أحدث المقالات

عرض وبيان

السيد علي باقري(*)

ترجمة: الشيخ علي قازان

 

عندما كان السيد الشهيد الدكتور بهشتي& يشغل منصب إمامة الجماعة في مسجد ومركز هامبورغ الإسلامي في ألمانيا (1964 ـ 1970م) أجاب عن سؤال وجّه إليه حول حرمة الموسيقى، فقال: لا بد قبل توضيح رأي الإسلام في الموسيقى أن أشير إلى نكتة، وهي أنني لم أعثر على هذه المفردة «الموسيقى»([1]) في آيات القرآن الكريم والروايات. أما بالنسبة للقرآن الكريم فهي ليست موجودة فيه قطعاً، وأما في الروايات فلا وجود لها أيضاً على ما أعلم، وعندما كان فقهاؤنا يريدون التحدث عن حكم الموسيقى في الإسلام كانوا يبحثون الموضوع تحت عنوان حكم «الغناء» في الإسلام من جهة، وحكم آلات اللهو من جهة أخرى. وربما ذكرت الكتب الفقهية بحث الغناء وإلى جانبه بحث آلات اللهو.

لقد وردت كلمة «لهو» في القرآن الكريم مرات متعددة؛ فقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً﴾ (الجمعة: 11)، وقد كان من عادة بعض المسلمين ضعيفي الإيمان أنهم كلما سمعوا عزفاً من خارج المسجد، أو قرعاً للطبول المعلنة عن وصول قافلة تجارية من خارج مكة، أن يخرجوا لمشاهدة هذا الحفل الطربي، أو لاغتنام فرصة الاتّجار مع القافلة قبل أن يسبقهم أحد إليها، ويتركون بالتالي الخطبة التي كان يلقيها الرسول‘ في صلاة الجمعة. فجاءهم الانتقاد في هذه الآية: ﴿قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، أي يجب أن لا تتركوا خطبة الرسول‘ في صلاة الجمعة، وتذهبوا في طلب التجارة وأعمالها، أو قضاء الأوقات الممتعة؛ فالمصلحة التي أودعها الله عز وجل في سننه لأهل الإيمان والعمل الصالح هي مصلحة أعلى بكثير من تلك التي تبتغونها من حضوركم في حفلات الفرح والطرب، أو وسائل التسلية أو اللهو، أو السبق إلى المتاجرة مع القافلة الواصلة حديثاً.

وقد اشتهر القول بأن المقصود من كلمة «اللهو» إطلاقها على صوت المزمار والطبول وعازفيها، وهو ما كانت القوافل التجارية تستعمله لإعلام الناس عن قدومها إلى المدينة، فيأتون ويتاجرون معها. وكان هناك مَنْ يأتي لأجل المشاهدة والتسلية، ومَنْ يأتي لإجراء المعاملات التجارية. وهذا شيء معروف حتى في يومنا هذا، حيث يقومون ببيع الأشياء القديمة في بعض الأماكن الصغيرة، حيث يقرعون الجرس للإعلامبأنهم جاؤوا للشراء.

ولكن لا يمكننا أن نستفيد من هذه الآية تحريم الموسيقى واللهو، بل يمكننا القول: إن الآية تريد أن تسأل: لماذا يترك هؤلاء صلاة النبي‘ ويذهبون؟ كما لا يمكننا أن نتوصل إلى حرمة التجارة أيضاً من هذه الآية.

لقد وردت كلمة «اللغو» في بعض الآيات القرآنية، حيث فسَّرها الفقهاء بنفس معنى «اللهو»، وقد كان «اللغو» مصبّاً للتوبيخ، ولكن لا يمكننا استفادة حرمة «اللهو» من هنا أيضاً. يصف الله المؤمنين فيقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾. إذاً، فالمؤمنون هم أشخاص يعرضون عن اللهو([2]). وتتحدث الآية 72 من سورة الفرقان عن صفات العباد الطاهرين فتقول: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾. فهؤلاء لا يشهدون بالباطل، ولا يشاركون في مجالس الباطل، وعندما يمرون باللغو فإنهم يتجاوزونه بنبالة.

﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾، أي عندما يطرق اللغو آذانهم يتجنبونه ويعرضون عنه. فالظاهر إذاً أنه لا يمكن الاعتماد على هذه الآيات لإثبات حرمة الموسيقى، سواء كان اللغو بمعنى اللهو أم اللهو بمعنى اللغو، أم أن لـ «اللغو» معنى مستقلاًّ.

وعلى هذا يمكننا القول: إنه ليس هناك آية قرآنية يمكن أن نستفيد منها حرمة الموسيقى أو حتى حرمة اللغو والغناء. هذا بالنسبة للآيات.

أما الروايات فلدينا منها ما يتحدث عن ضرب الأوتار، والطنبور، وأمثالها، مما يطلق عليه تسمية آلات الطرب وآلات اللهو. وهذه الروايات تتفاوت في دلالتها على حرمة استعمال هذه الآلات. وهي روايات موجودة في كتب الشيعة والسنة. وهذه الروايات تريد القول في الجملة: إن الغناء حرام، وكذلك استعمال آلات الطرب، من قبيل: الكمان، والعود، وغيرها من الآلات الوترية، كـ«التار»([3])، والطبل، والدف، و…

و قد استنبط بعض الفقهاء أن هذه الروايات لا تريد القول: إن الموسيقى كلها حرام، بل المحرَّم هو مجالس اللهو واللعب، ومجالس الترف التي كانت تعقد عادة في بيوت الأغنياء والحكام وأصحاب الثروة والسلطة، وذلك زمن حضور الإمام المعصوم× وقادة الدين^. وكانت هذه المجالس من النوع الذي يدعى إليه مغنٍّ، ليكون كما الملح للطعام. فالغناء والعزف كانا لتشجيع الحاضرين على ارتكاب معاصٍ أخرى. والواقع أن هذا النوع من الغناء والعزف المحكوم بالحرمة كان في مجالس يختلط فيها الرجال بالنساء، في مجالس الملذات، والخلاعة، والزنا، والفسق والفجور، والأغاني المشجعة على هذه الأمور.

وبالتالي فخلاصة الكلام هي أنه لا يحرم الغناء، وليس كل عزف حرام. فالغناء والعزف الذي يجذب الحاضرين أو المستمعين إلى المعصية، ويثبطهم عن الالتزام بقوانين العفة والتقوى، ويضعف إرادتهم أمام المعاصي والتلوّث بها، ويشجعهم على المشاركة في الفساد والمعصية، هذا النوع من الموسيقى هو الحرام. أما إذا كان هناك غناء أو عزف ليس له هذا الأثر فليس بحرام. هذا هو رأي بعض العلماء والفقهاء، الذين فهموا الروايات على هذا النحو.

وعليه يمكننا القول: إن الحرام من الغناء أو الموسيقى هو كل نوع يحض المستمع على اتباع الميول الجنسية، وبالتحديد ينقله إلى حالة من اللامبالاة في ارتكاب المآثم، ويشجعه على مواقعة الفسق والفجور، والأعمال المنافية للعصمة والطهارة، والمؤدية إلى توهين التقوى، وتحريك بواعث الشهوة في النفس لكي يرتكب المعصية، ويدوس القانون الإلهي وتعاليم الأنبياء بقدمه، بحيث تضعف رقابته المحافظة على العفة والتقوى، وينسى القيم الإنسانية العليا ولو بشكل مؤقَّت. هذا هو القدر المسلَّم. ولكن هناك أنواع أخرى من الغناء والموسيقى التي حرمها الإسلام قطعاً. ويجدر الانتباه هنا إلى مدى تناسب كلمة «اللهو»، أو على الأخص «اللغو»، مع هذا النوع من الموسيقى. ففي كلمات الفقهاء: إن اللهو ما ينهى عن ذكر الله. وهنا يتم بيان مرحلة خاصة من الغفلة عن ذكر الله، وهي أن الإنسان المؤمن عندما يواجه المعصية أو العثرة فإنه يتذكر الله تلقائياً؛ لأن العمل حرام، والله قد نهى عنه، فيقول: «إذاً فلأجتنبه». وهذه الحالة التي تعرض على الإنسان المؤمن عندما تتوفر له المعصية هي من الضمانات الفعّالة المحافظة على العفة والفضيلة بين الناس.

وفي الواقع فإن أحد أهم خصائص الإيمان هي أنه شرطة الباطن. عندما يكون الإنسان جالساً لوحده، وتعرض له المعصية، فإن إيمانه الداخلي وضميره الإلهي يحذره بأن«الله يراقب أعمالك، لا تفعل». هذا النوع من التوجه إلى الله هو أحد أهم قيم التربية الدينية.

وعلى هذا يمكننا تلقائياً القول: إن النوع الحرام من الموسيقى أو الغناء هو ذلك الذي يضعف هذا التوجُّه عند الإنسان إلى الحدّ الذي ينسى معه كليّاً أن هناك إله، ويصير غير مبالٍ، بل يؤدي إلى ارتكابه المعصية بشوق ورغبة. وأنا أعتقد أنه حتى لو لم تكن هناك آية أو رواية في هذا الأمر، بل خُلِّينا نحن وتعاليم الإسلام، بل وتعاليم الأديان، فيما يتعلق بقيمة الإيمان، لاستنبطنا أن هذا النوع من الموسيقى محرّم.

ثم يكمل السيد الشهيد الدكتور بهشتي& قائلاً: كل نوع من الغناء، الذي تعرفون أنه عند أدائه سيؤدي إلى ارتكاب مقدار قطعي من الحرام، ككثير من الأغاني، ولا سيما تلك التي تؤديها المطربات، فهو حرام. إذاً الحرام من الموسيقى والغناء والألحان هي تلك التي تترك هذا النوع من الآثار في المستمع، أي تجعله غير مبالٍ بارتكاب المعاصي، بحيث إنه حينما يواجه المعصية يكون غافلاً عن الله كلّياً، أو يكون ذكر الله عنده ضعيفاً إلى درجة لا يمكن معها زجره عن المعصية. فالحرام من الغناء والعزف هو ما يضعف ذكر الله.

ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الرأي القطعي للإسلام هو أن ما يكون من الغناء والعزف فاقداً لهذا الأثر يبقى الحكم عليه بالحرمة؛ لمجرّد كونه غناءً أو عزفاً، مورد تردد. فمن المسلم أن هذا ليس من مسلَّمات الإسلام، ولا يمكن نسبته إلى كل علماء وفقهاء الإسلام، أو حتى رأي فقهاء الشيعة. هذا ما أستطيع فعلاً الإدلاء به بالنسبة لموضوع الموسيقى.

 

الهوامش

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) مذكور في المتن الفارسي «أو ما يعادلها في اللغة العربية». ولا معنى لهذه الجملة في الترجمة، ولكن ذكرناها حفاظاً على أمانة النقل.

([2]) في النص الفارسي ترجم المؤلِّف& كلمتي اللغو واللهو إلى الفارسية.

([3]) آلة إيرانية ذات أوتار خمسة، و قد زيد عليها سادس.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً