أحدث المقالات

مشتاق بن موسى اللواتي

تلقي الاتجاهات الفكرية والسياسية بظلالها على الكتابة التاريخية، بالأخص في حقل التاريخ السياسي. ويظهر تأثيرها من خلال اختلاق الأخبار وتركيب الأسانيد، أو عبر اتباع أساليب الانتقاء والحذف والتهميش لبعض الحوادث والتفاصيل.

ومن الطرق التي يتأثر بها البحث التاريخي ـ على مر العصور ـ هو اتباع معايير مزدوجة في التعامل مع الأخباريين والرواة وبعض مروياتهم، وهنا تكمن أزمة المعايير في البحث التاريخي.

وفي هذا السياق نشير إلى بعض المفارقات المنهجية في بعض الدراسات التاريخية المعاصرة في التعامل مع مرويات إخبارِيَين بارزين اعتمد عليهما المؤرخون، وعلى رأسهم المؤرخ الشهير أبو جعفر الطبري ( ت 310) كثيرا في موسوعته التاريخية المعروفة.

وهذان الإخباريان هما لوط بن يحيى المعروف بأبي مخنف (ت157) وسيف بن عمر التميمي (ت 180).

ويقوم بعض الباحثين منذ البداية، باستبعاد أغلب روايات بعض الإخباريين بدعوى الاستناد إلى تحفظات علماء الجرح من أهل الحديث عليهم.

ولا يرى هؤلاء وجود أي داع للبحث في منطلقاتهم ونقد تقييماتهم والنظر في مدى دقتها بل يسلمون بها ويعتمدون عليها. وهذا يعني أن تقييمات أئمة الجرح والتعديل في نظرهم تشكل أحد المعايير المهمة في البحث.

والمفارقة التي نود الإشارة إليها هي أن بعض هؤلاء الباحثين سرعان ما يلتفون على هذا المعيار البحثي الذي اعتمدوه في بعض الموارد. وقد يتجاوزه بعضهم حينما يجد نفسه أمام مرويات ووقائع انفرد بنقلها إخباري آخر، لم يسلم أيضا من مطاعن أئمة الجرح والتعديل. بل لعل ما رمي به أشد من غيره. وهنا تبرز إشكالية المعايير!

 ويبدو أنهم لا يمكنهم تجاهل مروياته في بعض القضائا التاريخية التي انفرد بتقديم تفاصيل قصصية عنها.

 ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل إن بعض الباحثين قد يدرج روايات من يميل إليه في قسم الروايات التاريخية الصحيحة مهما كان حاله!

و تتجلى هذه المنهجية بوضوح في بعض الدراسات والأعمال التاريخية، غير أننا في هذه المقالة سنشير إلى نموذجين هما كتاب «صحيح وضعيف تاريخ الطبري» وكتاب «عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الاسلام».

أولاً: صحيح وضعيف تاريخ الطبري:

وقد حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد طاهر البرزنجي، وأشرف عليه وراجعه محمد صبحي حلاق.

ولا يحتاج الدارس إلى التوغل في مجلدات الكتاب ليكتشف ما عبرنا عنه بإشكالية المعايير في هذا الكتاب. لأن المحقِقَين آثرا أن يبرزا ذلك بوضوح في مقدمات مجلدات الكتاب التي شرحا فيها منهجهما وأسلوبهما في التخريج والتحقيق والتصحيح والتضعيف.

فقد تطرقا فيها إلى بعض الأعلام الذين دونوا السيرة وحفظوا التاريخ الاسلامي، ثم قالا: واشتهر آخرون كذلك كأخباريين، ولكنهم لطخوا التاريخ الإسلامي وشوهوه، كالتالف الهالك أبي مخنف. ثم قالا: ومنهم من لم ينسب إلى الكذب والوضع ولكن إلى الضعف كسيف بن عمر، ومنهم من نسب إلى الكذب حيث تُرك كالواقدي.

فكلام الكاتبين المحققين هنا واضح في أنهما يعدان ابتداء كلا من أبي مخنف والواقدي ( ت207 ) منسوبين إلى الكذب والوضع. وفي المقابل ينفىيان صفة الوضع والكذب عن سيف بن عمر ويصنفانه في زمرة الأخباريين الضعاف فقط.

والمفارقة الواضحة التي وقع فيها المحققان، إنهما نقلا في الصفحة التالية مباشرة، قول أبي حاتم الرازي (ت277) في سيف بن عمر بأنه متروك يشبه حديثه حديث الواقدي. كما نقلا قول الذهبي (ت748) فيه بأنه مصنف الفتوح والردة وغير ذلك، وهو كالواقدي. وقد سبق للذهبي أن نسب الواقدي في الصفحة السابقة إلى الكذب !

والنتيجة، إن كلا من الرازي والذهبي شبه سيف بن عمر بالواقدي الذي نسباه إلى الكذب.

ومع ذلك نجد المحقَقين يصرحان بأن سيفا لم ينسب إلى الكذب بل نسب إلى الضعف فقط.

 ويبدو أنهما غفلا عما نقلاه في كتابهما عن بعض أئمة الجرح كابن حبان ( ت354) الذي ذكر بوضوح أن سيف بن عمر كان يضع الحديث!

تجريحات مشتركة

وبالنظر إلى ما نقله المحققان من مطاعن لعلماء الجرح والتعديل من أهل الحديث في كل من أبي مخنف وسيف بن عمر، نلحظ أن هناك أوصافا مشتركة بينهما، وهناك أوصاف تخص كلا منهما على انفراد.

أما الأوصاف المجرحة المشتركة فهي من قبيل: ضعيف، متروك، لا يوثق فيه، وعامة حديثه منكر وليس بشيء ويروي الموضوعات عن الثقات أو الأثبات وما شاكل.

ما رمي به أبو مخنف وحده

 وإذا تجاوزنا ذلك، ونظرنا فيما جاء بصفة منفردة في كل منهما ـ حسبما نقل المحققان ـ نجد أن ابن عدي ( ت360) قال في أبي مخنف، حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق، صاحب أخبارهم. وقال عنه بن حبان رافضي يشتم الصحابة.

 ما رمي به سيف وحده

وأما سيف بن عمر، فمما ذكره ابن حبان إنه اتهم بالزندقة وكان يضع الحديث.

 هذا مجمل ما نقله المحققان عن أئمة الجرح من أهل الحديث فيهما.

تحليل ومقارنة

وإذا قارنا بين المطاعن التي أوردها المحققان فيهما، نجد أن معظمها متشابهة، إلا أن ما جاء في سيف أشد من جهة أنه كان يضع الحديث أي يكذب على رسول الله|، كما اتهم بالزندقة.

دفاع عن سيف

 واعترض ابن حجر العسقلاني (ت857) على تجريح ابن حبان له، وقال: أفحش ابن حبان القول فيه وإنه عمدة في التاريخ. وأما الذهبي (ت748) فقد قال عنه بأنه كان أخباريا عارفا.

ونقل المحققان تعقيب بعض العلماء بالقول: وحتى أخباره ـ سيف ـ في التاريخ ليست بشيء، فقد قال أبو حاتم الرازي متروك يشبه حديثه حديث الواقدي. ونقلا عن المؤرخ المعاصر ضياء العمري بأن سيفا ضعيف جدا في التاريخ.

 تجدر الإشارة بأن ابن حجر نفسه نقل في التهذيب أقوال المجرحين له كأبي حاتم الذي شبهه بالواقدي، وابن حبان الذي ذكر اتهامه بالزندقة ووضع الحديث، وأضاف عليهم قول الحاكم النيسابوري (ت 405 ) أيضا الذي وافق ابن حبان، ولم يعقب عليه ابن حجر.

من جهة أخرى، ان الذهبي (ت748) في الميزان هو الآخر نقل عن بعض العلماء في ترجمة سيف، بأنه كان يضع الحديث واتهم بالزندقة ولم يتعقبهم. وتجاهله المحققان، كما تجاهله كتاب آخرون بل تعاملوا مع كلامه بانتقائية فنقلوا منه ما حسبوه مدحا له فقط ليسوغ لهم الاعتماد على مروياته التاريخية.

ونود أن ننوه، بأنا لسنا هنا بصدد دراسة شخصية سيف أو تقييم مروياته، إنما نشير إلى بعض الأمثلة التي تدلل على ازدواجية المعايير في التعامل مع بعض الأخباريين والرواة لدى بعض الباحثين.

منطلقات تجريح أبي مخنف

وإذا نظرنا في تجريحهم لأبي مخنف نجد أنه يستند إلى منطلقات أيديولوجية عقدية. فقد صرح بعضهم في تعليله بأنه كان «رافضيا» يتناول السلف فهو محترق تالف. نعم نقل بعض عن ابن تيمية (ت 728) والجوزجاني (ت256) اتهامهما له بالكذب. ولكن يبدو ان هذا الحكم مبني على موقفيهما من مروياته التي لا تتفق مع بعض الاتجاهات الفكرية، وليس بناء على دراسة لسيرته ومسلكه. أضف إلى ذلك، أن الأول ليس معدودا من أئمة الجرح والتعديل.

 أما الجوزجاني فقد رأى بعض أئمة الفن بأنه كان ينطلق في جرحه من عداوة بسبب الاختلاف في الاعتقاد والفكر. ولهذا دعا ابن حجر العسقلاني في التهذيب إلى التوقف عن قبول قوله في الجرح لأهل الكوفة وذلك، لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ـ حسب تعبيره ـ وأضاف ابن حجر، بأن الجوزجاني، ـ بسبب ذلك ـ لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتى أنه أخذ يلين أساطين الحديث وأركان الرواية.

يشتركان في أوصاف المدح

وبالنظر إلى بعض أوصاف «المدح» التي وصف بها سيف بن عمر، والتي اتكأ عليها بعض الباحثين، من قبيل أنه عمدة في التاريخ وعارف بالأخبار وصاحب الفتوح والردة. فإن أبا مخنف يشترك معه بوضوح في هذا الوصف بل قد يفوقه. فقد شهد له ابن قتيبة (ت276) بأنه صاحب أخبار وأنها عليه أغلب، ووصفه الذهبي بأن له اعتناء بالأخبار. أما ابن كثير (ت774) فقد قال عنه بأنه أخباري حافظ بل وصفه بأنه من أئمة هذا الشأن.

المفارقة وازدواجية الموقف

 والمفارقة ان الباحثَين المحققَين في تصحيح تاريخ الطبري، أغفلا كل ذلك ولم يورداه عنهم واكتفيا بإيراد الأوصاف السلبية القادحة التي قيلت فيه. وانتهيا إلى القول عنه بأنه «بارع في التلفيق وتزوير الحقائق والطعن في عدالة الصحابة، ولعل رواية أو روايتين من مروياته وجدت لها مكانا في قسم الصحيح من بحثنا».

وفي المقابل بعد إيراد التجريحات السابقة لسيف بن عمر وبعد بعض التسويغات، قالا: ومن أجل ما سبق، وضعنا بعضا من رواياته في قسم الصحيح بشروط.

والنظر في شروطهما، يكشف لنا القاعدة التي ينطلق منها أصحاب هذا الاتجاه في منهجيتهم البحثية. والشروط التي وضعاها هي: أن يكون للروايات أصل صحيح من كتب الحديث والتاريخ، وتخلو من مسائل العقيدة والفقه، وتخلو من الطعن والغمز في الصحابة ومن الانحياز إلى اتجاه سياسي في عهد الراشدين.

ويلاحظ أن الشرطين الأخيرين متعارضان! لأن كل خبر لا يروق لهما يعد غمزا في السلف وهذا هو عين الانحياز إلى اتجاه معين!

ثانياً: كتاب عبدالله بن سبأ لسليمان العودة:

وهو أسبق ظهورا من الكتاب الأول وكان في الأصل رسالة ماجستير.

وقد أشار الكاتب في المقدمة إلى مصادره التاريخية والحديثية والأدبية لمختلف التيارات، وإلى كتب المقالات والفرق، وكذلك إلى المراجع الحديثة للباحثين العرب والمستشرقين.

وصرح بأنه أكثر من الاعتماد على تاريخ الطبري، وهو أمر منطقي، نظرا لأن الطبري أفاض في الحديث في هذا الموضوع، معتمدا في الغالب على روايات الأخباري سيف بن عمر.

ونقل الكاتب الآراء والأقوال المختلفة وناقشها واختار منها ما ترجح عنده، وانتهى إلى الوجود التاريخي لعبدالله بن سبأ.

وعد بعض الباحثين المنكرين لهذه الشخصية، بأن لهم تأثر واضح بمنهج الاستسشراق أو ولوع بكتابات متأخري الشيعة أو بسبب الغموض المكتنف بهذه الشخصية.

وليس غرضنا في هذه المقالة تقييم الكتاب ومنهجه ولا مناقشة آرائه وما انتهى إليه. إنما نقتصر على النظر إلى جانب من منهجيته المرتبطة ببحثنا، حول مرويات إخباريَين بارزَين هما أبي مخنف وسيف بن عمر في ضوء بعض المعايير البحثية التي التزم بها. وقد أشار الكاتب في مطلع الدراسة إلى الحاجة إلى نقد النصوص وخاصة عن طريق الجرح والتعديل. ويرى إنه علم غزير الفائدة ولكنه صعب المنال لغير المتخصصين فيه.

موقفه من مرويات سيف بن عمر

 ذكر بأنه لما كان من دعائم إنكار شخصية ابن سبأ عند بعض الباحثين هو التعويل على تضعيف سيف بن عمر والتقليل من شأن رواياته، فلنا أن نتوقف عنده بين الجرح والتعديل.

وبالفعل نقل جملة من تجريحات أهل الحديث في سيف بن عمر كالنسائي (ت 303) وأبي حاتم الرازي (ت327) أما الذهبي فاكتفى الكاتب في سياق التجريح بنقل قوله ـ من الكاشف ـ بأنه ضعفه ابن معين وغيره. أما عن ابن حبان فنقل من قوله أنه اتهم بالزندقة… . يروي الموضوعات عن الأثبات…

ملاحظات على بعض نقولاته

1-إن الكاتب بتر قول ابن حبان وترك فراغات فيما نقله عنه، وأغفل ما نقله ابن حبان عن بعض العلماء بأن سيفا كان يضع الحديث، ولم يعقب عليه.

ولا يقال هنا بأنه اكتفى بنقل رأيه، لأنهم درجوا على نقل أقوال العلماء فإن كان لديهم إضافة أو رأي مخالف تعقبوهم وردوا عليهم.

 كما لا يقال بأن بعض النقاد متساهل في التوثيق متشدد في التجريح، لأنه ـ إن صح ـ فلا يصدق على مثل حالة سيف بن عمر المعروفة لديهم.

2-اكتفى الكاتب في سياق الدفاع عن سيف بنقل قول الذهبي في الميزان بأنه كان عارفاً بالأخبار، مع أن الذهبي هو الآخر نقل في نفس الكتاب عن بعض العلماء بأنه كان يضع الحديث واتهم بالزندقة دون أن يعقب عليه.

3- رد الكاتب قول ابن حبان باتهامه بالزندقة، بدفاع ابن حجر وتعقبه له، بأنه أفحش فيه ابن حبان. ولكنه أغفل بأن ابن حبان لم ينفرد بذلك، بل وافقه عليه أيضا الحاكم النيسابوري (ت405).

التمييز بين الروايات التاريخية والحديثية

انتهى رأي الكاتب إلى التمييز بين روايات سيف الحديثية والتاريخية. فرأى قصر التجريح على رواياته الحديثية، أما رواياته التاريخية فقد رأى حجيتها بناء على قول الذهبي وابن حجر فيه، بأنه عارف بالأخبار وعمدة في التاريخ، ولأن الكاتب محب الخطيب عده أعرف المؤرخين بتاريخ العراق. وأضاف الكاتب، بأن كبار المؤرخين اعتمدوا على رواياته كالطبري ( ت310) وابن خياط (ت240) وابن كثير (ت774) والذهبي (ت748) وغيرهم وجعله بعضهم مصدرا مهما في كتابه، وترحم عليه ابن كثير.

نظرة نقدية في رأيه

إن من تجرأ على الكذب في الحديث النبوي تكون جرأته فيما سواه أكثر. وإلا ما معنى أن يكذب شخص على الرسول الكريم|، بوضع الحديث ونسبته إليه، ولكنه يصدق في نقل وقائع التاريخ السياسي؟

وأي وازع أخلاقي أو اجتماعي أو ديني يردعه عن الوضع والاختلاق في هذا الحقل الذي كان يموج بالصراعات والحروب الدموية والمنافسات السياسية والاجتماعية؟

 ومع ذلك، فقد رأى الكاتب العودة أن يعتمد على رواياته في حقل التاريخ بدعوى وثاقته فيها. علما بأن رواياته التاريخية شملها جرح بعض النقاد كأبي حاتم الذي شبهها بروايات الواقدي الذي نسبوه إلى الكذب. وقال أبو داوود بأنه ليس بشيء، وحسب الحاكم النيسابوري إنه في الرواية ساقط، وهو أعم من الحديث حيث يشمل رواياته التاريخية أيضا، وقد نقله ابن حجر دون أي تعقيب عليه.

ومع ذلك، صرح الكاتب العودة في دراسته بأن أغلب اعتماده فيها كان على روايات سيف بن عمر لأنه الراوي الذي نقل الطبري عنه كثيرا. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن سيف بن عمر يعد أبرز وأشهر مخترع للحبكات القصصية في موضوع عبد الله بن سبأ وأهم ناسج لحكاياتها وسردياتها.

موقفه من روايات أبي مخنف

ولما جاءت النوبة إلى تقييم روايات أبي مخنف وجدنا الباحث سليمان العودة، لم يتبع نفس المنهجية ولم يطبق نفس المعايير في دراسته. واكتفى بنقل التجريحات التي قيلت فيه من قبيل قول أبي حاتم، أحد يسأل عن هذا، وقول يحيى بن معين ليس بثقة وليس بشيء، وأضاف الكاتب على ذلك، بأنه ليس عمدة في التاريخ ـ كما هو شأن سيف ـ بل هو إخباري تالف لا يوثق به حسب الذهبي، مع العلم أن الذهبي في سير النبلاء عد أبا مخنف بمنزلة سيف بن عمر.

 وغض الكاتب الطرف تماما عن الشهادات الإيجابية فيه والمادحة له ـ والتي سبق ذكرها ـ من كل من ابن قتيبة والذهبي وابن كثير وغيرهم والتي أكدت على أنه كان خبيراً ومختصاً بالتاريخ بل حافظاً ومن أئمة التاريخ. وأغفل ما نقل ابن النديم (ت380) عن بعض العلماء بأن أبا مخنف يزيد على غيره بأمر العراق وأخبارها وفتوحها ويشترك معهم قي فتوح الشام. فلم يشر إلى جميع ذلك. وتجاهل بأنه هو الآخر اعتمد عليه كبار المؤرخين كابن سعد (ت230) والبلاذري (ت279) والطبري (ت310) وابن الأثير (ت630) وابن كثير (ت774) والذهبي (ت748) وغيرهم. وامتدح الطبري رواياته عند حديثه عن حركة مسلم بن عقيل ووصفها بالأكمل.

وبهذا يتبين عدم صحة ما ردده بعض الكتاب بأنه لم يعتد بروايات أبي مخنف ويعتمد عليها سوى الشيعة.

ومما سبق، يتبين لنا أن بعض الباحثين اكتفوا بنقل طعون أهل الحديث ضد أبي مخنف، وانطلقوا من قاعدة أن الانتماء إلى اتجاه فكري معين، يمثل اتهاماً في الرواي والأخباري والمؤرخ والمحدث. وأغفلوا تماما الأوصاف الإيجابية التي أكدت على اختصاصه التاريخي وكونه حافظا بل وإماماً فيه.

 ولا يقال هنا، بأن الجرح مقدم على التعديل حسب بعض القواعد الرجالية المتشددة، لأنها ـ حسب المحققين ـ تقتضي النظر في التعليلات المقدمة في الجرح. ولأنه في هذه الحالة كان الأولى أن تطبق هذه القاعدة على الإخباري سيف بن عمر نظرا لنوعية التجريحات التي وردت فيه، أو لنقل كان الأجدر أن تطبق عليهما وعلى غيرهما، على السواء، وليس على بعض دون آخر.

والذي نود الإشارة إليه، إن مما لا ريب فيه، أن الصدر الأول من تاريخ المسلمين شهد منافسات اجتماعية وصراعات سياسية ومعارك دامية وانتفاضات مسلحة. وليس من الصواب إغفال دراستها وتحليلها، وتقديم تاريخ تلك المرحلة بشكل مثالي غير واقعي، وتكذيب كل ما يخالف ذلك.

أسباب إقصاء أخبار أبي مخنف

يظهر بأن سبب إقصاء أخبار أبي مخنف وغيره من الإخباريين كالواقدي (ت 207) ونصر بن مزاحم (ت212)، ليس لأنها اشتملت على أمور لا يحبذ بعض الدارسين طرحها حول خلافات رجال الصدر الأول. لأن روايات هؤلاء لم تقتصر على تلكم الحوادث فقط. ولو كان هذا هو السبب وراء ذلك، لكان يقتضي التوقف عن رواياتهم التي تتعلق بالصراعات السياسية التي وقعت في تلك الفترة. أما إبعاد أغلب رواياتهم التي غطت حوادث متعددة مهمة جرت أثناء الدولة الأموية في مراحلها المختلفة، ومنها ما يتعلق بمقتل سبط رسول الله الإمام الحسين، وبعض الحوادث التي تلته كحركة القراء واستباحة المدينة وضرب الكعبة المشرفة، فإنه يدل على أن هذه المنهجية ليست من أجل الدفاع عن رجال الصدر الأول. بل يظهر أن ذلك مجرد ذريعة تقدم لإبعاد جميع مروياتهم حتى تلك التي غطت الحوادث المهمة الأخرى في فترة الدولة الأموية.

استخلاص

إن بعض الدراسات والأعمال البحثية في التاريخ وقعت فيها مفارقات منهجية في البحث.

و المنهج الموضوعي يقتضي إجراء دراسات تحليلية ونقدية للروايات والأخبار الواردة عن مختلف الرواة والإخباريين مثل أبي مخنف وسيف بن عمر وعوانة بن الحكم وعمر بن شبة والكلبي والمدائني والواقدي ونصر بن مزاحم وغيرهم. وكذلك الحال بالنسبة للمؤرخين، أيا كانت اتجاهاتهم الفكرية وميولهم السياسية.

 ويلزم إخضاع مختلف الروايات لعمليات التحليل والنقد وإجراء الموازنات والمقارنات حولها، ومحاولة فهمها في ضوء طبائع العمران وقواعد الاجتماع السياسي وصولا الى استخراج العبر والدروس منها.

_______________________

*جزء من بحث أوسع حول بعض الأخباريين

أهم المصادر:

  • صحيح وضعيف تاريخ الطبري، محمد طاهر البرزنجي
  • عبد الله بن سبأ وأثره في الفتنة، سليمان العودة
  • ميزان الاعتدال، محمد بن أحمد الذهبي
  • تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً