). وعلى هذا الأساس فإن فلق البحر أو إحياء الموتى ـ على فرض تحقُّقه ـ لا يثبت أحقّية تعاليم الشخص.

إن استدلال الأستاذ ملكيان يدعو إلى التأمُّل. ولكنْ قد يمكن للمتدينين أن يأتوا بتوضيحٍ معقول في هذا الشأن؛ إذ يمكن لهم أن يدّعوا أن اجتراح مثل هذه الأمور الخارقة لا تحصل في التاريخ إلاّ نادراً، ولذلك يجب في بيان أسباب حدوث مثل هذه الأمور أن نفترض أن الذين يستطيعون اجتراح مثل هذه الخوارق مسدّدون ومؤيدون بنصر الله. لا أقول: إن هذا الكلام يمكن له أن يكون جواباً مقنعاً عن إشكال الأستاذ مصطفى ملكيان، إلاّ أنه يمكن للمتدينين أن يدّعوا أن خير بيان لمثل هذه الأحداث الخارقة هو التمسُّك بالمدد أو النصر الإلهي. ومن ناحيةٍ أخرى فإن التعبّد في غير الأمور الدينية هو من هذا القبيل أيضاً. فلو تساءلنا: لماذا يجب الاعتماد والتعويل على إجماع العلماء في مجالٍ علميّ بعينه؟ قد يكون الجواب: إن العلماء المتخصّصين في ذلك العلم قد أفنَوْا سنين طويلة من حياتهم، وأوقفوا حياتهم على البحث والتحقيق في مسائل ذلك العلم، وعليه تكون نتائج تحقيقهم موثوقة، ويمكن الاعتماد عليها. فهنا أيضاً لا يوجد تناسبٌ متين بين المدّعى العلمي الخاصّ وأدلتنا على الإيمان والقبول به.

خلاصة الكلام

إن انتقادات الأستاذ ملكيان بشأن عقلانية التعبّد الديني قويّةٌ وجادّة. بَيْدَ أنه يمكن القول في الوقت نفسه: إن الإجابات التي يقدِّمها خصومه مقنعةٌ إلى حدٍّ ما. إن بعض أدلة الأستاذ مصطفى ملكيان تبدو للوهلة الأولى حاسمة، وتحمل معها فصل الخطاب، ولكنْ يمكن في المقابل تصوُّر إجابات لا تخلو من القوّة الاستدلالية.

وعلى أيّ حالٍ يبدو أن ملف البحث يبقى مفتوحاً على حاله.

وربما كانت النقطة الرئيسة في إجابات المخالفين لملكيان تكمن في أن صيغة وبنية التعبّد في الأمور الدينية لا يختلف عن بنية التعبّد في غير الأمور الدينية كثيراً، وإن الاختلافات القائمة بين هذين التعبّدين لا يضرّ بعقلانية التعبّد الديني.

ولو نظرنا إلى نقاش الطرفين بنظرةٍ حيادية ومتجرّدة يبدو أن الكفّة لا تميل لصالح أحد الطرفين. ولا بأس هنا بإعادة النقطة المنطقية التي افتتحنا بها هذا المقال، وهي أني قد استعرضت الأدلّة التي أقامها الأستاذ ملكيان على مدّعاه، واستنتجت أن هذه الأدلة ليست قاطعةً، كما يبدو. ولكنْ كما نعلم فإن ردّ أدلة المدّعى لا يمكنه أن يردّ ذات المدّعى. فلكي نثبت بطلان المدّعى من الضروري أن نثبت نقيض المدّعى. وأنا لم أتعرَّض إلاّ إلى ردّ أدلّة الأستاذ ملكيان في مؤلَّفاته وحواراته وكلماته العامة، وتركت ملف البحث في مسألة التنافي بين التعبّد الديني والعقلانية مفتوحاً.

وفي الختام لا بُدَّ من التذكير ببعض النقاط:

النقطة الأولى: لا شَكَّ في أن جميع المسائل التي أثارها الأستاذ ملكيان في باب عدم الانسجام بين العقلانية والتعبّد الديني دقيقةٌ، وتدعو إلى التأمّل. لقد فتح الأستاذ مصطفى ملكيان من خلال أسئلته الجديدة وإثاراته الفكرية أعيننا على آفاق جديدة. إن مفهوم التعبّد يُعَدّ اليوم واحداً من أهم المسائل النظرية والعملية. وقد تحدَّث (هانا آرنت) في بعض كتاباته أن القضاء على جميع أنواع التعبّد التقليدي يُعَدّ واحداً من الخصائص المبهرة للعالم الحديث([30]). إن مسألة التعبّد تمثِّل تحدّياً كبيراً لعلماء المعرفة وفلاسفة السياسة، فقد أخذ علماء المعرفة يواجهون البُعْد الاجتماعي لمسار المعرفة أكثر من ذي قبل([31])، وبدأ الليبراليون من فلاسفة السياسة يسعَوْن للدفاع عن مشروعية الحاكمية السياسية في مواجهة الفوضويين([32]). لقد تسبّب الاستقلال الذاتي، والمطالبة بالمساواة، بمعضلةٍ كبيرة للمؤسّسات المعرفية والسياسية التقليدية. ومن الواضح أن المجتمع الذي تعمل فيه المؤسّسات غير الجماهيرية (أي تلك التي لا تخضع للرقابة، ولا تتحمّل المسؤولية) على انتهاك الحقوق السياسية للناس، وتقضي على كافّة فرص التنمية السياسية والاقتصادية، تكتسب فيه مسألة التعبّد ـ سواء على المستوى المعرفي أو السياسي ـ أهمّية مضاعفة. إن جانباً من مشاكلنا الاجتماعية ناتجٌ عن أن بعض الأشخاص والمؤسّسات تطالب بتعبّد لا يحظى بأيّ مكانةٍ في ذهن العاملين في الوسط الثقافي الحديث. وللإنصاف فإن الأستاذ ملكيان هو الذي عرَّفنا ـ من خلال إثارته للأسئلة الناظرة إلى الحجّية المعرفية للوحي، والقول بعدم التناغم بين العقلانية والتعبّد الديني ـ إلى أحد أهمّ الأبحاث النظرية والسياسية الحديثة. وقد لا تكون إجاباتنا عن تلك الأسئلة هي ذات إجابات الأستاذ ملكيان عنها، بَيْدَ أن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أننا بعد التعمّق في آثاره لا نستطيع النظر إلى المسائل بنفس النظرة القديمة. ومن هذه الناحية فإن الأبحاث المتنوّعة التي يثيرها الأستاذ ملكيان ترفع من مستوى البحث والتأمّل النقدي في مجال المسائل المعرفية والدينية إلى الحدود القصوى.

النقطة الأخرى: إن النقاش والبحث بين الأستاذ ملكيان وخصومه من الحوزويين نقاشٌ غير متكافئ. ولسنا نرى حاجةً إلى القول بأن الأستاذ ملكيان ـ لأسباب لا تخفى على اللبيب ـ لا يستطيع الإدلاء بكلّ ما يجول في ذهنه، خلافاً لخصومه الذين يتمتَّعون بهامشٍ كبير من الحرّية، يسمح لهم بقول كلّ ما يريدون. إن الأمر بين ملكيان وخصومه من هذه الناحية يشبه إلى حدٍّ كبير منافسة في مباراة بين فريقين لكرة القدم، يسمح فيها لأعضاء أحد الفريقين باستعمال أيديهم مع أرجلهم، في حين لا يسمح لأعضاء الفريق الآخر باستخدام أيديهم. ومثل هذا الامتياز هو الذي حُرم منه الأستاذ ملكيان، دون خصومه. إن هذا البحث والحوار غير المتكافئ، الذي هو نتاج الفضاء الفكري المغلق، ينتهك قواعد اللعبة، ويسدل الستار دون مواصلة الحوار الحُرّ. ومن هنا فإن البرم والشكوى الصادرة عن الأستاذ ملكيان بقوله: «إن البحث والتحقيق الفلسفي لا ينسجم مع التكفير» لها ما يبرِّرها. وعليه نأمل من الذين يدعون الآخرين إلى البحث والنقاش أن يعملوا على منح خصومهم فرصةً متكافئة من حرّية التعبير، وهامشاً واسعاً في الحوار.

وفي الختام لا بُدَّ من الإشارة إلى نقطة في مجال «الحجّية المعرفية للوحي». سبق لنا أن ذكرنا أن هذه المسألة هي غير مسألة عقلانية التعبّد الديني. فعلى الرغم من وجود الارتباط بين هاتين المسألتين، بَيْدَ أن بالإمكان التفكيك بينهما. والذي يبدو لي هو أن النقطة الرئيسة في الأبحاث التي يطرحها الأستاذ ملكيان تكمن في البحث عن الحجّية المعرفية للوحي؛ إذ إن الذي ينكر الحجّية المعرفية للوحي ـ أو يشكّك فيها على أحسن التقادير ـ تكون مسألة التعبّد الديني مرتفعةً بالنسبة إليه من تلقائها.

وربما أمكن تبويب مسألة الأستاذ مصطفى ملكيان على النحو التالي: «ما الذي تعنيه النصوص الدينية المقدّسة المجرّدة عن التعبّد؟ وما هي منزلتها وآليتها؟». لا شَكَّ في أن الأستاذ مصفى ملكيان قد أثار في مؤلَّفاته العديد من الأسئلة الجادّة في هذا الشأن. إن الأسئلة الثلاثة التي يثيرها الأستاذ ملكيان، وهي:

أـ الحجّية المعرفية للوحي.

ب ـ وثاقة النصوص الدينية المقدّسة من الناحية التاريخية.

ج ـ المنهجية والاعتبار الهرمنيوطيقي لتفسيرنا للنصوص المقدّسة([33]).

هي من الأسئلة الهامّة جدّاً. ومَنْ ذا الذي لم يطَّلع على الأبحاث الجديدة في هذا المجال، ولا يدري أن دراساتنا الدينية في هذه المحاور الثلاثة لا تعدو أن تكون مجرّد شكليات بحتة؟! والذي يبدو أن هذه المسائل الثلاث هي التي أوصلت الأستاذ ملكيان إلى ما هو عليه الآن، وليس البحث في عقلانية التعبّد الديني. وإن دراسة لقاءَيْه المرتبطين بـ «ضرورات البحث القرآني» و«استفهامات حول المعنوية» يمكن لها أن تسلّط ضوءاً كاشفاً من هذه الناحية. وأرى أن على الراغبين في الاطّلاع على مشروع العقلانية والمعنوية، وعلى الشغوفين بتيار التنوير الديني، أن يتابعوا البحث بشأن المسائل الثلاث المتقدّمة بشكلٍ جادّ؛ إذ يمكن لهذا المشروع التحقيقي أن ينطوي على الكثير من الثمار النظرية والعلمية([34]).

الهوامش

(*) أستاذٌ جامعيّ، حائزٌ على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الغربيّة من جامعة الشهيد بهشتي.

([1]) مصطفى ملكيان، راهي به رهائي، جستارهائي در عقلانيّت ومعنويت: 51 ـ 52، نشر نگاه معاصر، ط3، طهران، 1387هـ.ش.

([2]) انظر: مصطفى ملكيان، مهرنامه، العدد 2: 53، بتاريخ: شهر آذر، سنة 1392هـ.ش.

([3]) يقول مصطفى ملكيان: «منذ عام 1380هـ.ش توصّلت إلى ما أسمّيه بالمرحلة الخامسة، وهو ما صنعته بنفسي. وهو ما أعبِّر عنه بالعقلانية والمعنوية. فأنا منذ عام 1380هـ.ش إلى اليوم [عام 1392هـ.ش] أراوح على مدى اثني عشر عاماً في هذه العقلانية والمعنوية، ثمّ إني إذا وجدتُ ما أنا عليه غير قابلٍ للدفاع أيضاً قد أنتقل إلى المرحلة السادسة والسابعة أيضاً، ولن أبالي بتغيير قناعتي من وقتٍ لآخر». مصطفى ملكيان، مهرنامه، العدد 2: 52 ـ 53، بتاريخ: شهر آذر، سنة 1392هـ.ش.

([4]) إن (مشروع العقلانية والمعنوية) هو العنوان الذي أطلقه الآخرون على نظرية (الدكتور مصطفى ملكيان)، وإن ملكيان نفسه تحدّث عن (مشروع الجمع بين العقلانية والمعنوية). وعلى أيّ حالٍ فإن عنوان (مشروع العقلانية والمعنوية) أصبح هو المتداول، وقد سمحتُ لنفسي باستعمال ذات هذا العنوان في نصّ المقال. انظر إلى العبارات الأولى من كلمة الدكتور ملكيان على الرابط التالي:

http://neeloofar.org/thinker/mostafamalekian/lecture/288-2012-02-10-08-44.html

ومن الواضح أنه يمكن لنا أن نطرح سؤالاً مشابهاً آخر، وهو: ما هو السبب أو الأسباب التي دفعت الدكتور مصطفى ملكيان إلى الإعراض عن الأصولية الدينية والتراث الديني والوجودية الإلهية؟

([5]) انظر: مقال (روح نا آرام يك روشنفكر): السيرة الفكرية لمصطفى ملكيان في حوارٍ معه، منشور في مجلة (أنديشه بويا): 26، بتاريخ: أرديبهشت وخرداد، عام 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([6]) إن الدكتور عبد الكريم سروش، وسروش دباغ، وحسين أشكوري، وهادي صادقي، هم من بين المفكّرين الذين أجابوا عن مدّعى عدم التناغم بين التعبّد الديني والعقلانية.

([7]) وهذه الكتب هي كالتالي: راهي به رهائي، وجستارهايي در عقلانيت ومعنويت (1380هـ.ش)، وسنّت وسكولاريسم (1381هـ.ش)، ومهر ماندگار، ومقالاتي در أخلاق شناسي (1385هـ.ش)، ومشتاقي ومهجوري: حوار في مجال الثقافة والسياسة (1385هـ.ش)، وحديث آرزومندي، وجستارهائي در عقلانيت ومعنويت (1389هـ.ش). وبطبيعة الحال فقد اشتمل كتاب (سنّت وسكولاريسم) على مقالات لـ: عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ومحسن كَدِيوَر، أيضاً.

([8]) لقد صرّح الدكتور مصطفى ملكيان نفسه قائلاً: «إن مَنْ يحصل على المقاطع الصوتية أو النصوص المكتوبة للحوارات واللقاءات والمحاضرات والاجتماعات والكلمات، ويقوم بنقدها، فكأنه يقوم بنقد تراثي المكتوب، دون أن يكون هناك فرقٌ في ذلك». انظر: مقال (روح نا آرام يك روشنفكر): السيرة الفكرية لمصطفى ملكيان في حوارٍ معه، منشور في مجلة (أنديشه پويا): 26، بتاريخ: أرديبهشت وخرداد، عام 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([9]) انظر: مصطفى ملكيان، سنّت وسكولاريسم (پرسشهائي پيرامون معنويت): 356 ـ 358. وانظر أيضاً: مجلة (أخبار أديان)، التي تصدر كل شهرين، العدد 13: 67، (أرديبهشت وخرداد، سنة 1384هـ.ش)، وفي كتابه (سنّت وسكولاريسم) أضاف الدكتور ملكيان النـزعة الانطوائية أيضاً.

([10]) انظر: مجلة (أخبار أديان)، العدد 13: 67 (أرديبهشت وخرداد، سنة 1384هـ.ش)، وفي كتابه (سنّت وسكولاريسم) أضاف الدكتور ملكيان النـزعة الانطوائية أيضاً.

([11]) انظر: المصدر السابق، العدد 11: 67.

([12]) انظر: المصدر السابق، العدد 11: 71.

([13]) يسأل الدكتور مصطفى ملكيان في كتابه (راهي به رهائي) عن (الحجّية المعرفية لشخص أو أشخاص تنسب إليهم الكتب الدينية المقدّسة). انظر: مصطفى ملكيان، راهي به رهائي، جستارهائي در عقلانيّت ومعنويت: 126. وفي حدود علمي فإن الدكتور ملكيان في مؤلفاته وحواراته وكلماته لم ينكر الحجّية والاعتبار المعرفي للتجارب الدينية ـ العرفانية بالنسبة إلى أصحاب تلك التجارب، وإن كان يبدو من كلماته أنه يشكّك في حجّية واعتبار تلك التجارب. فإنه عندما يتحدّث عن المصادر المعرفية ـ على سبيل المثال ـ يأتي على ذكر الحسّ والعقل والشهود والاستبطان والذاكرة والشهادة، ولم أجِدْه يدرج التجارب الدينية ـ العرفانية ضمن قائمة المصادر المعرفية.

([14]) مقال (روح نا آرام يك روشنفكر): السيرة الفكرية لمصطفى ملكيان في حوارٍ معه، منشور في مجلة (أنديشه پويا): 26، بتاريخ: أرديبهشت وخرداد، عام 1391هـ.ش. وانظر أيضاً: مصطفى ملكيان، مشتاقي ومهجوري: حوار في مجال الثقافة والسياسة: 21 ـ 320، نشر نگاه معاصر، طهران، 1385. (مصدر فارسي).

([15]) كان (مايكل بولاني) و(كارل بوبر) من أوائل الذين أكّدوا على دور التقليد العلمي. فقد ذهب بولاني وبوبر إلى القول بأن من الأفضل للمبتدئين في مجال العلم أن يقبلوا بما يمليه عليهم الأساتذة المخضرمون من دون دليلٍ؛ كي يغدو بإمكانهم التقدُّم بقافلة العلم خطوة نحو الأمام. انظر في هذا الشأن الكتابين التاليين لمايكل بولاني وكارل بوبر:

– Polanyi, M. 1946. Science, Faith and Society. Oxford University Press.

ـ كارل بوبر، حدس ها وإبطال ها: رشد شناخت علمي، مقال (به طرف نظريه إي درباره سنّت): 148 ـ 166، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد آرام، نشر شركت سهامي انتشار، ط3، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([16]) انظر إلى الحوار الذي أجري مع الدكتور مصطفى ملكيان، تحت عنوان (سازگاري معنويت ومدرنيته)، الموجود على الرابط التالي:

http://neeloofar.org/thinker/mostafamalekian/lecture/288-2012-02-10-08-44.html

([17]) Knowledge by Testimony.

([18]) انظر: مصطفى ملكيان، مقال (إنسان سنّتي، إنسان مدرن ومسألة تعبّد)، مجلة آيين، العددان 17 ـ 18: 1001، آذر ودي. (مصدر فارسي).

([19]) مقال (روح نا آرام يك روشنفكر): السيرة الفكرية لمصطفى ملكيان في حوارٍ معه، منشور في مجلة (أنديشه پويا): 1001، بتاريخ: أرديبهشت وخرداد، عام 1391هـ.ش. وانظر أيضاً: مصطفى ملكيان، مشتاقي ومهجوري: حوار في مجال الثقافة والسياسة: 21 ـ 320، نشر نگاه معاصر، طهران، 1385. (مصدر فارسي).

([20]) انظر: روح نا آرام: 1002.

([21]) للوقوف على النقد المدمّر والحاسم لآراء فرويد انظر، على سبيل المثال: هانس آيسنك، أفول إمبراتوري فرويدي (أفول الإمبراطورية الفرويدية)، ترجمه إلى اللغة الفارسية: يوسف كريمي، انتشارات سمت، طهران، 1379هـ.ش. ومما يقوله في الختام في معرض تقييم ونقد موقع فرويد: «لا شَكَّ في أنه [أي فرويد] كان عبقرياً، ولكنّ عبقريته لا تكمن في علمه، وإنما في الدعاية والتسويق فقط! إنه لم يكن عبقرياً في عرض الوثائق الدقيقة، بل كانت عبقريته تكمن في القدرة على الإقناع! لم تكن عبقريته في إنشاء المختبرات، وإنما في عرض الكلام ضمن الإطار الأدبي والفني. لم يكن فرويد يتمتّع بذات المكانة التي كان يتمتّع بها كوبرنيق ودارْوِن، وإنما يمكن تصنيفه في عداد (هانس كريستيان آندرسن) والإخوة غرايم، من رواة القصص الأسطورية. قد يبدو هذا الكلام قاسياً جدّاً، ولكنّ المستقبل كفيلٌ بإثبات صحّته… إن علم النفس في أحسن حالاته إنما هو تبلور مبكّر للقوانين الوضعية، وهو في أسوأ حالاته دينٌ شبيه بالعلم، أحدث صدمةً مروّعة في علم النفس والطب النفسي، كما أضرّ بالكثير من المرضى الذين عقدوا الكثير من الآمال عليه. وقد حان الوقت لكي نتعامل معه بوصفه فضولاً وتطفّلاً تاريخياً لا أكثر…». انظر: المصدر السابق: 3 ـ 252.

([22]) irrational.

([23]) realism.

([24]) epistemology.

([25]) pragmatism.

([26]) انظر: الحوار الذي أُجري مع الدكتور مصطفى ملكيان، تحت عنوان: (سازگاري معنويت ومدرنيته)، الموجود على الرابط التالي:

http://neeloofar.org/thinker/mostafamalekian/lecture/288-2012-02-10-08-44.html

وقال ملكيان في موضع آخر: «في خصوص العقائد الدينية اللاعقلانية في شقي A  و C … يمكن القول: إن مجرد التأثير الإيجابي للالتزام بالعقيدة على النفس يبرِّر الإنحياز إلى تلك العقيدة». انظر: مصطفى ملكيان، مهر ماندگار: مقلات في فلسفة الأخلاق: 421، نشر نگاه معاصر، طهران، 1385هـ.ش. (مصدر فارسي).

([27]) انظر: مقال (روح نا آرام يك روشنفكر): السيرة الفكرية لمصطفى ملكيان في حوارٍ معه، منشور في مجلة (أنديشه پويا): 26، بتاريخ: أرديبهشت وخرداد، عام 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([28]) انظر: مصطفى ملكيان، حديث آرزومندي: جستاري در عقلانيت ومعنويت: 103، نشر نگاه معاصر، طهران، 1389هـ.ش. (مصدر فارسي).

([29]) انظر: المصدر السابق: 103.

([30]) See: Arendt, H. 1961. Between Past and Future, Six Exercises in Political Thought, New York: The Viking Press. P. 100.

([31]) منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين أضحَتْ المعرفة الاجتماعية مجالاً رئيساً في الفلسفة الإنجليزية ـ الأمريكية. للمزيد من الاطلاع حول أبحاث (المعرفة الاجتماعية) انظر المصدر التالي:

– Encyclopedia of Philosophy, 2006. Second edition, edited by Donald M. Borchert, Vol. 9, pp. 83 – 7.

كما يمثّل الكتاب الجديد للدكتورة (ليندا زاكزبسكي)، بعنوان: (الحجية المعرفية، نظرية في مجال الاعتماد)، حجّية واستقلالية ذاتية في الاعتقاد الراسخ للدفاع عن الحجّية المعرفية والاستقلال المعرفي والتفسير الصحيح لهذه المفاهيم. انظر المصدر التالي:

Zagzebski, L. T. 2012. Epistemic Authority: A Theory of Trust, Authority and Autonomy in Belief, Oxford University Press.

([32]) لقد استنتج بعض المفكّرين الفوضويين عدم إمكان الدفاع عن هذا الانصياع [أو الامتثال السياسي]، واعتباره أمراً مشروعاً، وانتقدوا الرؤية الفلسفية التي تعتبر السلطة السياسية أمراً بديهياً، ومبرراً من الناحية الأخلاقية. يصرّ هؤلاء الفوضويون على أن الصيغة الوحيدة للاجتماع الإنساني، والتي يمكن الدفاع عنها، هو التجمُّع الإنساني الذي لا يكون فيه لأحدٍ أو منظومة سلطة على أحدٍ، بحيث تفرض رأيها على الآخرين بالقوّة. انظر المصدر التالي:

ـ جين همبتن، فلسفه سياسي: 6 ـ 25، ترجمه إلى الفارسية: خشايار ديهيمي، انتشارات طرح نو، ط2، طهران، 1385هـ.ش. (مصدر فارسي).

وعلى حدّ تعبير ـ الخبير بـ (كانْت) والفوضوي الأمريكي المعروف ـ (روبرت بول وولف): «إن الدولة المشروعة من الناحية الأخلاقية، مفهوم مستحيل». انظر المصدر التالي:

Paul Wolff, R. 1998. In Defense of Anarchism, University of California Press. P. vii.

([33]) انظر: مصطفى ملكيان، سنّت وسكولاريسم (پرسشهائي پيرامون معنويت): 8 ـ 356. وانظر أيضاً: مجلة (أخبار أديان)، العدد 13: 67 (أرديبهشت وخرداد، سنة 1384هـ.ش)، وفي كتابه (سنّت وسكولاريسم) أضاف الدكتور ملكيان النـزعة الانطوائية أيضاً.

([34]) انظر: مصطفى ملكيان، راهي به رهائي، جستارهائي در عقلانيّت ومعنويت: 495 ـ 504 (ولا سيَّما المضامين الواردة ما بين صفحتي 498 ـ 500)؛ وانظر أيضاً: مصطفى ملكيان، سنّت وسكولاريسم (پرسشهائي پيرامون معنويت): 8 ـ 356.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً