أحدث المقالات

دراسة استدلالية في نقد مظاهر «التطبير» و..

الشيخ محمد تقي أكبر نجاد(*)

ترجمة: محمد عبد الرزاق

كعادتها، تفتح مجلّة «الاجتهاد والتجديد» صفحةً للرأي والرأي الآخر، فتنشر دراسة تنتقد بعض مظاهر العزاء، كالتطبير، لتعقبها في العدد القادم وما يليه بعض الردود والردود المضادّة في الموضوع نفسه، آملين أن يفتح ذلك المزيد من أفق الحوار الجادّ في قضايانا الفقهيّة (التحرير).

أولاً: التطبير ونظائره في حكمه الأولي، عرض النصوص

تنقسم الروايات المتوفرة في هذا الموضوع إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

الأول: الروايات الدالة على ثبوت الثواب على البكاء، وتحثّ عليه.

الثاني: الروايات الدالة على حرمة هكذا أعمال.

الثالث: الروايات الدالة على جواز بعض الأعمال المشابهة في حقّ المعصومين^.

القسم الأول: الروايات المشجِّعة على البكاء

ينتشر هذا النوع من الروايات ـ وهي متواترة ـ في جميع مصادر الحديث بنحو ملحوظ. وإليك بعضاً منها:

1ـ عن إبراهيم عن أبي محمود، قال: قال الرضا×: إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرْعَ لرسول الله حرمة في أمرنا. إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون؛ فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام. ثم قال×: كان أبي× إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين×([1]).

على الرغم من أن هذه الرواية هي بصدد بيان موقف الإمام الكاظم×، ومدى تأثُّره وشجونه، إلا أنها لم تذكر عملاً آخر غير البكاء والحزن وإقامة المأتم. ولم يرِدْ في أحاديث المعصومين^ حول فضيلة العزاء على الحسين× غير التأكيد على البكاء. وإذا راجعنا الروايات الواردة في ثواب وأجر مواساة سيد الشهداء× فلن نلحظ سوى الاهتمام بموضوع البكاء، وزيارة قبره الطاهر. ومن مؤيِّدات ذلك ما ورد في زيارة الناحية المقدسة: «سلام مَنْ لو كان معك بالطفوف لوقاك بنفسه حد السيوف، وبذل حشاشته دونك للحتوف، وجاهد بين يديك، ونصرك على مَنْ بغى عليك، وفداك بروحه وجسده وماله وولده، وروحه لروحك فداء، وأهله لأهلك وقاء. فلئن أخَّرَتْني الدهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمَنْ حاربك محارباً، ولمَنْ نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ لك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسُّفاً على ما دهاك، وتلهُّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصّة الاكتياب»([2]).

لقد تحدث الإمام# في هذه الزيارة مخاطباً الإمام الحسين× بكلمات العشق والحماسة، فأكَّد على استعداده للاستشهاد بين يديه، إلى جانب التأسي والحزن السرمدي. ولم يذكر نوعاً للعزاء سوى البكاء.

القسم الثاني: الروايات الناهية عن الأعمال المستهجنة

ممّا يميِّز الدين الإسلامي عن غيره اعتداله في جميع مجالات الحياة. ولم يقاطع ديننا المشاعر والأحاسيس يوماً من الأيام؛ بل يعدّها جزءاً من كيان الإنسان. فعندما توفي إبراهيم ابن الرسول الأكرم‘ بكى عليه مشفقاً، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ لم يسمح لأحد بالمبالغة. وحين علَّل القوم كسوف الشمس بوفاة إبراهيم لم يؤيِّدهم في ذلك، بل شدَّد على أنّ الكون ماضٍ في نظامه الذي وضعه له الخالق، ولا علاقة لذلك بوفاة ولده.

إذاً فإن مبدأ إقامة العزاء هو جزء لا يتجزأ من حياتنا وواقع متطلباتها وضروراتها العاطفية، ولا يمكن تجاهله بشكل من الأشكال، لكن لابدّ من التزام الاعتدال في كل الأحوال.

وعلى الرغم من أن ديننا الحنيف لم يحارب مراسم العزاء إلاّ أنّه لم يسمح بالتطرُّف في ممارستها. وعلى هذا الأساس جاءت بعض الروايات تنهى عن المبالغة والتطرف في العزاء، حتى بلغ الأمر في بعض الأحيان إلى تعيين كفّارة تشابه كفّارة الإفطار في شهر رمضان.

لقد وصف الباري ـ عزّ وجلّ ـ في جملة من الآيات المصائب والمحن المختلفة بأنها جزء من حياة الإنسان، مذكِّراً إياه بأساس خلقه، فقال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. كما ذكّر أيضاً بمصاحبة اليسر لكلّ عسر، حيث يقول ـ عزَّ من قائل ـ : ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾. وكثيراً ما لفت القرآن إلى معاناة الرسول‘، وشدائد حياته، ودعاه إلى الصبر والتحمُّل ورباطة الجأش: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوفْ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 155 ـ 157).

فالآية صريحة في إثبات طبيعة الدنيا، واشتمالها على أنواع البلاء، من خوف وجوع ونقص في الأموال والأنفس وغير ذلك. كما أثنت على صبر الصابرين على الضرّاء.

وقد ورد هذا المعنى في جملة من الروايات، منها:  عن أبي أسامة زيد، عن أبي عبد الله×، قال: قال رسول الله‘: من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسرات على الدنيا …([3]).

ونستنتج من عشرات الآيات ومئات الروايات أن سبيل الإسلام في الشدائد والمحن هو الصبر والتحمُّل، وليس الجزع والفزع.

وعلاوة على ما ذُكر هناك العديد من الروايات الواردة في النهي عن التطرُّف والمبالغة في العزاء. ونذكر جانباً منها، تاركين للقارئ مراجعة المصادر فيها:

1ـ عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله‘: ليس منّا من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب([4]).

2ـ عن جابر، عن أبي جعفر×، قال: قلت له: ما الجزع؟ قال: أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر من النواصي. ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر، وأخذ في غير طريقه…الحديث ([5]).

3ـ قال: وقال رسول الله‘ لفاطمة، حين قتل جعفر بن أبي طالب: لا تدعي بذُلٍّ ولا ثكل ولا حزن، وما قلت فيه فقد صدقت([6]).

وقد نهت الرواية عن المبالغة في رثاء الموتى، حتى العظماء منهم، أمثال: جعفر بن أبي طالب.

4ـ إن رسول الله‘ قال لفاطمة÷: إذا أنا متُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمنّ عليّ نائحة([7]).

ومن الواضح أن الرواية نهت أيضاً عن الجزع في رثاء سيد الخلق أجمعين. فعلى الرغم من علمه بعظم مصيبة الزهراء به إلاّ أنّه أكّد في نهيه عن تقاليد الجاهلية، والتزام الثبات، حتّى وإنْ كان أبوها خاتم الرسل.

5ـ عن جرّاح المدائني، عن أبي عبد الله× قال: لا يصلح الصياح على الميت، ولا ينبغي. ولكنّ الناس لا يعرفونه، والصبر خير([8]).

6ـ قال علي بن الحسين×: إني جالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها، وعندي عمتي زينب تمرِّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له، وعنده فلان مولى أبي ذرّ الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

يا دهر أف لك من خليل
من صاحب وطالب قتيل
وإنما الأمر إلى الجليل
كم لك بالإشراق والأصيل
والدهر لا يقنع بالبديل
وكلُّ حيٍّ سالك سبيلي

فأعادها مرتين أو ثلاثاً، حتى فهمتُها، وعلمت ما أراد، فخنقتني العبرة، فرددتُها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت، وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجزع، لم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها، وهي حاسرة، حتى انتهت إليه، وقالت: واثُكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي، فنظر إليها الحسين×، وقال لها: يا أختاه، لا يذهبَنَّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو ترك القطا [ليلاً] لنام. فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك أقرح لقلبي، وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها، وهَوَتْ إلى جيبها وشقّته، وخرَّت مغشيّاً عليها. فقام إليها الحسين×، فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، اتَّقي الله، وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيء هالك إلا وجه الله تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده، وأبي خير منّي، وأمي خير منّي، وأخي خير منّي، ولي ولكلّ مسلم برسول الله أسوة، فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أختاه، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور، إذا أنا هلكت، ثم جاء بها، حتى أجلسها عندي. ثم خرج إلى أصحابه…([9]).

تمتاز هذه الرواية عن غيرها من عدة نواحٍ. فهي تناولت مسألة رثاء أهمّ الشخصيات في التاريخ الإسلامي. ويبدو أن هذه الرواية والرواية الرابعة هما الردّ الشافي على جميع الشبهات المطروحة. الأمر الذي يؤكِّد اجتناب الأعمال المستهجنة والمنافية للحشمة، حتى في عزاء سيد الشهداء×. وإن مجرَّد ممارسة بعض النسوة في كربلاء للطم وما شابهه لا يمكن أن يكون دليلاً على الجواز؛ لأن هذا العمل جاء نتيجة لظروف صعبة وخانقة فرضت على النسوة آنذاك، فاعتراهنّ الفزع تناسباً مع طبيعتهنّ النسوية. لقد أقسم الإمام الحسين× في الرواية على أخته؛ وطلب منها أن لا تنقض القسم أبداً، فطلب منها أن لا تشقّ عليه جيباً، ولا تخمش وجهاً، ولا تدعو عليه بالويل والثبور. وقد قال أيضاً: «يا أختاه، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان». وهذا يعني أن هذه الأعمال تصدر من الإنسان حين يستولي عليه الشيطان. وبهذا يظهر بطلان أهمّ دليل عند القائلين بالجواز، وهو تصرّفات السيدة زينب÷ وسائر نساء كربلاء. ومن الملفت أن الإمام السجاد× لم يؤيِّد عمل عمته÷ وإن لم يلُمْها عليه، فقال: «ولزمتُ السكوت…، وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت ـ وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقة…، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها… حتى انتهت إليه».

ومن المعلوم أن الحجة من كل هذا هو قول وعمل المعصوم فقط.

وتأسيساً عليه يتَّضح لنا أن مقتضى الحكم الأوّلي للتطبير، وكل عمل مستهجن في العزاء، هو الحرمة. ونظراً لما قدَّمه بعض العلماء من أدلة في استحباب التطبير، واللطم، وسائر مصاديق إيذاء النفس ([10])، تعيَّن علينا دراسة تلك الأدلة ونقدها.

القسم الثالث: الروايات الدالة على جواز اللطم وأمثاله

استدل على جواز اللطم ببعض مضامين زيارة الناحية المقدسة، الصادرة عن المعصوم×. وهنا نحلل هذه المضامين، وندرس فقراتها.

ينبغي القول ابتداءً: إنه على الرغم من الغموض الذي يكتنف سند هذه الزيارة فإنّ مضامينها الرفيعة والبليغة طغت على ضعف سندها، فوفَّرت الاطمئنان بصدورها عن الإمام. وقد جاء فيها: «حتى نكسوك عن جوادك، فهويت إلى الأرض جريحاً، تطؤك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينك، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفاً خفياً إلى رحلك وبيتك، وقد شغلت بنفسك عن ولدك وأهاليك، وأسرع فرسك شارداً، إلى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً، فلما رأَيْنَ النساء  جوادك مخزياً، ونظرن سرجك عليه ملوياً، برزن من الخدور، ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، للوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العز مذلَّلات، وإلى مصرعك مبادرات، والشمر جالس على صدرك([11]).

وتشير الفقرة الأخيرة هنا إلى أن النساء نشرن شعورهنَّ، ولطمن خدودهنَّ، عقب استشهاد الإمام×. الأمر الذي يوحي بجواز هذه الأعمال في عزائه×.

السيدة زينب÷ وحادثة شجّ الرأس

ومن الموارد التي استدل بها البعض حادثة شج رأس زينب÷. وهي مروية كما يلي: حين دخلت قافلة الأسرى إلى الكوفة حضر أهاليها يتفرّجون، وكانت نساؤهم تبكي، ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صَهْ يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء. فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، وإذا هم قد أتَوْا بالرؤوس، يقدمهم رأس الحسين×…، فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة، وجعلت تقول:

يا هلالاً لما استتمّ كمالاً
ما توهمتُ يا شقيق فؤادي
يا أخي فاطم الصغيرة كَلِّمْ
غاله خسفه فأبدا غروباً
كان هذا مقدَّراً مكتوباً
فقد كاد قلبها أن يذوبا([12])

لقد مرّ بنا نهي المعصومين^ عن هكذا أفعال. لكن السؤال المطروح هنا هو: إذا كان الإمام الحسين×، قد أقسم على أخته، وحذَّرها من استيلاء الشيطان على أحاسيسها، فلماذا أقدمت÷ على اللطم، ونشر الشعر، وضرب الرأس بمقدم المحمل، فهل أنها نسيت وصية الحسين× ليلة عاشوراء؟

لا شك في أن السيدة زينب÷ هي واحدة من أولياء الله ـ عزّ وجل ـ، ولم تكن بمنأى عن العلم اللدني أيضاً. وعليه لا يمكن أن ترتكب أعمالاً تخالف وصية الإمام×. إذاً لابدّ من التدقيق في فهم الروايات كي يتَّضح لنا عدم وجود تعارض بين هذه الروايات وروايات القسم السابق، وأن هذه الروايات لا دلالة فيها على الجواز.

أولاً: إن نقل الإمام المعصوم× لما جرى في عاشوراء ضمن زيارة الناحية المقدسة ليس دليلاً على تأييدها. فالإمام هنا بصدد الرثاء، وبيان مظلومية سيد الشهداء، ومداها العميق، وليس بصدد بيان حكم شرعيّ لطريقة العزاء عند النساء.

ثانياً: ليس في أداء نساء الشهداء من حجّة شرعية، ولا سيما داخل إطار تلك الأجواء المضطربة والوقائع الملتهبة. فحين هوى الإمام× إلى الأرض هجم الجيش على الخيام، فأحرقها، وضربوا النساء، وسلبوهن خمارهن، فهمن بوجههنّ في البيداء، سافرات حافيات، الأمر الذي لم يتحمَّلْه بعض أفراد جيش عمر بن سعد ممَّنْ كان غيوراً في ذاته، ورفضه جملة وتفصيلاً. فهل يمكن استنباط الحكم الشرعي ضمن هكذا نوع من الاضطراب والفوضى العارمة؟ فجميع النساء في حالة ذعر واضطرار، وكأن الدنيا ألقت بمصابها على قلوبهنّ في غفلة من الزمن، فتخيَّلوا مشهد النسوة، وهنّ عزّل، فَقَدْنَ جميع الأعزاء والحماة في ظهيرة يوم واحد، وهاهنَّ الآن بين أنياب الغزاة ينتظرهنَّ الأسر والمصير المجهول. فإنْ أراد الفقيه أن يستنبط حكماً من هذا المشهد فهو لا يتعدى أن يكون حكماً مختصّاً بمثل هذه الحالة، أي إنه بإمكان مَنْ يوضع في هذا الموضع أن يفعل تلك الأعمال، لكن لا يمكن جعل أدائه هذا مجوِّزاً لفعلها في الوضع الطبيعي.

ثالثاً: لا يوجد دليل ينصّ على أن السيدة زينب÷ قد فعلت ما فعلته النسوة، من ضرب الرؤوس والوجوه. فلم يذكر أرباب المقاتل عن زينب÷ ذلك. وإن الذي ورد في زيارة الناحية والمقاتل كان عامّاً يروي ما جرى على النساء ككُلّ.

رابعاً: أما في ما يخص الدليل الأخير من ضرب السيدة زينب رأسها بمقدم المحمل، وخروج الدم منه، فنقول: إنها÷، وتحت وطأة تلك المأساة، رأت رأس أخيها لأول مرة على السنان، فضربت رأسها بالمحمل. وهذا ما يفصح عن عمق تأثُّرها بالمنظر وشجونها. ولا ينمُّ بالضرورة عن قصدها شجّ الرأس. وحتى لو كان ذلك عن قصد فلن يكون دليلاً على الجواز في الظروف الاعتيادية، بل هو مختصٌّ بمثل تلك الحالة ومجرياتها. ومما يؤيِّد هذا الكلام أنه لم ينقل عن السيدة زينب، ولا غيرها من نساء كربلاء، تكرارهنّ هذا العمل في ذكرى عاشوراء السنوية لاحقاً، فلم ينشرن شعورهنّ، ولا ضربنَ رؤوسهنّ، أو لطمن وجوههنّ.

ومن الغريب أن يستدل هؤلاء بتصرُّفات النساء الثكالى على الجواز، ولم يلتفتوا إلى أداء الإمام علي بن الحسين المتواجد في أحداث عاشوراء لحظة بلحظة! فلم ينقل عنه شيءٌ من هذا القبيل إطلاقاً، في حين أن هناك العديد من الروايات في بكائه وإقامة العزاء، فكان أحياناً يقصد الصحراء، فيضع رأسه على الصخر، ويبكي لساعات، حتى يبلّ الصخر بدموع عينيه، لكن لم يُرْوَ عنه اللطم، أو ضرب الرأس.

وقد يقول بعضهم: إن الإمام السجاد× كان مرافقاً للنساء، فإنْ كان عملهنّ باطلاً لنهى عنه.

أقول: ماذا يمكن أن نتوقَّع منه× وهو في خضم المأساة والفوضى، طريحاً على فراش المرض؟ ثم إن تصرُّفات النسوة في تلك الظروف لم يكن عملاً باطلاً، لكي ينهى عنه الإمام×.

الإمام المعصوم× وشقّ الثياب

إن من أقوى الأدلة التي يمكن التمسُّك بها في إثبات صحة الأعمال المبتدعة في العزاء تلك الروايات التي تنقل عن الإمام الحسن العسكري× أنه شقَّ ثيابه في رثاء والده×: «عن محمد بن علي بن الحسين، قال: لما قُبض علي بن محمد العسكري رُئي الحسن بن علي×، وقد خرج من الدار، وقد شقّ قميصه من خلف وقدّام»([13]).

وعن علي بن عيسى، في كتاب «كشف الغمة»، نقلاً عن كتاب «الدلائل»، لعبد الله بن جعفر الحميري، عن أبي هاشم الجعفري، قال: خرج أبو محمد× في جنازة أبي الحسن، وقميصه مشقوق، فكتب إليه بن عون: مَنْ رأيتَ أو بلغكَ من الأئمة^ شق قميصه في مثل هذا؟! فكتب إليه أبو محمد×: يا أحمق، وما يدريك بهذا؟! قد شقَّ موسى على هارون»([14]).

إذا دقّقنا في جميع الروايات سنجد أن هذا العمل، أي شقّ الثوب في العزاء، لا يقتصر على الإمام×، وإنما هو جائز لغيره أيضاً. وإن المستثنى من ذلك موارد خاصة: «وذكر أحمد بن محمد بن داوود القمي في «نوادره»، قال: روى محمد بن عيسى، عن أخيه جعفر بن عيسى، عن خالد بن سدير، أخي حنان بن سدير، قال: سألت أبا عبد الله× عن رجل شقّ ثوبه على أبيه، وعلى أمه، أو على أخيه، أو على قريب له، فقال: لا بأس بشقّ الجيوب، قد شقّ موسى بن عمران جيبه على أخيه هارون، ولا يشقّ الوالد على ولده، ولا زوج على امرأته، وتشقّ المرأة على زوجها، وإذا شقّ زوج على امرأته أو والد على ولده فكفّارته حنث يمين، ولا شيء في اللطم على الخدود، سوى الاستغفار والتوبة…»([15]).

إذاً ليست المسألة مقتصرة على المعصوم. وقد اتَّضح أن ما هو جائز من بين الموارد المذكورة هو شقّ القميص. وهي مسألة تعبُّدية لا يمكن تعميمها على الحالات الأخرى. فالخدش واللطم ونتف الشعر حرام مطلقاً، بل قد توجب الكفارة في بعض صورها. وقد أفتى أكثر الفقهاء بهذه الرواية.

ويبقى سؤال حول هذه الحالة المنفردة، وهو: لماذا لم يقم الأئمة^ قبل الإمام الحسن العسكري× بهذا العمل؟ الأمر الذي أثار استغراب الحضور آنذاك. وفي رأينا القاصر فإن عمل الإمام هذا كان مما تستوجبه الحادثة في وقتها. وعليه فإن كان هذا العمل دليلاً على الإباحة فهو ليس دليلاً على الاستحباب؛ إذ لو كان مستحباً لما تركه سائر الأئمة^. ولذا فهو مع صدوره من الإمام الحسن العسكري× لا يثبت الاستحباب؛ فقد يقوم الأئمة^ أحياناً ببعض الأفعال من أجل إفهام الناس عدم حرمتها.

ومن الملفت في المسألة أن الروايات المذكورة لم تنقل هذه القصة عن الإمام العسكري× إلا في عام الوفاة، ولم يتكرَّر ذلك منه في سنين ذكراها اللاحقة.

ثم إنّ شق الثياب لا يعني الجزع والفزع، وإنما هو تعبير عن عمق المأساة والتأثُّر بها. كما أن اللباس الأسود مظهر للعزاء. وتذكر الرواية ذاتها أن قميص الإمام× كان مشقوقاً من الخلف والأمام. أي إنه كان قد شقّه قبل أن يرتديه. ولم يرِدْ في أية رواية أن هذا الأمر كان مصاحباً لجزع أو فزع الإمام. وكل هذه المؤشِّرات دليل على أن عمل الإمام هذا لم يكن نتيجة للاستثارة والجزع، بل كان مظهراً وتعبيراً في الإفصاح عن العزاء.

روايات ووقفات

نقل بعض دعاة «الحقيقة الغائبة» روايات جاء فيها عبارة: «فعلى مثل الحسين فلتلطم الخدود». ولم يعثر على هذا النص، على الرغم من البحث الدؤوب في الكتب الروائية. وما هو متوفِّر كان بعبارة: «فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون». وقد مرّ ذكرها. وهناك رواية وحيدة في هذا الصدد عن الإمام الصادق× جاء في خاتمتها: «وقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود، الفاطميات على الحسين بن علي. وعلى مثله تلطم الخدود، وتشقّ الجيوب».

ويؤاخذ الاستدلال بهذه الرواية بما يلي:

أولاً: إن هذا المعنى مقتصر على هذه الرواية وحدها، ولا يصمد في وجه الروايات الأخرى الواردة في التحريم.

ثانياً: أراد الإمام من ذلك أنه من الطبيعي أن تشقّ النساء جيوبها وتلطم خدودها في مثل أجواء عاشوراء الملتهبة؛ بدليل أنه لم يذكر عن نسوة كربلاء تكرار هذا العمل في ذكرى عاشوراء أو غيرها من الأيام الأخرى. ولا مناص لنا من هذا التأويل. فقد مرّ بنا في روايات القسم الثاني تحريم الإمام الحسين× هذا النوع من الأفعال. وقد طلب من أخته أن لا تضرب رأسها أو وجهها.

ومضافاً إلى هذا فإن بيان تحريم اللطم في مطلع الرواية، وذكر هذه الحادثة في الخاتمة، هو بمثابة وصف لعمق الفاجعة في كربلاء، مما بات فيها المحرَّم حلالاً، والقلم مرفوعاً عن الثكالى واليتامى.

والأهم من ذلك كله أنه قد عُرف عن أهل البيت^ أنهم لا يأمرون بمعروف حتى يبادروا إلى تطبيقه. فلو كان مراد الإمام استحباب اللطم حقاً فلِمَ لَمْ َيقُمْ بذلك ولو لمرة واحدة؟ وهو الداعي إلى البكاء على الحسين، والباكي قبل غيره عليه. كما أنه دعا إلى زيارة قبره، فكان ملتزماً بها أكثر من غيره.

إن هذه الشواهد كلها دليل على كون عاشوراء تلك الفاجعة التي رفع فيها القلم، وسقط الواجب؛ نظراً للمعطيات وعمق المأساة.

وتأسيساً على هذا نجد بعض الفقهاء المعاصرين يفتون بحرمة التطبير([16]).

وفضلاً عن كون العرف لا يعدّ التطبير من مظاهر الحزن والعزاء فإنه لا وجود له في عصر الأئمة^ وما بعده. كما لم يرِدْ في إمضائه أي دليل خاصّ أو عامّ من المعصوم×. وهو اليوم سببٌ في وهن المذهب، والإساءة إلى مكانته. وعليه فهو غير جائز بأية حال من الأحوال.

يقول السيد محسن الأمين العاملي: التطبير وغيره من هذه الأعمال المتَّبعة في العزاء الحسيني حرام، عقلاً وشرعاً. وضرب الرأس إيذاء للنفس، وهو عمل لا ينفع في الدنيا ولا الآخرة. وإيذاء النفس حرام شرعاً. كما أن ممارسة الشيعة للتطبير بات مثاراً للسخرية والاتسام بالعنف. ولا شكّ في أن هذه الأعمال من وسوسة الشيطان، ولا ترضي الله ورسوله وأهل البيت. وليس من شأن تغيير اسم هذه الأعمال أن يوجد تغيُّراً في حكمها الشرعي، وهو الحرمة.

لا يستفاد من مصادر الفقه ـ سواء اللبية أم اللفظية، والخاصة أم العامة ـ جواز أو إباحة التطبير ـ فضلاً عن الرجحان ـ في عزاء سيد الشهداء×، بل إن مقتضى الأدلة والعناوين الثانوية حرمته. ولذا فإن اجتنابه واجب حتمي.

وفي الجانب الآخر هناك من العلماء السابقين مَنْ أفتى بجواز التطبير وغيره. ويبدو من آرائهم أن ذلك جاء بحسب العناوين الثانوية. فعلى سبيل المثال: ينقل دعاة «الحقيقة الغائبة» أنه عندما سأل أحد العلماء السنة العلامة الأميني: هل التطبير جائز؟ قال: بل واجب، فلولا هذه الشعائر لأنكرتم عاشوراء كما أنكرتم الغدير.

إذاً فما يقدمونه هنا ـ دليلاً للفتوى ـ هي متطلبات عصرية، وضرورات حاكمة، وليست أدلة أولية.

استنتاج

اتضح أن حرمة التطبير وأمثاله ليس حكماً ثانوياً، كما زعم البعض، وإنما الحكم مؤسَّس في بادئ الأمر على الحكم الأولي. وإن كان بعض العلماء قد أفتوا في السابق بجوازه؛ نظراً للضرورات الثانوية، فإن هذا الحكم الثانوي منتفٍ اليوم، فلا عاشوراء مهدَّدة بالإنكار، ولا نقص حاصلٌ جراء اجتناب التطبير. وعليه فإن المسائل تعود إلى حكمها الأولي. إذاً فجميع هذه الأفعال ـ أعمّ من التطبير، أو اللطم، وضرب الرأس بالحائط ـ مخالفة للشرع ، بل إن بعضها موجب للكفّارة أيضاً.

ثانياً: التطبير ونظائره على مستوى الحكم الثانوي

يذهب بعض العلماء إلى جواز التطبير وما شابه في حكمها الثانوي؛ نظراً للظروف والمقتضيات. لكن ليس من شك في انتفاء المقتضيات في الوقت الحاضر؛ لأن تجويز تلك الأعمال كان بغرض المحافظة على ذكرى عاشوراء، وصونها من الاندثار، ولكي تبقى عاشوراء في ذروة الحماسة والعبرة. واليوم كلنا يعلم أن ترك التطبير لن يعطِّل مراسم عاشوراء وذكراها، أو يكون سبباً في التشكيك فيها. وهذا ما نلمسه خلال العقد الأخير، بعدما أمر قائد الثورة بمنع التطبير؛ فإن ذلك لم يُضعِفْ وجود عاشوراء، بل منحها صورة أكثر إشراقاً، عاماً بعد عام.

أمثلة الحكم الثانوي

قد تؤدّي المقتضيات الزمانية والمكانية إلى ظهور مصالح أو مفاسد تكون موضوعاً لتأسيس الأحكام الشرعية. وهذا ما يصطلح عليه بالأحكام الثانوية. وإليك بعض الأمثلة على أحكام ثانوية صدرت عن المعصومين^، ثم عطَّلوها؛ بانتفاء المقتضيات.

1ـ كان رسول الله‘ قد أمر الرجال بخضاب اللحى، وأن لا يتشبَّهوا باليهود.

ففي رواية أبي هريرة، قال: قال رسول الله: غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود والنصارى([17]).

وبعد حياة الرسول‘ انتشر الإسلام، فلم يخضب الإمام علي×، ولما سئل عن ذلك قال: إنما قال النبي‘ ذلك والدين قُلّ، وأما الآن، وقد اتسع نطاقه، وضَرَبَ بجرانه، فامرؤٌ وما اختار([18]).

2ـ كان عبّاد بن كثير البصري زاهداً، ومتحجر الفكر. وحين اعترض على نوع ثياب الإمام الصادق أجابه×: ويلك يا عباد، مَنْ حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟! إن الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبده نعمة أحبّ أن يراها عليه. ليس بها بأس. ويلك يا عباد، إنما أنا بضعة من رسول الله‘ فلا تؤذني …([19]).

المحصلة

بما أن حرمة التطبير قد ثبتت في حكمها الأولي لم تبقَ حاجة إلى إثباتها في الحكم الثانوي. ولذا حتى إذا لم يكن التطبير مضعفاً للمذهب، ولا اللطم سبباً في مفسدة أيضاً، تبقى هذه الأفعال محرَّمة. وهي حرمة تعبدية، ودليلها الروايات. ونحن إذ نؤكِّد على هذه المسألة فذلك نظراً لمساعي البعض في الطعن في أصل المفسدة المترتِّبة على هذه الأعمال؛ إثباتاً لجوازها. ووفقاً للأدلة القرآنية والروائية هي غير جائزة في جميع الأحوال.

مهلكة الانجرار إلى المحرَّمات في مجالس العزاء

إن من أبرز وأخطر إفرازات ممارسات التطرُّف التي اعتادت عليها بعض مجالس العزاء الحسيني هو تجاهل الأحكام الشرعية والحدود الإلهية بذرائع واهيةٍ، حتى بات من الممكن ارتكاب مختلف الذنوب، وصارت مجالس العزاء تشهد كبائر الذنوب، ابتداءً من سبّ الذات المقدَّسة، وليس انتهاءً عند اللهو واللعب، والتهتك في التصرُّفات، والاختلاط بين الرجال والنساء.

ومن السلبيات الأخرى الناجمة عن التصرُّفات المبتدعة ـ ومنها التطبير ـ إضعاف المذهب. فهذه الأفعال تؤدّي إلى استهجان الإسلام، وتتهم الشيعة من بين المذاهب الإسلامية بالغلوّ والعنف. وعلى الرغم من أن مسألة تحديد إضعاف التطبير للمذهب مرتبطة بتحديد الموضوع إلا أنها لا تندرج ضمن المواضيع الجزئية والشخصية. وليست هي مما يقع على المكلَّف، بل هي من المواضيع الاجتماعية والسياسية، التي لابد من أن تتصدى لها جهة واحدة تكون هي مصدر القرار. فتحديد مثل هذه المواضيع في الحكومة الإسلامية ملقى على عاتق القائد، وقراره في ذلك هو فصل الخطاب.

ومع أن من حق آحاد المجتمع ـ ولا سيما المختصين ـ أن يكون لهم رأيهم وتحليلهم لقضايا المجتمع والسياسة، لكنهم ليسوا مخوَّلين تطبيق آرائهم حسب الاجتهادات وتنوعها، فهذا يعني انهيار النظام الاجتماعي.

وعليه من الممكن أن لا يرى دعاة «الحقيقة الغائبة» إضعافاً في عمل التطبير، لكن لا يحقّ لهم مخالفة قرار الوليّ الفقيه. وقد بحث الشيخ الأنصاري مسألة ما إذا أصدر الفقيه الواحد للشرائط حكماً فهل يحق للفقيه الآخر نقضه، أم على الجميع اتباعه؟ وبعد استعراض جملة من الأدلة على ضرورة الانصياع للحكم الصادر كتب يقول: «هذا كلّه مضافاً إلى لزوم اختلال نظام المصالح العامة المنوطة إلى الحكام، سيما في مثل هذا الزمان… وكيف كان فقد تبين مما ذكرنا عدم جواز مزاحمة فقيه لمثله في كل إلزام قوليّ أو فعليّ يجب الرجوع فيه إلى الحاكم. فإذا قبض مال اليتيم من شخص، أو عيَّن شخصاً لقبضه، أو جعله ناظراً عليه، فليس لغيره من الحكام مخالفة نظره؛ لأن نظره كنظر الإمام»([20]).

هل موقف الآخر منّا مهمٌّ أم لا؟

قال بعضهم: إن مجرد استهزاء الأعداء بنا وبتصرُّفاتنا ليس مبرِّراً للانسحاب من عاداتنا؛ فقد تعرَّض جميع الأنبياء ـ بشهادة القرآن ـ للسخرية والاستهزاء. وعليه لا أهمية لموقف الأعداء هنا.

هذا صحيح، لكننا نسينا أن الأنبياء لم يتعرَّضوا للاستهزاء بسبب عادات وتقاليد مبتدعة، وإنما كانوا بصدد تبليغ الدين والأحكام الإلهية للناس. وهذا هو دافع الكفار والطغاة للسخرية بهم. أما نحن اليوم فقد بتنا عرضةً للسخرية بسبب عادات وتقاليد مبتدعة. ولو كان استهزاء خصمنا بسبب المعتقدات والشعائر الدينية الخالصة لانبرينا له، ولم يؤثِّر فينا شيئاً. أما التطبير فلم يرِدْ في أيٍّ من رواياتنا، وهو عادةٌ ابتدعها الناس، ولا يمكن عدّه من صلب الدين إطلاقاً. أما لو حاول أعداؤنا المساس بمسألة البكاء على الحسين× لما أعرنا لذلك بالاً؛ لأن العزاء والبكاء عليه× من معتقداتنا الدينية، وقد أوصى ديننا بها.

نحن لا نخشى سخريات الأعداء، بل نخشى تشويه صورة الإسلام أمام الشعوب. لذا نخشى أن يتحول تركيزنا على بعض البدع إلى ذريعة بيد أعداء الإسلام، فيبعدوا بها القلوب المتلهِّفة إليه.

شاهد وقصة

عندما كان المسلمون في المدينة أبى يهودها أن يسلموا؛ عنتاً وطغياناً، وكانوا كثيراً ما يتعرضون لهم بالمضايقة والعدوان، حتى شمل ذلك دقائق الأمور وبسائطها. وقد نزلت في ذلك آيات، منها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة: 104).

وكان سبب نزول الآية اعتراض اليهود على كلمة «راعنا»، فهي حسب الروايات بمعنى «أمهلنا»، أو «المراعاة»، كما قد تستعمل بمعنى «الحمق والغباء». ولهذا تحولت الكلمة إلى ما يشبه الطريفة، وأخذ اليهود يستهزئون بالمسلمين، فجاء النداء الإلهي: بما إنكم تستطيعون تفويت الفرصة على عدوكم بتغيير هذه المفردة فلمَ لا تغيِّرونها؟ إذاً قولوا: «انظرنا»، بدلاً من «راعنا».

وهذا هو مراد قائد الثورة الإسلامية، أي إذا كان بالإمكان إقامة مراسم عزاء الحسين× بأساليب أكثر جدوى، وأوضح صورة، فما هو الداعي للجوء إلى التطبير، وفتح الباب أمام الطعن والاستهزاء، ولو كانا باطلين؟

ومن الأمثلة الأخرى على دراية القيادة في صدر الإسلام مسألة تغيير القبلة. إذ كان المسلمون منذ مطلع الإسلام وحتى أواسط شعبان من السنة الثانية للهجرة يصلّون باتجاه بيت المقدس. وكان هذا كافياً لأن يكون ذريعة بين الأعداء، ليشككوا في استقلالية المسلمين، فكانوا يشمتون بهم، ويقولون لهم: لو كان لكم كيان مستقلٌّ لامتلكتم قبلة خاصّة بكم، إلا أنكم لا تزالون مرتبطين بقبلتنا، أي إنكم لا تزالون تابعين لنا ولديننا. وهنا جاء القرار الإلهي، فنزلت الآية: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 144). وجاء في آية أخرى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئََلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 150). أي إننا غيَّرنا القبلة لنردّ على طعونهم، ثم يستدرك القرآن بنظرة نافذة، ويذكر بأن هذا سيثير استغراب البعض، فيقولون: ماذا حصل كي يغير النبي‘ قبلته: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 142). والعجيب أن هذه المسألة تحوَّلت إلى قضية شغلت النبي‘؛ نظراً لإصرار السفهاء على تقديم الإشكالات، حتى جاء الخطاب حازماً: ﴿لَّيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلآئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177).

التقاليد والعادات، مقارنات بين الشعوب

قارن بعضهم بين تقاليد الشعوب الأخرى وبين التطبير، فقالوا: كما أنّ لكلّ قوم تقاليد وعادات تعتزّ بها، ولا يحق للآخرين مؤاخذتهم أو الاستهزاء بتقاليدهم، فكذلك لا يحقّ لأحد الاعتراض على الشيعة بسبب موضوع التطبير، أو الاستهزاء بعاداتهم.

والجواب: لا تستند تقاليد وعادات الشعوب الباطلة ـ في الغالب ـ على دينها، لكي تتسبَّب في إضعافه وتشويه صورته، فإنّ كثيراً من السنن والعادات الشعبية الباطلة تقام بغرض التسلية والاستمتاع. ولو أن مَنْ يمارس التطبير يقرّ بأن عمله هذا لمجرد التسلية والاستمتاع فلا محذور فيه، لكن الإشكال ينبع من نسبة التطبير إلى أصل الدين.

يقول السيد الخامنئي: كنت قد طرحت موضوعاً حول التطبير ـ قبل سنتين أو ثلاث ــ. وقد لاقى استحسان الشعب واستجابتهم له. ومؤخَّراً روى لي أحدهم قصة غريبة جداً، أنقلها لكم، إذ قال لي الخبير في شؤون الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً الجانب الشيعي منه، أعني منطقة آذربيجان: إنه عندما كانت الشيوعية تحكم قبضتها على آذربيجان عمدت إلى محو معالم الإسلام من قبيل: المساجد، حيث حوَّلوها إلى مخازن، والحسينيات أيضاً تحوَّلت إلى شيء آخر، ولم يبقوا على أثر للإسلام والتشيُّع هناك. لكنّ الشيء الوحيد الذي أبقوا عليه، وسمحوا للمسلمين بممارسته، هو التطبير! فكانت أوامر زعماء الشيوعية تصدر لمرؤوسيهم بأنه لا يحقّ للمسلمين إقامة الصلاة فرادى أو جماعة، ولا قراءة القرآن، ولا حتى إقامة مجالس العزاء، وغير ذلك من الأعمال الدينية، لكن يحقّ لهم ممارسة التطبير!

لماذا؟! لأن التطبير كان أداة ووسيلة للتشهير بالدين والتشيع، ومحاربته إعلامياً؛ حيث كان العدو يوظِّف بعض الأمور لصالحه في ضرب مصالح الدين، فأينما حلَّت الخرافات شوَّهت صورة الدين الناصعة، وأساءت إليه. على المبلِّغين والعلماء والمفكِّرين وكلّ مَنْ يرغب في نشر الإسلام ومذهب أهل البيت^ أن يتنبهوا إلى أن الإسلام والقرآن توأمهما الاستدلال والمنطق. كما أن مدرسة أهل البيت^ مؤسسة أيضاً على المنطق والاستدلال. واستبدال ذلك بالخرافة وما هو منافٍ للمنطق سيأتي بنتائج مناقضة تماماً للواقع والاستدلال السليم. وتأسيساً عليه فإن وسائل الإسلام في التبليغ والانتصار على سائر الأديان والملل هي المنطق والعدالة الاجتماعية([21]).

وقد ادَّعى بعضهم أن الوهن لا يصدر إلا عن وهن داخلي، وليس هو بسبب استهزاء الآخرين والقضايا العرضية.

والجواب: هل أنّ الباري ـ عزّ وجلّ ـ كان قد نهى عن قول: «راعنا» بسبب كون هذه الكلمة سيئة، أم أن ذلك جاء نتيجة لاستغلال اليهود وتوظيفهم المغرض؟

التطبير والمكاشفات العرفانية

ومن جملة ما طرح من أدلة على إثبات جواز أو استحباب التطبير مكاشفات بعض العرفاء والأولياء. فقد نقل ـ على سبيل المثال ـ عن السيد بهاء الديني أنه كان مدعوّاً في شهر محرم الحرام لدى أحد تلامذته في مدينة أردبيل، وفي ليلة عاشوراء استيقظ للأذكار والتهجُّد، وعندما خرج للباحة ليتوضأ شاهد أفواجاً من الملائكة تهبط من السماء، وحين حان موعد التطبير في ظهيرة عاشوراء شاهد هذا العالم تلك الملائكة وهي تسند الرجال في موكب التطبير، بعد أن دبّ الضعف في أبدانهم.

وينقل أيضاً عن الشيخ جعفر مجتهدي أنه كان يطبِّر كل عام، ويقول: إن هذه الدماء تجبى إلى الزهراء÷ بواسطة الملائكة.

ونقول في الجواب:

أولاً: إن كرامات ومكاشفات العرفاء والسالكين ـ مهما بلغت درجتهم ـ لا يمكن أن ترقى إلى تشكيل أدلة فقهية وعقائدية. فقول وفعل المعصوم وحده حجّة على الناس، ولا حجة لأفعال وأقوال غيرهم من الناس.

ثانياً: كثيراً ما تفتقد هذه الأخبار إلى سند موثَّق، ويبقى الشك والطعن وارداً في نسبتها الشرعية لأولئك العظماء.

ثالثاً: لو سلَّمنا بصحّة تلك المكاشفات فإنها أيضاً لن تتعارض مع ما قلناه؛ لأنها متعلِّقة بزمن لم يمنع فيه التطبير أساساً، ولم يُفْتِ ولي أمر المسلمين بتحريمه، فكانت تندرج ضمن المستحبات في حكمها الثانوي. وعلى هذا الأساس أفتى علماء ذلك العصر باستحباب هذه الأعمال. ولهذا كان مأجوراً مَنْ عمل بفتوى مرجعه آنذاك، لكن عندما ألغي الحكم الثانوي، وحلّ محله الحكم الأولي، فإن ذلك العمل المستحب يفقد قدسيّته. فعلى سبيل المثال: حين كان بيت المقدس قبلة المسلمين كانت آثار الصلاة وثوابها متعلّقة بتأديتها نحو بيت المقدس، لكن عندما تغيّرت القبلة انتفت تلك الآثار، فإنْ صلّى أحدهم ميمِّماً بيت المقدس لم تترتَّب الآثار الشرعية على صلاته تلك.

التطبير بين مرجع التقليد والوليّ الفقيه، عرض لمواقف فقهيّة

إذا كان الشخص يقلِّد مرجعاً يجيز التطبير فهل يجوز له ممارسته في حالة نهي الولي عنه، عملاً بفتوى مرجعه؟

يذهب مراجع التقليد إلى القول بوجوب اتباع وليّ أمر المسلمين في المسائل السياسية والاجتماعية. ومن ذلك ما جاء في بيان الشيخ فاضل اللنكراني في خصوص تحريم التطبير: بغضّ النظر عن كل شيء فإن هذه الأعمال ممّا نهى عنه ولي أمر المسلمين، وحكمه واجب الطاعة. أرجو من الباري ـ عزّ وجلّ ـ أن يوفِّق شعبنا المؤمن والواعي إلى العمل بالأحكام الشرعية، وإقامة مجالس العزاء التي يرتضيها صاحب الزمان#.

وفي الختام نذكر آراء بعض المراجع العظام من المعاصرين في خصوص إقامة مراسم مجالس العزاء الحسيني:

1ـ الشيخ حسين نوري الهمداني

لقد انطلق فكر الحسين× من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنبع القيم الإسلامية. وبات تاريخ دماء عاشوراء مصدراً للملاحم، ومظهراً للعواطف الجياشة، وملهماً لجميع الثورات والحركات ضد الظلم والطغاة. وهذا ما طبقه مجاهدو الإسلام ضد الظالمين، ورأينا نموذجه في عصرنا الحاضر، فلسانهم يلهج باسم الحسين×، وعيونهم تذرف الدمع الحسيني، وثورة كربلاء في قلوبهم، حتى بلغوا ما بلغوا، فانتصر الدم على السيف، ففسَّروا قول النبي‘: «حسين منّي، وأنا من حسين».

فأيام محرَّم مدعاة لتجديد تلك الذكرى، وذكرى الدماء الزاكية، التي ما فتئت تمثل في خواطر أنصار هذا الفكر. لذا لابدّ ـ ونحن نحاذر انتقام أعداء الإسلام من الدين؛ نظراً لما تلقّوه من صفعة أضاعت مصالحهم، وقضت على مآربهم ـ أن تسير مراسم العزاء على النهج الزينبي؛ أي التزام منطق الإسلام، واجتناب كل ممارسة تجرد هذا الدين الحنيف من المنطق. وعلى أرباب العزاء أن يستبدلوا ضرب رؤوسهم بالسيوف بضرب أعداء الإسلام الذين يحتلون بلادهم، ويسعون إلى إضعاف شوكتهم، فيسلبونهم ثرواتهم، ليقضوا على حياتهم الإسلامية يوماً بعد يوم.

أسال الباري ـ عزّ وجلّ ـ أن يزيد في توفيقات المسلمين لينتهجوا هذا الصراط.

2ـ الشيخ محمد فاضل اللنكراني

نظراً لما حظي به الإسلام والتشيُّع من إقبال عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فباتت أم القرى في العالم الإسلامي، وبات سلوك شعبها نموذجاً ومرآة للإسلام، صار من الضروري التزام اليقظة والحذر تجاه كل ما يتعلَّق بمراسم العزاء الحسيني. فهي لا شك من العبادات. وعلاوة على ذلك فإن إقامة العزاء من الأعمال العبادية السياسية. وعليه لابد من اجتـناب كل ما يسمّى بحيثيتها السياسية، أو يتّهمها بالخرافة وهزالة الإسلام. وفضلاً عن هذا فإن تلك الممارسة هي ممّا نهى عنه ولي أمر المسلمين، وحكمه واجب الطاعة.

أسأل الباري ـ عزّ وجلّ ـ أن يهدي شعبنا المؤمن الواعي بسياسة البلد إلى العمل بالأحكام الشرعية، وإقامة ما يرتضيه صاحب الزمان# من عزاء.

3ـ الشيخ عبد الله جوادي الآملي

إن كل عمل يسيء للإسلام ولحرمة العزاء الحسيني فهو غير جائز شرعاً. لذا نأمل أن يجتنب التطبير وغيره تماماً.

4ـ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

وقد أجاب عن أسئلة بعض الناس حول واجبات المسلمين في أيام عاشوراء والعزاء الحسيني، فقال: «لا شك أن إقامة العزاء على سيد الشهداء× من أفضل أعمال التقرب، وإن إحياء دماء شهداء كربلاء نجاة في الدنيا والآخرة. يتصور بعض الجهلة أن حادثة كربلاء الدامية خبر من أخبار الماضي، فيستغربون من تكرار مجالس العزاء السنوية، في حين يعدها أرباب الوعي حركةً مستمرّة تشهدها الحياة الإنسانية، وقد بلغت ذروتها في كربلاء، وبقيت مثالاً حياً على مر التاريخ. فهي ثورة ونضال ضد الكفر والظلم، وترجيح للموت الأحمر المصاحب للحرية على الحياة الذليلة الموسومة بالعار.

يقول هؤلاء: لماذا تبكون على واقعة مرَّ من عمرها ثلاثة عشر قرناً من الزمن؟ لكنهم لم يدركوا أن هذه الدموع إنما هي إعلان منا للحرب على الظالمين في كلّ زمان. إن هذه الدموع الجارية عن دراية بأهداف الحسين السامية وأصحابه هي بمثابة رصاص ملتهب في صدور الجناة، وهي أيضاً لآلئ ناصعة نقدمها لكلّ مظلوم ولكل شعب يعيش تحت وطأة المستعمر. وهذا ما يفسر لنا معنى «كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء».

ولذا لطالما شكلت هذه المراسم مصدر قلق لدى الطغاة وأعداء الإسلام، وسعوا إلى منعها. وهذا دليل دعوتنا إلى إقامتها مهما كلف الثمن.

حتى عندما كنا نسأل في البلدان التي يحكمها أعداء أهل البيت^، ويحاولون إطفاء نورهم، أكدنا على أن لا يتراجع الناس عن إقامة العزاء الحسيني، ولو بلغ ذلك ما بلغ من تضحية وتقديم الدماء.

صحيح أن هذه المراسم مستحبة في ذاتها، إلا أن إحياءها أحياناً قد يكون من أوجب الواجبات. وهنا أرى من الضروري تذكير المؤمنين والمؤمنات ببعض النقاط:

أ ـ يجب أن يسعى الجميع إلى المشاركة في هذه المراسم بنية خالصة، وقلب منقاد إلى سيد الشهداء، وأن يتأملوا في أهداف ثورته التاريخية الكبرى. وعلى الخطباء والكتاب استعراض وتوضيح الأهداف الأساسية للناس، كي يكونوا مصداقاً جلياً لكلمة «عارفاً بحقّه».

ب ـ على المؤمنين والمؤمنات صون هذه المراسم عن كل ما يخالف شرع الإسلام وكلام أئمة الدين، وأن يجتـنبوا كل عمل يكون ذريعة بيد العدو، من قبيل: التطبير، وغرس الأقفال في الجلد، وغيرها، مما تطرَّق له قائد الثورة في خطابه الوافي والقيِّم؛ لأن هذه الممارسات ستتحوَّل إلى وسائل بيد الأعداء، لكي يشكِّكوا بمصداقية هذه الشعائر العظيمة والبنّاءة. فالسيف إنّما هو لضرب العدو، وليس لضرب الصديق، والأقفال إنما توضع على أفواه الأعداء، وليس الأصداقاء. نعم، صحيح أن دافع هؤلاء هو عشقهم للإمام الحسين× وفكره، لكن لابد من التنبه إلى أن قدسية الدافع وحدها لا تكفي، بل يجب أن يكون العمل في حدّ ذاته مقدساً أيضاً. فطريقة إقامة العزاء إما أن تكون واردة في النصوص الإسلامية؛ أو أن تندرج تحت عموم الأدلة وإطلاقاتها. ولا شك أن تلك الممارسات ليست ممّا نص عليه، ولا يمكن أن تكون مصداقاً للعزاء في عرف العقلاء والمتشرعة، فضلاً عن وجود موانع شرعية تعترضها. وبعبارة أخرى: لا يوجد مقتضٍ في شمول العموم، ولا المانع مفقود.

نعم، هناك من الفقهاء الكبار المتقدمين من جوَّز جانباً من تلك الأمور؛ لسبب من الأسباب. لكنهم لو كانوا في عصرنا، وشهدوا مقتضياته، فمن المتيقَّن أنه ستكون لهم فتوى أخرى.

ج ـ يجب التنبه إلى أن هدف الإمام الحسن× الرئيس من الثورة ـ كما ورد في وصيته التاريخية ـ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعلى كل محبيه إحياء هاتين الفريضتين، وأن يقتدوا بإمامهم في كل شيء. ويجب أن يبدأوا بمحاربة المنكرات من خلال القنوات المناسبة، وأن يحيوا المعروف بأقوالهم وأفعالهم».

ربنا اجعلنا من خُلَّص أتباع هذا الإمام الهمام، ومن المشمولين بشفاعته في الدنيا والآخرة، آمين يا رب العالمين.

الهوامش

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) بحار الأنوار 44: 283، باب 34، ثواب البكاء على مصيبته؛ الصدوق، الأمالي: 128، المجلس السابع والعشرون؛ روضة الواعظين 1: 169، مجلس في ذكر مقتل الحسين×؛ المناقب 4: 86، فصل في مقتله×؛ وسائل الشيعة 14: 504، باب 66، استحباب البكاء لقتل الحسين× وما أصاب أهل البيت^.

([2]) بحار الأنوار 101: 320.

([3]) الكافي 2: 315، باب حبّ الدنيا والحرص عليها، ح5.

([4]) الشهيد الثاني، مسكّن الفؤاد وحبّ الأولاد: 108 و114؛ بحار الأنوار 2: 93، باب 95 من أبواب التعزية والمأتم وآدابهما.

([5]) وسائل الشيعة 3: 271.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) وسائل الشيعة 3: 273.

([8]) وسائل الشيعة 3: 273، باب 84 من أبواب كراهة الصياح على الميت، ح1.

([9]) بحار الأنوار 45: 2.

([10]) في الأشهر الأخيرة بادر جمع من الأفراد، معلومي الحال، إلى التعريض بحكم قائد الثورة. ففي إحدى القرى وُزِّع قرصان مدمجان تحت عنوان: (التطبير، الحقيقة المظلومة)، وذكرت أدلة مختلفة لاستحباب بل وجوب هذا العمل. وقد اعتمد هؤلاء على آراء بعض علماء الدين، وسعوا بشدة لتصوير هذا العمل شرعياً ومستنداً إلى الروايات. ونحن في هذه المقالة نبحث ونحقق في الأدلة الفقهية التي اعتمد عليها هؤلاء.

([11]) بحار الأنوار 101: 322.

([12]) بحار الأنوار 45: 115.

([13]) وسائل الشيعة 3: 274، باب كراهة الصياح على الميت، ح4.

([14]) المصدر نفسه، ح5.

([15]) وسائل الشيعة 3: 402، باب كفارة شقّ الثوب على الميت؛ عوالي اللآلي 3: 409، باب الإيلاء؛ تهذيب الأحكام 8: 325، باب الكفارات، ح23 (مع اختلاف قليل في اللفظ).

([16]) ستُذكر مصادر الفتاوى لاحقاً.

([17]) وسائل الشيعة 2: 84، باب 41، استحباب الخضاب للرجل والمرأة.

([18]) المصدر نفسه: 87، باب 44، استحباب خضاب الشيب.

([19]) الكافي 6: 443، باب اللباس.

([20]) المكاسب 2: 157.

([21]) بيانات القائد الأعلى في اجتماع كبير للناس في مشهد المقدسة في صحن الإمام الخميني&، بتاريخ: 1/1/1376هـ ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً