أحدث المقالات

الشيخ محمد رضا المظفر(*)

تـنظيم وإعداد: أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد

تـنشر هذه الوثيقة الخطية للمرة الأولى من تراث العلامة المجدّد المغفور له الشيخ محمد رضا المظفر، وهي تبيّن بعض آرائه النقدية والتجديدة في أصول الفقه الإسلامي.

[تفكيك مصطلح علم أصول الفقه]

   قد تكون إضافة كلمة علم لأصول الفقه غير جارية على أصولها؛ لأن هذه الأصول ليست علماً بذاته، إنما هي جزء من علم إذا صح ما يقولونه من أن مبادئ العلوم، سواء كانت تصورية أم تصديقية، أجزاء من علومها؛ لبداهة أن هذه الأصول من المبادئ التصديقية لعلم الفقه للاستدلال بها على المسائل الفقهية. وقد قلنا في مبحث الاجتهاد والتقليد: إن علم الفقه ليس هو القدرة على استـنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة من مقدماتها، أعني الأدلة الأربعة، وهي: أولاً: الأدلة الاجتهادية، كخبر الواحد، والإجماع، والشهرة ـ بناءً على حجيتها ـ؛ والأصول الإحرازية، كالاستصحاب، فإن فيها جهة كشف وإثبات للواقع، وبعد قيام الدليل الاجتهادي على اعتباره قد صار حجة؛ وثالثها: الأصول غير الإحرازية، كالبراءة، والاحتياط الشرعيين؛ ورابعها: الأصول العقلية، كالتخيير، والبراءة، والاحتياط ـ على القول به ـ، وهي مرتبة في أعمالها، فمع الأدلة الاجتهادية لا مسرح للأصول الإحرازية، ومع الأصول الإحرازية لا مسرح للبراءة الشرعية، وهكذا؛ لحكومة الأدلة السابقة على اللاحقة، ورفعها لموضوعها من أساسه. وهذه الأعمال الأربعة ليست هي في أساسها إلا مسائل الأصول. ولعل كلمة (أصول) وإضافتها إلى الفقه تعني أن لكل مسألة استقلالها الذاتي في القيام بوظيفتها، ولا ارتباط لها بالباقي، وما دامت كذلك فليست هي علماً واحداً، وإنما هي مجموعة مسائل لها مدخلية ما في استـنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة، شرعية أو عقلية، ومدخليتها في الاستـنباط قد تكون مباشرة، كالكبريات المنتجة لها، وقد تكون غير مباشرة، كمباحث الألفاظ التي تقع غالباً صغريات للقياس الشرعي، فلا وجه لتخصيص شيخنا النائيني لها بالكبريات.

[وقفة مع موضوع العلم]

اذاً كما لا خصوصية لما ذكر من مباحث الألفاظ تختص بها دون بقية البحوث اللغوية أو النحوية مما له علاقة بالاستـنباط بالنسبة إلى الأصول، وقد قلنا هناك: إن هذه بحوث لم تقع بحثاً في مظانها، فحررت هذه الأصول وإذا صح هذا، أو تم ما قلناه من أنها ليست علماً قائماً بذاته، استغنينا عن التماس بحث الموضوع وما شاكله من البحوث، وإن كان سوق الكلام إلى الأعراض، وتقسيمها إلى الذاتية والغريبة، لا يخلو من فائدة، وقد جاء في تعريف موضوع العلم لدى صاحب الكفاية: موضوع كل علم
هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، أي بلا واسطة في العروض، والعوارض في واقعها لا تعدو أحد أقسام العوارض الذاتية، والعوارض الغريبة، وهي سبعة كما ذكرها المنطقيون:

الأول: ما يعرض للشيء أولاً وبالذات، من دون توسط شيء أصلاً.

الثاني: ما يعرض للشيء بواسطة جزئه المساوي، كعروض إدراك الكليات للإنسان بواسطة النطق، بناء على أنه فصل للإنسان.

الثالث: ما يعرض للشيء بواسطة الخارج المساوي، كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجب.

الرابع: ما يعرض للشيء بواسطة الجزء الأعم، كعروض المشي للإنسان بواسطة الحيوان.

الخامس: ما يعرض للشيء بواسطة الخارج الأعم، كعروض الكتابة.

السادس: ما يعرض للشيء بواسطة الخارج الأخص.

السابع: ما يعرض للشيء بواسطة الخارج المباين.

وقد اتفقوا على أن الأعراض اثنين: الأول: أعراض ذاتية؛ والثلاثة الأخيرة من الأعراض الغريبة، واختلفوا في العارض بواسطة الداخل الأعم والخارج المساوي، ولكن لماذا كانت الأعراض الأولى ذاتية؟ ولِمَ كانت الأخيرة غريبة؟ وعلام اختلفوا في الاثنين الأخيرين؟ وربما يكشف ذلك إذا عرفنا مرادهم من هذه الواسطة التي ذكروها، ومتى يبتـني عليها منشأ الاصطلاح فيهما.

فالواسطة في عرفهم ثلاثة أقسام: واسطة في الإثبات، وهي التي تكون سبباً للعلم ثبوت المعارض لمعروضه، وهي أجنبية عن تلكم الأقسام السبعة؛ لأنها جميعاً إنما يلحظ فيها الثبوت الواقعي، مع قطع النظر عن وجود العلم وعدمه؛ وواسطة في الثبوت، ويريدون بها العلة في ثبوت العرض لمعروضه وتقومه فيه؛ وواسطة في العروض، وقد اختلفوا في المراد منها إلى ثلاثة أقوال:

الأول: قول صاحب الحاشية على المعالم الشيخ محمد تقي. فقد حدّدها بما يرجع إلى أنها الواسطة المحمولة على ذيها بعد أن يحمل عليها العرض مع تقّوم العرض بذيها، سواء حملها عليه أم على ذيها، وتقوّم العرض تقوّماً واقعياً بالمعروض بسبب ذلك الحمل. وبذلك يختلف مع بقية شارحي الواسطة في العروض، وبخاصة أولئك الذين يذهبون إلى أن الواسطة في العروض لاتعدو أن تكون محلاً للعرض، ونسبة العرض إلى ذيها في الحقيقة نسبة تجوزية بواسطتها، والنسبة التجوزية في رأيه لا يصح أن تكون محل بحث لدى الفلاسفة ليذكر لها اصطلاح خاص، وإذا أردنا تطبيق هذه الواسطة، وشرحنا منشأ التقسيم على ضوء هذا التحديد، وقلنا ـ كما يقولون ـ: إن ما كان بواسطة في العروض فهو العرض الغريب، كانت عوارضنا بواسطة الداخل المساوي والداخل الأعم من الأعراض الغريبة؛ لأن عروض الإدارك للإنسان مثلاً إنما كان بواسطة النطق، والنطق محمول على الإنسان، والعرض متقوّم بالإنسان حقيقة، وكذلك في المشي العارض للإنسان بواسطة الحيوان، مع أن من البديهي أن العارض بواسطة الداخل المساوي لا يعدونه عرضاً غريباً بالاتفاق، بل في الحقيقة إذا استثنينا العارض بواسطة المباين؛ لعدم إمكان حمل الواسطة بهذا المعنى، كانت كلها غريبة، وكان العارض بواسطة المباين من الأعراض الذاتية، ومن جهة أخرى لو قدرنا أن ننسب كل عرضين إلى معروض فإن كان بينهما ارتباط على نحو العلية والمعلولية كان من قبيل الواسطة في الثبوت؛ وإن لم يكن ارتباط كامل فلا يكون أحدهما واسطة للآخر، فأين تكون إذاً الواسطة في العروض.

وعلى أية حال إذا أخذنا بهذا الاصطلاح فإن الأعراض الذاتية يكون أكثرها من قبيل الأعراض الغريبة، وهذا ما لا يمكن الالتزام به. اللهم إلا أن يكون مراده أنّ ما كانت له واسطة ثبوتية فقط كان من الأعراض الذاتية، وما كان له منها واسطة في العروض كان من الأعراض الغريبة، ولكن مع ذلك لا يجدي النقض عليه بما اتفق على ذاتيته، كالعارض بواسطة الداخل المساوي. نعم، ربما يوحي كلامه بأن مراده ما كان العرض وارداً على طبق معروضه؛ لمساواة في الواسطة له، كان ذاتياً، وما كان أخص أو أعم؛ لعموم في الواسطة أو خصوص منها، كان غريباً؛ لعدم مساواته لمعروضه فيه. وهذا وإن كان حسناً إلا أنه لا يرتبط بتقسيم الواسطة إلى ثبوتية وعرضية، وإناطة الذاتية والعرضية بهذين القسمين.

الثاني: اصطلاح صاحب المطالع. ويعود إلى اعتبار الواسطة العروضية واسطة ثبوتية؛ لأن معنى الواسطة العروضية ما كانت الواسطة علة في عروض العَرض على ذيها، وهو معنى الواسطة في الثبوت. وما نسب إلى الشيخ من اعتباره في الواسطة في العروض أن تقع في ما بعد لأنه إنما كان ذلك في الواسطة في الإثبات، وهي التي يحتاج إليها في مقام العلم، ولا علاقة للواسطة في العروض بها، وبمقتضى ذلك فجميع تلكم الأقسام من سنخ واحد؛ لأن واسطتها كلها واسطة عروضية. نعم، ربما يوحي كلامهم في تقسيمها إلى ذاتية وغريبة أنه ما كان العرض فيها مطابقاً للمعروض في عمومه وخصوصه كان ذاتياً، وما كان أعم أو أخص كان غريباً، وهذا الكلام لا يجدي القائلين في تعريف موضوع العلم بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية؛ للزوم خروج أكثر مباحث العلم؛ لأن البحث في أغلبها عن العارض بواسطة الأخص أو الأعم.

الثالث: ما نسب إلى الملا صدرا والسبزواري وشيخنا الأستاذ وغيره، من اعتبار الواسطة في العروض خصوص الواسطة التي يتقوم بها العرض، وينسب إلى ذيها نسبة مجازية، بحيث يصح سلبها عنه. وهذا كما قلنا في ما سبق بعيد عن ذوق أهل المعقول، فليس من وظيفتهم تشخيص الموارد المجازية من الحقيقة؛ لأن تلك من وظائف البيانيين، وقد ذكر له شيخنا وغيره أمثلة لا تخلو من مناقشة.

بالإضافة إلى أن تقسيم الأعراض بهذا اللحاظ إنما هو من قبيل تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره؛ لأن الواسطة في العروض لا يكون عرضها عرضٌ لذيها أصلاً، كما هو الفرض.

وعلى أية حال فالذي لاشك فيه لديهم أن كل عرض تقوّم بمعروضه حقيقيةً، سواء كان تقومه بواسطة أو بلا واسطة، وكان معروضه موضوعاً لعلمٍ، كان البحث عنه من مسائل ذلك العلم، ولا يعد ذلك عرضاً ذاتياً أو غريباً.

بقي الكلام في تصحيح نسبة كلام شيخنا فقد نسب إليه بعضهم القول بأن العرض المتقوم بمعروضه إذا كانت وسائطه متعددة، كالضحك العارض للتعجب العارض للإدراك العارض ـ كالنطق ـ للإنسان، كان من الأعراض الغريبة وحقيقة الأمر أن شيخنا حرر المسألة وتساءل عن مثل هذا الفرض بأيهما يلتحق؟ ثم اختار عكس ما نسب إليه من التحاقه بالأعراض الذاتية. وصريح كلام مقرّريه هو ذلك، وكأن هذا البعض أخذ جزء كلامه، ولم يخلص إلى النتيجة التي وصل إليها.

الوضع  [نظرية اللغة، النشأة والصيرورة]

إذا جعلنا مقياس المسألة الأصولية دخلها في الاستـنباط فإن كثيراً من المباحث تخرج عنها كما قلنا سابقاً، ومنها مبحث الوضع، فإنا، وإن احتجنا إلى معرفة الحقيقة من المجاز في التماس الظهور لبعض الألفاظ الواردة في مصادر التشريع، إلا أن البحث في منشأ هذه الحقيقة، وهل هو الوضع أو غيره، لا مدخلية له فيها. وعلى أية حال فتعريف الوضع وتعيين الواضع لا يُدرَكان إلا بمعرفة نشأته وتطوره. وقد ألفت رسالة خاصة تكفّلت ببيان ذلك، ومخلّصها أنا إذا رجعنا إلى البدائيين، أو إلى طفلين قدر لنا أن نضعهما في مكان معين ونبعدهما عن أهليهما وعن الناس، ثم نأتي لهم بما يحتاجون التعبير عنه للتفاهم بينهما، نجدهم؛ بدافع شبه غريزي، يندفعون إلى هذه الأصوات، ويعتقدون علاقتها بالمعنى، وأن فيها قابلية إحضاره في ذهن الآخرين. ويتضح ذلك في الأخرس الذي يفزع إلى إحداث صوت لتمثيل ذلك، وهو خالي الذهن؛ لصممه، من أي لفظ، وربما استعان بالإشارة عليه متى أحس بعجزه عن الأداء.

فالإنسان في طوره الأول كان كالأخرس أو الطفل، يفزع بدافع ذاتي إلى التفاهم مع الآخرين عن طريق اختراعه أصوات يعتقد كفايتها في تمثيل المعنى وإحضاره([1]). ومن هنا يتضح سر الترادف في اللغات، فلكل جماعة تفاهمها الخاص وألفاظها، فربما وضعوا لفظاً لمعنى ووضع آخرون لفظاً آخر لهذا المعنى، فكان المعنى ذا لفظين. وبعكسه الاشتراك. وبمرور الأيام تطورت حتى بلغت ما بلغته اليوم أو تبلغه غداً من تطور واتساع. فهي في الحقيقة كائن حي قابل للنمو من جهة، ومن جهة أخرى لاختلاف العوامل الطارئة عليها. فالوضع إذاً في حقيقته إيجاد للمعنى في لفظ خاص، والواضع هو الله؛ لأن الله هو ملهم البشر، وخالق طبائعهم، ومرشدهم إلى اختراع هذه الآلة للتفاهم؛ من أجل حفظ وبقاء أنواعهم؛ وإن قلتَ: إنّ الواضع هو البشر كان صحيحاً أيضاً؛ لأن البشر هم الذين يعملون هذه القوة المودعة فيهم؛ وإن قلتَ: إن دلالة الألفاظ ذاتية لم تعدم منشأ الانتزاع، فهذا الواضع قبل تطوره لم يفزع إلى هذا اللفظ إلا لاعتقاده أنه ممثّل للمعنى، كما في كثير من محاكات أصوات الحيوانات.

ومتى اعتبرنا اللغة تعبيراً عن حاجة من الحاجات، وهو أشبه بالغريزي، فلا نحتاج إلى التعرض لإشكالهم على الوضع بأن الوضع يستدعي تصور اللفظ مستقلاًّ، والتعبير به عن المعنى يقتضي لحاظه آلياً، ومعنى ذلك اجتماع الآلية والاستقلالية في لحاظ واحد، بل لا مسرح لمثل هذا الإشكال بعدما عرفنا أن الوضع لدى البشر في بدء تكونهم لم يكن سوى تعبير لا شعوري عند حاجة من الحاجات، يصدر عنه كما يصدر أي صوت من أي حيوان، أو كما يصدر البكاء منه عندما يحس بما يدعوه إلى الألم والبكاء، فالبكاء في حقيقته تعبير عن الألم، كما أن الألفاظ تعابير عن معانيها، ومثل هذا التعبير لا يُسبَق بتصوّر([2]) ليُقال: آلي واستقلالي.

كما أن هذا المعنى لا يحضّ على الحديث عن تقسيمه إلى أقسامه الثلاثة الممكنة: الوضع العام والموضوع له العام؛ والوضع العام والموضوع له الخاص؛ والوضع الخاص والموضوع له الخاص؛ لأن مثل هذا التقسيم إنما يكون في غير أمثالهم من البدائيين، الذين يتعقل بالنسبة إلى أمثالهم أن يتصوروا معنى عاماً أولاً، ثم يجعلونه طريقاً إلى تصور أفراده، والوضع لهم، وهذا أقرب إلى الخيال الذي لا يتأتّى إلا في أمثال الوضّاع من الفلاسفة، لا من البدائيين منهم، عدا الوضع الشخصي والنوعي، الذي يمثلون له بوضع الهيئات، فإنه لا يتأتّى في حقهم؛ لأن تصور هيئته والوضع لكل ما يشاكلها في أية مادة وجدار لا يتصوره كبار الفلاسفة، فكيف بالناس البدائيين، والغالب على الظن أنهم وضعوا كل كلمة من كل مادة وهيئة لمعنى، وجاء أصحاب فقه اللغة والصرف فجمعوا كل صنف منها وسموه باسم، هذا كله بالنسبة للبدائيين، أما بعد التبحر باللغة وتطورها فهذا الكلام ربما يتأتّى فيه؛ لأن الواضعين، سواء في الأعلام الشخصية أم غيرها، يستسيغون الاستعمال باختيار اللفظة وتصورها بعد تصور المعنى الموضوع، وإن كانت الحقيقة أنهم لم يأتوا بألفاظ جديدة غالباً، وكل ما لديهم من بضاعة لفظية مأخوذة من البدائيين، وقد نقلوها من بين معانيهم المستحدثة. فخلاصة ما انتهينا إليه أن اللغة وليدة الحاجة، وقوامها عنصران: الاختراع من المتكلم الأول؛ والمتابعة من الآخرين الذين حوله، وبذلك تتكون وتـنشأ وتتطور.

[الحقيقة والمجاز وعلامات الحقيقة]

وقبل أن ننهي البحث فيه نجر الكلام إلى تقسيمه الحقيقة والمجاز. والمراد بالحقيقة استعمال اللفظ في معناه المجعول له؛ وبعكسه المجاز. والحقيقة إن عُلمت أخذ بها، وإلا انتخبنا لها علائمها، والعلائم التي اعتبروها ثلاثة:

1ـ التبادر([3]). والمراد به انسباق المعنى إلى الذهن من دون قرينة. وقد أشكل عليه بإشكال الدور المعروف، وملخّصه: إن انسباق المعنى من اللفظ موقوف على العلم بالوضع، ومع عدمه فلا انسباق، فلو كان العلم بالوضع موقوفاً على الانسباق للزم الدور. وهذا الإشكال الذي يذكره المنطقيون على الشكل الأول من أشكال القياس، حيث قالوا: إن العلم بالنتيجة موقوف على العلم بانطباق الكبرى على الصغرى، فلو كان العلم موقوفاً على النتيجة لدار، وعندما نقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، فإن قولنا: كل متغير حادث يتوقف العلم بصدقها على معرفة ثبوت التغير لجميع مصاديقها، ومنها: العالم، فلو كان العلم بثبوت الحدوث للعالم موقوفاً على العلم بالكبرى لدار.

وقد أجابوا عن هذا الإشكال بالإجمال والتفصيل، والمراد أن العلم بالكبرى علم بالإجمال، ويعني أن الحكم العام الوارد على المصاديق معلوم الانطباق عليها، دون معرفة لخصوصيات مصاديقها، والعلم بالنتيجة علم تفصيلي بمصداق من مصاديقها، وهذا الاختلاف بالتفصيل والإجمال كافٍ في رفع غائلة الدور.

وكذا في التبادر، فالعلم بالوضع أولاً علم إجمالي ارتكازي، والعلم به ثانياً علم تفصيلي، فالاختلاف بينهما على هذا النحو رافع لإشكال الدور. والغريب أنهم يجمعون بين العلم بالإجمال والعلم بالارتكاز مع عدم العلاقة بينهما، فالمراد بالعلم الارتكازي العلم قائم في أعماق الشخص مع غفلة عنه وعدم التفات إليه أصلاً، بخلاف العلم بالإجمال، فالمراد به الالتفات إليه، لا لخصوصياته، بل بنحو الإجمال. وما دمنا بصدد إشكال الدور فلنسُقْ الحديث إلى معرفة مدى انطباقه على الشكل الأول. فالإشكال إنما نشأ من توهم أن وظيفة الشكل الأول هو بيان انطباق محمول الكبرى على موضوعها، أعني موضوع الصغرى، والمنطبق على المنطبق منطبق، ولكن الأول هو معرفة على نحو ما يصفونه في قياس المساواة، ومثل هذا الكلام يأتي فيه إشكال الدور، وكذا إذا قلنا: إن منشأ حجيته هو الاستقراء، فإن مقتضى الاستقراء هو تتبع جميع المصاديق، ومنها: موضوع الصغرى. والجواب عليه هو الجواب بالإجمال والتفصيل، إن صح هذا الجواب، وأمكن تصور الإجمال فيها. وإن قلنا: إن المنشأ هو ثبوت الملازمة، سواء كانت على نحو العلية والمعلولية أم أنهما معلولان لعلة واحدة، ينتقل من المعلول إلى العلة أو من العلة إلى المعلول انتقالا لمّيّاً أو إنّيّاً، فإن الدور لا وجه له. فقولنا: هذا دخان، وكل دخان ناشئ عن وجود النار، فهذا ناشئ عن وجود النار، فالعلم بالنتيجة موقوف على العلم بالكبرى، وهو غير متوقف على العلم بوجود الدخان.

هذا إذا لم يكن العلم طرفاً بالملازمة، كأن تقول مثلاً: علمي بوجود الأسد يوجب فراري منه، وفرارى منه يدل على علمي بعلمي بوجود الأسد، ولا معنى للعلم بالعلم قطعاً. وهذا الكلام جارٍ في التبادر؛ لأنه لا معنى لأن نقول: إن التبادر ليس ناشئاً من نفس الوضع بوجوده الواقعي؛ لأن الوضع بوجوده الواقعي لا يؤثر تبادراً، وإلا لتبادرت إلى أذهاننا جميع اللغات الموضوعة من دون علم بها، فلا بد أن نقول: إنه ناشئ من العلم بالوضع، ومعنى ذلك أن التبادر يكون كاشفاً عن علمي بالوضع، أي يعلمني بأنني عالم بالوضع. وهذا وإن دفع الإشكال؛ لأن التبادر موقوف على العلم بالوضع، والموقوف على التبادر ليس هو العلم بالوضع، وإنما هو العلم بالعلم بالوضع، وهو غير العلم بالوضع، إلا أنه أسوأ حالاً منه؛ لبداهة عدم معنى أن يكون الانسان عالماً بعلمه بشيء، وإنما يشكل به مع التبادر بعد تفسيره بانسباق المعنى إلى الذهن من مجرد سماع اللفظ، فالإشكال الذي يذكرونه على أصل الدلالة التصورية من لزوم تحصيل الحاصل، أو عدم حصول شيء في الذهن أصلاً؛ لأن الشخص السامع إن كان عالماً بالملازمة بين الدال والمدلول قبل مجيئ الدال فلا أثر له؛ لأن المدلول حاصل في الذهن قبله، وإحضاره مجدداً تحصيل للحاصل، وإن لم يكن عالماً بالملازمة فلا يحضر شيئاً، يُجاب عليه بما أجابوا به عن الدور من التفرقة بين العلمين، فالعلم بالملازمة علم ارتكازي إجمالي، والعلم الثاني علم تفصيلي، فهو في الحقيقة يعود إلى تفصيل ما أجمل في الذهن، لا تحصيل بإحصاء ما فيه.

ومن الإشكالات عليه أيضاً أن هذه الملازمة البينة بالمعنى الأخص بين اللفظ والمعنى، وحضور المعنى من مجرد سماع اللفظ في الذهن، لا تكون عادة وليدة العلم بالوضع، وإنما تكون وليدة كثرة استعمال اللفظ في المعنى كثرة توجب أنساً في الذهن، وربطاً بينهما، ومع عدم الأنس لا انسباق أصلاً، ومثل هذه الملازمة لا يكون له علامة على الحقيقة أصلاً؛ لأن غاية ما تكشف عنه أن هذا اللفظ قد استعمل كثيراً في المعنى، وليس من وظيفتها التعرض لكيفية استعماله. وقد قرّب بعضهم هذه الملازمة، وجعلها علامة على الحقيقة، بأن اللفظ والمعنى إذا كانا متلازمين، ولو اتفاقاً، في الخارج، وكثر وجودهما معاً، حدثت بينهما ملازمة ذهنية، وكان حضور أحدهما فيه موجباً لحضور ملازمه، فعند سماعنا للفظ الأسد لابد وأن ننتقل للملازمة، وهو معناه، وليست الحقيقة إلا الانتقال من اللفظ إلى المعنى، ولا يلزم فيه إشكال الدور؛ لأن الملازمة الذهنية كاشفة عن الملازمة الخارجية، والملازمة الخارجية موقوفة على الملازمة الذهنية، والحقيقة أنه لا ملازمة في الخارج بين لفظ الأسد والحيوان المفترس كأنه حيوان بالملازمة الخارجية، ولا عبرة لوجودهما بالوجود الخارجي متصاحبين أن تحدث بينهما ملازمة ذهنية، بينما الملازمة الخارجية أن يحدث بينهما ملازمة ذهنية، وإنما التلازم بين مفهوم الأسد واللفظ المحضر له، وفيه يكون كثرة الاستعمال والتلازم الذهني هو عين هذه الملازمة، وليس ناشئاً منها ومعلولاً لها مع عدم صحة السلب.

وقد قرّب صاحب الكفاية بين عدم صحة السلب وصحة الحمل، وجعلهما معاً علامة على الحقيقة، وصحة السلب وعدم صحة الحمل وجعلهما معاً علامة على غيرها. فقولنا: الإنسان حيوان، والإنسان بشر، يدل على أن المحمول على الإنسان في الجملتين، وهو الحيوان، والبشر، مستعمل فيهما حقيقة، وعدم صحته [صحّة] لا شيء من الإنسان بحجر [هكذا] بحيوان أو بشر دال على ذلك أيضاً، وفيه جر الحديث عن الحمل صاحب الكفاية إلى تقسيمه إلى قسميه المعروفين: الحمل الأولي الذاتي، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوماً؛ والشايع الصناعي، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد خارجاً، مثل: حمل الكلي على أفراده، سواء كانت أفراده جزئيات حقيقية، كزيد إنسان، أو إضافية، كالإنسان حيوان، وأفرد في الحاشية عنهما حمل أحد المثالين على الآخر، كالإنسان ضاحك، وما شاكلهما، فلم يلحق بالأول منهما؛ لعدم الاتحاد في المفهوم، ولا في الثاني؛ لأنه ليس من قبيل الكلي ومصداقه. وكذا الحال في العامين من وجه، والعام المطلق إذا كان موضوعاً للخاصّ، كالحيوان إنسان. ولعل من شؤون تقسيم هذا الحمل تقسيمهم الشبهات إلى قسمين: الشبهة المفهومية، وهي التي يقع فيها الاشتباه في سعة المفهوم وضيقه عند شمول بعض الأفراد، ومثاله: مرتكب الصغيرة عند الشك في عدالته، فالشبهة إنما جاءت من أن مفهوم العدالة هل هو مختصٌّ بمرتكب الكبائر، فلا يشمل هذا الفرد، أو عام له ولمرتكب الصغيرة، فيشمله؟؛ والشبهة المصداقية، وهي التي يعلم فيها المفهوم تفصيلاً، ولكن يشك في أن الموجود من أفراده أو لا؛ لحائل يحول دون معرفته، ومثاله: الإناء الذي فيه مائع، ولا يعلم هل هو خمر أو خلّ؟ فالشك فيه ليس من جهة الإجمال في مفهوم الخمرية أو الخلّية، وإنما في انطباقها على هذا الفرد الذي لا يعلم كنهه؛ لحاجب يحجبه عني.

وأضاف شيخنا الأنصاري قسماً ثالثاً، وهو ما إذا علم المفهوم، ولا سترة دونه، وعلم الفرد، ولا سترة دونه أيضاً، وشك مع ذلك في انطباق المفهوم على هذا الفرد، ومثاله: الماء المختلط بكمية من الطين، ولا يعلم هل أنها أخرجته عند الإطلاق إلى الإضافة، فمفهوم الماء معلوم، والفرد الخارجي معلوم أيضاً، والانطباق هو المجهول، وسماه بالشبهة الصدقية. والحقيقية أن هذه الشبهة لابد أن ترجع إلى المفهوم، فليست هي قسماً ثالثاً؛ لأن الشك في الانطباق إنما يتولد عادة من الشك في شمول مفهوم الماء لمثل هذا المختلط بهذه الكمية من الطين، وعلى أية حال الشبهة الصدقية والمفهومية يرجع بهما إلى الحمل الشايع الصناعي.

وفي هذا التقسيم للحمل لا شبهة في اجتماع النقيضين؛ لأنه لا مانع من صدق كلٍّ من قولنا: الإنسان حيوان، والإنسان ليس بحيوان، بلحاظ الحملين، فالإنسان حيوان بالحمل الشايع الصناعي، وليس بحيوان بالحمل الأولي الذاتي. ولذا أضاف بعضهم إلى الوحدات الثماني المعروفة في التـناقض وحدة تاسعة هي وحدة الحمل.

وقد أجاب بعضهم عن عدم ضرورة اشتراطها بأن السلب أو أصح [أوضح] في معناه تسبب الإحباط [من الارتباط هكذا]، وهو أعم من الاتحاد المفهومي والخارجي.

ويرد عليه: أولاً: جواز وقوع النقيض الواحد نقيضاً لقضيتين مختلفتين، وهذا غير معلوم. والنقض بقولك: زيد قائم في الليل، وزيد قائم في النهار، اللذان ينقضهما قولنا: زيد ليس بقائم، لا يخلو من مغالطة؛ لأن التـناقض لابد فيه من صدقٍ في إحدى القضيتين وكذب في الأخرى، والقضايا يمكن أن تكون كلها كاذبة، بأن لم يكن قائماً في النهار، ولا في الليل، بل قائم عصراً، فالنفي المطلق من جهة السبب كاذب في الموجبتين.

وثانياً: إن الارتباط معنى حرفي مستفاد من مجموع الجملة، والسلب جزء منها، فكيف يتسلط عليها؟! إلى غير ذلك من الإشكالات. فالالتزام بضميمة هذه الوحدة «وحدة الحمل» إلى الوحدات الثمان في موضعه. اللهم إلا أن يُقال بأن التزام الجماعة بعدم ذكرها ربما يبتـني على إنكارهم للحمل الأولي الذاتي، الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوماً؛ لما يقولون من أن حمل المفهوم على المفهوم لغوٌ، وربما قيل: يستحيل، وعليه يبتـني إنكارهم للترادف، وذلك بإرجاع كل حمل إلى الحمل الشايع الصناعي، الذي يعود إلى تطبيق المفهوم على مصداقه، وبمقتضى ذلك فليس هناك ما يمنع من إلحاق حمل المساوي على مساويه، أو أحد العامين من وجه على الآخر، أو الخاص على العام، بالحمل الشايع. وإذا صح كل هذا فلا تعدد في الحمل كي نحتاج إلى ضميمة الوحدة التاسعة للوحدات الثمان، ولا حاجة للبحث في ما يتعلق بعدم صحة السلب وإشكال الدور، وقد عرفت تصويره، والإشكال عليه من التبادر، فلا حاجة إلى إعادته.

الاطّراد

والمراد به أن يتعدد استعمال اللفظ في المعنى المشكوك وضعه له مجرداً عن كل خصوصية سابقة، ومن تعدده نستكشف الحقيقة، بخلاف المجاز، فإنه لا يطّرد مطلقاً؛ لأن العلاقة المصممة للاستعمال شرط في صحة إطلاق اللفظ على المعنى، فمع عدمها لا يصح، وعلى الخلاف في العلاقة ـ من أنها موضوعة بالوضع النوعي، أو مأخوذة من الطبع ـ فلابد في الإتيان بها من لحاظ الوضع أو الطبع، ومع عدمهما لا يطّرد الاستعمال قطعاً.

وربما أشكل بأن العلاقة إذا وجدت، وصح الاستعمال بواسطتها، فلابد وأن يطّرد فيها قطعاً.

وأجابوا بأن مرادنا من عدم الاطّراد ليس مع شخص العلاقة، وإنما المراد أنه مع نوع العلاقة المجازية، وربما زاد بعضهم على الاطراد قيد «من دون تأويل»، أو «على وجه الحقيقة»؛ لدفع هذا الإشكال. ولكن هذه الزيادة لا تجدي شيئاً؛ للزوم الدور فيها؛ لأن العلم بالحقيقة موقوف على الاطراد على نحو الحقيقة، والاطراد على نحو الحقيقة موقوف على العلم بالحقيقة، وليس في المقام إجمال وتفصيل، كالتبادر؛ لتصحح مثل هذه الزيادة.

المعنى الحرفي

للعلماء في المعنى الحرفي أقوال عدة، ذكرها شيخنا الأستاذ، وأهمها ثلاثة:

1ـ إنه لا معنى لها أصلاً، وإنما حالها حال العَلامة التي توضع في عرض الطريق للإشارة إلى شيء، وينسب هذا الكلام إلى الرضي([4]).

2ـ إن معانيها عين مداليها من معاني الأسماء، ولا تفاوت بينها أصلاً، لا في مقام الوضع، ولا في مقام الاستعمال، واختاره صاحب الكفاية.

3ـ إنها تختلف عنها في سنخها، وقد اختاره شيخنا. ومهّد لتقريبه بمقدمات:

المقدمة الأولى: إن معاني الحروف ليست إخطارية، بخلاف معاني الأسماء، فإنها إخطارية، ويُراد بالإخطارية أنّ الألفاظ لو وجدت أحضرت معانيها وأخطرتها في الذهن، من دون حاجة إلى ضميمة بعضها إلى بعض، بخلاف الحروف، فإن بعضها لا توجد بنفسها أصلاً، كالهيئة، والنسب، وبعضها الآخر، وإن وجدت، فإنها لا تحضر في الذهن شيئاً، كـ (من)، و(على)، ونظائرهما؛ لأن وظيفتها الدلالة على معاني قائمة في الغير، فمعنى (من) هو الابتداء المخصوص في خصوص ما ورد فيه هذا اللفظ من الجملة، وهو أشبه بالعرض الذي لا يمكن تقوّمه إلا بمعروضه.

المقدمة الثانية: إن بعض هذه المعاني غير الإخطارية نسبية، كالهيئات، فإن وظيفتها نسبة شيء لشيء؛ وبعضها الآخر إيجادية، كحروف النداء، والتمني، والترجّي، وهذه أيضاً مختلفة، فإن التمني والترجي يتسلطان على ما بعدهما من حمل، فيتصرّفان فيها، ويوجدان معنى. فقولنا مثلاً: «محمد قائم» يدل على ثبوت النسبة، فإن أدخلت عليها كلمة «لعل» حولتها إلى ترجٍّ، فثبوتها بخلاف النداء، فإنه لا يتصرف في الجمل التي بعده، بل لا جملة بعده حتى يتصرف فيها حينما يوجد الدعاء في الخارج.

المقدمة الثالثة: إن الموضوع للنسب تارةً يكون له لفظ مستقل ينهض في الدلالة على النسبية؛ وأخرى لا يكون له ذلك. فالأول كـ (من)، و(على)، وغيرهما من حروف الجر، كذا ذكر شيخنا. ولكن في اعتباره (من) من الألفاظ الدالة على النسبة تسامح، فـ (من) في حقيقتها لا تدل على النسبة، بل على جهة النسبة، فقولنا: «سرت من البصرة» لا يشير إلى انتساب السير إلى البصرة، بل يشير إلى انتساب السير الذي يكون على نحو الابتداء إلى البصرة، وهكذا بقية الحروف. والثاني كالهيئات؛ إذ من الواضح عدم تقوّم الهيئة بمادة مخصوصة تكون موضوعة لها، وإنما هي توجد في مختلف المواد، ولا لفظ مخصوص يدل عليها، وهذه على قسمين:

1ـ قسم يوجد في الجمل الاسمية، وهذه يكون حملها ذاتياً، كزيد انسان؛ أو غير ذاتي، كزيد قائم. وتصحيح مثل هذا الحمل لا يكون إلا بلحاظ الموضوع لا بشرط المحمول. وليس المراد من اللابشرطية هنا التي تكون قسيمة (بشرط شيء) أو (بشرط لا)، ولا اللابشرطية المقسمية؛ لاستدعائهما لحاظ الموضوع، وعدم التقيد به، ولحاظ الموضوع مع محموله ـ وإن لم يقيّد به ـ ينهي بالجملة الحملية إلى اللغوية، بل المراد اللابشرطية التي لا يصحبها لحاظ أصلاً.

2ـ وجودهما في الجمل الفعلية، وهي على قسمين: قسم يدل على النسبة الأولية؛ وآخر على النسبة الثانوية. والمراد بالنسبة الأولية نسبة الفعل إلى فاعل، فإن الفعل أول ما ينسب إلى الفاعل، ثم ينسب بعد ذلك إلى بقية متعلّقات الفعل. والظاهر أن تخصيص النسبة الأولية وقصرها على الفاعل أمر لا وجه له؛ لاختلافه باختلاف وجهة نظر المتكلم، فقد يكون هو النسبة إلى الفاعل، فتكون أولية، وأخرى إلى المفعول، كما إذا كان صدور الضرب عن زيد معلوماً، ولكن وقوعه على عمر هو المطلوب في الإخبار، سواء كانت النسبة إلى المفعول هي الأولية أم لا، وهكذا بالنسبة إلى بقية المتعلّقات.

المقدمة الرابعة: كما أن الهيئات منقسمة إلى قسمين في دلالتها على النسبة الأولية والثانوية فكذلك الحروف المستقلة، فإنها قد تدل على النسبة الأولية، كما إذا قلت: زيد في الدار، فظرفية الدار لزيد هي المقصودة بالإخبار أولاً وبالذات، وقد تدل على النسبة الثانوية، كضربي زيداً في الدار، فالمقصود هنا الإخبار عن صدور الضرب مني ووقوعه على زيد، وكونُه في الدار من النسب الثانوية. والحروف بهذا اللحاظ موزّعة إلى قسمين: قسم يختص بالنسب الثانوية، كبقية الحروف، عدا «في»؛ وقسم يشترك بينها، مثل: في، ولكن.

المقدمة الخامسة: إن معاني الحروف كلها إيجادية، نسبية وغير نسبية؛ لأن وظيفتها إيجاد الربط الكلامي بين أجزاء القضية، ولا تختص الإيجادية ببعض الحروف دون بعض، ولا ينافي كونها إيجادية أن تكون القضية صادقة إذا طابقت النسبة الخارجية. وليس المراد من المطابقة هنا الحكاية، بل إيجاد ربط مماثل للربط القائم بين أجزاء القضية في عالمها، وبهذا يصح أن يقال: إن القضية صادقة، يعني أن لموضوعها ومحمولها وجوداً واقعياً ولو من باب الفرض، كما في المشتقات، وأن هذا المحمول منتسب إلى موضوعه، أي إن وجدنا في القضية اللفظية انتساباً للربط القائم بينها خارجاً فيكون ما أوجدناه وجوداً ظلياً للانتساب الخارجي، وهذا هو المقصود بإيجادية النسبة.

وحاصل الفرق بين المعاني الاسمية والمعاني الحرفية يعتمد أركاناً أربعة:

الأول: إن المعاني الحرفية معانٍ إيجادية، بخلاف المعاني الاسمية، فإنها إخطارية؛ اذ لو كانت معاني الحروف مثلها إخطارية لكانت مستقلة بالمفهومية؛ ولاحتجنا إلى رابط يربط بينها وبين المعاني الاسمية، التي تحتاج معها إلى الربط والحديث في الربط هو الحديث.

الثاني: إن مقتضى إيجاديتها أنها لا تتجاوز الكلام إلى الخارج؛ لأنها إنما توجب الربط بين أجزاء الجملة، ولا حكاية فيها أصلاً، وإنما يكون ما توجده في عالم الكلام مماثلاً لها في الخارج، على نحو ما سبق تقريبه، بخلاف المعاني الاسمية، فإن لها تقريراً وثبوتاً في واقعها، غاية الأمر أنها من المفاهيم الممتـنعة التي لا واقع لها خارجياً، ولا ذهنياً؛ لأن اجتماع النقيضين كما يمتـنع في الخارج يمتـنع وجوده ذهناً، ولذا اضطر بعضهم إلى تصور الاجتماع بمفهوم على حدة، والنقيضين كذلك، ثم يجر ذلك الاجتماع إلى هذين النقيضين. وهو غريب في بابه؛ لأن امتـناع اجتماع النقيضين في الخارج لا يمنع من تصوّره ذهناً، ولو سُلّم فأيّ معنى لتصور اجتماع متقوم بمفهوم، وجرّه إلى غيره؟! نعم، ربما يكون مرادهم أن النقيضين الذهنيين لا يمكن تصور اجتماعهما؛ لأن معنى وجودهما ذهناً أنهما متصوران، ومعنى اجتماعهما أن أحدهما متصوراً والآخر غير متصور، أي موجود وغير موجود. وربما نزل على هذا المعنى كلام الشيخ الرئيس. وعلى أية حال فوجود مثل هذا الكلام هنا لا محل له.

الثالث: أنه لا تفاوت بين الهيئات في الجمل الخبرية والإنشائية من حيث الإيجادية، وإن اختلف الداعي فيهما، وسيأتي لها مزيد كلام في ذلك.

الرابع: إن المعاني الحرفية؛ بحكم كونها لا تؤدي إلا إلى الربط الكلامي، يُنظر لها بالنظر الاستقلالي، وإنما تـنظر تبعاً للمفاهيم الاسمية، وحالها حال الألفاظ بالنسبة للمعاني، أو حال القطع الطريقي بالنسبة إلى المقطوع به، فكما أن الألفاظ مرآة للمعاني، والقطع الطريقي مرآة للمقطوع، كذلك لا تكون الحروف إلا مرآة للمعاني الاسمية، وعلى هذا الكلام يتوجّه سؤالان: أولهما: ما شأن لفظة (من) بالنسبة إلى معناها؟ وهل تكون من قبيل المرآة أو أنها تـنظر بالنظر الاستقلالي في مقابله؟

فإن قلنا: إنها من قبيل المرآة والآلة بالنسبة إليه، وهو مرآة إلى المعاني الاسمية، كان معنى ذلك أنها الدلالة لمعنى مستقل، وأي معنى للنظر الآلي لمعنى منظور آلة لغيره؟!

وإن قلنا: إنها منظورة بالنظر الاستقلالي كان معناه أن ألفاظ الحروف أهم من ألفاظ المعاني الاسمية.

وثانيهما: إذا قلنا: إنها منظورة تبعاً للمعاني فهل يجتمع ذلك مع كونها إيجادية، مع أن الإيجاد اختياري، ومن لوازمه النظر الاستقلالي إلى ما يراد إيجاده، فكيف يكون آلة؟!

 والحق أن اعتبارها آلة للمعاني الاسمية، وتشبيهها باللفظ بالنسبة للمعنى، لا مأخذ له.

وإن لأستاذنا العراقي إشكالاً على كونها معاني إيجادية. وقد ذكره بعد أن قرّب مطلب شيخنا من أن المفاهيم الاسمية إنما تحضر معانيها بواسطة ألفاظها في الذهن مجرداً بعضها عن بعض، ولا رابط يربط بينها، فإذا احتجنا إلى ربط بعضها ببعض جئنا بالحرف ليخلق الربط على كيفية خاصة من الكيفيات، فهو لا يحكي بهذا الاعتبار شيئاً، بل لا شيء هناك حتى يحكى، إلا أنه عقّّب على ذلك فقال: إن المفاهيم الاسمية غير المقيدة بقيد وجودي أو عدمي لا وجود لها أصلاً. وقد ذكر في الإشكال أنّ تقسيم الماهية إلى أقسامها الثلاثة: بشرط شيء؛ وبشرط لا؛ ولا بشرط، لا مقسم له؛ لأن الماهية المهملة لا وجود لها أصلاً، فلابد من تصورها مقيدة، فالسير والبصرة في مثال: «سرت من البصرة» لا يحضران مجرّدين من كل قيد، وإنما يدل السير على الماهية، و(من) على قيدها، فهي حاكية لهذا القيد، وليست موجودة له، فهذا التقريب. والإشكال على هذا المعنى أن السير في دلالته التصورية، وقبل أن يحضر قيده، أي شيء أحضرَ في الذهن؟ فإن قلتم: أحضر الماهية مجردة عن القيد انتقضت الدعوى، وإن أوجدها مقيدة فأية فائدة لـ (مِن) مثلاً. والقول بأن المعاني الحرفية ليست إلا تقييدات في المعاني الاسمية يرد عليه: كيف تدل كلمة (مِن) على القيد؟ فإن قلتم: إنها داخلة على القيد، والتقييد مستفاد من الهيئة، كان معناها اذن اسمية على التقييد، واحتاجت إلى مقيّد أيضاً، وإن قلتم: إنها دالة على التقييد، فعلى أي شيء يدل المقيد، وماذا يكون مثل هذا التقييد فأي شيء يكون هو.

ولصاحب الحاشية تفصيلٌ في المعاني الحرفية. فهو يعتبر النسب وما شاكلها حاكية على نحو ما قرّبه شيخنا، وأدوات التمني والترجي وأمثالهما موجودة على نحو ما قرّبه شيخنا في رأيه في الإيجاد. وأشكل عليه كل من العلمين على مبناه في عدم التفصيل بنحو ما قربوا به وجهتي نظرهما. وأما أسماء الإشارة والموصول وأسماء الأفعال وغيرها من الأسماء المبنية في اصطلاح النحويين فيضمنها أحد معاني الحروف أو الأفعال.

فالتحقيق أنها ليست بأسماء أصلاً؛ إذ لا معنى لأن يقال: إن شيئاً تضمّن معنى شيء، وإن كان للنحويين عذرٌ في عدّها اسماً؛ لاشتمالها على علائم الاسمية، وإنها كلها معاني ظرفية إيجادية لا تختلف عن بقية الحروف في إيجاديتها معاني في مقام الاستعمال. فـ (هذا) مثلاً ليست إلا إيجاداً للإشارة الاستعمالية على نحو خاص، وليست مجعولة للمفرد المذكر العلم في مقام الإشارة كما يقولون. وهكذا في بقية الأسماء المبنية، فالأسماء المبنية ليست في حقيقتها إلا حروف، أي آلات لإيجاد المعاني لا غير.

وما دامت الحروف كلها إيجادية فلا معنى لأن يقال بأن لها معاني قد وضعت لها؛ لأن معناها أن الإيجاد المخصوص أي شيء هو، والإيجاد من معلولاتها ومخلوقاتها أو غيره؟ ولا شيء هناك. ولعل كلام الرضي من إنكار المعنى الحرفي يُراد به هذا المعنى، وإذا لم يكن لها معاني يقال: إنها موضوعة للوضع العام والموضوع له الخاص، وللوضع العام والموضوع له العام. اللهم، إلا إذا تـنزّلنا وقلنا: إن مرادهم من ذلك أنه ما هي معلولاتها ومخلوقاتها؟ وبهذا المقدار لا مانع من جريان النزاع فيها، فيقال: إن (مِن) مثلاً وضعت لإيجاد أي شيء؟ أللابتداء المخصوص أو لمطلق الابتداء؟ وهذه الخصوصيات من وجوده بعد خلقه؛ لأن الشيء إذا وجد تشخص.

والتحقيق أن (مِن) وغيرها لم توضع لابتداءات مخصوصة، على نحو تكون الخصوصيات دخيلة في مخلوقاتها، وإنما وُضعت لخلق ابتداء في عالم الكلام، أي كلام كان، وهذا معنى كونه عاماً، وحتى بعد وجوده لا ينافي عمومه؛ لأن الكلي الطبيعي لا ينافي وجوده وكليته خصوص، إذا قلنا: إن الطبيعي وجوده بوجود أفراده، ووضع الهيئات، وإن كان بالوضع النوعي، إلا أن هذا الكلام جارٍ فيها أيضاً. والمراد بالوضع النوعي ما كان الموضوع فيه كلياً تحته أنواع، وتحت الأنواع أفراد، بخلاف الوضع الشخصي المراد به أن يكون كلياً تحته أفراد فقط، فرجلٌ مثلاً، وهي موضوعة بالوضع الشخصي، كلّي تحته أفراد، وهي ورودها في مختلف الجمل في مقام الاستعمال، ومثال الوضع النوعي: الهيئات، فهيئة فاعل ـ مثلاً ـ تحتها أنواع، وهي مشابهاتها في الوزن، من قائم، وقاعد، وعالم، وجاهل، وغيرها، ولكل واحدة من هذه الكلمة أفراد، وهي ورودها في الجملة الفلانية أو الفلانية، وهكذا تعدد الوضع الشخصي وضع المواد.

 والتحقيق أنها من قبيل الهيئات؛ لأن (ض ر ب) في «ضرب» موضوعة لمعناها في أية هيئة وجدت، في ضارب، ومضروب، وضرب، وغيرها، وهذه تحتها أفراد على ما سبق. ولعل ما يقال في الوضع الشخصي: إنه ما وضع بمادته وهيئته لمعنى، بخلاف النوعي، فإنه ما وضع بمادته أو هيئته لمعنى. وأما ما ذكره صاحب الكفاية من اتحاد الوضع الموضوع له والمستعمل فيه فيهما، والاختلاف من شرط الواضع فقط، فإن وضع الأسماء لتستعمل عند النظر الاستقلالي إليها، والحرف وضع ليستعمل آلة، وشرط الواضع أمر لا يحصل له؛ لأن مخالفته لا تستوجب سوى العصيان، لا الغلطية. ومن الواضح فظاعة الغلط في استعمال أحدهما في موضوع الآخر، حتى على نحو المجاز. وربما قرب هذا الشرط بأن الواضع أخذ هذا الشرط في أصل الوضع، بمعنى أن استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن كان استعمالاً في نفس الموضوع له، إلا أنه بلا وضع. وهذا الكلام مجهول المراد، فإن أمره أعقد منه في هذا شرط [هكذا].

الهوامش

(*) أحد الفقهاء الكبار المجدّدين في النجف الأشرف، كانت له نظرياته الإصلاحية العديدة في الفكر ومناهج التعليم الديني.

([1]) مقتبس من هذه المخطوطة في كتابه من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية: 26.

([2]) مقتبس من المخطوط، تجارب الأصوليين: 27.

([3]) عرفه في تجارب الأصوليين، نقلاً عن حقائق الأصول للسيد الحكيم 1: 42، قال: (عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بحيث يكون سماع اللفظ موجباً لحضور المعنى في الذهن).

([4]) هو نجم الأئمة الرضي، من أعلام النحويين، له كتاب شرح الكفاية (تجارب الأصوليين: 63).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً