أحدث المقالات

إشكالية الإدراك والتكوين

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)

 

مدخل

في معرض نقده للعقل العربي، الذي تشكل على قاعدة البيان، ثم انتقل إلى العرفان، قال الجابري: إن أبرز إنتاج للحضارة الإسلامية هو الفقه، فهو منتج خالص لهذه الحضارة ومنتج متميز([1]). وأيّاً كان قصد الجابري من هذا التوصيف فإن القدر الذي أقتبسه منه أن (الفقه) عبارة عن أسلوب ممارسة المجتمع الإسلامي للحضارة والسلوك المدني، وعلم الفقه هو ذلك النسق المعرفي الذي تحددت مصادره، ومناهجه، ومعرفياته، وتداخلت مع العلوم والمعارف الأخرى؛ ليصنع هو الآخر حضارةً، في الوقت الذي يُعتبر هو نفسه من مصنوعات الحضارة الإسلامية.

إن هذه الجدلية بحاجة إلى تفكيك منهجي وعلمي، يدرس تحول السبب إلى أثر، وتحول الأثر إلى باعث في الوقت ذاته، كما يدرس فيه الصلة بين مفهوم الحضارة من جهة ومفهوم الفقه بوصفه مسلكاً اجتماعياً لممارسة الحياة من جهة أخرى.

إن طبيعة الصلة بين مفهوم الحضارة من جهة ومفهوم الفقه بوصفه علم القانون أو علم المنظومة الحقوقية للمجتمعات الإسلامية من جهة أخرى هي صلة الفضاء بالجوهر.

إن إشكالية الإدراك ـ بهذا التوجه والمستوى ـ لفلسفة الفقه تتعمق كلما زاد انغمار الدارسين للفقه الإسلامي بالنص الفقهي، الذي لازال الجهد المعاصر منه ينسج على المنوال التاريخي. فضلاً عن أن صفة الوثاقة والأصالة في الفقاهة مرتبطة دائماً بالموضوعات القديمة. فكلما كان النص الفقهي قديماً، والموضوع أكثر قدماً، وكان البحث أصيلاً، وملتصقاً بعصر الإنتاج الفقهي الذي اقترب من زمن النص، وعبَّر عن الفعاليات الاجتماعية في تلك المرحلة، فهو المرغوب.

أما فقه الواقع المعاصر، أو ما يطلق عليه بالمستجدات، فإنه في أحسن الأحوال يبقى محل شك في تأصيلاته، وهو أقرب إلى الرأي والاجتهاد ـ بمعناه الأعمّ ـمنه إلى الاستنباط المرتكز على النصوص مباشرة، وتتوسطه الإفتاءات السابقة.

إننا بحاجة إلى أن نتيقن أن المجتهد المعاصر لا يقل مهارة وقدرة عن المجتهد في العصور التاريخية الغابرة، وأن المجتهد المعاصر يستطيع أن يكتشف الموقف القانوني الإسلامي من المستجدات بالقدر الذي كان الفقهاء التاريخيون يكتشفون إشكاليات عصرهم، وأنه في نفس الدرجة من القدرة على الاستنباط مع الفقهاء السابقين.

ولعل الإمكانات المتاحة للمجتهد المعاصر أكثر مما كان للمجتهد القديم؛ بسبب تعاظم المعرفة، واتساع العلوم والمناهج، وتراكم الخبرة.

لذلك لابد من البحث بجدية في فلسفة الفقه، من جهة كون البحث الفقهي ليس بحثاً في «تاريخ الإفتاءات» وفقه السوابق الإفتائية فحسب، وليس الاستنباط ممارسةً ناتجة عن تحليل مكونات المشهد التاريخي، وإنما هو محاوله للإفادة من الواقع تحليلاً، ومن عقل الفقيه ومعرفياته ضبطاً للموضوع واستكشافاً من النص، ومن النص تحديداً للمضمون القانوني، ومن المنهج تحديداً لمسلك الوصول إلى الحكم.

ومن هنا فإن الاعتبار الصحيح أن الفقه، من حيث هو ممارسة علمية، لمتحصل بفكر منظم بالظواهر الاجتماعية والمعرفية، وهو قانون «الحراك الاجتماعي»، وطالما أن الحراك المجتمعي يعيش ظروفه وبواعثه المتغيرة تغيُّراً سريعاً فهو متغير، ويلزم في أقل الافتراضات أن يكون الفقه بمستوى التغييرات الحضارية المتسارعة. فإطلالته على الماضي من خلال الحاضر، وتوقعاته «المفترضة» للمستقبل، يلزم أن تكون من خلال الواقع الذي يعيشه، والذي يجب أن يكون في متناول الفهم العميق.

وطبقاً لهذا الفهم فإنه لايراد من العقل أبداً أن ينأى عن جوهر التفكير الفقهي، بل إن الجهد الفقهي، من حيث كونه ظاهرة نصية، هو الآخر لا يترفَّع عن أن يتوسل العلم والعقل؛ لبناء الموضوع، واكتشاف الحكم.

فلا ينفرد العقل بالقرار الفقهي لمجرد أن الفقه ناتج حضارة نص. نعم، هو يلتزم بالعودة إلى النص المؤسِّس لهذه الحضارة، وهو مرجعية هذه الحضارة بإشعاعاتها وشموليتها؛ ليستطلع الموقف، سواء أكان «استطلاعاً مباشراً» أو استنطاقاً للنص، ولكن بالاستعانة بدور العقل، وعلاقته بالنص، وأثره في إنتاج الأحكام. ومحصَّل الكلام لابد أن نجد ضمن بحثنا عن فلسفة الفقه علاقة اتساقية متوائمة بين كون العقلانية مدخلاً لفهم النص أو شريكة النص، التي تتفق معه دائماً في النتائج، وإن افترقت في المنطلقات، ومسارات تحقيق المخرجات.

 

فلسفة الفقه، مقاربة في التكوين المعرفي

لايزال الحديث أو البحث في مضمار فلسفة الفقه يحوم حول المباحث التالية:

1ـ اكتشاف المفهوم.

2ـ الإطار المفاهيمي.

3ـ الأسس المعرفية.

4ـ المجال المعرفي.

5ـ الأثر في الفروع.

فهو فرع جديد من فروع الدراسة العلمية في مجال العلوم الإسلامية. وربما ظهر في مطلع القرن الحادي والعشرين تحت هذا المسمى. ولأجل المقاربة والتحديد المفضي إلى الكشف عن ضبابيات هذا التخصُّص نرى:

أولاً: إن هذا الفرع ليس من جنس المعرفة الفقهية«الأحكام الفرعية، النظريات الفقهية، والقواعد الفقهية». فهذه وإن كانت المادة المعرفية الناتجة عن فلسفة العلم، إلا أننا ولأجل اكتشاف تلك الفلسفة سوف نصعد من النتائج إلى الأساسيات.

ثانياً: ليس هذا الفرع من جنس المنهج المنتج لهذه المعرفة «المصادر الأصولية، والقواعد الأصولية، وآليات الترجيح عند تعارض البيانات والأدلة». لكن لارتباط المنهج بفلسفة العلم فهو الطريق لتلمس الفلسفة.

وربما يدخل في تحليل المكونات العلمية «لأصول الفقه» في فلسفة الفقه؛ لاعتبارات خاصة بمضامين تلك المكونات، مثل «المباحث اللغوية»، التي تشكل رؤية فلسفية في علم النص، واتجاهاً في علم الدلالة، أو «المباحث الكلامية»، مثل: نظرية التحسين والتقبيح العقليين، باعتبار أن هذه النظرية يترتب على بعض اتجاهاتها وفرضياتها إقرار أصول منتجة للمعرفة الفقهية، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وحاكمية الأعراف([2])، أو رفضها، طبقاً لاتجاهات رافضة للتحسين والتقبيح، أو لبعض مكونات النظرية.

وربما تكون الصلة بين علم أصول الفقه ومنهج البحث التاريخي واضحة([3])؛ لأن منهج البحث التاريخي يفيد في تقصي الحدث الذي أنجب الرواية أو النص، أو أنتج القاعدة التشريعية الآمرة، فيكون جزءاً من مباحث فلسفة الفقه، على أن تكون درجة التلازم قوية وغير قابلة للتفكيك ضمن الإطار التخصصي.

ثالثاً: لا يندرج هذا التخصُّص في الرؤية المقاصدية المنتجة للأحكام الفقهية، التي لا زالت جذوتها المعرفية تتَّقد في الكثير من الأبحاث المعاصرة التي اتَّخذت أو تتخذ من فكرة المقاصد منطلقاً لها، أو منهجاً لصيرورتها([4]).

لكن يبقى اكتشاف أجزاء من المباحث في مجال فلسفة الفقه تصلح لكي ينتزع منها جزء من المكون المعرفي لفلسفة الفقه. غير أن هذا غير كاف لتحديد المفهوم العلمي؛ إذ لا زال الإطار العام، والأسس المعرفية، تحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي.

إن هدفاً جوهرياً يجب أن يشخصه الباحث في المقاربات المفضية إلى فلسفة الفقه يتلخَّص في أن التعرُّف على الأجزاء المكوِّنة لفلسفة العلم ربما يؤدي إلى اكتشاف الإطار العام والأسس المعرفية، ولعل بعضها، ولاسيما في البواعث العلمية للاشتغال بهذا التخصص، ربما يوصل إلى الأسس المعرفية، ويسهم في تحديد الإطار التخصصي له، والثمرة من أبحاثه، إلا أن ذلك كله يظل مسالك في التكوين الكمي، الذي إذا اكتمل احتاج إلى تنظيم نظري وهيكلي.

 

البواعث العلمية لفلسفة الفقه

في الاشتغال بـ «فلسفة الفقه» هناك مجموعة بواعث:

 

1ـ الجانب المنفعي الدنيوي من الفقه

هل الفقه علم إنساني دنيوي أو علم عرفاني أخروي؟

وللإجابة أقول: لا ينبغي لكل دارس للفقه أن يتعامل معه بوصفه تراثاً نظرياً، وحفريات في بطون المعرفة، بل الذي ينبغي أن ننطلق منه في دراسة أي موضوع فقهي هو أننا نجري محاولات منهجية علمية لاكتشاف الموقف العلمي للإنسان المسلم من الأشياء والأفكار والسلوكيات. فهو إذاً معرفة مؤسِّسة (بالكسر) لقيم سلوكية على صعيد الفرد، أو مجموع السلوك المدني أو سياسات الدول والجماعات مع ما يترتب عليها من آثار وتداعيات. ومن هنا يتجلى أثره في واقع المجتمعات على توالي عصورها، وتظهر في أروقته مستجدات فردية وجماعية، ومستجدات دولية تجب مراعاتها. وعلى التفكير الفقهي أن يكون سبّاقاً ومستشرفاً لهذه المستجدات. ولعل في تراث الفقهاء جذراً تأصيلياً لذلك، وهو الفقه الافتراضي.

ومن المتفق عليه أن في واقعنا المعاصر علوماً اجتماعية وعلوماً صرفة، فلا يمكن أن تنمو العلوم الإنسانية وتتطور دون أن تلابسها الحركة الاجتماعية. وهذه العلوم مرتبطة (بالتفكير الفقهي)، أو أن ذلك التفكير مرتبط بها، بحيث يجعلها «تحديات مدخلاتية». ولكي ينمو بقدراته، ويخضع آثارها لمنطقه الداخلي، فليس صحيحاً أبداً أن يظل في ظرف القطيعة معها. لقد قدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع يؤثر بقدر معقول في نوع التفكير الفقهي. وهذا لا يتنافى أبداً مع حاكمية المخرجات الفقهية على «موضوعاتها»، فإذا لم يكن عرف (التفكير الفقهي) عرفاً استشرافياً فلا أقل من أن تظهر عبقريات فقهية لاينفصل تفكيرها واهتمامها عن الحاجة الاجتماعية الحاضرة. وكمثال على ذلك: فإن فقه المنظمات الدولية حالياً يعدّ ميداناً خصباً للاكتشاف الفقهي، وإن ضوابط استخدام التقنيات الصناعية والإلكترونية وآليات المعلوماتية احتياجات فعلية للوعي الحضاري للإنسان المسلم، ومن ذلك ـ مثلاً ـ: فقه الإغاثة الدولية للمناطق المنكوبة، وفقه مواجهة مشكلة نقص الغذاء العالمي، وأطروحة الأمم المتحدة عن السكان في العالم، ومشكلات البيئة، وغسيل الأموال…إلخ.

لم تكن هذه المشكلات الإنسانية قبل نصف قرن سوى حديث يدور في أضيق نطاق في أروقة النخب المتخصصة أو شديدة التخصُّص، إلا أنها اليوم؛ ولخطورتها واتساع تداعياتها، صارت من أكثر الموضوعات تداولاً بين عموم الناس، وأجهزة الأعلام، والهيئات الدولية. وقد أنشئت لها معاهد متخصصة، وكراسي أستاذية في الجامعات، ومجلات متخصصة، وصدرت حولها مئات المؤلفات باللغات العالمية، فضلاً عن وكالات خاصة دولية تعنى بهذه المشكلات في الأمم المتحدة. فهل يبقى «عذر» عندما ينأى الفقه بنفسه عن المساهمة الجادة في حل هذه المشكلات الإنسانية. وإذا لم يكن هذا التخصُّص من أوائل المعطيات التي تضع القواعد التي تنظم الجهد الدولي فأي تخصص يحل محله. ولعل هذا يتوقف على فلسفة الفقه، فهي التي تحدد الباعث على التناول، وموضوعات التناول، وطريقة التناول.

أعتقد أن الفقه أجدر تخصُّص يستطيع أن ينظم السلوك الإنساني على خلفية الإيمان الطوعي. ويجب أن يظهر في أروقته كونه تشريعاً من عند الله. وعلى الالتزام به يترتب الثواب والانضباط الذاتي. لذلك فإن إدراك علاقة التردّي البيئي بالإنتاج الصناعي الضخم، بحيث يقرر عملاً إنسانياً ودولياً للحفاظ على التوازن البيئي؛ لأن البيئة «هبات ومعطيات ربانية مشتركة لجميع البشر»، من مسؤولية الفقه. وربما يكون الفقه هو الأقدر على تخليص الناس من الإفراط في استخدام الأسمدة والمبيدات على نطاق واسع؛ بغية زيادة الإنتاج، بحيث يؤدي إلى تلوث غير محسوس في الإنتاج الزراعي، ويعرِّض المستهلك إلى خطر التسمم والتسرطن.

 

2ـ نطاق الفقه جزء من فلسفة الفقه

لعل فلسفة الفقه هي التي تحدد نطاق المعرفة الفقهية النظرية، فهل الفقه للإنسان الفرد، بعيداً عن ارتباطاته مع مجتمع محلي، أومجتمع دولي، أو حيز كوني؟

إن الوضع الحضاري المعاصر يفرض تقارب الأمم والحضارات. ولابد أن يكون الفقه هو المنجم الذي تستقى منه القواعد القانونية التي تنظم علاقة الإنسان مع ذاته، وعلاقته مع الإنسان، أي إنسان، وعلاقة الإنسان بالمادة (الكون)، وعلاقة الإنسان بالزمن الكوني.

وبناءً على إدراك فلسفة الفقه أن هذا الكون يتحرك بتناسق دقيق جداً وفق نظام علمي ينتظر من الفقه أن يقدِّم توصيفاً لطريقة تفكير كونية، أو أسلوباً وممارسة علمية تنظم حركة الإنسان مع المادة. وعند ذاك يسهم الفقه في تنظيم فعاليات الإنسان إزاء العالم الخارجي «المادة ـ الزمن ـ الآفاق الكونية».

وقطعاً إن ذلك مرتبط بالمنهج العلمي للفقه، والمنهج مرتبط بالفلسفة التي تقرره، فهل تتسع شموليتها للاتساع الكوني، والاتساع المجتمعي الإنساني.

 

3ـ إشكالية المنهج العلمي وفلسفة الفقه

يعرف العلم بأنه مجموعة حقائق يكتشفها البحث الموضوعي المجرد. ولا يكون إلا مع وجود منهج علمي.

ويقال: إنه مجموعة الخبرات التي تجعل الفرد قادراً على التفكير المنظم وتفسير الظواهر([5]). ومصطلح التفكير المنظم يعني المرتبط بقواعد برهانية لإنتاج المعرفة.

ويعرف في قاموس أوكسفورد بأنه تلك الدراسة المتعلقة بجسم مترابط من الحقائق الثابتة المصنفة، التي تحكمها قوانين عامة، وتحتوي على طرق ومناهج موثوق بها لاكتشاف حقائق جديدة([6]).

في فلسفة العلم هناك نظريتان:

النظرية السكونية static: وترى أن العلم هو معرفة نظام العالم، وأن مهمة العلماء اكتشاف ذلك النظام، وإضافته للمعروف من المكتشف، وبموجبه تتيسر الطرق لتفسير الظواهر.

النظرية الديناميكية Dinamic: وترى أنه مجموعة البحوث التي تساعد على اكتشاف الأشياء، وإتاحة الفرص إزاء العمل الإبداعي، منطلقاً من تفسير الظواهر. فوظيفة العلم هي الاكتشاف.

ويشدِّد المعنيون على الفرق بين العلم والمعرفة، ويرون أن العلم معرفة مبرهن عليها بالدليل، والمعرفة علم تلقائي.

وهدف العلم التوصل إلى نظريات الحركة والنمو الاجتماعي والكوني.

ويراد بمصطلح النظرية أنها بنيان من المفاهيم المترابطة والتعريفات والمقولات التي تحدد العلاقات بين المتحولات؛ بهدف التفسير والتنبؤ([7]).

أقول: هل الفقه مجموعة حقائق نهائية أو فرضيات نظرية تتبع منهجاً منتجاً للمعرفة، وقابلاً للتعديل؟

هل الفقه يوصف الظواهر؟ أو يفسر الظواهر؟ وهل يسعى إلى «فهم العالم على أساس النظام، فعليه أن يقدم مجموعة بيانات هي أقرب إلى المعرفة»؟

إن أول مدخل لدراسة فلسفة العلم هو قضية المنهج. ولقد عرف الإنسان ضرورة المنهج منذ أقدم الأزمان، وسعى إلى إيجاد الصلة بين العلم والمنهج. ولقد كان أرسطو الرجل الذي حفظ لنا التاريخ إنجازاته في صناعة قواعد المنطق كمحاولة مبكرة لضبط التفكير وخطوات السير نحو المعلوم، في الوقت الذي كانت «الطريقة غير المنهجية» تلقى رواجاً عند تلك الأمم، فلم تعرف أوروبا فكرة المنهج بمعناه الاصطلاحي حتى القرن(17)، عندما ظهرت الرؤى والنظريات المنهجية على يد بيكون، وستيوارت مل، وديكارت، وصار معناه الطريق المبرهن على صدقه، وإيصاله إلى الكشف عن الحقائق، من خلال طائفة من الحقائق التي توجه سير العقل.

أما في العالم الإسلامي فإن المعرفة في بواكير عصورها ارتبطت بالمنهج، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، واستمر التطور، مثل: فكرة الإسناد، ونقد المتن الحديثي، كأمثلة على نظريات منهج النقل الروائي، من جيل إلى آخر. وفي خضم ذلك كان منهج الفقه (علم الأصول) هو مجموعة الضوابط التي حاولت ولا تزال تحاول رسم نقطة التوازن بين فقه النص وفقه الرأي والاجتهاد. وإذا أردنا أن نربط الابتكار المنهجي «عند أهل الحديث» فإننا نعتقد أن كثيراً من عناصر المنهج التاريخي قد عرفه منهج الوثاقة عند المحدِّثين، وكثيرٌ من عناصر الاستنباط قد عرفه منهج نقد المتن الذي يسعى لاكتشاف اتساق مضمون الحديث مع الأصول والمرجعيات الأساسية. ولعل أبرز ما يحتويه علم الأصول ثلاثة محاور:

أـ مرجعيات الفقه «مصادر الاستنباط».

ب ـ قواعد اكتشاف المعنى من النص «دلالات النص».

ج ـ الترجيح عند تعارض الأدلة والبينات «الموازنة والتقييم العلمي للبينات».

وفي المحور الأول يجمع العلماء على أن المعرفة الفقهية تنتزع من القرآن الكريم، ولاسيما «الآيات المعنية بالتشريع وقواعد السلوك». لذلك فإن التفسير المعصوم للقرآن هو غيره التفسير الإنساني للقرآن الكريم؛ لأن الإنسان محاط بالمحدَّدات (المكان/ الزمان/الوعي)، بحيث لايصنع لنا رؤية تفسيرية تعدّ جزءاً من الثوابت. والإصرار على التفسير بالثوابت لا يعني أن يفهم القرآن فهماً تاريخياً. ولعل الخطوة السابقة على هذا المدخل الانتهاء من أن النص القرآني الذي لا يأتيه الباطل أبداً يكثر من الأدلة ذات الصلة بالتوحيد والرسالية، وهذه أطر فلسفية ترتبط إلى حدٍّ ما بنظرية التكليف، فلابد من علائقية تنسق بين الحقائق القرآنية المطلقة والفهم النسبي لها.

والسنّة النبوية، من حيث كونها مصدر مجموعة جدليات فلسفيّة، أبرزها: هل السنّة مصدر رباني محض، أو بشري محض، أو بشري مسدَّد من الله؟ وهل هي عدل القرآن، بحيث تقوى على نسخ آية منه، أو تخصِّص، أو تقيد، أو تشرِّع ما لم يشرِّعه القرآن الكريم، أو تضع ما سكت عنه([8])؟ وهل هي فقط ما صدر عن النبي الأكرم‘ أو تتسع لما صدر عن الأئمة الاثنا عشر^، وربما وسعها آخرون إلى مطلق قول الصحابي ومذهبه([9]) ؟ كل تلك التحديدات ترجع إلى أسس عقائدية فلسفية.

إن كل اتجاه وكل مدخل لدليلية السنّة يحتاج إلى موقف فلسفي، سيؤثر في نوع المرجعية النصية للفقه وللأحكام الفرعية، ناهيك عن إشكالية وقف تدوين السنّة، واستئنافه بعد قرابة قرن، ومشكلة النقل بالمعنى، والوضع؛ لأسباب متعددة، منها: أسباب سياسية.

وكلاهما ـ أي القرآن والسنّة ـ إذا تجاوزنا موضوع الإسناد والصدور إلى قضايا الدلالة والمعنى فإننا نجد أن فهم النص فهماً عرفياً هو الذي عليه المدار، وهو لا يعدو أكثر من معرفة تفسيرية مرتبطة بظروفها. لذلك فالاجتهاد بوصفه حركه عقلية منظمة مرتبطة بالنص لابد أن تأخذ الزمن باعتبارها تستمد كينونتها من تعديلات الفهم التفسيري. لذلك فإن مشروعية الخلاف والاختلاف ـ بناء على تلك الأسس المعرفية ـ تبدو غير محتاجة إلى استدلال.

وحتى تصير مرجعية الإجماع ـ المصدر الثالث ـ للفقه التفصيلي مرجعية مبرهناً عليها، فهل هو توافق عقل النخبة المفكرة، المالكة للأدوات والمهارات العقلية وآليات الاستنباط، أو هي نخبة محددة بوصف ما، أو مجموعة مسماة من علماء عصر من العصور، مثل: «إجماع الشيخين»، أو الأربعة الراشدين، أو إجماع الصحابة، أو فقهاء التابعين، أو أهل المدينة… إلخ؟

وهل الإجماع هو اتفاق على إفتاء، أو على فهم محدد للنص، أو أنه عبارة عن عدم العلم بالخلاف كما يقولون؟

أقول: حتى تتقرر هذه المداخل، ولكي يستقر الإجماع أصلاً منتجاً للأحكام، لابد من فلسفة تقرر هذه الضوابط، التي على معاييرها يتم اختيار الأكثر دقة، والأكثر علمية، وليس على أساس إيديولوجي مبنائي.

ولعل حاجة القياس إلى فلسفة تجعله محل اعتبار كونه أصلاً منتجاً للأحكام أشد من غيره مما تقدم. وربما تشتد الحاجة إلى اعتبار المصالح، والأعراف، وآلية الاستحسان.

إن أصل الاستحسان في جزء كبير من تطبيقاته ينطوي على تفادي ما يتحقق من جراء تطبيق النص من تداعيات سلبية، لذا يعدل المجتهد من دليل جلي إلى دليل خفي. إن الاستحسان يعبر عن فقه قائم على ضرورة الاستثناء.

 

4ـ فرضية اليقين

إن خصيصة اليقين هي الخاصية الأبرز في ما يتبنى من المعرفة كحقائق. فما حصل فيه يقين فإنه يرتقي من حيز المعرفة إلى العلم. ولايتأتى اليقين إلا إذا قام على صحة البيانات (المعلومة) مجموعة من البراهين. واليقين، عند الفقهاء وكذلك عند فلاسفة علم المنهج، ذاتي وموضوعي. والذاتي عبارة عن شعور داخلي يطمئن بسببه الباحث إلى صحة النتائج البحثية، كما يطمئن الفقيه إلى صحة رواية أو سلامة فتوى، لكن يبقى هذا اليقين تجربة ذاتية وحجة قاصرة، وتلابسه الميول والأسبقيات والقبليات، لذلك نجده يختلف من فقيه إلى آخر، فغالباً ما تتحكم فيه ظروف وعوامل ذاتية([10]).

أما الموضوعي فهو ما يرتكز على الأدلة المنطقية أو الرياضية (العقلية) القاطعة والمقنعة، ورغم ذلك لا يزعم أحد أنه اليقين النهائي؛ لأن التخطئة أساس فلسفي.

يقول الغزالي: «ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن، بل الحكم يتبع الظن، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ماغلب على ظنه». وهذا قول المخطِّئة.

أما المصوِّبة فذهبوا إلى أن فيه حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب؛ إذ لابد للطلب من مطلوب. فإذا كلف المجتهد بإصابته يكون مخطئاً بغيره، وإذا لم يكلف كان مصيباً، وإن أخطأ.

إن الجدل في معقولية بعض الأحكام وعدم معقوليتها هو الآخر له جذر فلسفي، أو يراد أن يكون له جذر فلسفي. فإذا كان العلم هو الحقائق الميسرة لفهم الظواهر وأسبابها فلابد أن يكون فهمها وتعلقها أول الكلام، ولابد أن تعلل الكثير من الأحكام، وتعرف الحكمة من تشريعها، ولو على وجه الإجمال، بل لابد أن تعرف المآلات والمصالح والمضارّ.

ثمة قضية أخيرة في هذه المقاربة: هل الطبيعة غير التراكمية في الدراسات الفقهية تقلل من علمية الجهود الفقهية؟ ما يقال: إن التراكمية هي إحدى خصائص العلم. والمراد بالتراكمية تتابع الجهود والمكتشفات بالاستناد إلى ماقبلها، والترتُّب عليها. ونظرة في الجهد الفقهي تجد أن البناء لا يرتفع الى أعلى، بل يمتد أفقياً، ويصر المشتغلون في الحقل الفقهي على البقاء في الطوابق القديمة، حتى لو ظهرت طوابق جديدة.

إن الفقه كعلم ليس كالفلسفة أو الفن؛ لأنهما ليسا ذات طبيعة تراكمية. لذلك نحن لا نزال نتذوَّق الفن القديم. بيد أن على الفقهاء أن لا يدعوا الفقه يكف عن التطور، فلا يعاد البحث في ذات الظواهر.

والمطلوب أن ينمو الفقه ويتسع رأسياً وأفقياً في آن واحد. لعل هذه المدخلات تثير القلق المعرفي للبحث حول جزيئات أخرى، تدخل في مضمار فلسفة الفقه، وبتجميعها يمكن صياغة الإطار العام لهذا التخصص.

 

الهوامش

(*) أستاذ جامعي، وباحث في الفقه الإسلامي، وعميد كلية العلوم الإسلامية في كربلاء، له مؤلفات فكرية وفقهية متنوعة، من العراق.

([1]) محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي.

([2]) جدلية النص والعقل، فصل المقال لابن الرشد.

([3]) محمد شريف، تفسير النصوص الشرعية، رسالة ماجستير.

([4]) منهج البحث العلمي.

([5]) فؤاد زكريا، التفكير العلمي،منشورات ذات السلاسل.

([6]) قاموس أوكسفورد.

([7]) كارل بوبر.

([8]) محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان.

([9]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن.

([10]) فؤاد زكريا، التفكير العلمي.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً