أحدث المقالات

مقارنةٌ بين الطباطبائي والمناهج الغربية

د. حسين خاكبور(*)

 

مقدّمة ــــــ

تعتبر معرفة اللغة الدينية من البحوث الأساسية لفلسفة الدين بين المسلمين ـ والمفكّرين الغربيين ـ، حيث تطرق إليها العديد من باحثي علم اللغة في مختلف مجالات العلوم والمعارف الإسلامية. دخلت مخاوف عديدة إلى بحوث علم اللغة، وخاصة بعد عصر النهضة، وظهور الاتجاهات الجديدة، التي هيّأت الجوّ المناسب لطرح العديد من التساؤلات.

وسوف نتطرّق في هذا المقال، بالاستعانة بالأسلوب الوصفي ـ المستندي، إلى دراسة وجهات نظر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، متناولين لغة الدين، ونبين أنه طرح بحوثاً أساسية تدل على أنه كان يعتبر لغة القرآن لغة خاصة تميزه عن سائر الكتب السماوية.

يرى العلامة أن آراء الفلسفة الوضعية والفلسفات التحليلية للغة والواقعية والتأويل وغيرها تعاني من القصور، ويعتقد بأن لغة القرآن لغة خاصة، لم يسبق لها أن وجدت في اللغات السابقة.

يمكننا أن نعتبر التفكر والتأمل في لغة النصوص الدينية، وكيفية فهم الشروح العديدة لها، من أقدم الهواجس التي شغلت الباحثين في مجال الدين، بمَنْ فيهم المتديِّنون. أما في العصر الحديث، وخاصة بعد عصر النهضة، فقد ظهرت اتجاهات تنتقد النصوص الدينية اليهودية ـ المسيحية، وحظيت بأهمية واسعة. وقد شكلت الصعوبات الباطنية للنصوص القديمة، والمعتقدات الدينية التي نشأت عنها، وتعميم أسلوب المعرفة التجربية، وظهور الفلسفات المتنوّعة، تحديات جدية لقضية اللغة الدينية وإدراكها في الغرب.

ويعتبر سلب المعنى من المفاهيم الدينية، والواقعية النقدية، وغيرها، من نتائج هذه المرحلة الفكرية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل تعدّ حلول اللغة الدينية والتفسيرية خيارنا الوحيد نحن المسلمون؟ وهل يجب أن تفرض على القرآن أم أننا غير ملزمين بذلك؟

ونظراً ‌للاختلافات الأساسية الموجودة بين البنى الفكرية الدينية ـ القرآنية، والأسس الفكرية للمسلمين، مع الأسس الفكرية ـ الدينية للغرب، فإنّ الأساليب والمناهج المتَّبعة في المعرفة الدينية ولغة الدين متفاوتة بين هذين التيارين. ولا يمكننا بالطبع أن نغضّ الطرف عن التحديات التي تواجهها المعرفة الدينية في عصرنا الراهن، بل يتعين علينا أن نتطرّق إلى تحليل المواضيع المرتبطة بديننا، مستعينين بالتراث القيِّم والأدوات المناسبة.

وسوف نسعى من خلال هذه المقالة إلى بيان وجهات نظر العلامة الطباطبائي ـ في تفسير الميزان ـ، والمقارنة بين المناهج الغربية وآرائه.

 

مفهوم اللغة، من وجهة نظر علماء اللغة ــــــ

يمكن للغة أن تحمل المفاهيم التالية:

اللغة واللهجة: كاللغة العربية والفارسية وغيرهما. ولغة القرآن هي العربية: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾(الشعراء: 193 ـ 195)، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ (الزخرف: 3‌). يقول العلامة الطباطبائي: «إنّما هو كلام عربيّ، رُوعِي فيه جميع ما يُراعى في كلام عربيّ»([1]). ويقول كذلك: « فالقرآن مستقيم في جميع جهاته، فصيح في لفظه، بليغ في معناه»([2]). ويعتبر بأن تفوق القرآن على صعيد اللفظ والمعنى. ويبيِّن أن محاولات الأديان وعلماء اللغة قد باءت بالفشل حتى الآن. ولذلك فإنّ القرآن الكريم معيار الآداب العربية، ولم تتح هذه الفرصة لأيّ لغةٍ أخرى([3]).

مستوى الكلام المناسب للمخاطبين: لغة القرآن هي لغة الرعيّة. فهي تبين أسمى المعارف الربانية بأبسط شكل؛ لكي يتسنّى للجميع فهمها والاستفادة منها. يقول العلاّمة في تفسير الآية 32 من سورة القمر: «التيسير: التسهيل. وتيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحوٍ يسهل فهم مقاصده للعامّي و الخاصّي، والأفهام البسيطة والمتعمقة، كلٌّ على مقدار فهمه»([4]).

ويقول كذلك: القرآن كتاب لا يمكن أن يبلغه الإدراك العادي للبشر([5]).

انتظام الكلام بشكلٍ متناسب مع النظرة العالمية: وهو ما يطلق عليه اليوم علم المعنى([6]). يعبر القرآن عن مجموعة من النظريات ضمن إطار مجموعة من الألفاظ، ويتوقع من القارئ أن يفتش عن معاني تلك النظريات ضمن المجال الذي تتيحه له الألفاظ. فكل مفردة موجودة في القرآن الكريم مرتبطة بسائر الكلمات، وينبغي أن يتم تأويلها بشكلٍ متناسب معها. ولا يعتبر هذا النوع من اللغة أداة للكلام فحَسْب، بل يمثل نظرة حول العالم والإنسان والطبيعة. ويرى العلامة بأن القرآن يتمتع بهذه اللغة، التي يعتبر إدراكها مفتاحاً للمعارف القرآنية. فعلى سبيل المثال: تستخدم مفردة «جناح» في الثقافة العامة عن أطراف الطير، لكنه يقول: «جناح: وهو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان، يتوسل به إلى الصعود إلى الجوّ، والنزول منه، والانتقال من مكان إلى مكان بالطيران».

 

نظريات اللغة الدينية ــــــ

ظهرت العديد من النظريات في هذا المجال. وسوف نشير من بينها إلى تلك التي تطرق إليها العلاّمة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

الفلسفة الوضعية([7]): يعتبر الوضعيون إمكانية التحقّق على الصعيد الحسي معياراً للمفاهيم في امتلاكها للمعنى. ومن هذا المنطلق يرَوْن أنّ كافة المفاهيم الميتافيزيقية والأخلاقية والدينية تفتقر إلى المعنى، ولا يمكن التعبير عنها بالصدق أو الكذب، ولا تتمتع بأيّ جانب معرفي([8]). أما العلامة الطباطبائي، وكافّة المفسرين، فيعتبرون أن القضايا القرآنية ـ بما فيها الحقيقية والاعتبارية ـ ذات معنى صحيح ومطابق للواقع.

﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾: يقول العلاّمة: المراد بالحقّ في القضايا الحقيقية مطابقته في القضايا الاعتبارية، وبلوغ الهدف والتناسب مع القيم الاجتماعية والأخلاقية([9]).

ويقول في اختلاف الحقّ عن الصدق: العلم والوعي صدقٌ بما يطابق الخارج، وحقٌّ بما يطابقه الخارج.

ويقول في تفسير الآية الكريمة: إنّ تلازم الكتاب مع الحقّ يمنع تعرّضه للبطلان، أو اختلاطه به أثناء نزوله([10]).

 

الإشكالات الرئيسة التي تعتري هذه النظرية ــــــ

نظرية المفاهيم الدينية والإنشاء: تعرف هذه النظرية خطأً بعدم المعرفية. وترى أن المفاهيم الدينية إنشائية، وغير مشرفة على الخارج، ولا تمثّله. وظهرت ضمن إطار هذه النظرية أربع نظريات أخرى، شهدت اثنتان منها أتباعاً بين المسلمين. ويذكر أن وجهة النظر هذه قد بينها (وليام آلستون)، الذي ألَّف كتابين معروفين حول فلسفة الدين، هما: (فلسفة اللغة)، الذي يعدّ من أهم مؤلفات فلسفة الدين في أمريكا؛ و(ماهية الله ولغة الإنسان)، الذي يضم مجموعة من المقالات التي قام بتأليفها([11]). وتقسم هذه النظرية إلى مجموعة من الأقسام التي سنتطرق في ما يلي إليها، وإلى وجهة نظر العلامة الطباطبائي حولها.

نظرية الرمز والكناية والتمثيل: وتعرف كذلك بالرمزية، حيث يعتقد أتباعها بأن المفاهيم الدينية ذات رموز تدلّ على أمور معينة في عالم الطبيعة. فعندما يقال في الكتاب المقدَّس بأن الله راعٍ وصخرة، فالمقصود بالراعي هو المشيئة الإلهية، والصخرة تدل على الملجأ والمرتكز. فالله حصن قويّ، ومشيئته تحكم الرعية([12]). يرى العلاّمة أنّ مفردات القرآن تمثل مفاهيم مختلفة، سنشير في ما يلي إلى بعضٍ منها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً﴾ (الجمعة: 5)؛ ومنه أيضاً: المثل بمعنى الصفة، كقوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ﴾(الفرقان: 9)، وإنما قالوا له|: مجنون وساحر وكذاب، و نحو ذلك([13]).

ـ التعبير عن المعقول بالمحسوس: يقول العلامة في تفسير الآية 17 من سورة الرعد: يخبرنا هذا المثال بأنّ حقائق العالم المشهود ذات رموز مناسبة لتصوير عالم الغيب والحقائق المعنوية. ومن هذا المنطلق فمثل المعتقدات الصحيحة في نفس المؤمن كمثل الماء الذي يهطل من السماء، ويجري في أنهار متنوعة؛ ليستفيد منه الناس، ويعمّ بينهم الخير والبركة؛ ومثل المعتقدات الباطلة في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يتشكَّل على السيل، ويزول سريعاً([14]).

ـ الحقائق المتنازلة: يبين العلامة في تفسير الآية 7 من سورة آل عمران بأن فهم عموم أفراد البشر يقتصر على المحسوسات، ولا يمكن لهم أن يدركوا ما فوق ذلك بسهولة؛ ومن جهةٍ أخرى فإن هداية الله لا تقتصر على فئة معينة، بل ينبغي أن يتمتع بها كافة الناس بمختلف طبقاتهم. وبما أن القرآن يشمل التأويل فقد أدَّت هذه الخصائص ببيانات القرآن الكريم إلى جانب المثل. ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، أي إن القرآن الكريم جاء بالمفاهيم التي اعتادت عليها أذهان البشر، وعرفتها، وقام بتقديم المفاهيم غير المعتادة لديهم ضمن إطار تلك المفاهيم المعروفة؛ وذلك لكي يتمكن الناس من فهمها. ورغم أن الآيات الكريمة لم تبيِّن ذلك بشكل صريح، بل من خلال الكناية والإشارة، لكنّها لم تكتفِ بالإشارة إليها، بل بينتها من خلال مثال حول الحقّ والباطل: ﴿أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً…﴾. مما تقدّم يتبين لنا أن البيانات اللفظية للقرآن الكريم أمثلة تتضمن المعارف الإلهية الحقة. ولكي يبين الله تعالى هذه المعارف للناس كان لا بُدَّ من تقديمها بمستوىً يناسبهم؛ لأن معظم الناس لا يدركون إلاّ الحسّيات، ولذلك ينبغي بيان المعاني العامة لهم ضمن إطار الحسّيات([15]).

ويبين العلامة كذلك في تفسير الآية 172 من سورة الأعراف أن العالم الإنساني قبل نشأته كان ذا وجود مكتوب، لم يغفل للحظة عن ذكر الله، لكن الهبوط إلى العالم المادّي الممتزج بالحجب والغفلة جعله يغفل عنه. في النشأة المثالية يشهد البشر بربوبية الله تعالى، وليس لهذه النشأة أيّ تقدّم زمني على هذا العالم، بل هي محيطة به، ومرافقة له. ومن هذا المنطلق فإن تلك الشهادة ذات تقدّم في الرتبة على الدنيا، وهي ذات مفهوم حقيقي… ولذلك فإنّ قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ حقيقي، وليس بيان حال؛ لأن البشر آنذاك أدركوه بالاعتراف من خلال مشاهدة التكلّم الإلهي، و﴿قَالُوا بَلَى﴾ بلسان الحقيقة، وليس بلسان حالهم([16]). إنه يعتقد بأن تيار الإنسان تيار برزخي، وعالم مثالي، ذو نشأة ما وراء مادية([17]). كما أن طلب التحكيم من داوود× من قبل شخصين متخاصمين، ورواية شقّ قلب الرسول، من هذا القبيل([18]).

ويرى العلامة في بعض الحالات أن لغة القرآن والدين لغة تمثيلية.

فعلى سبيل المثال:

ـ قصّة أمر الملائكة وإبليس بالسجود لآدم: يعتبر العلامة أن هذا الأمر تكويني، وليس تشريعياً، ويقول: إن الآيات ترشدنا إلى أن هذا الأمر تكويني([19]).

ـ قصّة الجنة ونزول آدم: يبدو أن هذه القصة تمثيلية؛ لأن الإنسان لم يكن يتمتع بالسعادة والكرامة قبل نزوله([20]).

ـ مخاطبة السماوات والأرض: جاء في سورة فُصِّلت بأن الله تعالى يأمر السماوات والأرض بالقدوم. ويرى العلامة بأن هذا تمثيل لصفة الإيجاد والتكوين على مستوى الفهم العربي([21]).

ـ عرض الأمانة على السماوات والأرض: في تفسير الآية 172 من سورة الأحزاب، الذي يتضمن عرض الأمانة على السماوات والأرض، فهنالك آراء عديدة: 1ـ عرض الأمانة على أهل السماوات والأرض؛ 2ـ عرض الأمانة عليها ذاتها؛ بسبب وجود العلم فيها؛ 3ـ تفسير العرض بالمعارفة والمقابلة؛ 4ـ الفرض والتقدير فقط. ولا يعتقد العلامة بأن هذه الآراء بعيدة عن الضعف، فهو يرى أن…([22]).

ـ غضب يونس×: يعتقد العلامة أن يونس× في اعتزاله قومه، وابتعاده عنهم، كمَنْ يغضب من مولاه، ويظنّ أنّ مولاه لن يبلغه([23]).

ويعتبر العلامة كذلك أن تعابير مثل: العرش واللوح والقلم عبارة عن مفاهيم تمثيلية، ويضيف: إن المراد منها تقريب المفاهيم الإلهية السامية إلى الذهن البشري؛ لأنّها أعلى درجة منه([24]).

العلاقة بين الرمز والأسطورة: يقصد بالرمز في بعض الأحيان الأسطورة، وهي أخبار كاذبة وغير واقعية([25]). ويرى قسم من منظِّرينا أن لغة الدين عبارة عن أسطورة، وأن الدين يعبِّر عن نظرته وتفكّره حول الوجود من خلال لغة الأسطورة.

ويرى العلامة في هذا المجال أن ذلك خطأ جسيم؛ لأن قضية كتابة القصص وفنونها لا ترتبط بالقرآن الكريم، والقرآن ليس كتاب تاريخ أو رواية، بل القرآن كتاب لا يستعين أبداً بالقصص الكاذبة والمضلّلة؛ بغرض إحقاق الحق والإرشاد.

إنّ ما يضمه القرآن عبارة عن حجّة لمَنْ يتمسك به، وحجة على مَنْ يتركه. وعلى أيّ حال فكيف يمكن لعالم فضولي أن يسمح لنفسه بالقول بأن كتاباً يستعين بالقصص الكاذبة والمضلّلة؛ بغرض إحقاق الحقّ والإرشاد، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾؟!([26]).

ويقول العلاّمة، ردّاً على أولئك الذين ينظرون إلى قصص القرآن نظرة تطبيقية: «وهذا خطأ؛ فإن ما ذكره من أمر الفنّ القصصي حقّ، غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم، فليس القرآن كتاب تاريخ، ولا صحيفة من صحف القصص التخييلية، وإنما هو كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. وقد نص على أنه كلام الله سبحانه، وأنه لا يقول إلاّ الحقّ، وأنْ ليس بعد الحقّ إلاّ الضلال، وأنه لا يستعين للحقّ بباطل، ولا يستمدّ للهدى بضلال، وأنّه كتاب يهدي إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم، وأن ما فيه حجّة لمَنْ أخذ به، وعلى مَنْ تركه، في آيات جمّة لا حاجة إلى إيرادها، فكيف يسع لباحثٍ يبحث عن مقاصد القرآن أن يجوِّز اشتماله على رأي باطل، أو قصة كاذبة باطلة، أو خرافة، أو تخييل؟!»([27]).

4ـ نظرية عدم المعرفية: وهي عبارة عن إنكار أصل اللغة، أو حصرها بمفاهيم تجربية، أو فلسفات وضعية، تتعارض مع الأسس والمسلَّمات الخاصّة بالأديان السماوية. ويرى العلاّمة بأن المناهج المذكورة قد فرضت على لغة القرآن، وليست متناسبة مع الآيات القرآنية الكريمة([28]).

تؤكِّد نظرية النزعة الأخبارية بأن معاني القرآن وظواهره غير قابلة للفهم من قبل المخاطبين، وبالتالي لا يمكن الاحتجاج بها، إلاّ إذا أيَّدتها رواية عن المعصومين.

وتعدّ الآية التالية أحد الأسس الهامّة لهذه النظرية([29]): ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7). إنّهم يعتبرون بأن أيّ تفسير وتمسك بظواهر الآية الكريمة هو تأويل للقرآن، وهذا ما لا يملك صلاحيته إلاّ المعصومون.

ويعتبر العلامة أن ذلك تخطئة للعقل؛ لأن أصل الوجود هو الله تعالى، والنبوة والقرآن يثبتان بالعقل. كما أنّ المذهب السابق غير متناسب مع القرآن؛ لأن القرآن يدعو البشر إلى تدبُّر آيات الله.

طرحت نظرية عدم المعنى في تفسير الكلام المقطع للقرآن، وهنالك أكثر من عشر وجهات نظر في تفسيرها.

ويفسِّر العلامة هذا الكلام بأنه عبارة عن رموز بين الله ورسوله، ولكنّ المجال هنا لا يسمح بالإشارة إليها.

نظرية اللغة الدينية العرفية: ترى هذه النظرية بأن اللغة الدينية هي ذاتها اللغة العامية السائدة بين الناس، وأن أكثر كلماتها تستخدم بمعناها الحقيقي، وأحياناً بمعناها الافتراضي، مثل: الكناية والاستعارة والتشبيه والتمثيل وغيرها. ويتبع أهل الحديث وأصحاب النزعة الظاهرية هذه النظرية.

ورغم أنّ العلامة يرى في القرآن الكثير من تلك اللغة إلاّ أنه لا يعتبر لغة القرآن عرفية بشكلٍ مطلق([30]).

يمكننا أن نستشف من ظاهر بعض العبارات التي أوردها العلامة أنه يصف لغة الدين، وخاصة لغة القرآن، بلغة عرف العقلاء. لكننا إذا تأملنا جيداً فيها لاكتشفنا بأن هذا الحكم ليس بحكمٍ عام، بل تقيّده بعض الشروط. ويقول العلامة، في استنادٍ إلى الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾: تدلّ على الفهم العادي للقرآن([31]). وإن الله تعالى في دعوته للناس وإشارده لهم قد تحدَّث بلغتهم([32]).

كما يرى العلامة، مستنداً إلى الآية الكريمة، أنّ الله تكلَّم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم، وجرى في مخاطباته إيّاهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية([33]).

وفي مؤلَّفاته باللغة الفارسية يؤكِّد العلامة على عرفية القرآن، وإمكانية فهمه، قائلاً: يتناسب القرآن الكريم مع أبسط المستويات التي يشهدها فهم العامّة من الناس([34])؛ لأن القرآن الكريم يخاطب الناس أجمعين، دون أن يقيم الحجّة، بل بمجرد الاستناد إلى أمر الله تعالى يأمرهم بقبول الأصول العقائدية، كالتوحيد والنبوة والمعاد، والأحكام العملية، كالصلاة والصيام وغيرها، وينهاهم عن البعض الآخر من الأعمال. ولو لم يكن يعتبر تلك البيانات اللفظية بمثابة حجّة لما أمر الناس بالطاعة([35]).

ويشير العلاّمة إلى بُعْد القرآن عن الألغاز، ويؤكِّد على أن مفرداته ومفاهيمه تكشف بنفسها عن معانيها بشكلٍ كامل: إنّ ما يدلنا عليه التأمل الكافي في الآيات القرآنية وأحاديث أهل البيت^ هو أن القرآن بلغته الجميلة وبيانه الجليّ لم يعمد إلى استخدام الألغاز، ولم يقدّم مواده إلى الناس إلاّ ضمن قالبه اللفظي الخاصّ. ولذلك تنبغي معرفة لغة القرآن من القرآن ذاته، وليس من خارجه. وليس من دليلٍ على خلاف ذلك([36]).

ويكشف القرآن الكريم، الذي يعدّ من طبقات الكلام، عن مقصوده كسائر أنواع الكلام العادية، ولا يعجز عن دلالة نفسه، ولا يأتي بأدلّة من الخارج.

 

أوجه الاختلاف بين كلام الله وكلام الناس ــــــ

1ـ لفهم كلام الناس يكفي الاعتماد على المفردات والمبادئ اللفظية، لكنّ ذلك لا يكفي لفهم كلام الخالق عزَّ وجلَّ. ويقول العلامة في هذا الشأن: عندما نسمع البشر يتحدّثون فإنّنا نحكم بالاستفادة من القواعد العامّة للغة، أما كلام القرآن فلا يسري عليه ذلك؛ فكلماته في الوقت ذاته الذي تراها فيه منفصلة متّصلة ببعضها([37]).

2ـ المسامحة في كلام العرف ممكنة، وليس في كلام الله: نحن البشر نتكلم بموجب ما يدركه عقلنا من المعاني، سواءٌ كنا بلغاء أم لا…، ومن سمات الكلام البشري القياس والمسامحة، لكن كلام الله سبحانه وتعالى ليس كذلك، وهو منزَّه عن النقائص والعيوب، وعلمه يحيط بكل شيء([38]).

ونستنتج ممّا تقدم ذكره أن كلام الله، ورغم كونه عربياً، لا يقارن بكلام البشر. ورغم أن لغة القرآن لغة بسيطة، إلاّ أنها تحمل في طياتها العديد من المعارف السامية لا يدركها إلاّ «المطهَّرون»: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾.

6ـ النظرية التركيبية (نظرية العلاّمة): تنهل لغة الدين من وجهة نظر أتباع هذه النظرية من لغات مختلفة (التصريح والكناية والاستعارة والرمز وغيرها)، بشكل يتناسب مع المادة التي تقدّمها، وتخلق بين كافة الأجزاء علاقة منتظمة، يمكن من خلالها التوصّل إلى النظرة العالمية للدين. ويُعتَبَر العلاّمة من أتباع هذه النظرية في لغة القرآن، ويرى أن قضاياه تركيب من الإنشاء والرمز والتمثيل والكناية والاستعارة والحقيقة والافتراض وغيرها.

 

سمات لغة القرآن من وجهة نظر الطباطبائي ــــــ

1ـ انتظام اللغة والمعارف القرآنية: يذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، بشكلٍ غير مباشر، انتظام اللغة والمعارف القرآنية، وأنها سلسلة متّصلة ومنظمة، تقوم بتحقيق هدفٍ معين.

وقد أشار العلامة إلى هذا الجانب في اختيار طريقة التفسير الموضوعي، وتفسير القرآن بالقرآن، والكشف عن معناه عبر وحدة السياق.

يقول العلامة: البيان القرآني كلامٌ ترتبط ألفاظه ببعضها، في الوقت ذاته التي نراها منفصلة، أي إن كلّ مفردة منها تدلّ على الأخرى، وتشهد على مرادها، كما بين الإمام عليّ×. لذلك لا ينبغي لنا أن نكتفي بما تدلّ عليه آية معينة، دون التدقيق والتدبر في سائر الآيات: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾.

ويشرح العلامة، بموجب وجهة النظر هذه، العديد من المفردات القرآنية. فعلى سبيل المثال: يشير إلى الكتاب بمعنى «حكم ملزم»، وكذلك «معنى قوي». وخلافاً للعرف يعتبر القلب بمثابة النَّفْس والروح([39]).

ويرى العلامة في مجموعة المعارف القرآنية هرماً يتموضع التوحيد على رأسه، ويقول: ترتكز الآيات القرآنية في هذه المعارف الإلهية المفصَّلة إلى حقيقة واحدة، وهي الأصل، وما تبقّى فروع وأوراق. وهذا الأصل هو توحيد الله سبحانه وتعالى([40]).

ويعتقد، كسائر العارفين، أنّ محدوديّة المخاطَبين وألفاظهم وكلامهم لا يمكنها شرح سوى بعض جوانب الحقائق المتقدّمة. وفي الحقيقة فإنّ لغة القرآن تلعب دور المثل والتمثيل، مقارنة بالحقائق الغيبية([41]).

ويرى كذلك أن بيانات القرآن الكريم تتمتَّع بجانب المثل بالنسبة إلى الباطن الذي تحمله، أي إنها عبارة عن أمثال، غرضها تقريب المعارف الإلهية التي تسمو عن مستوى الإدراك البشريّ إلى ذهن البشر([42]).

ويستند العلاّمة إلى آيتين كريمتين، هما: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ (الإسراء: 89)؛ ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾(العنكبوت: 43).

ولربما توهَّم القارئ أن اشتمال القرآن على أمثالٍ واضحة دليلٌ على أن القرآن مَثَلٌ بأكمله. لكنّ العلامة يجيب على ذلك بتمسكه بالآيات المذكورة، قائلاً: وفي القرآن الكريم أمثلة عديدة، لكنّ الآيات المتقدّمة مطلقة. وبالتالي ينبغي القول بأن كافة البيانات القرآنية هي أمثال بالنسبة إلى المعارف السامية، التي تعدّ المقاصد الحقيقية للقرآن([43]).

2ـ اشتمال القرآن على حقائق فوق مادية: ينهل القرآن الكريم من مجموعة من الحقائق والمعنويات البعيدة عن قيد المادة والجسمانية، والتي تسمو على مراحل الحسّ والمحسوس والقوالب اللفظية التي تنتج عن حياتنا المادّية. والقوالب اللفظية لا تصلح لتلك الحقائق والمعنويات حسب نوعها. والعمل الوحيد الذي غاب عن الساحة هو أن هذه الألفاظ استخدمت لمنح الوعي للعالم البشري([44]).

3ـ عدم معرفة عمق القرآن: يرى العلامة أن ابتلاء الأذهان العرفية بالتلوّث المادّي وهوى النفس سببٌ آخر من أسباب تفوُّق القرآن وسموّه؛ لأن الماديات تحول دون بلوغ الأذهان البشرية أعماق القرآن ومفاهيمه([45]).

4ـ عدم كفاية الفهم والقواعد العرفية في تفسير لغة القرآن: يقول العلاّمة: إنّ الاستعانة بالفهم والقواعد العرفيّة يبعث على تشوّش الفهم واختلاله([46]).

5ـ جزميّة لغة القرآن: نشأت لغة القرآن عن المقامات الغيبية والعالم المطلق الصادق والمطابق للواقع، لكنّ قصور العقل البشري في العلم ونقله يمكن أن يؤدي إلى احتمال عدم صدق اللغة العرفية.

فالإنسان يعتبر المعاني والمفاهيم التي أدركها بعقله أساساً للكلام، ومن جهة أخرى فإنّ ما يقبل الإدراك بالنسبة له يمكن إدراكه بالفهم المكتسب، الفهم الذي يكتسبه من حياته الاجتماعية التي ترتكز على القياس، ولذلك يمكن للتسامح والتساهل أن يشقّ طريقه عبر العقل البشريّ. ومن ذلك: استخدام كلمة «كثير» بدلاً من «جميع»؛ و«غالباً» بدلاً من «دائماً»؛ وإلحاق الأشياء النادرة بالأشياء المعدومة. هذا كلام البشر، لكنّ كلام الله سبحانه وتعالى منزَّه عن هذا القصور، فعلمه محيطٌ بكل شيء([47]).

6ـ فهم القرآن بالقرآن: يقول العلاّمة، مخالفاً الأخباريين الذين يرَوْن سبيل فهم القرآن مسدوداً: لقد بيَّن سبحانه وتعالى سبيل إدراك القرآن، وليس هنالك حاجة لوضوح أكثر([48]). ويشير إلى الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ﴾، قائلاً: تبين هذه الآية أن إبهام بعض الآيات يزول ببعضها الآخر([49]). ويقول كذلك: لا توجد في القرآن الكريم أيّ آية لا يمكن تشخيص مدلولها، فضلاً عن أن القرآن الكريم يصف نفسه بالنور والهادي والبيان، ولا تقصر آياته عن بيان المراد الواقعي… فآيات القرآن إمّا قوية بلا واسطة، كالقوة ذاتها؛ وإما بواسطة، كالمتشابهات([50]). يعرف أسلوب العلامة في التفسير بـ «تفسير القرآن بالقرآن»، لكن الجانب الحَسَن هو أن هذا الأسلوب هو أسلوب حصريّ، أي إنّ لغة القرآن جليّة، والآيات التي تضم نوعاً من الإبهام لا تحتاج إلى شواهد خارجية، بل يمكن رفع إبهامها بواسطة الآيات القويّة. «فمَنْ زعم أن كتاب الله مبهَمٌ فقد هلك وأهلك»([51]).

ومن هنا نتبين أنّ العلامة يرى لغة القرآن مختلفة عن اللغة العرفية، رغم تناسبها معها. ولذلك ينبغي الدخول إلى معرفة القرآن من باب معرفة اللغة العرفية، وذلك شرطٌ لازم، وليس بكافٍ. ولذلك فقد أطلق على لغة القرآن «اللغة العرفية الخاصّة».

7ـ احتواء القرآن على الظاهر والباطن: يقول العلامة، نقلاً عن إحدى الروايات: «إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنٌ إلى سبعة (أو سبعين) أبطن».

يتميز القرآن بمستويات مختلفة، وظاهر وباطن نسبيّ. وهذا يؤدّي بنا إلى نتيجتين:

1ـ تتمتّع المعاني القرآنية بمراتب تختلف معاني الدين باختلافها.

2ـ الظاهر والباطن نسبيّ في كلّ أمر. فظاهر القرآن يمثِّل المعاني الظاهرة التي تتبادر إلى الذهن في البداية؛ وباطنه هو ما يستتر خلف حجاب المعنى الظاهر([52]).

ويضيف العلاّمة: لا تتعارض تلك المعاني الظاهرية والباطنية مع بعضها البعض. ولأجل الدخول إلى المستويات الباطنية ينبغي العبور إليها من باب المستويات الظاهرية، حيث يعتبر الظاهريات مغلقة، ويؤكد على حفظ ظاهر القرآن ما لم تكن هنالك شواهد عقلية ولفظية مخالفة له. كما ويرفض المعاني الباطنية التي تخالف الظاهر دون شاهد.

يقول: للقرآن مراتب مختلفة من المعنى، مترتبة طولاً، من غير أن يكون الجميع في عرض واحد، فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو مثل عموم المجاز، ولا هي من قبيل: اللوازم المتعدّدة لملزوم واحد، بل هي معانٍ مطابقية، يدلّ على كلّ واحد منها اللفظ بالمطابقة، بحسب مراتب الأفهام([53]).

8ـ التأويل والتنزيل([54]): يقول العلامة: التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ، بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام.

فإنْ كان الكلام حكماً إنشائياً، كالأمر والنهي، فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه. فتأويل قوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ مثلاً هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم في نفس المصلي في الخارج، فتنهاه عن الفحشاء والمنكر.

وإنْ كان الكلام خَبَرياً؛ فإنْ كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي، كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والأمم الماضية، فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي؛ وإنْ كان إخباراً عن الحوادث والأمور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين: فإمّا أن يكون المخبَر به من الأمور التي تنالها الحواسّ أو تدركها العقول كان أيضاً تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة.

والجدير بالذكر أنّ للتأويل معاني أربعة، استخدمت ثلاثةٌ منها في القرآن الكريم، وهي:

ـ التأويل المتشابه: يزيل التأويل المتشابه حيرة المرء، ويعطف وجهة نظره إلى المسار الصحيح لها.

ـ التعبير عن الرؤيا: استعملت مفردة «تأويل» في سورة يوسف ثماني مرات بهذا المعنى.

ـ عاقبة الأمور والمصير: في سورة الإسراء، الآية 35: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، و(النساء: 59)، و(الأعراف‌: 53)، استعملت مفردة تأويل بهذا المعنى([55]).

9ـ المحكم والمتشابه: يعتبر العلامة أن الآية المحكمة هي الآية ذات المعنى الجليّ والمستقلّ، والآية المتشابهة عكسها([56]).

يرى العلامة أن الآيات المتشابهة جلية من حيث المفهوم، وأن التشابه في مراد الآيات فقط([57]). ويقول العلامة حول تعريف المتشابه ونقده: يعتبر العديد من المفسِّرين أن الآيات المتشابهة هي الآيات التي لا يراد منها ظاهرها، ولا يمكن إلاّ للخالق عزَّ وجلَّ أن يعرف المراد الواقعي منها، والذي هو تأويلها…

ورغم أن وجهة النظر هذه سائدة بين العديد من المفسِّرين، إلاّ أنها لا تنطبق على دلالة سائر الآيات القرآنية؛ لأنه لا توجد في القرآن الكريم أيّ آية لا يمكن تشخيص مدلولها، فضلاً عن أن القرآن الكريم يصف نفسه بالنور والهادي والبيان، ولا تقصر آياته عن بيان المراد الواقعي.

 

النتيجة ــــــ

مما تقدّم يتّضح لنا أن لغة القرآن، ورغم نزولها بناءً على ثوابت عرفية، إلاّ أنّها تتميّز عنها باختلافات أساسية تنقض نظرية اللغة الدينية العرفية.

وفي ما يلي بعضٌ من تلك الاختلافات:

1ـ انتظام لغة القرآن: تتميّز أكثر المفاهيم اللغوية بظهور كلاميّ قابل للاحتجاج، ولكنْ بما أنّ القرآن نزل طوال 23 سنة ينبغي مراجعة كافة آياته؛ لأجل إدراك المقصود الرئيسي لآيةٍ معينة؛ لأن القرآن يشمل المطلق والمقيِّد، العامّ والخاصّ، الناسخ والمنسوخ، والمتشابه والمحكم. ومواضعها غير معيَّنة بصورة مضبوطة ومشخصة. فانعقاد آيات القرآن لا يتمّ بآية أو سورة، بل بالقرآن بأكمله.

2ـ عدم الاكتفاء بالقواعد الأدبية والعرفية في لغة القرآن شرط لازم، لكنّه غير كافٍ؛ لأنّ القرآن يسمو على اللغة العرفية، وذلك بدليل نزوله بصورة تدريجية، واحتوائه على مفاهيم غيبية.

3ـ تعدُّد مستويات القرآن: تتمتع اللغة العرفية عادةً بمعنى واحد، ومفهوم رئيس يقصده المتكلِّم، حسب الظاهر، لكنّ اللغة القرآنية تتميَّز بالعديد من المعاني التي أشرنا إليها آنفاً.

4ـ الدقّة النسبية في الكلام العرفي: تعاني اللغة البشرية من القصور؛ بسبب التسامح والتساهل، ممّا يؤدّي إلى ظهور الأخطاء فيها، لكنّ لغة القرآن ليست كذلك.

ونستنتج أنّ العلامة يرى أن لغة القرآن، ورغم نزولها بناءً على الأصول العرفية، وإمكانية إدراكها من قبل الآخرين، لكنها تتفوق عليها، ويمكن القول بأنّ لغة القرآن لغة عرفيّة خاصّة.

تَعتبر نظرية اللغة الخاصة أنّ لغة القرآن أشمل من اللغة العادية والعرفية. ولتفسير القرآن ينبغي اتّخاذ مذهب خاصّ. وهذه النظرية أقرب إلى وجهة نظر العلامة الطباطبائي، الذي يقبل بأن لغة القرآن عرفية، لكنه يؤكِّد على عدم الاستعانة بالقواعد العرفيّة وفهمها، بل تنبغي مراجعة القرآن ذاته.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعد في جامعة سيستان وبلوشستان، كلية الشريعة والمعارف الإسلامية، قسم علوم القرآن والحديث.

([1]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 80.

([2]) المصدر السابق 13: 238.

([3]) المصدر السابق 1: 67.

([4]) المصدر السابق 19: 77.

([5]) المصدر السابق 5: 17، 13: 263، 19: 138.

([6]) يرى إيزوتسو أن علم المعنى عبارة عن نوع من علم البحث في ماهية النظرة العالمية لشعب معين خلال فترة معينة من التاريخ، عبر تحليل أسلوب معرفة المفاهيم والتصوّرات الثقافية الرئيسة التي وفّرها ذلك الشعب لنفسه، وتبلورت في كلماته المفتاحية.

([7]) تطلق على مجموعة من الأفكار، وتتكون حلقة فين من شخصيات، مثل: موريس شليك ورودلف وغيرهم. (بيل إداورز، موسوعة الفلسفة، ج3؛ بهاء الدين خرمشاهي، الوضعية المنطقية، دار النشر العلمية والثقافية، طهران، 1982م؛ روشن سعيدي، تحليل لغة القرآن وعلم الأسلوب المرتبط بفهمها: 115 ـ 123، 2004م).

([8]) باربور، آراء مختلفة حول علاقة العلم والدين، مجلة ذهن، العدد 3: 89 ـ 90؛ مصطفى ملكيان، تحقق المفاهيم الدينية: 24 ـ 25؛ آلفرد جويس آير، الحقيقة والمنطق: 39.

([9]) الميزان في تفسير القرآن 8: 53 ـ 59، 3: 8.

([10]) المصدر السابق 3: 8، 8: 54.

([11]) لكنهاوسن، الخطاب الديني: 28.

([12]) علي زماني، زبان دين: 36 ـ 37.

([13]) الميزان في تفسير القرآن 2: 15.

([14]) المصدر السابق 11: 338.

([15]) المصدر السابق 3: 60 ـ 63.

([16]) المصدر السابق 8: 306 ـ 322.

([17]) المصدر السابق 2: 132.

([18]) المصدر السابق 2: 217.

([19]) المصدر السابق 8: 28، 27، 23.

([20]) المصدر السابق 1: 132.

([21]) المصدر السابق 17: 387.

([22]) المصدر السابق 16: 349.

([23]) المصدر السابق 14: 315.

([24]) المصدر السابق 18: 16، 2: 257.

([25]) المصدر السابق 7: 50.

([26]) المصدر السابق 7: 235 ـ 237.

([27]) المصدر السابق 7: 165 ـ 167.

([28]) المصدر السابق 1: 7 ـ 8.

([29]) الذهبي، التفسير والمفسِّرون 1: 256؛ الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) 1: 346؛ ابن تيمية، الإيمان: 85؛ أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميّين 2: 251، الخطيب البغدادي، جامع البيان 2: 234؛ مسند أحمد بن حنبل: 44 ـ 50.

([30]) الميزان في تفسير القرآن 1: 6.

([31]) المصدر السابق 3: 8، 5: 416.

([32]) المصدر السابق 5: 20.

([33]) المصدر السابق 2: 175، 3: 292.

([34]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 31.

([35]) المصدر السابق: 74.

([36]) هذا الكلام مقابل للاعتقاد السائد بأن طريقة معرفة الدين خارج الدين، وليس داخله. (شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 105، 159، 269، 171، 243، 264).

([37]) الميزان في تفسير القرآن 3: 117 ـ 118.

([38]) المصدر السابق 5: 417 ـ 418.

([39]) المصدر السابق 2: 132، 2: 234.

([40]) المصدر السابق 2: 9.

([41]) المصدر السابق 2: 8.

([42]) القرآن في الإسلام: 4.

([43]) المصدر السابق: 32.

([44]) المصدر السابق: 24؛ الميزان في تفسير القرآن 3: 24.

([45]) الميزان في تفسير القرآن 2: 18.

([46]) المصدر السابق 1: 11.

([47]) المصدر السابق 5: 381.

([48]) المصدر السابق 1: 86.

([49]) المصدر السابق 7: 167.

([50]) القرآن في الإسلام: 33 ـ 34.

([51]) الميزان في تفسير القرآن 3: 87.

([52]) المصدر السابق 3: 74.

([53]) المصدر السابق 3: 63.

([54]) المصدر السابق 3: 22 ـ 25.

([55]) انظر: المعرفة والتأويل من وجهة نظر العلاّمة: 54 ـ 94.

([56]) الميزان في تفسير القرآن 3: 19.

([57]) المصدر السابق 1: 9.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً