أحدث المقالات

د. الشيخ عبد المنعم العبد الله([1])

خلاصة المقالة

عالم الخلق هو أكبر من أن يحيط به العقل البشري الصرف، ولأجل معرفة بعضاً من أسراره، لابد من الاستعانة بالوحي الصامت والناطق، ولمّا كان القرآن الناطق غائباً فإنه تتزيد حجب المعرفة علينا في كافة أبعادها، فلا يمكن القطع ومعرفة خواص العالم المادي، والمثالي، والمجرّد حقيقة وواقعاً، ولذا فمن الطبيعي أن تختلف الآراء والاتجاهات تجاه ماهية تلك العوالم، حتى أنها ـ أحياناً ـ لتصل إلى التباين فيما بينها.. فلكل وجهة هو موليها، آخذاً مبنًى به يستدل عليها..

ولقد ذهب الطباطبائي بعد تتبعه وتعمقه في الآيات والروايات المشيرة إلى طبيعة عالم الظهور، وعالم الرجعة، والقيامة، إلى أن تلك العوالم ذات حقيقة وسنخية واحدة؛ لأن الروايات في شأنها ـ مع اختلافها في تفاصل مضامينها ـ إنما تشير إلى أمر واحد مفاده: «أن حقيقة النوع البشري يسير إلى يوم تتجلى فيه العدالة، وتظهر فيه الحقائق، وتخلص فيه العبادة الحقّة لله تعالى، فاقتضت حكمته أن يرجع للدنيا بعضاً ممن مُحّض بالإيمان، وأخرى ممّن محّض بالكفر ليقتص للمظلوم من الظالم، ولقد عبَّر أهل البيت(عم) في رواياتهم عن هذه العوالم بيوم القيامة، وأخرى بأيام الله، فمن هذه الروايات قوله(ع): «من مات قامت قيامته يرى ما له من خير وشر»، وقوله أيضاً، «أيام الله ثلاثة: يوم الظهور، ويوم الكرة، ويوم القيامة».

وهذا يفيد ـ برأي الطباطبائي ـ أن يوم الظهور، ويوم الرجعة، ويوم القيامة تربطها علاقة السّنخية الواحدة، وإن كانت ذات مراتب متفاوتة، فالأول دون الثاني مرتبة، والثاني دون يوم البعث الأعظم؛ لأنه الأكمل منهما من جميع الجهات، فيه تظهر جميع الحقائق على الإطلاق، وتذوب فيه جميع المراتب، فينعم الناس بنعمة الخلود الأبدي، وبعدل الواجب المطلق جلَّ وعلا. .

والحقيقة إن الطباطبائي في نظريته يتوافق مع نظرية الشيخ الإحسائي من قبلِه القائلة: بأن يوم ظهور الإمام المهدي(عج) يكون في أرقى مراتب عالم الدنيا، وهو من سنخ يوم القيامة، كما أن عالم الأولى الوارد في الزيارة الجامعة قد فسّره بعالم الرجعة الذي له بُعدٌ لطيفيٌّ، برزخ بين الدنيا والآخرة، وقد صنّف الرجعة بأنها أعلى مرتبة من يوم الظهور، ودون عالم البرزخ كذلك.

ولعلّ الاعتقاد بأن الحياة الدنيا سائرة نحو التكامل المعنوي؛ لتنتهي بيوم ظهور الحجة، فيقام فيه العدل بأبهى صوره… لا يعني ذلك صيرورته من سنخية يوم القيامة بالضرورة، والقول بأن عالم الدنيا يمر بمراتب وفق مقياس الكثافة واللطافة التكوينية؛ ليتصل بيوم القيامة ذي البعد المجرد؛ لا يعني تحقق السنخية الواحدة فيما بين تلك العوالم؛ لأن مفهوم يوم القيامة ـ حسب الظهور القرآني ـ منصرف إلى عالم آخر في مقابل العالم الدنيوي الذي نعيشه؛ إنه عالم التجرد الروحي الذي مختلِف الماهية والأبعاد، ولذا كان التعبير القرآني بالتبديل الكلي يقول سبحانه: ﴿يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الوَحِدِ القَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48] ثم إن الغيرية تفيد التقابل في الذات والماهية؛ ليكون بدلاً منها حياة أخرى لا، ولم، ولن تخطر على قلب بشر كما أشارت إليه الروايات، فأين عالم تقيده مقولات الأعراض، من عالم لا تحيط به العقول فضلاً عن الحواس؟!

ثم إن الروايات التي تفصح عن أيام الله بأنها ثلاثة: يوم الظهور، ويوم الكرَّة، ويوم القيامة لا يفهم منها السنخية الواقعية بالضرورة، بل الظاهر يراد منها عظمة تلك الأيام عند الله تعالى، تتجلى فيها الحقائق، وينتشر فيها العدل والأخوة والسلام، وتكون العبادة لله وحده.

النقطة الأولى: التعريف بالعلامة الطباطبائي

من أبرز فلاسفة الشيعة وعرفائها، ومفكريها وفقهائها في القرن العشرين العلامة الطباطبائي الذي ولد في (29 ذو الحجة 1321 هـ 17 مارس 1904 م ـ وتوفي في17 محرم 1402 هـ / 15 نوفمبر 1981م) وهو من الشخصيات الشيعية الكبيرة التي تركت بصمات واضحة على الساحة العلمية والفكرية في العالم الإسلامي في العصر الراهن عامةً، وفي الجمهورية الإسلامية الإيرانية خاصةً.

ولقد خطّ قلمه الكثير من المصنفات القيمة، باللغتين العربية والفارسية، ويقع في مقدمتها موسوعته التفسيرية المعروفة بـ»الميزان في تفسير القرآن» فضلاً عن الكتب الفلسفية، كبداية الحكمة، ونهاية الحكمة، وكتابه المعروف بأصول الفلسفة، والمذهب الواقعي الذي تصدى الشهيد مطهري لشرحه والتعليق عليه.

تخرج من حلقة درسه كثير من الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان كالشهيد مطهري، والشيخ جوادي آملي، والشيخ مصباح اليزدي، والسيد بهشتي وغيرهم من التلاميذ الذين كان لهم الأثر الكبير في الساحة الفكرية والعلمية في العصر الراهن.

ولقد لعبت مناظراته مع الفيلسوف الفرنسي المتخصص بالمذهب الشيعي «هنري كاربن» دوراً مهماً في إيصال فكر أهل البيت(عم)، وصورة التشيع إلى المجتمع الأوروبي.

النقطة الثانية: إطلالة لغوية والاصطلاحية

1ـ الرجعة عند اللغويين: العود والتكرار، كما يراجع الرجل زوجته إذا طلقها([2]).

وأما في عرف المتشرعة من الشيعة فقد اصطلحوا عليها: بأنها الرجوع بعد الموت بعد ظهور الإمام المهدي(ع)([3]).

وقال الشريف المرتضى: «هي أن الله تعالى يحيي قوماً ممن توفي قبل ظهور القائم(ع) من مواليه وشيعته، ليفوز بمباشرة نصرته وطاعته وقتال أعدائه، ولا يفوتهم ثواب هذه المنزلة الجليلة التي لم يدركها، حتى لا يستبدل عليهم بهذه المنزلة غيرهم واستبعادهم»([4]).

ونسبها الصدوق إلى الشيعة الإمامية إلى أنّ الله تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممن كان تقدم موته من شيعته وقوماً من أعدائه([5]).

والروايات المصرحة والملوحة مستفيضة حتى عدت بالمئات، وقيل بتواترها([6]).

ولقد عدّها المفيد ضرورة مذهبية لابد من الاعتقاد بها لعدم الخلاف في ثبوتها لدى قدامى العلماء، فقال: «اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف»([7])، وجعلها خاصة فيمن مُحّض بالكفر والإيمان([8]).

ولعلّ المراد بـالاختلاف بالرجعة عند الإمامية الذي أشار إليه الشيخ المفيد، هو غير الاختلاف الذي نسبه الشيخ الصدوق للشيعة([9]) وذلك برجوع دولة الحق دون رجوع الأعيان والأشخاص، حيث قال: «وإنّ قوماً من الشيعة تأوّلوا الرجعة على معناها، رجوع الدولة، والأمر والنهي، من دون رجوع الأشخاص، وإحياء الأموات»([10]).

2ـ يوم القيامة: وهو النشأة الثانية بعد الموت حين يبعث الناس للحساب لرب العالمين، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية خالدة، ومن خفت موازينه فأمه هاوية في نار حامية، ولذا سمي بيوم القيامة الكبرى([11]).

وأما يوم القيامة الصغرى: فهي عبارة عن تعلق الأرواح التي انقطعت علاقتها عن الأبدان العنصرية بالقوالب المثالية في عالم متوسط بين العالمَين (الدنيا والآخرة) المعبّر عنه بعالم البرزخ والمثال، كما ورد عن أهل البيت عليهم السلام: «من مات فقد قامت قيامته»([12]).

ولقد عبّر عن القيامة الصغرى بمعان:

1ـ أُطلقت على يوم ظهور الحجة الإمام محمد بن الحسن، الثاني عشر من خلفاء خاتم الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين([13]).

2ـ يراد منها عالم البرزخ([14]).

3ـ أنها يوم الحساب، لما يكون بعد الموت من ثواب وعقاب([15]).

4ـ أنها النفس اللوامة، لما تقوم به من محاسبة النفس الخاطئة([16]).

5ـ يراد منها الرجعة([17]).

6ـ الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها، والامتناع عن مقتضيات النفس ولذاتها، وعدم اتباع الهوى موتاً، لذلك ينكشف للسالك ما ينكشف للميت، وهو معنى قول النبي (ص): (موتوا قبل أن تموتوا) وجعل بعضهم الموت الإرادي مسمىً بالقيامة الوسطى؛ لأنه يقع بين القيامة الصغرى والكبرى([18]).

النقطة الثالثة: مراتب يوم القيامة عند العلامة الطباطبائي

يمكن تصنيفها لأربعة مراحل، كما يلي:

المرتبة الأولى: مرحلة يوم البعث

المعروف لدى المسلمين كافة، والذي لا خلاف فيه أن الإنسان بعد ولادته؛ لابد أن يقطع محطات عدة لينتهي إلى محطة الآخرة، وذلك عبر المرور بالحياة الدنيا، وهي المسمّاة بالعاجلة بقرينة مقابلتها بالآخرة، كما في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَل تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الأخِرَةَ﴾ (القيامة: 20 ـ 21). ومما لا خلاف فيه أنه لابد من المرور بعالم البرزخ كمقدمة للبعث في يوم القيامة للحساب، وهو المصطلح عليه عند العلماء بالقيامة الكبرى في مقابل الصغرى، ولقد أكد القرآن على ذلك اليوم مراراً، وعظّم قدره في مختلف سور القرآن، كيف لا وهو الغيب الذي كان محور تشكيك المنكرين المعاندين؛ حتى أن الله جعل سورة باسم القيامة مطلعها قسم بيوم القيامة، وجعل ذلك اليوم ساعة قليلة في مفهومها الزمني عظيمة في بعدها الجلالي في نفس الأمر، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيم * يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعَةٍ عَمَّا أَرضَعَت﴾ [الحج: 1 ـ 2].

فالساعة لا تأتي إلا بغتة يقول تعالى: ﴿قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتهُمُ السَّاعَةُ بَغتَةً قَالُواْ يَحَسرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطنَا فِيهَا وَهُم يَحمِلُونَ أَوزَارَهُم عَلَى ظُهُورِهِم أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [الأنعام: 31]؛ لأنها ساعة العذاب والحساب، فيها تزلزل الأرض بالناس وتنكشف فيها السرائر، فويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين، تظهر فيه جميع الحقائق المخفية، ويقام في عدل الله الحقيقي، يقول تعالى: ﴿وَوُضِعَ الكِتَبُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلَا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: 49] وكما قال أيضاً: ﴿فَاليَومَ لَا تُظلَمُ نَفس شَي‍ئاً وَلَا تُجزَونَ إِلَّا مَا كُنتُم تَعمَلُونَ﴾ [يس: 54]. هي وعْد من الله للأحياء بإخراجهم من أجداثهم بعد الموت، والله لا يخلف الميعاد، يقول تعالى: ﴿قَالُواْ يَوَيلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحمَنُ وَصَدَقَ المُرسَلُونَ * إِن كَانَت إِلَّا صَيحَة وَحِدَة فَإِذَا هُم جَمِيع لَّدَينَا مُحضَرُونَ﴾ [يس: 52 ـ 53]. ويقول تعالى: ﴿تَاللَّهِ لَقَد أَرسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَنُ أَعمَلَهُم فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَومَ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيم﴾ [النحل: 63] فالآية تخبر عن وجود أمم من البشر قبل النبي(ص) وهم الآن أموات في عالم البرزخ، سيقومون ليوم الولاية للحساب، فهناك تكون الولاية لله، كما قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ الوَلَيَةُ لِلَّهِ الحَقِّ هُوَ خَير ثَوَاباً وَخَيرٌ عُقباً﴾ [الكهف: 44].

  ويرى الطباطبائي أن المتتبع لتفسير أهل البيت (عم)لكثير من آيات القرآن الكريم يدرك أنهم يوسعون دائرة مفهوم يوم القيامة؛ ليشمل محطة الموت، وظهور القائم، والرجعة؛ لما لتلك العوالم من وحدة في السنخية، فلا تغاير بينها من حيث حقيقتها وجوهرها([19])، وإنما التغاير المنظور من جهة مراتبها.

 وبناء عليه يكون مفهوم القيامة في نظر القرآن وأهل البيت(عم) مفهوماً أوسع مما اعتمده المفسرون والعلماء، حيث يقول: « فإذا تصفحت وجدت شيئاً كثيراً من الآيات ورد تفسيرها عن أئمة أهل البيت تارة بالقيامة، وأخرى بالرجعة، وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني»([20]).

وإن شئت فقل: إن لفظ يوم القيامة مفهوم مشترك بين مصاديق متعددة، متغاير في مراتبه، وإن كان حقيقته ذا سنخية تشكيكية.

 ولقد أوضح الطبطبائي ذلك بقوله: «وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم (عم) بعض الآيات بالقيامة تارة، وبالرجعة أخرى، وبالظهور ثالثة»([21]).

ويُعتبر يوم البعث والقيامة ـ من دون ريب ـ من أكمل هذه الأيام لانتفاء جميع الحجب فيه، يقول تعالى:. ﴿لَّقَد كُنتَ فِي غَفلَةٍ مِّن هَذَا فَكَشَفنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَومَ حَدِيد﴾ [ق: 22]

 والذي يتحصل من كلامه تعالى من أوصاف يوم القيامة ونعوته؛ أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب، ولا شاغل من الشواغل عنه سبحانه، فتفنى فيه جميع الأوهام، وتظهر فيه آياته كمال الظهور، وهذا يوم لا يبطل وجوده، بل تحققه تحقق هذه النشأة الجسمانية ووجودها.

 ولا خلاف حسب ظاهر الكتاب والسنة أن النوع البشري، أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجه سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم كما يقول تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَتِ وَمَن فِي الأَرضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرَى فَإِذَا هُم قِيَام يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]. ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا، ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضاً([22]).

ولعل السبب في اختلاف الأعلام في فهم حقيقة يوم القيامة ـ في نظر الطباطبائي ـ أنهم لم يبحثوا بعمق عن حقيقة ذلك اليوم، ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم.

  تعليقٌ

1ـ ولعلّ الاعتقاد بأن الحياة الدنيا سائرة نحو التكامل المعنوي؛ لتنتهي بيوم ظهور الحجة، فيقام فيه العدل بأبهى صوره… لا يعني ذلك صيرورته من سنخية يوم القيامة بالضرورة، والقول بأن عالم الدنيا يمر بمراتب وفق مقياس الكثافة واللطافة التكوينية؛ ليتصل بيوم القيامة ذي البعد المجرد؛ لا يعني تحقق السنخية الواحدة فيما بين تلك العوالم؛ لأن مفهوم يوم القيامة ـ حسب الظهور القرآني ـ منصرف إلى عالم في مقابل العالم المادي الذي نعيشه؛ ألا وهو عالم التجرد المختلِف الماهية والأبعاد، ولذا عبّر القرآن الكريم بقوله: ، فالغيرية تفيد التقابل في الذات والماهية؛ ليكون بدلاً منها حياة أخرى لا، ولم، ولن تخطر على قلب بشر كما أشارت إليه كثير من الروايات فمن تلك الروايات رواية بلال ـ الحبشي في فضائل المؤذن ، عن رسول الله أنه قال: «.. فحقيق على الله أن يجمع بينكم وبين نبيكم فينتهي بهم إلى منازلهم وفيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»([23]) ، فأين عالم تقيده مقولات الأعراض، من عالم لا تحيط به العقول فضلاً عن الحواس؟

إنّ يوم القيامة مصطلح أريد به عالم يختلف في خصوصياته عن العالم الدنيوي ، فيه تبدل الأرض غير الأرض، فهي آيلة إلى الفناء بكل ما فيها من إنسانها، وحيوانها، وجبالها، ومائها، وسمائها، وأجرامها..؛ ليكون بدلاً منها حياة أخرى لم تخطر على قلب بشر، فكيف يقارن عالَمُ خارج الزمان بعالَم مكبَّل بمقولات الكيف، والأين، والمتى..؟

ما ذكر في الروايات من أنّ أيام الله ثلاثة: «يوم الظهور، ويوم الكرّة، ويوم القيامة» لعلّه لا يفهم منها السّنخية الواقعية؛ لأن عالم الدنيا مادّي، وعالم البرزخ مثالي، وعالم الآخرة مجرد، ولعلَّ المراد من هذه الروايات عظمة تلك الأيام عند الله وجلالتها، حيث يقام فيها العدل الذي طالما انتظره المستضعفون، وإنْ كان يوم القيامة أرقى وأكمل منهما حيث الخلود، بلا همٍّ ولا تعب ولا نصَب.. بل سعادة أبدية.

المرتبة الثانية: مرحلة الموت

تعتبر محطة الموت هي المكان الذي سيُقبِل عليها الإنسان لا محالة، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ ثُمَّ إِلَينَا تُرجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 57]، وقد سماها العلماء بالقيامة الصغرى في مقابل القيامة الكبرى([24])، وليس ذلك إلا لما يُقام فيها من الحق، وتنكشف فيها الحقائق، وترفع الحُجب، كما صرحت به كثير من الروايات عند الفرقين، ولقد فسّر الطباطبائي كلام علي(ع): «من مات قامت قيامته يرى ما له من خير وشر»([25]). يعني أن حالة البرزخ تشترك مع عالم الآخرة في المعرفة والمكاشفة للحقائق الواقعية، لكنها لا تكون بنفس مستوى القيامة الكبرى. ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن توهم الميت([26]).

ولقد أشار الزمخشري إلى هذه الحقيقة حيث بين أنه مازال التكذيب لدى الكفار بلقاء الله إلى حين حسرتهم يوم القيامة، وقد أجاب عن سؤال مقدر، فقال: فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لمّا كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جُعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذلك قال رسول الله (ص): «من مات فقد قامت قيامته»([27]).

المرتبة الثالثة: مرحلة الرجعة أو الكرّة     

اختلف المسلمون في ثبوت الرجعة حيث أنكرها أهل السنة، واعتبروها من مختصات الشيعة مع أن الله يقول: ﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَواْ مِن قَبلِكُمْ…﴾ [البقرة: 214] فهي تشير إلى أن الأمة الإسلامية سيجري عليها ما جرى على غيرها من الأمم السابقة؛ كإحياء الأموات كما قصّه القرآن من قصة إبراهيم، وموسى، وعيسى، وعزير(عم)، وقد قال رسول الله (ص) فيما رواه الفريقان: «والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني إسرائيل السابقة»([28]).

 وربما لحق بهم في هذا العصر بعض الشيعة، وعدّ ذلك من الدّس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالإسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه. وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي، فقال ما حاصله: «إن الموت بحسب العناية لا يطرأ على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال، فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل، وهذا محال إلا أن يخبر به مخبر صادق، وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه، كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم (عم)وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شيء، وما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم أخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة»([29]).

ولقد ردّ الطباطبائي على هذه المزعومة بمناقشتين:

أـ من جهة الدليل العقلي، وذلك ببيانين:

الأوّل: أنه عند التدقيق في كلامه نرى أنه ناقض نفسه فلم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلاً عقلياً؛ لأبطل صدره ذيله، فما كان محالاً ذاتياً لم يقبل استثناء([30])، ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكناً، وأن المخبر بوقوع المُحال لا يكون صادقاً، ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطراراً تأويل كلامه إلى ما يكون ممكناً، كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الإثنين، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب؛ لأنه تناقض ممتنع والشارع يُجَل عنه([31]).

إذاً، الرجوع من عالم البرزخ إلى عالم الدنيا ليس ممتنعاً ذاتاً، بل أمر يعجز عنه المخلوق عادة فحسبوه من المحال العقلي، وأما الخالق فلا يعجزه شيء من ذلك، بل إنه قد وقع وأخبر عنه القرآن كما ذكرنا.

الثاني: إن ما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل، إلى القوة ثانياً، هو حق، ولكن لابد من التفريق بين الموت الاختياري والموت الاخترامي، فإنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجاً تاماً.

وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض، فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذوراً، فإن من الجائز أن يستعدَّ الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى، فيموت ثم يحيا لحيازة الكمال المعدِّ له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ، فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين كالرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال.

ولكنْ ينبغي التنويه إلى أن السيد الطباطبائي لا يقصد عود ما خرج من القوة إلى الفعل، إلى القوة ثانياً المحال العقلي؛ لأنه صرح بعدم تمامه آنفاً، وإنما قصد المحال الوقوعي، حيث ورد النص على عدم حصوله، وإن كان بذاته ممكناً، يقول تعالى ﴿وَهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمَل صَلِحًا غَيرَ الَّذِي كُنَّا نَعمَلُ أَوَ لَم نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر: 37].

ثم إن المحال المذكور يختص بعالم الآخرة، حيث لا عود للدنيا، وما نحن فيه فهو في عالم البرزخ بعد الموت، وقد ثبت بالأدلة القرآنية والروائية عدم امتناعه، بل هو مما وقع بالفعل منها قصة عزير، يقول تعالى: ﴿أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَريَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحيي هَذِهِ اللَّهُ بَعدَ مَوتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُۥ قَالَ كَم لَبِثتَ قَالَ لَبِثتُ يَومًا أَو بَعضَ يَومٖ قَالَ بَل لَّبِثتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُر إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَم يَتَسَنَّه وَانظُر إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجعَلَكَ آيَة لِّلنَّاسِ وَانظُر إِلَى العِظَامِ كَيفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكسُوهَا لَحما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير﴾ [البقرة: 259]. ومنها قصة إبراهيم(ع): ﴿وَإِذ قَالَ إِبرَاهِ‍يمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحيِ المَوتَى قَالَ أَوَ لَم تُؤمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطمَئِنَّ قَلبِي قَالَ فَخُذ أَربَعَة مِّنَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجعَل عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنهُنَّ جُزءا ثُمَّ ادعُهُنَّ يَأتِينَكَ سَعيا وَاعلَم أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾ [البقرة: 260]

ب ـ من جهة الدليل النقلي، وذلك:

أوّلاً: أن الروايات متواترة معنًى عن أئمة أهل البيت(عم)، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد. وقد عدها المخالفون من مختصات الشيعة وأئمتهم من الصدر الأول، فما ناقشه في كل واحدة من الروايات المتواترة لا يبطلها بقبول آحاد الروايات الخادشة لبعضها، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد([32]).

ثانياً: الروايات المثبتة للرجعة، وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد، وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يُعصى فيه سبحانه وتعالى؛ بل يُعبد عبادة خالصة، لا يشوبها هوى النفس، ولا يعتريه إغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا، ويفصل الحق من الباطل([33]).

المرتبة الرابعة: مرحلة عصر الظهور

يعتبر الطباطبائي يوم الظهور من أيام الله العظيمة الاستثنائية، والبشرية متجهة إليه لا محالة، ينكشف الحق فيه، ويقام العدل، ويرفع الظلم والفساد([34])، بل يميل إلى أنه في الحقيقة مرتبة من مراتب يوم القيامة لما يشترك معه بالسنخية.

ولقد تحدث عن علة ارتباط يوم ظهور الإمام المهدي(ع) بيوم القيامة لما لظهور الحق فيه تمام الظهور، حيث اعتبره أئمة أهل البيت (عم)من أيام الله: «أيام الله ثلاثة يوم الظهور، ويوم الكرة، ويوم القيامة»([35]).

ولعلّ المتعمّق في كلامه يظهر له أن لعالم الدنيا مراتب أرقاها يوم الظهور، فللعالم الجسماني مراتب مشككة، تبدأ من مرحلة الأكثف، ثم الكثيف، ثم اللطيف، فالألطف، فالرَّمل أكثف من الزجاج، والهواء والكهرباء، ألطف منهما، فعصر الظهور هو حالة من ترقٍ في العالم المادي؛ ليصل إلى مرحلة اللطافة، حيث يتأهل أهل الدنيا في سير تدريجي تكاملي ليتصلوا بتلك الرتبة، التي ترتفع فيها الحجب، ويقام فيها العدل في الجملة. وبذلك ألحقه الطباطبائي بيوم الرجعة، وصرّح أنه دونه بالمرتبة([36])، أما يوم الرجعة، فهو عالم المثال، لا هو مادي محض، ولا مجرد محض، حيث يمكن العود منه للمادة في الدنيا، بل هو كائن لا محالة لتواتر أخباره من جهة، ووقوعه في الأمم السابقة من جهة أخرى. وأما يوم القيامة فهو الأرقى؛ لأنه عالم المجردات التي من خصائصها لا رجعة منه للدنيا البتة.

إنّ ما ذهب إليه الطباطبائي من اعتبار يوم الظهور مرتبة من مراتب يوم القيامة؛ كان محلاً لتعليق السيد كمال الحيدري حيث جعل كلامه هذا يتلاءم مع نظرية الشيخ الإحسائي حيث يعتقد يوم الظهور خارج عن العوالم الثلاثة، الدنيا، والبرزخ، والآخرة، بل هو في عالم الأولى([37])، وهو عالم لطيف تتجه إليه البشرية في هذه الدنيا لتَلحق بالإمام بعد أن سبقهم إليه. فلا ظهور للإمام في الدنيا كما عليه مشهور العلماء، ولا انتظار له بل هم ينتظر قدومنا عليه([38]).

ولعل ما تبادر للسيد الحيدري من بعض كلمات العلَمين لا يقصدونه بكلامهما، وإنْ كان الحكم باتحاد النظريتين عند الإحسائي والطباطبائي في محله؛ لأن الثاني يعتقد بأن البشرية تسير إلى يوم كمالها في عالم الدنيا حتى يظهر المهدي المنتظر(عج) بعد غيبته فيها([39]). وأن يوم الظهور، ويوم الرجعة، ويوم القيامة، تتصف بحقيقتها بسنخية واحدة، وإن كان يوم الظهور دون مرتبة يوم الرجعة، وهما دون مرتبة يوم القيامة([40])، وكذا يرى الشيخ الإحسائي، وقد أوضح حيدر الحرز نظرية الشيخ الإحسائي بأن الإمام إنما يعيش في هذه الدنيا، إلا أن زمانه له خصوصية اللطافة، وأن ظهور الإمام يحتاج إلى ترقية للعالم وللأفراد، وهذا الذي يحصل في السنن الكونية، حيث أن الناس يسيرون نحو الكمال والترقي، وبما أن الإمام(ع) سلطان الدنيا والآخرة فيستطيع أن يرقي أي جزء من أجزاء هذا العالم كيفما شاء ومتى شاء، وبالتالي فرؤية الإمام غير ممتنعة تكويناً، وإن كان فيها خلاف فقهاً([41]).

وكذا يؤمن بأن الرجعة أعلى درجة من يوم ظهور القائم، وإن كانا من نوع واحد([42]).

 فيوم الظهور يكون في عالم «الأولى» الذي هو أرقى من مرتبة الدنيا الكثيفة وأقل مرتبة من الرجعة؛ لما تتجلى فيها الحقائق بشكل أكمل منه، يقول الشيخ الأحسائي: «والذي أفهم من مضمون الروايات، أن الرجعة أعلى درجة من يوم قيام القائم، وأما قولكم هل أحكام الرجعة من الدنيا أم من الآخرة، فالذي يظهر لي أنها من الأولى لا الدنيا، ولا الآخرة المشار إليها في الزيارة الجامعة في قوله: «وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى» وأن المراد بالأولى هي الرجعة، ويحتمل أنها عالم الذر، ولكن الظاهر الأول، فهي برزخ بين الدنيا والآخرة وهي بحكم جنة آدم(ع)، ومساوية لرتبة هورقليا…»([43]).

ولقد دافع حيدر الحرز عن رأي الشيخ الإحسائي بتوجيه كلامه، بأن يوم الظهور يقع في عالم الدنيا؛ مستدلاً بالقرائن التالية:

1ـ إنّ فرار الإمام المهدي (عج) من الدنيا لا يعني أنه مات وانقطعت صلته بها فكما نقول: إن فلان من الناس مات، وانتقل إلى الآخرة، بل هو(ع) الحاكم والحجة من الله على الدنيا والآخرة، فوجود المعصوم في مكان، لا يعني أنه غير حجة على مكان آخر؛ لأنه هو الحجة على جميع العوالم.

2ـ كون الإمام في (الأولى) لا يعني أنه في عالم آخر غير هذا العالم، بل هو في نفس هذا العالم لقوله في مورد آخر:» بأن الإمام في هذا العالم الذي نحن فيه، ويمشي في الأرض؛ ولكن لا يُعرف»([44])، إلا أن مكانه له خصوصيات ومزايا تختلف عن خصائص أمكنتنا، حيث إن مكانه لطيف في غاية اللطافة، وبالإمكان تصور هذا المعنى بالمقارنة بين البلدان الصحراوية وبين البلدان المعتدلة ذات الخضرة والهواء المعتدل، وهذا لا يعني أن الإمام غير محسوس، يقول أعلى الله مقامه في جوامع الكلم: (…أن أيام الرجعة من درجات البرزخ وهورقليا، وإن كانت في الدنيا؛ لأن اللطافة والكثافة في الزمان والمكان إنما هما بلطافة الأجسام وكثافتها)([45]).

3ـ لاحظ قوله: «في الدنيا» (نص لا يحتاج إلى تأويل).

 4ـ إن قوله: و(هورقليا) إنما يُقصد به معنيين، الأول: عالم المثال، وهو بعيد عن محل البحث، والثاني: هو عالم الملك المحسوس (الدنيا) إلا أنه لطيف. ومما يدل على أن الشيخ لا يقصد المعنى الأول منها، أي عالم المثال، قوله: «…وأما قولكم في عالم المثال، فاعلم أن عالم المثال صور الأشياء…، والإمام(ع) لا يرجع صورة؛ بل يرجع هو وكل من يرجع معه، ومع آبائه في أجسامهم هذه التي ظهرت في الدنيا»([46])([47]).

ويظهر من كلام الشيخ الإحسائي ـ بحسب رأي حيدر الحرز ـ أن الإمام لنورانيته فرَّ من الدنيا إلى مرتبة دنيوية أرقى من سابقتها من حيث اللطافة والكثافة، فالإمام مازال في الدنيا وهو الحجة عليها، ونحن نسير نحوه تكويناً، وسيظهر علينا بجسمه ومن معه كما كان في الدنيا، لا بصورته البرزخية، لكن مع تلك النورانية الخاصة به فيرى ما لا نرى ويسمع ما لا نسمع([48]).

وعند التدقيق في كلمات الطباطبائي نرى أيضاً أنه سمى الحياة الدنيا بالأولى، وأن الرجعة زمن الإمام المهدي(عج) كرّة للدنيا الذي هو فيها يعيش، وقد صرح بذلك في البحث نفسه لمّا ردّ على منكري الرجعة زمن ظهور الإمام المهدي(عج) حيث قال: «وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض، فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذوراً، فإن من الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني»([49]).

 

الخاتمة

  محاولة.. للإضاءة على طبيعة وماهية يوم القيامة عند السيد الطباطبائي من خلال تدبره في فهم روايات أهل البيت (عم) وآي القرآن الكريم، ومد انسجامه مع رأي مشهور العلماء؟ ثم ما هي الإيرادات المتصورة على ما ذهب إليه. وعليه نستعرض أهم نتائج البحث:

1ـ إن سرّ عالم الخلق هو أكبر من أن يحيط به العقل البشري الصَّرف؛ فلابد من الاستعانة المثلى في معرفة مبادئ فهم الوحي الصامت والناطق؛ لأجل إدراك مقاصدهما، وعلى الخصوص كشف أسرار خواص العالم المادي؛ والمثالي؛ والمجرد.

2ـ ذهب الطباطبائي بعد تتبعه وتعمقه في الآيات والروايات المشيرة لعالم الظهور، أن سنة الله فيه تكويناً تسير عن سير تدريجي تكاملي ليوم تتجلى فيه العدالة، وتظهر فيه الحقائق، فيرجع للدنيا بعض من محِّض بالإيمان والكفر؛ ليقتص الله للمظلوم من الظالم، وليعبد الله فيه حق العبادة.

3ـ يعتبر الطباطبائي أن يوم الظهور، ويوم الرجعة؛ من مراتب يوم القيامة ـ بحسب تتبعه لروايات أهل البيت(عم) ـ فقد عبرت كلمات المعصومين (عم) عنها بأيام الله محددة بثلاثة لا غير: «يوم الظهور، ويوم الكرة، ويوم القيامة»، فحقيقة ماهيتها أنها ذات سنخية واحدة إلا أنها متعددة الأبعاد، فالأول دون الثاني مرتبة، والثاني دون يوم القيامة؛ لأنه الأكمل منهما من جميع الجهات الكمّية والكيقيّة والأيْنية.. .

4ـ إنّ نظرية الطباطبائي القاضية: «بأن يوم القيامة، ويوم الرجعة، ويوم الظهور، حقيقة واحدة متحدة السنخية»، لهي ـ واقعاً ـ تتوافق مع نظرية الشيخ الإحسائي ـ القائلة: «بأن عصر ظهور الإمام المهدي(عج) يكون في عالم لطيف، أرقى من عالم الدنيا، وقد سماه بعالَم الأولى وذلك بحسب ما يراه في فهم للروايات في البَين.

5ـ وربما يُقال: الاعتقاد بأن الحياة الدنيا تسير تكويناً نحو التكامل؛ لتصل ليوم يُقام فيه العدل بأبهى صوره، ويعبد الله في حق العبادة..، لا يلزم منه صيرورته من سنخ يوم القيامة فعلاً وواقعاً؛ لأن مفهوم يوم القيامة منصرف إلى عالم في مقابل العالم المادي الذي نعيشه؛ ألا وهو عالم التجرد المختلِف عنه في السنخية والأبعاد، ولذا عبّر القرآن الكريم بقوله: ﴿يَومَ تُبَدَّلُ الأَرضُ غَيرَ الأَرضِ وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الوَحِدِ القَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]، فالغيرية تفيد التقابل في الذات والماهية؛ ليكون بدلاً منها حياة أخرى لا، ولم، ولن تخطر على قلب بشر كما أشارت إليه الروايات، فأين عالم مكبل بمقولات الأعراض، من عالم لا تحيط به العقول فضلاً عن الحواس؟

6ـ إن الروايات التي تفصح عن أيام الله بأنها ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرة، ويوم القيامة، لا يفهم منها علاقة السنخيّة الواقعية بالضرورة، بل الظاهر أنها تعبير عن عظمة تلك الأيام عند الله تعالى؛ لما يتسع فيها فعلية العدل واقعاً، وتجسد العبادة المخلصة فيه لله وحده.

([1]) أستاذ الدراسات العليا في جامعة المصطفى(ص) العالمية في دمشق.

([2]) ابن فارِس، أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا، معجم مقاييس اللغة 2: 420، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، اتحاد الكتاب العرب، سنة 1423 هـ ،2002م.

([3]) الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين 4: 334.

([4]) الشريف المرتضى، رسائل الشريف المرتضى 1: 303، تحقيق: أحمد الحسيني، دار القرآن الكريم ـ قم، سنة ، 1405م.

([5]) القمي، علي بن بابويه، أعيان الشيعة 1: 132.

([6]) الطباطبائي، محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 107، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([7]) المفيد، محمد بن النعمان، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 45، تحقيق: ابراهيم الأنصاري الزنجاني، مركز الأبحاث العقائدية.

([8]) المفيد، محمد بن النعمان، تصحيح الاعتقاد: 90، مركز الأبحاث العقائدية.

([9]) لعله المراد غير الإمامية من الشيعة؛ لأنه إماميّ، والإمامية ليست على أقوام.

([10]) القمي، علي بن بابويه، الاعتقادات: 76، تحقيق: عصام عبد السيد، مركز الأبحاث العقائدية.

([11]) البحراني، ميثم بن علي، شرح نهج البلاغة 1: 158، ط1، مركز النشر مكتب الاعلام الاسلامي ـ الحوزة العلمية، قم ـ ايران، سنة 1362 ش.

([12]) الأشتياني، أحمد، لوامع الحقائق في أصول العقائد 2: 1.

([13]) اللوساني، حسن الحسيني، نور الأفهام في علم الكلام 2: 149.

([14]) الخميني، مصطفى، ثلاث رسائل، العوائد والفوائد، تحقيق ونشر، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط1، سنة 1418هـ.

([15]) القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن 11: 266، دار احياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، سنة 1405ه‍ ـ 1985م.

([16]) الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 19: 206.

([17]) الحر العاملي، محمد بن الحسن، إيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة: 239، تحقيق: مشتاق المظفر، ط1، الناشر: دليل ما، قم، سنة 1422هـ.

([18]) قيصري رومي، محمد داوود، شرح فصوص الحكم، ط1، الناشر: شركة انتشارات علمي وفرهنكي سنة 1375هـ.ش.

([19]) ربما يكون الجامع فيما بينها أنه يعايِن الحساب والثواب ولعقاب في جميع تلك المراحل، والرواية التي تحكي حالة الموت ظاهرة في ذلك أعني ما ورد عن أمير المؤمنين علي(ع): «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، يرى ما له من خير وشر»، وكذا في بعض الروايات: «القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران» وقوله: «من مات منكم فقد قامت قيامته» ولذا ذهب الفقهاء إلى استنباط وقوع العذاب والثواب في القبر. انظر: محمد بن علي، ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية 1: 145، تحقيق: مجتبى العراقي، ط1، الناشر، مطبعة سيد الشهداء بقم، سنة 1403هـ ـ 1983م.

([20]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 106، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([21]) المصدر السابق ‏2: 110.

([22]) المصدر السابق ‏2: 209.

([23]) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، منتهى المطلب 4: ؟؟؟، تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية، ط1،الناشر، مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضوية المقدسة، سنة الطبع 1415هـ.

([24]) العيني، بدر الدين، عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري 23: 96، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([25]) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة 4: 2954، ت، دار الحديث، ط1، دار الحديث، سنة 1416هــ.

([26]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 109، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([27]) الزمخشري، محمود، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل 2: 15، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، سنة الطبع 1385هـ ـ 1966م.

([28]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 108، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([29]) الطبسي، نجم الدين، الرجعة في أحاديث الفريقين: 22.

([30]) يشير إلى ما استثناه «الشيخ الطبسي» من إخبار الصادق المعصوم (ع) بثبوت الرجعة.

([31]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 108، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([32]) المصدر السابق ‏2: 107.

([33]) المصدر السابق ‏2: 110.

([34]) وذكر محمود الألوسي في تفسير قوله تعالى: ﴿فقال الضعفاء للذين استكبروا… ﴾ [إبراهيم: 21]، أن ذلك المقالة بزمن وجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء (روح المعاني 13: 231).

([35]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 109، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([36]) المصدر السابق ‏2:  109.

([37]) يستدل على ذلك لما ورد في الزيارة الجامعة قوله(ع): «وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى» وهو مدفوع بما يلي:

1ـ وردت الزيارة في بعض المصادر بدون «أهل الدنيا» راجع: علي بن محمد الحسيني الصدر، كتاب في رحاب الزيارة الجامعة 4: 1، طبعة جماعة المدرسين، قم 1423هـ.

2ـ ثم إنه على فرض ثبوتها فقد فسرها العلماء بأن المراد منها عالم الذر بقرينة قوله : ﴿وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُواْ بَلَى شَهِدنَا أَن تَقُولُواْ يَومَ القِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَفِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]. وهو وجيه، لأنه بدلالة الروايات المفسرة للآية منها: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ : ﴿وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُواْ بَلَى شَهِدنَا…﴾ [الأعراف: 172]، قُلْتُ مُعَايَنَةً كَانَ هَذَا، قَالَ نَعَمْ،‏ فَثَبَتَتِ الْمَعْرِفَةُ، وَنَسُوا الْمَوْقِفَ، وَسَيَذْكُرُونَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ خَالِقُهُ وَرَازِقُهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ فِي الذَّرِّ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَلَقَد أَهلَكنَا القُرُونَ مِن قَبلِكُم لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤمِنُواْ كَذَلِكَ نَجزِي القَومَ المُجرِمِينَ﴾ [يونس: 13]. راجع: علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي: 248.

3ـ أنها تأكيد لأهل الدنيا باعتبار أن (الأولى) في القرآن يراد منها الحياة الدنيا كما في قوله تعالى: ﴿وللآخرةُ خيرٌ لك من الأُولى﴾. راجع: علي بن محمد الحسيني الصدر، كتاب في رحاب الزيارة الجامعة 4: 1، طبعة جماعة المدرسين، قم 1423هـ.

4ـ هذه النظرية خلاف معتقد مشهور العلماء التي تقول: إن الإمام سيظهر بجسمه الكثيف بعد أن توارى عن الأنظار حتى يأذن له الله بالخروج؛ ليقوم بتكليفه في الأرض في إظهار الحق والعدل.

([38]) راجع مقطع في «نظرية الشيخ الإحسائي والعلامة الطباطبائي في زمن ظهور الإمام الحجة»، للسيد كمال الحيدري على اليوتيوب.

([39]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 110، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

([40]) المصدر السابق 2: 106.

([41]) الحرز، حيدر، مقال للرد على للسيد كمال الحيدري:

https://www.facebook.com/hayder.r.h/posts/66475455692164

([42]) الأحسائي، أحمد بن زين الدين، جوامع الكلم 8: 658، مطبعة الغدير البصرة، سنة 1430هـ.

([43]) المصدر السابق 8: 658 ـ 659.

([44]) المصدر السابق 5: 330.

([45]) المصدر السابق 8: 659.

([46]) المصدر السابق 8: 422.

([47]) حيدر الحرز، مقال للرد على للسيد كمال الحيدري:

https://www.facebook.com/hayder.r.h/posts/66475455692164

([48]) الأحسائي، أحمد بن زين الدين، جوامع الكلم 8: 422، مطبعة الغدير البصرة، سنة 1430هـ.

([49]) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 2: 107، ط6، مؤسسة النشر الإسلامي بقم، 1421هـ.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً