أحدث المقالات

قراءة في تفسير الشهيد مصطفى الخميني&

الشيخ محمد رحماني(*)

ترجمة: صالح البدراوي

 

مقدمة في المنهج والموضوع ـــــــ

علم الفقه نما على قمة شجرة الوحي الطيبة، وارتوى من أنهار الولاية العذبة، فأورق وأثمر. وللفقه الشيعي علاقة متلازمة مع القرآن الكريم، وبناءً على ما جاء في أقوال الأئمة المعصومين^ فإن كل ما يأتون به في توضيح المسائل الفقهية مأخوذٌ من القرآن، وله جذور فيه.

ولكن مع كل ذلك نجد ـ مع شديد الأسف ـ أن الفقهاء ـ على الرغم من أنهم يذكرون كتاب الله في صدر كلامهم عندما يتحدثون عن مصادر الاجتهاد والتفقه، ومن ثم يتحدثون عن مصادر التشريع الأخرى ـ لا يعطون للقرآن الكريم هذه الصدارة والأولوية عند التطبيق، ويتناولون فقط جملة من الآيات المحددة بحدود خمسمائة آية، وبقصد التبرك والتيمن على الأكثر، وليس بقصد البرهنة واستنباط الحكم الفقهي.

في بعض الحالات لا تحظى الآية بأكملها باهتمام الفقيه وتلامذته، ويصار إلى الاكتفاء بذلك الجزء المعروف والمتداول من الآية فقط، من دون أن تتم ملاحظة صدر الآية وآخرها، فما بالك ببعض الشؤون الأخرى، من قبيل: شأن النزول، وارتباط الآيات بما قبلها وما بعدها، والظروف السائدة في عصر النزول…، وغيرها.

ومن هنا بقي الاجتهاد والاستنباط محصوراً في نطاق عدد من الآيات، ولم يسمح الفقهاء لأنفسهم بالذهاب إلى أبعد من ذلك العدد المحدد ليستمدوا العون من آيات أخرى في استنباط الأحكام، وبالتالي يساهمون في توسيع آفاق الفهم القرآني.

وهذه الأمور تكشف عن أن المدرسة الفقهية أولت اهتماماً قليلاً للمنهج القرآني والدراسات القرآنية في حركتها العلمية.

وكيف يمكن القول بأن القرآن الكريم هو منهج الحياة، وأن الفقه هو نظرية إدارة المجتمع من المهد إلى اللحد، ونحن نشهد في نفس الوقت هذا المستوى من الفتور في حضور القرآن في عملية الاجتهاد والاستنباط.

ومن هنا تقع المسؤولية على عاتق الفقهاء المجددين، والحريصين، والملتزمين، والمتحسسين لآلام المجتمع، للقيام بدراسة الآيات القرآنية برؤية فقهية متجددة تتلائم مع روح العصر، والغوص في هذا المحيط السحيق لاستخراج الكنوز النادرة والخفيّة من باطنه؛ لغرض الإجابة على الأسئلة المستحدثة النابعة من التحولات الأساسية التي حدثت على العلاقات الاجتماعية.

ومن الفقهاء الذين ساروا في هذا الطريق، وخطوا فيه خطوات وإن كانت بسيطة، هو العلاّمة الشهيد السعيد السيد مصطفى الخميني، الابن البارّ والنجل الأكبر للإمام الخميني الراحل&.

فقد خطّ بيده الكثير من المواضيع التي لم يسبقه إليها أسلافه والذين سبقوه، من خلال الرؤية الحداثوية التي يحملها في دراسته للآيات القرآنية.

وتسعى هذه المقالة إلى وضع الدراسات الفقهية في كتاب «تفسير القرآن الكريم» للشهيد مصطفى الخميني بين يدي قرّاء المجلة الكرام؛ بهدف القول: إن الكثير من الآيات القرآنية التي لم ينظر إليها حتى الآن على أنها فقهية يمكن أن يكون لها استخدام فقهي.

وفي البداية، وقبل الانتقال إلى لب الموضوع، أجد من الضروري التذكير ببعض النقاط:

1 .ـ لا تدّعي هذه المقالة بأنها ألمَّت بجميع المواضيع الفقهية لهذا التفسير.

2 ــ بالإضافة للاستخدامات الفقهية هناك مستوى من الفهم الجديد أيضاً من

الآيات بشأن علم الأصول؛ إذ إن دراستها والوقوف عليها يضيق بهذه المقالة، وهي بحاجة إلى مقالة منفصلة بشأنها.

3 ــ تم توضيح بعض العناوين الفقهية، ومدلول الآيات وأشياء أخرى بما يتناسب والمقام، في نهاية الآيات .

4 ــ التطرق إلى توضيح الاستنتاجات الفقهية من الآيات لا يعني بالضرورة قبولها من قبل راقم هذه السطور.

5 ــ بيّن العلاّمة الشهيد الكثير من المواضيع كاستنتاج، ولعلها لا تمثل رأيه النهائي بها.

6 ــ انطلاقاً من أن مقارنة جميع النتائج الفقهية لهذا التفسير مع التفاسير الأخرى سيؤدي بنا إلى الإطالة فقد جاءت المقارنة في ثلاثة مواضع فقط، هي: الآية الأولى من سورة الحمد؛ الآية 21 من سورة البقرة؛ الآية 45 من سورة البقرة([1]).

وبالنسبة للآية الأولى فقد تناول العلاّمة الشهيد تسعة أحكام فقهية بخصوصها بالبحث والدراسة، ولم يتطرق لبقية التفاسير أو الأحكام الفقهية، أو اكتفى منها بموارد بسيطة؛ وبالنسبة للآية 21 من سورة البقرة تناول خمسة أحكام فقهية بشأنها، في حين أن أكثر التفاسير لم تتطرق إلى ذكر أي عنوان فقهي بهذا الصدد؛ وفي الآية الأخيرة بيّن ثلاثة أحكام فقهية منها، في حين لم تتعرّض باقي التفاسير إلى بيان أيّ حكم فقهي منها.

7 ــ ميدان المقارنة في هذه المقالة الكثير من التفاسير الشيعية، وهي عبارة عمّا يلي:

1 ـ التبيان، للشيخ الطوسي. 2 ـ مجمع البيان، للشيخ الطبرسي. 3 ـ الميزان، للعلاّمة الطباطبائي. 4 ـ تفسير الكاشف، لمحمد جواد مغنية. 5 ـ تفسير القرآن الكريم، لصدر المتألهين. 6 ـ كنز الدقائق، للشيخ محمد القمي المشهدي. 7 ـ تفسير العاملي، لإبراهيم العاملي. 8 ـ تفسير نمونه، لجمع من الكتاب، تحت إشراف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، آية بدء التفسير. 9 ـ تفسير الفرقان، لمحمد الصادقي.
10 ـ تفسير النور، لمحسن قراءتي. 11 ـ تفسير معين، لمرتضى الكاشاني. 12 ـ تفسير شبّر، للمرحوم شبّر. 13 ـ تفسير پرتوى أز قرآن، للسيد محمود الطالقاني،
14 ـ تفسير لاهيجي، لبهاء الدين اللاهيجي. 15 ـ تفسير الصافي، للفيض الكاشاني.

16 ـ تفسير خلاصة المنهاج، للملاّ فتح الله الكاشاني. 17 ـ تفسير العياشي.
18 ـ البرهان، للسيد هاشم الحسيني البحراني. 19 ـ نور الثقلين، للحويزي.
20 ـ تفسير آسان، لمحمد جواد النجفي. 21 ـ تفسير أحسن الحديث، للسيد علي أكبر القرشي. 22. من هدى القرآن، للمدرسي. 23 ـ تفسير راهنما، لأكبر هاشمي رفسنجاني. و… .

العناوين الفقهية في تفسير الشهيد الخميني ـــــــ
1 ـ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ـــــــ

أورد السيد مصطفى الخميني في تفسير هذه الآية عدة عناوين فقهية بمنهج استدلالي، وتناولها بالنقد والتحليل، ومنها:

1ــ يحرم مسّ ( ملامسة البدن للقرآن الكريم ) كلمة الله المباركة على الجنب بإجماع جميع الفقهاء، وكذا هو حرام على من ليس على طهارة ( محدث بالحدث الأصغر )، وإن قال البعض بالإشكال .

2ــ تختص حرمة المس بكلمة الله، وكذا لو كانت إضافة الاسم إلى كلمة الله بياناً، أما لو كانت الإضافة معنوية فإن هذا الحكم يشمل جميع أسماء الله تعالى.

3ــ هل يختص هذا الحكم بكلمة الله عندما تطلق كاسم على الذات المقدسة لله تعالى، أم أنّه يشمل اسم الله عندما يكون اسماً أو جزءاً من اسم لأحد الأشخاص، مثل: عبد الله؟

وهل تشمل حرمة المس الموضع الذي يريد به القائل من كلمة الله اللفظ دون الاسم، كمن يقول: الله لفظ مفرد؟ ولو كتبت كلمة الله مجوفة وخالية الوسط فهل أن مس الجزء الخالي حرام أم لا؟

وهل يستطيع الشخص المحدث أن يكتب كلمة الله بإصبعه؟

ويقول في إجابته على هذه الأسئلة والكثير من الأسئلة الأخرى: لو كان الدليل على الحرمة هو حرمة الهتك والإهانة فإن حكم الحرمة سيشمل جميع هذه الصور، ولو كان الدليل على الحرمة هو الأدلة اللفظية أو الّلبية([2]) فإن حكم حرمة المس في الكثير من هذه الحالات سيكون مقروناً بالإشكال.

4 ــ مس كلمة الله في البسملة يعد بمثابة ذنبين؛ لأنه من جهة يكون قد مس القرآن الكريم وهو محدث، ومن جهة أخرى فإن بين كلمة الله وبين هذين الاثنين عموماً وخصوصاً من وجه؛ لأنه في بعض المواضع يوجد القرآن وكلمة الله غير موجودة، وفي مواضع أخرى كلمة الله موجودة ولكنها ليست جزءاً من القرآن، وفي بعض الحالات يوجد كلاهما معاً.

5 ــ لا يجوز جعل اسم الله لغير الذات المقدسة لله تعالى.

6 ــ لو كان لفظ الرحمن اسم علم للشخص فإن مسه حرام، حتّى لو لم يقصد أثناء الكتابة معنى العلَم الشخصي، ولو كان الرحمن وصفاً فإن مسه سيكون حراماً إذا قصد الوصف أثناء الكتابة.

ويرى العلاّمة الشهيد أن الرحمن علم بالغلبة، وبناء على ذلك يرى أن مس كلمة الرحمن في البسملة حرام من وجهين، وفي غير البسملة هو حرام من ناحية كونه اسماً لله فقط، ولكنه يقول في النهاية: الأدلة اللفظية لها دلالة على حرمة مس المحدث بالحدث، حتى وإن كان جنباً أو حائضاً، وبما أن هذه المسألة لم تكن مطروحة في الكتب قبل زمن الشيخ الطوسي فإن ادعاء الإجماع على حرمة المس ليس صحيحاً، وأما الحرمة بسبب الإهانة من حيث الكبرى والصغرى فهي باطلة أيضاً.

7 ــ هل يجوز إطلاق اسم الرحمن على غير الله أم لا؟

انطلاقاً من أننا لا نملك دليلاً على الحرمة فيجب أن نفتي بالجواز، ومن جهة أخرى بما أن الرحمن اسم خاص، وإن المسلمين يستنكرون إطلاق هذا الاسم على غير الله، يجب أن نقول هنا بأنه لا يجوز.

وفي النهاية يعمد سماحته إلى تدعيم الرأي الأول وتقويته.

8 ــ كلمة الرحمن كانت تكتب في الأزمنة الماضية بدون ألف؛ لغرض التفريق بين كلمتي الله والرحمن، في حين أن الكتابة بدون ألف خطأ، فهل يجوز من الناحية الشرعية كتابة الرحمن بالألف وبصورة صحيحة أم لا؟ وبعد مناقشة مستفيضة يقول سماحته: يجب الاستمرار على الكتابة بدون ألف؛ لكي لا تصبح هذه التغييرات سبباً للمقارنة، أو التصرّف في القرآن وتحريفه.

التفاسير الأخرى مقارنة سريعة ـــــــ

التبيان: أشار الشيخ الطوسي إلى عنوان فقهي ضمن تفسيره للآية، وهو عبارة عن أن ترك بسم الله في الصلاة يوجب بطلان الصلاة؛ لأن بسم الله جزءٌ من القرآن.

مجمع البيان: بالإضافة إلى ما ذكره تفسير البيان قال الشيخ الطبرسي: يجب قراءة بسم الله في الصلوات الجهرية (الصبح والمغرب والعشاء) بصوت عالٍ، ويستحب قراءتها بالجهر في الصلوات الإخفاتية ( الظهر والعصر ).

تفسير الكاشف: كتب العلاّمة مغنية يقول: لكلمة الله أحكام، منها:

1 ــ يحرم كتابتها على الورق النجس وأمثاله.

2 ــ يحرم كتابتها بقلم نجس.

3 ــ يحرم مسها بدون طهارة.

4 ــ أفتى الفقهاء الشيعة بكفر الشخص الذي يرمي القرآن في الشارع بقصد الاستهزاء، ومن يأتي به إلى المكان الذي تجتمع فيه النجاسات ( المرافق الصحية)، وارتداده.

5 ــ يجب أن تقرأ بسم الله بصوت جهور في الصلوات الجهرية، والجهر بها في الصلوات الإخفاتية مستحب.

العيّاشي: نقلَ الرواية التي تدل على أن رسول الله ‘ كان يقرأ بسم الله بصوت جهور.

2 ـ ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الحمد: 1) ــــــ

1 ــ هل يجوز الحمد لغير الله؟

يذكر & سببين لعدم صحة ذلك: الأول: على الرغم من أن الحمد لا يمكن أن يقع لغير الله تعالى لكن يجب أن يراعي العباد ظاهر الحال، ولا يحمدوا الآخرين. وثانياً: إن جملة «الحمد لله» تدل على أمرين: أحدهما: إثباتي، وهو أن الحمد يليق بالله فقط؛ والثاني: إن الحمد لا يجوز لغير الله .

ويخلص في النهاية إلى القول: إنه لا يمكن أن يقع الحمد لغير الله، ومع ذلك فالظاهر أنه لو كان يراد به مفهوم العبودية فلا يجوز لغير الله، ولكن لو كان بمعنى الشكر والثناء فهو جائز.

2 ــ هل يجوز إنشاء قصد الحمد والثناء أثناء قراءة «الحمد لله» أم لا؟ يقول& بالجواز؛ لأنه لا مانع من إنشاء الحمد والثناء على فرض وجوب قراءة ألفاظ القرآن.

3 ــ يستحب قول الحمد لله عند العطاس أو سماعه من الآخرين، وإن كان أثناء الصلاة.

4 ــ يستحب قول «الحمد لله» عند رؤية الكافر أو الابتلاء بالمرض.

5 ــ اختلف الفقهاء في جواز القراءة بغير القراءات السبعة؛ فقال البعض بالجواز؛ وقال البعض الآخر بعدمه؛ وفصّل البعض الآخر بين القراءة المتعارف عليها وغير المتعارف عليها، أو القراءة الصادرة عن الأئمة المعصومين^ أو غير الصادرة عنهم، وغير ذلك.

وفي النهاية يقول&: بما أن هذا الموضوع يحظى بأهمية كبيرة، ونحتاج إليه من جهة أخرى في كل القرآن الكريم، بات من الضروري أن يحظى حكمه بالبحث والتحقيق ضمن المقدمات التي سترد في مدخل الكتاب.

6 ــ على الرغم من أن أصحاب الرأي في اللغة قالوا بأنه لا يجوز إطلاق كلمة الرب على غير الذات المقدسة لله تعالى في حالة عدم إضافة الرب لشيء ما، وبجوازه في حالة إضافته، من قبيل القول: رب الإبل، ورب الدار، إلاّ أن هذا الادعاء يفتقر للدليل؛ لأنه ليس لدينا دليل فقهي على عدم الجواز، بل لدينا بعض الجمل والعبارات، من قبيل: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ﴾ (يوسف: 39)، تؤيد القول بالجواز، وبناء على ذلك يجوز من الناحية الفقهية أن تأتي كلمة رب كاسم للآخرين، وإن كان غير صحيح من الناحية الأخلاقية والأدبية.

7 ــ انطلاقاً من أن الله تعالى هو رب العالمين هل يجوز أن يتصدّى الأفراد لتربية الناس وتعليمهم من خلال الأوراد والأذكار التي تدركها أفهامهم القاصرة وعقولهم الناقصة.

يقول &، بعد نقل ما كان قد رآه من أهل الوِرد والذكر، وشكواه منه: تصدّيهم لتربية الأفراد غير مشروع.

3 ـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الحمد: 5) ـــــــ

1 ــ استفاد بعض المفسرين المعاصرين من هذه الآية للقول بأن العبادة الباطلة لا تقتصر على عبادة غير الله فقط، بل إن عبادة الله طمعاً في جنته وهروباً من ناره هي الأخرى باطلة أيضاً؛ لأن الواجب عبارة عن العبادة الخالصة.

ولكنّه & يقول بعد أن يبدي أسفه لهذا الفهم والاستنتاج الخاطئ للآية: لو أمكن إثبات أن عبادة الله بهدف الفوز بالجنة وما شاكل ذلك ليس من العبادة فإن هذا الادّعاء سيكون صحيحاً، وإنما يمكن إثبات هذا الادّعاء إذا كان بإمكاننا القول أن الحصر يفيد البطلان، ولكن ليس من حصر هنا؛ لأن تقديم ما يجب أن يكون متأخَّراً لا يدل على الحصر، فما بالك بتقديم شيء من الممكن أن يكون متأخَّراً.

ويقول في النهاية: هذه العبادة صحيحة؛ لأن ملاك الصحة من الناحية الفقهية هي أن تكون إرادة العبد وعبادته لوجه الله تعالى، حتى وإن كان ما يحقق هذه الرغبة دواعي أخرى.

2 ــ هل أن الاستعانة بغير الله جائزة مطلقاً أم أنها غير جائزة ولا بد من التفصيل، بحيث أنها تجوز في الأمور العادية والدنيوية، ولا تجوز في الأمور التي تتعلق بالآخرة، وفي كل ما يعود سبباً في أن يصبح المستعان به أملاً ومرجعاً.

يقول &، بعد ردّه للأدلة التي من الممكن أن تدل على جواز الاستعانة بالآخرين، وكذلك القول بأنه يستفاد من الآية معنى الحصر: تدل الضرورة وسيرة المسلمين القطعية على جواز الاستعانة بغير الله تعالى في الأمور المتعلقة بالمعيشة وشؤون الحياة، وبناءً على ذلك يجب أن نقول: إن الآية لا تدل على الحصر، أو أن الاستعانة بالآخرين في بعض الأمور، ومنها: الأمور التي تتعلق بشؤون الألوهية ومسائل الآخرة، وأمثال ذلك، لا تجوز.

3 ــ هل يجوز أثناء قراءة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أن نتصور في الذهن، أشياء أخرى تعبّر عن المعبود الحقيقي غير الصور الذهنية الوهمية.

يقول &: لا يجوز هذا الأمر للنفوس الضعيفة، التي لا تقوى على إدراك أن هذه الصور فانية في المعبود الحقيقي، خاصة وأن الناس يستوحشون من هذا الأمر.

4 ـ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾
(الحمد: 6 ـ 7) ـــــــ

سبق وأن قلنا أنه لم يثبت جواز القراءات السبعة، فكيف بجواز القراءات الشاذة والنادرة، والقراءة الوحيدة الجائزة هي التي لا تلحق ضرراً بالعربية، حتى وإن لم يقرأها أحد. والأمر المهم هنا أن بعض المفسرين، ومن بينهم: الحافظ ابن كثير، قالوا: إن الإخلال في أداء حرف الضاد وقراءته بصورة (ظ) معفوٌّ عنه؛ لأن مخرجيهما قريبان جداً من بعضهما.

ويخلص الشهيد السيد مصطفى، وبعد الخوض في بحث معمق في علم الأصوات والتجويد، إلى القول: لا شك أن الإخلال في أداء الحروف فيه إشكال، ويوجب البطلان، إلا أنه يوجد خلاف بين الفقهاء فيما إذا كان هذا الإخلال يبطل الصلاة أم أنه يتسبب في بطلان الكلمة فقط؟ وفي النهاية يدعم & الرأي الأول؛ لأن القرآن الكريم لا يتصف بالصحيح والخطأ؛ ولأن القرآن نزل بصورة واحدة من قبل جبرائيل على رسول الله ‘، فإذا قُرئ بنفس ذلك الشكل فهو قرآن، ولكن لو قُرئ بنحو آخر فليس بقرآن، ولا يقال: إنه قرآن ولكنه باطل.

5 ـ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: 3) ـــــــ

1 ــ على الرغم من أن الفقهاء اختلفوا في مشروعية عبادة الصبي إلاّ أنه من الواضح بمكان أن عباداتهم مشروعة، ولغرض إثبات هذا الادعاء نحتاج إلى أدلة خاصة، من قبيل أن الأمر بالأمر بشيء يعني الأمر بنفس ذلك الشيء؛ لأن الأدلة العامة والإطلاقات وعمومات الآيات والروايات تكفي، وحديث رفع القلم يدل فقط على جواز الترك، دون الدلالة على رفع التكليف مطلقاً، وبناءً على ذلك فإن صيغة العموم الواردة في جملة ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ تدل على وجوب إقامة الصلاة من قبل أي شخص، وكذا في الصبيان، وبخاصة لو كانوا في سن التمييز والمراهقة.

وفي النهاية يقول &: من الممكن أن يُقال: إن هذه الآية تفيد الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فقط، وهي ليست بصدد تفصيل أنواع الصلاة وكيفيتها، لكي تصبح دليلاً على مشروعية عبادات الصبي.

2 ــ لو قلنا بالإطلاق في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، ولم نقُل هنا بالإشكال الذي بيّناه في إطلاق الجزء الأول من الآية، سنحصل على أحكام كثيرة متفرعة عن هذا القسم من الآية، ومنها:

أ ـ استحباب دفع الزكاة من قبل الصبيان.

ب ـ استحباب الإنفاق من أي رزق أنعم الله به عليهم، من قبيل: العلوم، وأمثال ذلك، وعليه يستحب تعليم الآخرين وتوجيههم، إلاّ أنه يقول في المسألة الرابعة: لا تشمل الآية إنفاق العلوم والمعارف.

ج ـ يجوز الإنفاق على غير المسلم، إلاّ إذا أُقيم الدليل على عكس ذلك.

د ـ إرسال الأبناء للجهاد في سبيل الله والدفاع عن حرمة رسول الله ‘ هو المصداق الكامل للإنفاق.

3 ــ ثبت في علم الأصول أن الأمر طالما يتعلق بالطبيعة فالأقوى أنه لا يقتضي الأداء لأكثر من مرة واحدة.

ومن هنا فإن السؤال التالي يطرح نفسه: هل لدينا دليل في القرآن الكريم على وجوب الصلاة في كل يوم وليلة أم أن الدليل يقتصر على الروايات فقط؟

ظن البعض أن ذكر بعض القيود مع شكل الأمر يدل على لزوم التكرار، مثل: قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾، فإن قيد دلوك الشمس يدل على لزوم التكرار عند الدلوك، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ.

وظن البعض أن جملة ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ لها دلالة على لزوم التكرار؛ لأن فيها كلمة إقامة، وهذه الكلمة تدل على لزوم الاستمرار والديمومة.

ولكن أولاً: إن الإقامة ليست بمعنى الاستمرار. وثانياً: لو افترضنا أنها تعني الاستمرار، فالمفهوم من الآية كناية عن إقامة الصلاة في حال الاعتدال والاستواء والاستقامة. ثالثاً: لو افترضنا أن مادة إقامة ضمن قوله تعالى: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ تعني الاستمرار فلا يُستبعد أن يكون المراد بذلك استحباب الاستمرار على الصلاة التي كان منشغلاً بها، وليس بمعنى تكرار تلك الصلاة في أوقات أخرى. رابعاً: ناهيك عن كل هذه الإشكالات فالآية لا تدل على وجوب التكرار.

4 ــ على الرغم من أن الآية تشمل الإنفاق من مال الآخرين ولكن من المؤكد أن مراد الآية ليس ذلك؛ لأن الإنفاق من مال الآخرين فيه تخصيص من الناحية العقلية، والآية غير معنية بذلك.

6 ـ ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾
(البقرة: 4) ـــــــ

1 ــ قال الفخر الرازي: يجب الإيمان بما أُنزل على رسول الله ‘؛ لأنه قال في نهاية الآية: أولئك هم المفلحون، ومتى ما أصبح الشيء واجباً فإن تعلمه يكون واجباً، ولكن هذا الوجوب كفائي، وكذا يجب الإيمان بما أُنزل على الأنبياء من قبله.

2 ــ يقول الدواني: الحصول على الأدلة التي يمكن أن تدفع الشبهة عن الأعداء واجب كفائي.

وقال الفقهاء: يجب على الأفراد القادرين على الإجابة والرد على الإشكالات والشبهات التي يثيرها أعداء الدين حول مسألة الحد الشرعي لمسافة صلاة القصر (24 فرسخاً) أن يجيبوا على تساؤلاتهم، كما ذكرت أقوال أخرى من الفقهاء في هذا السياق.

وفي النهاية يقول سماحته: أيٌّ من هذه الآراء ليس صحيحاً؛ لأن هذه الآيات جاءت لتبيين عظمة كتاب الله تعالى ومدحه ووصفه أنه هادي المتقين، وان أقصى ما تدل عليه الآية عبارة عن وجوب الإيمان بالقرآن والكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء من قبله، ولكن لا يستفاد من هذه الآية وجوب الإيمان بكل ما جاء في تلك الكتب السماوية.

3 ــ قال بعض الفقهاء: إن العمل بالاحتياط باطل؛ لأنه تنجم عنه الكثير من المفاسد. ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، ومخالف لرأي الكثير من المحققين.

4 ــ قال بعض الفقهاء والأخباريين: إن العمل على أساس تقليد الآخرين باطل، وقالوا بوجوب الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم ‘ للعمل بالتقليد.

ولكن هذه النظرية خاطئة، كالنظرية المتقدمة؛ لأن علماء الأصول يقولون بجواز التقليد للجميع، حتى أن بعض المعاصرين الكبار قالوا بجواز التقليد حتى بالنسبة للشخص القادر على الاجتهاد.

7 ـ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾
(البقرة: 8) ـــــــ

1 ــ هناك اختلاف بين الفقهاء مفاده أن الإسلام الذي هو موضوع لجملة من الأحكام، ومنها: حقن الدماء، أخذ الإرث من الموروث، وصحة الزواج، وحلية الذبيحة، ووجوب تجهيز الميت ( غسله، وتكفينه، ودفنه )، هل هو في قول الشهادتين فقط ( الشهادة بالوحدانية وبرسالة خاتم الأنبياء‘ )؛ إذ إن المنافق يأتي بهما أيضاً، أم فضلاً عن الشهادتين يشترط في ذلك الإيمان القلبي أيضاً، أم بالإضافة إلى ذلك لابد من اليقين بمضمونها كذلك؟ هناك جملة من الأقوال في هذه المسألة، ومنها:

أ) قال صاحب الجواهر في كلامه عن نجاسة الكافر بالرأي الأول، وقال الفيض الكاشاني في «المفاتيح» بتواتر الروايات الدالة على هذا الموضوع، والمحقق الهمداني في كتاب «المصباح» على هذا الرأي أيضاً، ويرى أن الدليل في ذلك يعود إلى بعض الروايات التي تدل على هذا الأمر، فضلاً عن السيرة العملية لرسول الله ‘ مع المنافقين.

ب) وبإزاء هذا الرأي قال الشيخ الأنصاري بنجاسة المنافقين، ووافقه في ذلك عدد من الفقهاء، منهم: المحقق اليزدي، ووالد المحقق.

ج) وفصّل البعض بين المنافقين الذين ينطقون الشهادتين ولا يقومون بفعل يخالف ذلك والمنافقين الذين يأتون بما يخالف الشهادتين، فهم في الحالة الثانية غير طاهرين.

د) وفصّل بعض آخر، ومنهم: ابن إدريس، بين المنافقين الذين يكون نفاقهم ناجماً عن القصور أو عن التقصير؛ إذ في الحالة الثانية ليسوا بطاهرين.

يقول العلاّمة الشهيد: ما يبدو لي أنه الصواب هو القول بطهارة كل من نطق الشهادتين إلا الناصبي؛ لأن أمير المؤمنين × لم يجتنب أكل سؤر ( بقايا الطعام ) المنافقين الذين كانوا يترددون عليه في عصره.

2 ـ ربما يكون للآية دلالة على جواز الدعاء بالسوء على المنافقين، وفضح أسرارهم وخفاياهم، وهتك حرمتهم.

يقول المحقق: ليس للآية دلالة على هذا الأمر؛ لأن هذه الآية بصدد الإعلان عن أن بعض الناس أمرهم على هذا النحو، ولم تطبّق الآية هذا العنوان على أشخاص معينين، وأما بالنسبة لجملة ﴿فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾ فإنها تخبر عن زيادة مرض المنافقين؛ والشاهد على هذا الأمر هو حرف الفاء، ولا يكفي مجرد الاحتمال بدلالة هذه الجملة على الإنشاء واللعن فقط.

3 ــ على فرض أن الآية لها دلالة على جواز لعن المنافقين فإن سؤالاً يطرح نفسه، وهو لو أن شخصاً يعلم أن دعائه يستجاب إذا دعا بالضرّ على الآخرين فهل يضمن الضرر الناجم أم لا؟ والإجابة على هذا السؤال معقدة.

4 ـ مما لا شك فيه أن الكذب حرام، إلاّ أن الآية التي لها دلالة على حرمة الكذب محل نقاش بين الفقهاء.

ومن الآيات التي استدل بها على حرمة الكذب هذه الآية؛ لأن عقوبة الكذب هي العذاب الأليم، إذاً فهو من الذنوب الكبيرة. يقول & في النهاية: لعل الآية تقول بوجوب العذاب الأليم للكذب الخاص المتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وعليه لا يستفاد منها حرمة جميع أنواع الكذب.

5 ـ بالإضافة إلى إمكان استفادة حكم الكذب من الآية فإنه يمكن الحصول على تعريفه منها أيضاً؛ لأنه بناءً على ما تدل عليه الآية فإن الكذب عبارة عن القول المخالف للواقع، وإن ما قاله الجاحظ من أن الكذب هو القول المخالف للعقيدة باطلٌ.

ويقول الأستاذ العلاّمة في النهاية: يقوم هذا الاستنتاج على عدم وجود أي نوع من الإيمان في قلب المنافقين، حتى لو كان إيماناً مستودعاً (مؤقَّتاً).

8 ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاإِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 11 ـ 12) ـــــــ
1 ـ إذا كانت الآية بصدد وصف المنافقين فإنها تدل على جواز الإعلان والكشف عن حالات المنافقين، وخبث باطنهم، وسوء مقاصدهم، وجواز هذه المسألة واضح جداً ولا شبهة فيه؛ ولو كانت الآية تريد وصف الغافلين عما يقومون به من أعمال سيئة فهي تدل كذلك على جواز إفشاء أسرارهم ومقاصدهم السيئة، وإن كان ينبغي ألاّ يؤاخذوا على ذلك؛ بسبب جهلهم واعتقادهم بأن عملهم صالح، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا القول يجوز بشأن بعض المنكرات والمحرمات المتعلقة بعموم الناس.

9 ـ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 13) ـــــــ

1 ــ يستفاد من جملة ﴿آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾ أنه لا يشترط في صحة الإسلام الاعتقاد القلبي، وإن كان الاعتقاد القلبي يمثل المرحلة المتكاملة من الإيمان بالإسلام. وبناء على ذلك لا يلزم التفحص والتقصي عن الاعتقاد القلبي بعد نطق الشهادتين.

2 ــ إطلاق المتعلق وحذفه في جملة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ﴾ يدل على أن المطلوب هو الإقرار بالإسلام، ولا يشترط فيه خلوص النية من الرياء والسمعة وأمور أخرى، إلاّ إذا قيل: بما أنه لا يمكن تقييد ﴿آمنوا﴾، فالتمسك بالإطلاق سوف لن يكون ممكناً كذلك، ولكننا أثبتنا في علم الأصول أنه في الحالات التي لا يمكن القول فيها بالتقييد فإنه يجوز ويمكن التمسك بالإطلاق.

3 ــ يستفاد من الآية أن توبة الكافر والمرتد تُقبل.

ويقول السيد الشهيد في النهاية: إن استنباط هذه الفروع قائم على أساس إطلاق الآية، ولكن الآية لا تدل على الإطلاق؛ لأن الآية من هذه الناحية ليست في مقام البيان والتفصيل، وهي فقط في مقام نقل كلام بعض الكافرين والمرتدين.

10 ـ ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (البقرة: 16) ـــــــ

1 ــ يقول الفقهاء: إن حقيقة البيع والشراء قائم على أساس أن يكون المثمن عيناً على أقل تقدير.

ولكن يستفاد من الآية أن هذا الموضوع ليس صحيحاً؛ لأن متعلق الشراء والتجارة في هذه الآية ليس عيناً، واستعمال كلمة الشراء، وإن جاء مجازاً واستعارةً، إلاّ أنه لا يوجد أيّ مجاز أو استعارةٍ بدون مناسبة مع المعنى الحقيقي.

وبناء على ذلك فإن الآية تدل على جواز بيع وشراء الأشياء التي لا تعدّ مصداقاً للأعيان، من قبيل: السرقفلية ( خلو الرِّجل ).

11 ـ ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾ (البقرة: 19) ــــــ

1 ــ سبق القول: إن الفقهاء اختلفوا بشأن سريان أحكام الإسلام على المنافقين الذين يظهرون الإسلام، ويستفاد من هذه الآية أن المنافقين محكومون بحكم الكافرين؛ لأن الله تعالى عبر عنهم بالكفر في قوله تعالى: ﴿واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾.

وأما القول: إن المراد بالكفر في الآية معناه اللغوي، أو إنهم في مقام الثبوت من الكافرين وفي مقام الإثبات هم محكومون بأحكام الإسلام، فليس تاماً؛ لأن هذا المعنى هو خلاف الظاهر وخلاف الفهم العرفي.

2 ــ يستفاد من هذه الآية أن ضرب الأمثلة بهدف تبيين أعمال الفاسقين الخاطئة ومقاصدهم المشؤومة وفضحهم أمر جائز، حتى ولو كانوا من أهل الذمة، ويطبقون أحكام دينهم.

12 ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 21) ـــــــ

1 ــ اختلف الفقهاء الشيعة والسنة بشأن شمول خطابات الكتاب والسنّة للأفراد غير الموجودين أثناء نزول الخطاب، وهل أن النداء يشملهم أم لا؟

يرى المحقِّق أن خطابات الكتاب والسنّة جُعلت بشكل قضايا حقيقية، بمعنى أن الحكم جعل على العناوين الكليّة؛ والشاهد على هذا القول هو الدقة الموجودة في القوانين التي توضع في المجالس التشريعية، وإن الإشكال في هذا الأمر كالشبهة في الأمر البديهي، وبالإضافة إلى ذلك لابد من القول ـ في خصوص الخطابات القرآنية ـ : بالرغم من أنها تبدو في الظاهر عبارة عن خطاب ونداء، ولكنها في واقع الأمر ليست خطابات ونداءات؛ لأن جبرائيل × ينقل كلام الله تعالى إلى رسوله الكريم ‘، وهو بدوره ينقل كلام الله إلى الأمة والناس، ومما لاشك فيه أن إطاعة أوامر الله تعالى ونواهيه واتباعها ستكون واجبة بهذا النقل.

2 ـ اختلف الفقهاء الشيعة والسنّة بشأن الكافرين، وهل أنهم مكلفون بالفروع، كالمسلمين، أم لا؟

والمشهور أن الفقهاء الشيعة قالوا بالرأي الأول، وإن كان البعض منهم، كالمحدث الكاشاني، والبحراني، قال بالرأي الثاني.

يقول العلاّمة الشهيد في النهاية : سيأتي تفصيل هذا البحث ضمن الآيات المرتبطة به، ولكن هذه الآية تدل أيضاً على اشتراك جميع بني البشر في الأحكام الفرعية.

3 ــ أُثير في علم الأصول والكتب الفقهية أن الشخص المذنب يستحق العقاب والعذاب والنار، سواء أكان ذلك من باب الجعل الإلهي أو من باب ما تقتضيه الأعمال، وأما الثواب والمدح والجنّة فهل يستحقها الشخص المطيع أو أن الله تعالى يهبها من باب التفّضل والترحّم؟

من الممكن أن يستفاد من هذه الآية أن الرأي الثاني بشأن الجنة صحيح؛ لأن الآية تدل على أن العبادة لازمة من جهة أن الله تعالى قد خلق بني البشر، وبناءً على ذلك فإنهم لا يستحقون شيئاً مقابل ذلك.

ولكن هذا الرأي ليس صحيحاً؛ لأنه لا يوجد أي تعارض وتضاد بين الخلق واستحقاق الثواب.

4 ــ كرر العلاّمة الشهيد في تفسير الآية مسألة مشروعية عبادات الصبيان، وينقل الأدلة التي أقامها الفقهاء على المشروعية، ثم يقول: لا حاجة لنا بهذه الأدلة لإثبات مشروعية عبادات الصبيان؛ لأن إطلاق الأدلة وعموميتها تكفي لهذا الغرض.

5 ـ من جملة المواضيع المثيرة للجدل بين الفقهاء هل أن الأساس في الأوامر يكمن في امتلاكها للصفة التعبدية أو لا؟

برأي الأستاذ الشهيد فإن الصفة التعبدية أو التوصلية هي من الأوصاف المتعلقة بالأمر، وليس من أوصاف وخصوصيات الأمر، وإن مقتضى إطلاق الأدلة هو عدم وجود القيد التعبدي، إلاّ أن رأي الشيخ الأنصاري بشأن هذه الآية يقول: إنها تدل على الأصل التعبدي.

ومن ناحية أخرى، بما أن الأمر يقتضي وجوب متعلقه فقط، وبامتثال هذا الوجوب يسقط المتعلق أيضاً، من هنا تدل الآية على أن العبادة ليست واجبة لأكثر من مرة.

وفي الختام يقول العلاّمة المحقق: انطلاقاً من أن الآية بصدد أن تبين أن الله تعالى يستحق العبادة الربوبية؛ ذلك أنه خلقكم وليس سوى ذلك، ومن النواحي الأخرى ليست في مقام البيان، إذاً فإن هذا الاستنتاج ليس صحيحاً.

أما التفاسير الأخرى فحصيلة ما عندها كما يلي:

التبيان: قال الشيخ الطوسي عقب هذه الآية: الآية تخاطب الناس جميعاً، سوى المجانين والأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف، وأوجبت على جميع الناس العمل بالواجبات الشرعية.

تفسير الكاشف: يقول المحقق المعاصر المرحوم مغنية: تشمل الآية جميع البشر، سواء الكافر منهم و المسلم، والموجود منهم والمعدوم؛ وفي موضع الإجابة على الإشكال القائل: كيف يشمل الخطاب الأفراد المعدومين يقول: إن القضايا الحقيقية تشمل الأفراد المعدومين أيضاً.

مجمع البيان: يقول المرحوم الطبرسي: هذه الآية تدل على أن الكافرين مكلفون أيضاً بالأحكام الفرعية.

13 ـ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
(البقرة: 22) ـــــــ

استفاد البعض من هذه الآية أنّه وكما أن استعانة اليهود والنصارى بالأحبار والرهبان حرام وغير مشروع فإن استعانة الشيعة بالأئمة ^ حرام أيضاً.

وعلى الرغم من أن الإجابة على هذه الشبهة وردت في أماكن أخرى بالتفصيل إلا أننا نقول: إن الآية ترفض فقط فعل اليهود والنصارى والمشركين، الذين جعلوا لله أنداداً وشركاء في الخلق والتأثير، وأما الاستعانة بالأئمة^ في طول قدرة الله تعالى فليس فيها أي تعارض مع التوحيد.

14 ـ ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 23 ـ 24) ــــــ

هناك خلاف بين الفقهاء بشأن السجود على الأحجار المعدنية هل هو صحيح أو لا؟ فقال البعض بجوازه، وقال البعض الآخر ببطلان السجود عليها؛ لأنها ليست مصداقاً للأرض.

من الممكن أن تؤيد الآية الأخيرة الرأي الثاني؛ لأن المقصود بالحجارة فيها الأحجار الثمينة، كما نُقل عن ابن مسعود أن المراد بالحجارة حجر الكبريت، ويمكن أن تصبح جملة ﴿وَقُودُهَا﴾ قرينة على هذا المعنى، وناهيك عن ذلك كلّه فإن الألف واللام في ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ قرينة أخرى على هذا المعنى أيضاً.

ومن موضع الردّ على هذا الادعاء يقول الأستاذ الشهيد: إن حجر الكبريت ليس خارجاً عن الأرض، بل إنه مصداق للأرض أيضاً، هذا أولاً. وثانياً: إن قول ابن مسعود عن ابن عباس غير مقبول.

ولا يبعد أن يكون المراد بالحجارة في الآية معنى الكناية والاستعارة عن «القلوب المليئة بالقسوة».

15 ـ ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن
يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (البقرة: 27) ــــــ

1 ـ هذه الآية تدل على أن الفاسقين مكلفون أيضاً بالأحكام الفرعية، والمقصود بالأحكام الفرعية تلك الأحكام المرتبطة بالعمل، والمقصود بالأصول الأحكام المتعلقة بالعقيدة والقلب.

2 ــ اختلف الفقهاء في علم الأصول بشأن مادة أمرَ، وهل أنها تفيد الوجوب أو أنها لمطلق الطلب؟

فقال والد المحقق بالرأي الأول، وقال العلاّمة الأراكي بالرأي الثاني، وهذه الآية تؤيد الرأي الأول؛ لأن جملة ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ تبيّن أن كل ما أمر به الله تعالى هو واجب.

ويرى المحقق أن طرح النقاش على أساس أن مادة أمر لها دلالة على الوجوب أو أنها لمطلق الطلب هو طرح خاطئ؛ لأن مادة أمر تعني صيغة الأمر.

16 ـ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 29) ــــــ

1 ــ لربما يستدل على حرمة أكل التراب بجملة ﴿خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾؛ لأنه إذا أكل التراب شخصٌ ما فإن ذلك يستلزم اختصاص خلقه بشخص ما.

2 ــ ولربما يستدل بهذه الآية، في الخلاف الدائر بين الفقهاء حول الأصل في الأشياء، وهل هو قائم على الإباحة أو الحظر، على أن الأصل في الأشياء قائم على حق الإباحة، بمعنى أنه يستفاد من الآية أن جميع الأشياء خُلقت لجميع الأفراد.

ويرى الأستاذ الشهيد أن هذه المستويات من الفهم تعد أفكاراً شيطانية؛ لأن الآية من هذه الناحية ليست في موضع البيان، بل إن الآية جاءت لتبين أن كل شيء مخلوق للإنسان.

17 ـ ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:30) ــــــ

يستفاد من الآية أن الله تعالى كما أنه يراعي الخيرات والحسنات في الخلق التكويني فإنه تعالى هكذا أيضاً في مقام التشريع والتقنين، وبناء على ذلك فإن الفقيه عندما يكون بصدد وضع قانون معين فبإمكانه أن يحلل ما هو حرام أو أن يحرم ما هو حلال، مراعاةً منه للأهم. وكذا في المستحبات والمكروهات والمباحات.

ولكن من الواضح بمكان أن الفقيه المبسوط اليد لو حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً في زماننا هذا فإن هذا الفعل لا يصبح سبباً لتغيير الحرام من حيث الذات، بل من حيث الحكم الأول بذاته.

18 ـ ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 34) ــــــ

لربما يستفاد من الآية أنه تجوز عبادة غير الله؛ لأن السجود يدل على العبادة، وبالتالي يُنتزع منه عنوان العبادة.

إلاّ إذا قيل: إن سجود الملائكة، وأمرهم بذلك، ومعصية الشيطان وإبليس، هو أمر تكويني.

19 ـ ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 35) ــــــ

على الرغم من الخلاف الموجود بين المفسرين حول نوع الشجرة ومصداقها لو أمعنا النظر جيداً سيتضح لنا أن عموم تعليل قوله تعالى: ﴿فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ يدل على أن الظلم ممنوع، والظالم يستحق العقاب. ولا فرق في أن يقع الظلم على الأفراد، من قبيل: الغصب، والقتل، أو أن يقع الظلم على الحكومة الإسلامية، ولا يتنافى هذا القول مع عدم قولنا بأن الظلم ليس حراماً بذاته. وبناءً على ذلك فإن الآية لا تنهى عن شجرة خاصة بعينها، بل إنها تنهى عن أي ظلم، وعن كل ما يساهم في توفير مسببات الظلم.

20 ـ ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ (البقرة: 36) ـــــــ

1 ــ يستفاد من الآية أن العداوة ممنوعة شرعاً، إلاّ إذا كانت الآية تتحدث عن عدو خارجي.

2 ــ يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ إباحة جميع الأماكن.

ولكن هذا الاستنتاج خاطئ؛ لأن تنوين كلمتي مستقر ومتاع يجعلهما مهملتين، والكلام المهمل يكون جازماً في الحكم، وبناءً على ذلك لا تدل على إباحة جميع الأماكن في جميع الأزمنة على جميع الأفراد.

21 ـ ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 37) ــــــ

في موضوع التوبة هناك خلاف بين الفقهاء بشأن بعض العناوين:

أ) هل للتوبة وجوب عقلي أو أن لها وجوباً شرعياً أيضاً؟

وسنتناول هذا الموضوع في محله.

ب) هل أن التوبة الواجبة عبارة عن الندم فقط أو فضلاً عن الندم يجب أن تُلفظ كلمات خاصة تعبّر عن ذلك أيضاً؟

أكثر الفقهاء قالوا بالرأي الأول، ولربما يستفاد من هذه الآية أن الرأي الثاني هو الصحيح؛ لأن جملة ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه﴾ تدل على أن توبة آدم × قُبلت بلفظ كلمات معينة.

ولكن هذا الفهم خاطئ؛ لأن هذه الجملة هي في موضع بيان أن توبة آدم تُقبل، ليست في مقام بيان وجوب أن يكون من ضمن توبته ذكر بعض الألفاظ، وليست هناك أية علاقة بين جملة ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ مع جملة ﴿فَتَابَ عَلَيْه﴾.

22 ـ ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (البقرة: 40 ) ـــــــ

1 ــ مقتضى الإطلاق في الأمر بالوفاء بالعهد، هو أن يكون العهد أوسع من الأحكام التكليفية، من قبيل: آية ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.

ولكن هذا الاستنتاج خاطئ؛ لأن العهد مضاف لله تعالى، وهذا يدل على أن المراد بالعهد هو عهد خاص، وقرينة ذلك هي جملة ﴿بِعَهْدِكُمْ﴾، وكذلك جملة ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾. وناهيك عما تقدّم هناك اختلاف كبير في معنى العهد، وبالمستوى الذي نقل فيه صاحب البحر المحيط 24 قولاً بشأنه، وهذه الأمور هي التي تؤدي بالعهد أن لا يكون مطلقاً.

2 ــ الخوف والرهب، وإن كانا من الأمور النفسية، وإن الأمور النفسية تبدو للوهلة الأولى لا إرادية، إلا أنها من الأمور الإرادية، وبناءً على ذلك فإن الأمر بأن يكون الخوف من الله تعالى فقط أمرٌ صحيح، وسوف يتحقق ذلك عندما تكون الآية هنا بصدد التبيين، وهي ليست كذلك.

23 ـ ﴿وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ
تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ (البقرة: 41 ) ـــــــ

تم الاستدلال بهذه الآية على منع أخذ الأجرة على تعليم الكتاب، بل مطلق تعليم العلم؛ لأنها تضم جملة ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾.

ولكن هذا الاستنتاج خاطئ؛ لأنه لدينا روايات عن النبي ‘ أنه قال: أفضل شيء يُحصل عليه أجرة تعليم الكتاب، ومن ناحية أخرى كان رسول الله ‘ يجعل تعليم القرآن مهراً للنساء، وروايات السنّة تختلف بشأن هذه المسألة.

24 ـ ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
(البقرة: 42) ـــــــ

من الممكن أن يُستدل بهذه الآية على حرمة الغش؛ لأنه عبارة عن عملية لبس الحق بالباطل وكتمان الحق. وهناك خلاف حول مصير المعاملة التي جرى فيها الغش، هل هي باطلة أو لا؟

وبرأينا هي باطلة؛ لأن الشارع لا يمضي الشيء المبغض والمزعج.

25 ـ ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (البقرة: 43) ـــــــ

1 ــ في موضوع صلاة الجماعة قيل: إن أدلتها لا تقول بالإطلاق، لكي تشمل جميع الصلوات، وهذه الآية يمكن أن تكون من الأدلة على صلاة الجماعة، وفيها إطلاق أيضاً.

2 ــ تدل هذه الآية على وجوب الركوع في الصلاة.

يقول الأستاذ الشهيد: يمكن القول بصحة هذين الاستنتاجين إذا لم تأتِ الآية لتبيين وجوب خضوع اليهود للمسلمين واتباعهم لهم، وفي هذه الحالة لا يمكن القول بأن الآية جاءت للدعوة إلى الجماعة.

3 ـ لا يبعد أن تدل جملة ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ على صلاة الجماعة، ولكن يمكن أن تكون جملة ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ قرينة على خلاف ذلك.

26 ـ ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾
(البقرة: 45) ــــــ

 

1 ـ مقتضى الآية هو وجوب الاستعانة بالصبر والصلاة في مواضع الغضب والمشاكل واكتساب الكمالات الروحية.

يقول الأستاذ الشهيد في النهاية: لا شك أن عمومية الآية وإطلاقها يمكن أن يكون واجباً، وبناءً على ذلك فإن الاستدلال بها على وجوب الاستعانة ليس صحيحاً.

2 ـ من الممكن أن يستفاد من هذه الآية أن ترك الصلاة يعد من الذنوب الكبيرة.

يقول الاستاذ العلاّمة: الذنوب الكبيرة والصغيرة من الأمور النسبية، والأمر الذي يؤدي إلى أن تكون الذنوب كبيرة أو صغيرة هو الأمور الخارجية، وبناءً على ذلك فإن أي ذنب من الذنوب من الممكن أن يكون من الذنوب الكبيرة.

وفي كل الأحوال فإن العلاّمة الحائري مقتنع بأن الآية لها دلالة على أن ترك الصلاة من الذنوب الكبيرة.

3 ــ إذا كان الأمر بالاستعانة أمراً شرعياً فإنه يدل على تكليف الكافرين بالفروع، وهذا الرأي يوافق ما يراه مشهور الفقهاء، وعلى افتراض أن دلالة الآية من هذه الناحية هي محل إشكال؛ لكون الصلاة هنا تعني الصلاة في المدينة، وبما أن الكفار لم يركعوا هناك، حسب ما ينقله التاريخ، فقد أُمروا بذلك، إذاً فإن دلالة الآية على تكليف الكافرين تامّة.

وأما رأي التفاسير الأخرى في الآية 45 فهي:

التبيان: طرح المرحوم الشيخ الطوسي في نهاية الآية أنّ قوله تعالى ﴿وَاسْتَعِينُواْ﴾

موجّه للمؤمنين فقط أو لأهل الكتاب؟ ويرى أن الخطاب عام، ويشمل المؤمنين والكافرين، إلا أنه لم يخلص إلى استفادة أيّة نتيجة فقهية من الآية.

مجمع البيان: طرح المرحوم الطبرسي، كالشيخ، مسألة الخاص والعام في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ﴾، وساق أكثر البحث في تعيين مصداق الصبر وموارد الاستعانة، ولم يستنتج أيّة نتيجة فقهية.

الميزان: لم يتناول العلاّمة الطباطبائي أي بحث فقهي بخصوص هذه الآية.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلمية في جامعة المصطفى العالمية، أستاذ وباحث في الحوزة العلمية، عضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت.
([1]) جدير بالذكر أن العلاّمة السيد الشهيد مصطفى الخميني& قد وفقه الله تعالى لتفسير سورة الحمد والآيات من 1 إلى 45 من سورة البقرة المباركتين فقط، وتم طبع هذا التفسير ـ ولأول مرة ـ من قبل مؤسسة الطباعة والنشر التابعة لوزارة الإرشاد الإسلامي، في أربعة مجلدات، ولكنها تحوي الكثير من الأخطاء، وبدون فهارس فنية.

([2]) الدليل اللبي لدى علماء الأصول عبارة عن الدليل الذي يقام من غير اللفظ، من قبيل: الإجماع، السيرة؛ رأي العقلاء؛ والعقل.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً