أحدث المقالات

ترجمة: محمد حسن زراقط

 

مقدمة ـــــــ

خَبُر كلّ منّا الشك، وخامرت درجات منه وأنواع قلوبَنا والعقول، ولا شك في أن ذهننا في حالةٍ دائمة مستمرّة من بناء التصوّرات والتصديقات والاستدلالات، والشك هو التوقّف عن إصدار الأحكام، ومهما تكن دوافع هذا التوقف عن الحكم وأسبابه وعلله، فإن فعل الشك يبقى من الأفعال الذهنية المعلومة لدينا، وتارة يأتي الشك فجأة من دون سابق إنذار وأخرى يأتي تدريجياً، وتارةً يكون معلوم السبب وأخرى يجهل الشاك أسبابه ودوافعه.

وللشك تاريخٌ طويل الذيل في مسيرة الفكر والثقافة الإنسانية، يبدأ من الشكّاكين في التراث الفلسفي اليوناني إلى القدّيس أوغسطين في الفلسفة المسيحية، إلى ديكارت وهيوم وكانط وغيرهم في الفلسفة الحديثة، وقد كان لكلّ واحد من هؤلاء دوره في ترويج الشك أو التغلّب عليه، وإذا انتقلنا إلى المجال الإسلامي، لا نجد أفضل من الغزالي أبي حامد، للإشارة إلى واحد ممّن أخذ الشك منه كلّ مأخذ في مرحلةٍ من مراحل حياته، وينقل مؤرخو سيرة الغزالي أن الشك قد اجتاح فكره لمدّة شهرين، حتى شك في البديهيات والمحسوسات، إلى أن ثاب إلى رشده ببركة الهداية الإلهية([1]). وينقل عن الغزالي أنه بدا له اشتباهه في أمرٍ بعد ثلاثين سنة من الاعتقاد به، فانتابه الشك وخاف من كون كلّ ما يعتقده جهلاً مركباً، ولم يغادر الغزالي منهج التدقيق والشك في كثير من الأمور والمعتقدات التي يؤمن بها آخرون؛ حتى أطلق عليه بعضهم mإمام المشكّكينn.

وربما يرى الكثيرون أن الشك من الأبطال السيئي السمعة في تاريخ الفكر والمعرفة البشرية، إلا أن الحقّ يقتضي إنصافه؛ لما له من خدمات جلّى للعلم والمعرفة، وللدور الإيجابي الذي لعبه ويلعبه في ترميم المعرفة الإنسانية وإصلاحها؛ فقد مضى على الناس زمان غير قصير يربطون فيه بين أشياء لا ربط بينها، ويحيكون علّةً لمعلولات ليست كذلك، وبعدها عراهم الشك في هذه العلل المخترعة غير الواقعية، فأخرجهم الشك من بطون أودية الجهل المظلمة. مثلاً: كان الناس يعتقدون أن الزلازل سببها تعب الثور الذي يحمل الأرض على قرنيه ما يدفعه إلى تحريك رأسه، فتهتز الأرض وما عليها، ولولا الشك في هذه الأفكار لما أمكن لعلم الزلازل أن يتطوّر إلى درجة تسمح أحياناً بتحديد تقريبي لزمن وقوع الزلزال، بل العلم ــ بشكل عام، وبكلّ أقسامه وفروعه ــ خرج من رحم السحر والأساطير إلى عالم الوضوح والدليل بعد مروره في أتون الشك.

وعلى أيّ حال، لا شغل لنا في هذه المقالة بأنواع الشك بعامة، بل سوف نهتمّ أكثر ما نهتمّ بالشك الديني، ذلك الشك الذي يعدّ مقابلاً للإيمان واليقين الديني، بل سوف نضيّق دائرة الاهتمام لنحصر همّنا بالشك من حيث أسبابه النفسية؛ لنبحث عن الشك الذي يخطر للمؤمن في بعض الأحيان، ويسمى الوسواس وخواطر السوء؛ الأمر الذي ذكرت له الشريعة واجترح له أهل الطريقة وسائل وأدوات لدفعه والخلاص منه.

في مجال الدين، كان للشك دوره في المعرفة الدينية، وهو دور بنّاء في نقل الإنسان من الإيمان بروحانية الطبيعة، والاعتقاد بأرباب الأنواع والإيمان بالأشباح والأصنام، وعبادة الشجر والحيوان، للشك دوره في نقل الإنسان من هذه الحالات إلى التوحيد الذي وصل إلى أوجه في الأديان الإبراهيمية. نعم إن الشك كان لـه دوره المؤثر ــ كما الإيمان ــ في إحداث هذه النقلة. وبعبارة بسيطة ساذجة: لا وسيلة أفضل من الشك للخلاص من المعتقدات الخرافية الخاطئة.

هذا، ولكن هناك فرق كبير بين الشك المنهجي البنّاء والشك المذهبي المتطرّف، فالأول هو الممدوح الذي أشرنا إلى دوره في بناء الإيمان الصحيح.

 

الشك الإبراهيمي ـــــــ

ولا يدعو للعجب خطور الشك لنا نحن البشر ضعاف الإيمان؛ فقد ذكر القرآن الكريم في قصّة أبي الأنبياء إبراهيم% أنه عرض له تأمل حول البعث والنشور فسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى في قصّةٍ ذكرها الله سبحانه وتعالى وأشار إليها بقوله: >وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ< (البقرة: 260).

يقول الميبدي([2]) في تفسير هذه الآية: mيقول المفسّرون عن سبب سؤال إبراهيم لله تعالى، هو أنه مرّ على ميّت في ساحل طبرية، فرأى الوحش والطير تتقاسمه وتنهش جثته، فسأل ربه أن يرى كيف يرجع الميت إلى الحياة من حواصل الطيور وأكراش الحيوانات، ليعاين ذلك فليس الخبر كالمعاينة، قال الله: >أَوَلَمْ تُؤْمِن<؟ وهذا السؤال شهادة من الله بإيمان إبراهيم، وقد ورد في الخبر عن النبي2: mنحن أولى بالشك من إبراهيمn، وهذه شهادة من المصطفى بإيمانه أيضاً، ووجه الأولوية أنه إمام الملّة والخلق جميعاً شيعته إلى يوم القيامة.. >قَال بَلَى< قال إبراهيم: نعم آمنت واستيقنت، ولكن أرغب في معاينة عجائب صنعك وبدائع قدرتك؛ حتى يصبح علم اليقين عينَ اليقين ويتحوّل الإيمان الاستدلالي إلى إيمان حسّي، فتنسدّ الطريق في وجه الوساوس التي تعترض طريق الاستدلال دون الحسّ، وقالوا: إن إبراهيم يبتغي من هذا السؤال الوصول إلى غاية اليقين الذي هو على ثلاث مراتب: 1 ــ علم اليقين. 2 ــ عين اليقين. 3 ــ حق اليقين؛ علم اليقين هو الذي يأتي إلى عباد الله عبر الأنبياء، وعين اليقين هو نور الهداية الذي يصلهم، وحقّ اليقين يتشكّل بنور الهداية كما بآثار الوحي والسنّة، وقد أراد إبراهيم استجماع المراتب كلّها والحصول عليها..n([3]).

وينقل الطبري في تفسير هذه الآية وجوهاً عدّة؛ ويقول: mوأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحّ به الخبر عن رسول الله2 أنه قال، وهو قوله: نحن أحقّ بالشك من إبراهيم، قال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن، وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارضٍ من الشيطان في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفاً من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البرّ وبعضه في البحر قد تعاوره دواب البرّ ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه، فقال: متى يجمع الله هذا في بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى؛ ليعاين ذلك عياناً، فلا يقدر ــ بعد ذلك ــ الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: >أو لم تؤمن< يقول: أو لم تصدّق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوتn.

ويقول الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: m..ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين؛ ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال للتشكيك فيهn([4]).

ويذكر الشيخ الطبرسي في تفسيره وجوهاً لتبرير سؤال إبراهيم%؛ يقول في الرابع منها: m…ورابعها: إنه أحبّ أن يعلم ذلك علم عيان بعد أن كان عالماً به من جهة الاستدلال والبرهان؛ لتزول الخواطر ووساوس الشيطان، وهذا أقوى الوجوهn([5]).

وعلى أي حال، من الواضح أنه لم يكن المقصود من طلب هذه الآية هو التفنّن، ومن ثمّ، قد حصل نتيجة الدعاء واستجابته تحوّلٌ في أحوال إبراهيم؛ أي هناك فرق بين حاله قبل المعجزة وحاله بعدها، بالرغم من الإيمان الذي كان عنده قبل الآية، إلا أنه كان فاقداً لاطمئنان القلب الأمر الذي دعاه إلى اللجوء إلى ربّه؛ ليريه قدرته، لا ليطمئن قلب إبراهيم فحسب، بل ليطمئن قلب كلّ إبراهيمي على مدى التاريخ ومرّ العصور؛ ثم ليصل إبراهيم% في سيره وسلوكه العرفاني إلى أن يقدّم ابنه قرباناً على مذبح الحقّ، لولا أن الله افتداه بكبش أنزله رحمةً له ولولده.

ويشار هنا إلى أن بعض المفسّرين يعتقدون بأن قضية الذبح والفداء كانت قبل طلب مشاهدة إحياء الموتى، وإذا صحّ هذا، فيكون قد طلب مشاهدة هذه الآية وهو في الأوج من قُلة الإيمان وصدق الاعتقاد.

ولسعدي الشيرازي حكاية رائعة عن التذبذب أو حالة المدّ والجزر في الإيمان واختلاف أحوال العارفين يقول فيها: mيحكى أن واحداً من صلحاء لبنان المعروفين بالصلاح والمشهورين بالكرامات جاء إلى جامع دمشق، وأراد أن يتوضأ من بركة في الكلاسة (موضع بدمشق) فزلّت به القدم، فسقط في حوض البركة ولم يخرج منها إلا بشقّ النفس، ولما فرغ من الصلاة سأله أحد أصحابه وهو في حيرة من أمره، فقال: أذكر أن الشيخ ذهب إلى بحر المغرب ولم تبتل قدماه بالماء، فما الذي جعله يغرق في أقل من قامة؟ فأطرق الشيخ وتأمّل ثم رفع رأسه قائلاً: أو لم تسمع قول سيّد الكونين محمد2: mلي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسلn، ولم يقل: لي كلّ وقت، فهو تارةً يفوق جبريل وأخرى يعطي من وقته لحفصة وزينب، مشاهدة الأبرار بين التجلّي والاستتار..n([6]).

وقد أشارت الأحاديث الشريفة مراراً إلى تحوّل حال قلب الإنسان وخطور الشك والوسواس له، وهذه إشارة إلى بعض منها في هذا المجال: <إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور تتقلب في اليوم سبع مرات>([7])، <ما من قلب إلا وهو معلّق بين إصبعين من أصابع الرحمان إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه>، <والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة>([8])، <إنّ أحدكم يأتيه الشيطان، فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإنّ ذلك يذهب عنه>([9])، <الوسوسة محض الإيمان>([10])، <لكلّ قلب وسواس، فإذا فتق الوسواس حجاب القلب نطق به اللسان وأخذ به العبد، وإذا لم يفتق القلب ولم ينطق به اللسان فلا حرج>([11])، <ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشيطان، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير>([12]).

بلى إن الإيمان مزيج من حال ومقام، فكما أن له بدناً ثانياً، فإن له أعماق متغيّرة ومتحولة بحسب الظروف والطوارئ، وهو قابلٌ للشدة والضعف، ويقول النبي الأكرم2: mالإيمان يزيد وينقصn، ولا شك في أن هذا الحديث ناظر إلى الآيات الكثيرة التي تتحدث عن شدّة الإيمان وضعفه، ومنها قولـه تعالى:>هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا< (الفتح: 4)،>وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا< (الأنفال: 2)،>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ< (النساء: 136)،>قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا<(الحجرات: 14).

ربما يكون الإيمان أمراً دفعياً يحصل بشكل مفاجئ، لكنّ المحافظة عليه والعيش به ومعه أمرٌ يدوم ما دام العمر، وهو عمل محفوف بالمخاطر ولا ضمان لبقائه. وبعبارة أخرى: الإيمان كالحبّ، ربما يحصل من لمحة، فتشتعل مواقد العشق في القلب ومواجده، لكن لا يستحق اسم العاشق من لا يحيى بعشقه حتى الرمق الأخير ويشرب كأس الوفاء حتى الثمالة.

من هنا، كان يرى القدماء أن الاعتراف بالإيمان ليس أمراً مقبولاً؛ حيث إنه قد تفوح منه رائحة الرعونة والرياء؛ ولذلك كانوا ــ وبمقتضى الأدب الشرعي الذي تعلّموه ــ عندما يُسأل أحدهم: هل أنت مؤمن؟ كان يقول: إن شاء الله([13])، وفي الآية المذكورة سالفاً حول توجيه الأعراب إلى عدم استسهال وصف أنفسهم بالإيمان إشارة إلى هذا الأمر، وفي الحديث عن النبي2 ما يشير إلى هذا المعنى وهو قوله2: mمن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهلn.

فالمؤمن بشكل دائم في حالة حراسة وترميم لإيمانه، للمحافظة على حياة هذا الإيمان وبث الروح فيه، فهو يحييه وهو في الوقت عينه حيّ به، فليس الإيمان تحفةً أثرية تصان بحفظها في زاوية وقرار مكين، بل هو كائن حيّ يتكامل مع كل ضربة قلب وخلجة فكر وحركة عمل، إلى أن يصل بصاحبه إلى درجة الرسوخ ومقام الصدّيقين.

والشك وإن كان يلفح وجه الإيمان بشكل مستمر، إلا أنه لا يذهب به كلّما لفحه، بل هو في بعض الأحيان وسيلة من وسائل إلفات نظر الإنسان إلى إيمانه وإحساسه به؛ ولذلك هو يبلوره ويخرجه إلى عالم الوعي والشعور، ومن دونه في كثير من الأحيان يكون في دائرة اللاوعي، وهنا يصدق القول المشهور: mتعرف الأشياء بأضدادهاn؛ فالشك يمكن اعتباره مشحذاً يصقل الإيمان، وبتعبير نيتشه: mالعدو الذي يرميني أرضاً هو الذي يجعلني أقوى فأقوىn.

من جهة أخرى، قد يكون الشك الدواءَ الأنجع لغير المؤمنين؛ حيث إنه يخرجهم من عتمة الإلحاد إلى نور الإيمان؛ وقد علّمنا القرآن أن نلوذ بالله ونستعين به عندما تعصف بنا أنواء الشك الشيطاني، وهو قوله تعالى: >وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ< (المؤمنون: 97)، وقد أنزل الله سورةً كاملة للاستعاذة من الشيطان والوسواس والشك، وهي سورة الناس.

وحتى عندما يعصف إعصار الشبهات ويهدّد إيمان المؤمن بشكل يجعله يئنّ تحت وطأة عذاب الضمير خشية اهتزاز إيمانه، حتى في مثل هذه العاصفة الهوجاء يكفي هذا الألم والشعور بالانزعاج لغفران هذا الشك الطارئ، ولا تعدّ هذه الهزة التي عرضت للإيمان كفراً، ولا تسطر في ديوان الأعمال إثماً، ولا معصية، يقول تعالى: >مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم< (النحل: 106).

 

طرائق مواجهة الشك ـــــــ

اجترحت الشريعة والعقل الإنساني طرائق عدّة لمعالجة الشك والتغلّب عليه، ومن ذلك ما أشرنا إليه من اللجوء إلى الله تعالى والركون والاطمئنان إليه. والطريق الآخر القبول الموقّت بالشك، وكأن هذه الطريقة هي التي اختارها خليل الله إبراهيم% ولو بنحو افتراضي؛ حيث افترض أن ربّ الكون هو القمر والنجم والشمس، وبعد ذلك بدأ البحث عن أوصافها وخصوصياتها التي كان من أبرزها عروض التغيّر والأفول عليها، فاستنتج من ذلك أنها حادثة، وبالتالي لا يمكن أن تكون هي الربّ والخالق؛ فانحصر الخيار بالإيمان الابتدائي الذي كان عليه بعد أن قوي بالاستدلال من خلال ثبوت بطلان الفرض الآخر: >إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ< (الأنعام: 79).

وهكذا يمكن القبول ــ مؤقتاً ــ بفرضية، والتأمل فيها؛ لتظهر صحّتها من بطلانها؛ فمثلاً: عندما نشاهد حادثةً مفجعة كزلزال، يتبادر إلى أذهاننا الشك في رحمة الله، وفي الخلاص من هذه الشبهة نمرّ بالمراحل الآتية:

أولاً: ليس من الضروري أن تكون رحمة الله مشابهةً للرحمة الإنسانية؛ بحيث تتضمّن عاطفةً واهتماماً بالموارد الجزئية الخاصة.

ثانياً: كيف نعلم أن الله هو الفاعل لهذه الفاجعة؟

ثالثاً: إذا كان الله هو الفاعل، فربما كانت هناك مصلحة خافية علينا هي التي اقتضت صدور هذا الفعل منه، ولو لم تكن هناك مصلحة، فربما يتلافى الله الضرر الحاصل من هذه الفاجعة ويعوّض على المصابين بآثارها أضعافاً مضاعفة.

ربما أوكل الله أمور الطبيعة إلى القوانين والنظم الحاكمة على الكون، وربما كان هذا الشرّ مانعاً عن شرّ آخر أكثر خطراً منه، فربما كان الزلزال مانعاً عن انفجار أعظم أو عن خراب الكرة الأرضية بكاملها. هذا كلّه إذا تجاوزنا النظرية القائلة: إن هذه الأحداث المؤلمة مفيدة في ضبط تكاثر البشرية.

والأمثلة كثيرة على حالات الشك التي تواجهنا وتعترض إيماننا، كالدعوى القائلة بأن تطوّر العلم سوف يبطل دعوى الأديان، أو أن الاعتقاد بالله فكرة غير علمية أو ضدّ العلم، وفي جميع هذه الخواطر يمكن القبول الموقّت بالشبهة الطارئة ثم العمل على تحليلها ومعالجتها.

عندما يؤدّي الشك إلى تشكّل هذه الجملة في أذهاننا: mما هي قيمة إيماننا وما هي درجة اعتبارهn؟ يمكن في المقابل توجيه سؤال إلى الشك نفسه وحول درجة اعتباره، إن كثيراً من الأسرار سوف تبقى أسراراً ولن تكشف مكنوناتها ولن تقدر مفاتيح الفلسفة والعلم والدين والمعرفة البشرية على فتح أقفالها المحكمة الإغلاق.

فلا ينبغي أن نفرط بالتفاؤل في أنّ الحجاب سيرتفع عن حقائق ما وراء الطبيعة؛ بحيث لا يبقى فيه سرّ مستعصٍ أو عقدة مبهمة؛ لذلك لا بد لنا من قبول شهادة القلب والاستماع إلى إفادة الضمير، والمخبر الصادق، وإجماع العلماء وأهل النظر والفكر عبر التاريخ الثقافي والحضاري للإنسانية؛ فإن إنكار السمعيات يؤدّي إلى شلل الفكر وتخريب أصول الحياة، ومن نتائج عدم قبول السمعيات أن نشك في وجود أماكن جغرافية كثيرة لم نرها بل سمعنا بها فقط، وكذلك إلى الشك في وجود أشخاص عبروا قنطرة الزمن ولا يربطنا بهم إلا ما نسمعه عنهم؛ وهذا ما لا يقبله أحد، فإننا نبني كثيراً من أركان حياتنا على السمع والتواتر؛ فمن هو الذي ثبت له بالتجربة أنه ابن فلان وفلانة؟ وعلى هذا فقس ما سواه.

هذا، ولكن يُشار إلى أنّ الإيمان لم يُبنَ على السمع وحده، بل كان مقترناً دائماً بالدليل العقلي الذي يرفده ويسدّ مكامن الخلل فيه، ويتمتع الدليل العقلي المثبت لوجود الله بتماسك منطقي مقبول، فإن قبول المبدأ لهذا الكون أكثر تماسكاً من عدم المبدأ الذي لا ينتهي إلا إلى العدم، فضلاً عن أن الصدفة أو قدم العالم ثبت بطلانها بالعقل ثم أيّد العلم ذلك. وفي الجواب عن السؤال: لماذا الوجود موجود بدل أن يكون غير موجود؟! إن القول بمبدأ وجوده ذاتي يقطع السؤال، أكثر انسجاماً وتوفيراً واقتصاداً في الفكر من قبول التسلسل أو القدم أو الصدفة.

إن بعض الوقائع الموجودة فقدت قدرتها الصارمة أثر الاعتياد عليها وأنس الذهن بها. ومن ذلك أن mالله قد دمغ كل ما صنعه بدمغته التي تكشف عن بلد المنشأn، بحسب التعبير المتداول في الاقتصاد، ومن أهمّ هذه المصنوعات الفطرة الإنسانية الممهورة باسمه سبحانه، وعلى حد تعبير ديكارت عليها mعلامة تجارية مسجّلةn. ولأجل إتمام الحجّة وتقوية نور هذه الفطرة تجلّى سبحانه للمجتبين من بين البشر وكلّمهم وأوحى إليهم. والمشكلة الأساس في هذا المجال هو أنّ جميعنا ــ أو أكثرنا ــ نحن أبناء آدم ننتظر دعوة خاصّة توجّه بأسمائنا حتى نشارك في محفل الإيمان.

ولحسن الحظ، وبالرغم من التبعيض في الوحي، اقتضى عدل الله ورحمته أن تشرق شمس وجوده وتسطع على العقل الإنساني بعامة، العالِم من أفراد الإنسان والساذج البسيط منهم، وبالتالي لا يتوقف الإيمان على الفلسفة والعلم. ويشهد على هذه الحقيقة أن المؤمنين البسطاء أكثر عدداً من المؤمنين الفلاسفة والعلماء، فلا تلازم بين زيادة العلم وزيادة الإيمان، ومن الواضح أننا لا نريد القول بوجود تناف بين الإيمان والعلم؛ فالقرآن يصرّح قائلاً: >إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء< (فاطر: 28)، كلّ ما نريد قوله: إن زيادة العلم وتطوّره لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة الإيمان وتطوّره، بل توقف الإيمان على العلم يؤدي إلى عروض الحيف على كثير من الناس.

فلو سئل ألف شخص من المتديّنين من الأديان كافة، عن سبب إيمانهم ومبرراته من دون مقدّمات، لأجاب أكثرهم بأن مبرر الإيمان ودليله الأول هو الفطرة، وربما لا يتجاوز الخمسة عدد الذين يقولون: إن دليلهم ودافعهم إلى الإيمان هو الأدلة العقلية التي أقامها ابن سينا والفخر الرازي وتوما الأكويني؛ ولذلك ادّعى كثيرون من الفلاسفة ــ مثل ديكارت واسبينوزا ــ أن وجود الله قضية بديهية، والشاعر الإيراني عراقي يردّد معهم قائلاً:

بنور وجهك اكتشف وجودك كما بالشمس يستدلّ على مكان الشمس([14]).

وكذلك يقرّ الغزالي في إحياء العلوم بأن الفطرة وشواهد القرآن تغني عن إقامة البرهان، وأن أبرز الأدلة على وجود الله وأقواها أثراً على النفس الإنسانية هو برهان إتقان الصنع أو برهان النظم، أما سائر الأدلة الكلامية والفلسفية، فرغم الذكاء الذي يكمن وراء صياغتها، غير عملية ولا مجدية، وهي جزء من الموروث الفلسفي، وليست جزءاً من الحاضر الفكري الديني؛ ولذلك نجد أن القرآن مليء بالنوع الأول من البراهين بتعبيرات مختلفة.

 

براهين وجود الله والفلسفة الحديثة ـــــــ

إن الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وبخاصة من كانط فصاعداً، أعملت كلّ جهودها لنقد الأدلة الفلسفية على وجود الله، وخلخلت أركان كثير منها، ولا خوف، فإن أكثرها غير علمي وغير مجدٍ في إنتاج الإيمان، بل يمكن القول: شاهت تلك الأدلة وساءت وجوهها؛ فإن العاشق أو العطشان الذي لا يستطيع إثبات عشقه أو عطشه بالبرهان لا يحقّ له ولا ينبغي له أن يشك في عشقه أو عطشه.

ويعود سبب العجز عن الإثبات إلى أحد أمرين: إما المتكلم عيي تعوزه قوة البرهان، وإما أن العطش والعشق ليسا برهانيين. ومن الأجدى أن يعبر الإيمان أجمّة الفلسفة ولا يطوف بأرضها الحزنة، وبحسب باسكال: mللقلب أدلّته التي لا يعرفها العقلn.

وخاتمة القول: إن دعوى المتطرّفين من الشكاكين الذين يقولون: mلا علم قطعي في هذا العالمn أو mلا يتسنّى للإنسان الحصول على علم قطعيn. هذه الدعوى صادقة على العلوم الحديثة بشكل كامل، وبفضل مساعي كارل بوبر وغيره من فلاسفة العلم تبيّن أن العلوم لا تتمتع بقوة اليقين، بل هي احتمالات عالية وتخمينات وحدوس مبنية على الاستقراء الذي لم تحلّ مشكلته منطقياً بشكل كامل، والقطعي من المعارف الإنسانية ــ كالرياضيات والمنطق ــ ليس معرفةً علمية.

توضيح ذلك: أن الرياضيات والمنطق ليس علماً بل هما آلة للعلم ومعيار؛ لذلك يطلق على كثير من قضايا هذين العلمين وصف mتكراريn (توتولوجيك). هذا، والبحث حول لا يقينية العلم يحتاج إلى مجال أوسع وفضاء آخر، وإنّما ذكر هنا استطراداً وإشارة ليس إلا؛ بل يبدو لي أن اليقين يتحقّق في دائرة الإيمان أكثر من غيرها، وإلا فإن وجود العالم الخارجي الذي نراه ونعاينه، تتوسّط بيننا وبينه الحواس، ومن الذي يستطيع أن يثبت باليقين الذي لا يقبل الشك أن الحواس مترجم أمين ووسيط لا يخون ولا يخطئ. وليس هذا التشكيك من نسج الخيال؛ فقد عرف تاريخ الفكر الفلسفي من شكّك في وجود العالم الخارجي؛ إذاً وجود العالم الخارجي الذي يبدو ــ لأول وهلة ــ بديهياً لا يقبل الشك، لا يبدو إثبات وجوده وواقعيته بهذه المثابة من البساطة.

وأخيراً، وللتسلية فقط، نقول: إن دعوى الشك إذا عمّت وصدقت تشمل نفسها، ومن ثمّ، هي قضية متناقضة تحمل في داخلها ما يوجب بطلانها([15]).

 

*   *     *

 

الهوامش

 

 

(*) أستاذ جامعي، من أشهر مترجمي الفكر الديني من اللغة الإنجليزية، له ترجمة للقرآن الكريم، متخصّص في الأدب الفارسي.

 

[1] ــــ الغزالي، المنقذ من الضلال، الترجمة الفارسية: 25 ـ 27.

[2] ــــ الميبدي أمير حسين القاضي، منسوب إلى ميبد من قرى منطقة أردكان في محافظة يزد في إيران، أديب ورياضي وحكيم من القرن العاشر الهجري، تلمّذ بشيراز على جلال الدين الدواني وغيره من أساتذة العصر. اشتهر في الفلسفة والهيئة والمنطق، من مؤلّفاته: شرح ديوان أمير المؤمنين، وشرح الهداية الأثيرية، وشرح كافية ابن الحاجب، وشرح الشمسية في المنطق، وغير ذلك من الكتب في فنون متعدّدة طرقها تأليفاً وشرحاً. (المعرّب، نقلاً عن فرهنك معين، مادة ميبد)

[3] ــــ أبو الفضل رشيد الدين الميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار، المعروف بتفسير الخواجه عبد الله الأنصاري 1: 712، 713، 719، ط3، تحقيق: علي أصغر حكمت، طهران، أمير كبير، 1357هـ. ش (1978م).

[4] ــــ جاد الله محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف من حقائق غوامض التنزيل 1: 309، نشر أدب الحوزة، قم.

[5] ــــ الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 177، الأعلمي، بيروت، 1415هـ.

[6] ــــ كليات سعدي: 74 ـ 75، باهتمام: محمد علي فروغي، ط3، طهران، أمير كبير، 1362هـ.

[7] ــــ الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال 1، ح 1214، ط5، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405هـ.

[8] ــــ المصدر نفسه، ح 1215.

[9] ــــ المصدر نفسه، ح 1230.

[10] ــــ المصدر نفسه، ح 1264.

[11] ــــ المصدر نفسه، ح 1268.

[12] ــــ المصدر نفسه، ح 1275.

[13] ــــ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، الترجمة الفارسية 1: 272.

[14] ــــ كليات عراقي: 147، باهتمام: سعيد نفيسي، ط4، طهران، سناتي، تاريخ المقدمة 1338ش (1959م).

[15] ــــ توضيح ذلك متروك لفطنة القارئ.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً