أحدث المقالات

دراسة مقارنة بين الطباطبائي وابن تيمية

د. أعظم بويا زاده(*)

مقدمة ــــــ

للإيمان ثلاثة ميادين، هي: العلم، النفس، والعمل. والمسألة المثيرة للبحث هنا هي كيفية الانتقال من ميدان العلم إلى ميدان العمل. وقد طرح كل واحد من المتألهين نموذجاً لذلك.

فالسيد محمد حسين الطباطبائي وابن تيمية قاما بخطوة كبيرة في هذا المجال. السيد الطباطبائي دخل إلى مفهوم الإيمان من خلال الالتزام العملي والعقد القلبي؛ أما ابن تيمية فدخله من خلال العمل القلبي. وكلا المفهومين ـ الالتزام العملي والعقد القلبي ـ يتعلقان بالنفس. وقد حلّ كل منهما مشكلة العبور من ساحة العلم إلى ساحة العمل على طريقته الخاصّة.

الإيمان مفهومٌ اتّكأ على سنّة قديمة وقوية. وهي سنّة كافة الأديان السماوية. وهذا المفهوم كان ولازال محط أنظار السنن قبل الأديان، والسنن غير الدينية. وأيضاً هو موضع اهتمام الأديان التي جاءت فيما بعد.

ويكفي في بيان أهمية مفهوم الإيمان أن هناك بعض الأديان قد ظهرت، وهي عاجزة عن إثبات وجود الله سبحانه والمعاد، ولكنّها لم تستطع أن تغمض عينها عن الآثار والنتائج الدينية في الحياة البشرية، لذا فإنّهم يسعون بكل جهدهم لحفظ الدين. ومن جملة هذه الأديان: النِحَل القائلة بعدم إمكانية إثبات وجود الله عقلانياً([1]).

إن حال مفهوم الإيمان حال بقية المفاهيم المطروحة على الساحة دائماً، مثل: الجبر والاختيار، وغيرها من المفاهيم الفكرية المهمة والحياتية. وكأن مفهوم الإيمان يقف مقابل الفهم القطعي، مدّعياً البقاء في عرصة الفكر البشري.

ورغم أن الغايات الأصيلة للإيمان هي: النجاة، والفلاح، وشفاء البشر، لكن كما يقول أحد متألِّهي المذهب الوجودي المسيحي (پُل تيليش)([2]) فإن الإيمان نفسه يحتاج إلى العلاج؛ لوجود معركة آراء دائمية. فالإيمان يخلق الشك أحياناً، وأحياناً أخرى يخلق التعصّب، وأخرى الهيجان والحب.

وهذا الأمر أدّى بالمتألِّهين إلى السعي من خلال السنن الدينية إلى إيجاد معبرٍ في تحليل مفهوم الإيمان، بحيث يكون جسراً يُنير الجوانب الغامضة في ذلك المفهوم.

وعندما نطلّ على آثار الإلهيين  الإسلاميين في القرون الأولى نجد أن مركز توجّههم هو الإيمان، بل يمكن القول: إ­ن النظام الكلامي للمسلمين في ذلك الزمان يدور ويتمحور حول الإيمان.

وقد كان للإيمان دورٌ هام وأساسي في مجتمع علماء المسلمين، حيث وُجِدَت فِرَق ومذاهب متعدّدة، كما يقول الحنبلي (ابن تيمية)([3]). إن البحث في الكلمتين (الإيمان والإسلام) أدّى إلى ظهور أول خلاف بين المسلمين، حيث قسَّمَهُم إلى مِلَل ونِحَل مختلفة. وهذه النقطة تبيّن أهمية هذا الموضوع في الكلام الإسلامي. حيث ظهرت هناك آثار كثيرة في ذلك الزمان، مليئة بالبحوث المختلفة، ومحورها مفهوم الإيمان. ويمكن ملاحظة هذه الحال في الأديان السماوية الأخرى.

 كما كان البحث في مفهوم الإيمان هو المحور الرئيسي في بحوث المتكلمين المسيحيين في القرون الأولى أيضاً. وقد ظهرت آنذاك فِرَق مسيحية اختلفت فيما بينها حول تبيين مفهوم الإيمان.

وقد حفظ هذا المفهوم مكانته في الكلام والسنن المسيحية في القرون الأولى. أما في زماننا المعاصر فيمكن ملاحظة (نِحَل) كلامية جعلت الإيمان محورها، بحيث إننا نواجه الآن فلسفَتَين، هما: المذهب الوجودي؛ والذين يؤمنون بمحورية الإيمان.

أما في القرن الثامن وما بعده فقد قلّ اهتمام المسلمين بهذا الموضوع، بل يمكن القول: إنّه لم يظهر أي نظام كلامي يتمحور حول  الإيمان في تلك الفترة.

وعلى أية حالٍ لاشك أننا في القرون الأولى للإسلام في مواجهة مسألة كلامية قوية في باب الإيمان، تسعى إلى إظهار بحث نظري حول مفهوم الإيمان، مستفيدةً من التحليل المعنائي للمفهوم. ورغم ذلك فإننا نشاهد من جانب آخر أحد  الميول الوجوديّة نحو الإيمان، ويجب البحث عنه في التصوّف أو العرفان الإسلامي.

وفي عالمنا المعاصر أيضاً، ورغم أننا لسنا في مواجهة كتابات مستقلة حول الإيمان، لكن يمكننا أن نستنتج آراء علماء المسلمين من خلال كتاباتهم. وهذه المقالة تتفحص المفاهيم الموجودة في مسألة الإيمان في الثقافة الإسلامية، وتعطي الجانب التصويري لتلك المفاهيم. وكذلك توضّح العيوب الموجودة في ذلك الجانب من قِبَل العلماء المسلمين. وهي تدور حول آراء السيد محمد حسين الطباطبائي وأحمد عبد الحليم ابن تيمية، وتشير أيضاً إلى بعض نظريات علماء المسلمين في هذا المضمار.

ومن المقرّر أن نستخرج آراء السيد الطباطبائي في باب الإيمان من كتابه «الميزان في تفسير القرآن»، ونلاحظ تعريفه للإيمان في ذلك التفسير، وكأن «الميزان» يقوم بتوضيح أجزاء التعريف بشكل واضح. أما ابن تيمية فتُطرح آراؤه من خلال كتابه «كتاب الإيمان». وبعد ذلك نقوم بمقارنتها مع آراء وأفكار السيد الطباطبائي.

وبصرف النظر عن الاختلافات بين هذين العالِمَين الإلهيين، سواء في المذهب الفقهي أو المذهب الكلامي، فإن تدقيقهما حول الإيمان قد رَفَدَ الثقافة الإسلامية بالمباحث التي لها ارتباط بـ(الإيمان).

هل يمكن أن نعرّف الإيمان بتعريف واحد؟ ــــــ

حسب الظاهر لا يمكن أن نعرّف الإيمان تعريفاً منطقياً بالمعنى العقلي والفلسفي. وقد تعرّض الإلهيون إلى أوصاف الإيمان، وليس إلى تعريفه المنطقي. وقد كتب (ياروسلاف بليكان) في مقالةٍ له كتبها في «دائرة المعارف الدينيّة»([4]) حول الإيمان يقول: «رغم أن المفاهيم التي نستعملها في تعريف الإيمان لا تعطينا تعريفاً منطقياً، ولكن يمكن أن نحصل على وصفٍ مضغوط، وليس تعريفاً له».

وإذا ألقينا نظرة على ما قاله المتقدّمون، أمثال: الشريف الرضي، ابن تيمية، محمد الغزالي، وآخرين من علماء المسلمين، وما قاله فلاسفة الدين الجديد، أمثال: جان هيك، پُل تيليش، وكي بركغور، نخرج بنتيجة أن ما قاله (بليكان) فيه الكثير من الحقيقة.

وقال بعضهم: إن ماهية (الإيمان) تشبه ماهيّة (العشق)، حيث إنها حادثة وجوديّة، لكنها غير قابلة للتعريف المنطقي. وكما قال پُل تيليش: «إن العشق حالة عاطفية لا يمكن تعريفها، ولكن يمكن شرحها من خلال رؤية آثارها وتجلياتها. وهي من النوع الذي يمكن أن يقع ويحدث»([5]).

وكلام تيليش حول العشق هو نفس كلام بليكان حول الإيمان في أنه لا يمكن تعريفه، ولكن يمكن وصفه. إذاً في بعض الأحيان يمكن أن نرى المَسحة الوجودية على كلام الذين ينظرون إلى الإيمان بمنظار فلسفي أو عقلي. وهذا ما نراه أيضاً في كلام السيد الطباطبائي، حيث يجعل القارئ في شك وترديد، هل أن نظرته للإيمان نظرة وجودية أم عقلية؟

 فإذا لم نستطع أن نعرّف الإيمان فما الذي تناوله العلماء حول الإيمان؟ من الواضح أنّهم تناولوا بالشرح والوصف مفهوم الإيمان، ومتعلَّق الإيمان، وآثار الإيمان، وعلم نفس المؤمن، ومواضيع أخرى. واعتمدوا أيضاً على الكتب السماوية للمؤمنين، ولم يتّخذوا العقل أساساً في ذلك.

لذا فإن لفظة (الإيمان) أينما جاءت في هذه المقالة فإننا لا نريد بها التعريف المنطقي.

المعنى اللّغوي للإيمان ــــــ

أصل اشتقاق لفظ (الإيمان) في العربية هو من (أمن). والمعنى الذي جاء به الراغب الأصفهاني حول (أمن) هو (طمأنينة النفس وزوال الخوف). يقول: إن (أمن) فعل ماضٍ من مصدر الأمن، الذي يمكن أن نستخدمه باعتباره لازماً أو متعدياً. أما معناه المُتَعدّي فهو (آمنته)، أي: جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن؛ ومعناه غير المتعدّي (صار ذا أمن). فالعرب عندما يقولون: «ثم أبلغه مأمنه» يقصدون منه (منزله الذي فيه أمنه)([6]).

ويرى الراغب أن هناك تعارضاً قد وقع في المعنى اللغوي لـ(الأمن) في سورة النساء، آية {يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}؛ لأن الشيء الوحيد الذي يمنح الطمأنينة ـ في رأيه ـ هو الحق الذي يزيل الخوف من القلب، بينما تشير الآية إلى أن معنى (الجبت والطاغوت) هو الذي يمنح الأمن ويزيل الخوف. فهو يجيب عن السؤال المقدَّر: لماذا صار الجبت والطاغوت مفعولاً لـ«يؤمنون»؟ ويقول: لفظ (يؤمنون) استُعمل بعنوان الذم؛ لأنه ليس من شأن القلب أن يطمئن إلى الباطل([7]). ووصَفَ الإيمان بالله أنه تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح([8]).

وبما أن أصل كلمة (الإيمان) في اللغة العربية والعبرية واحدٌ  (‘mn) (الأمن)، فمن الأفضل أن نتعرّف على هذه الكلمة من خلال اللغة العبرية، ونسلط الضوء على استعمالاتها في العهد الجديد.

استعملوا في العهد القديم والجديد كلمة «believe» و«faith» لبيان مفهوم الإيمان. فكلمة «faith» هي ترجمة للكلمة العبرية (’emet ‘e’munah)، والتي يعادلها في اللغة الإنگليزية المعنى غير المشهور (fidelity).

وكلمة (believe)، التي تستعمل أحياناً بمعنى (faith)، وأحياناً تكون توضيحاً لها، هي ترجمة للكلمة العبرية (he’e’ min) في الكتاب المقدس. علماً أن كلمة (faith) أصلها من الكلمة العبرية (‘mn).

أما في اللغة اليونانية فإن معادل كلمة (faith) هو (pistis). و(pisteuein) يعدلها كلمة (believe). والارتباط الحاصل بين اللفظتين اليونانيتين هو نفس الارتباط بين اللفظتين العبريتين. ومعنى هاتين اللفظتين (believe وfaith) في اللغة  العبرية هو الاستحكام (firmness)، وفي اللغة اليونانية نوع اعتقاد (persuasion)([9])([10]).

ومن الجدير ذكره هنا أن (faith) اسم و(believe) فعل. فالمنتظر من الكاتب أن يكتب (belief)، بدلاً عن (believe)، لكنه رجّح كتابة المعادل الفعلي على المعادل الاسمي؛ وربما يكون دليله على ذلك وجود مفهوم (action) في الإيمان الذي يمكن أن يوجد في كلمة (believe)، لا كلمة (belief).

وبما أن مفهوم الإيمان له دور مهم في الأديان السماوية الأخرى يبدو أن له معنى مشترك واسع في كل الأديان. وإن دراسة أصول ومعاني الإيمان في الأديان له أهمية وفائدة كبيرة. وسوف نتعرض إلى معنى واحد من هذه المعاني يشمل كل الأديان.

فمثلاً: في اللغة الإنگليزية لفظ (believe) شاملٌ لكلا المعنيين. الرأي غير القطعي (opinion uncertain)؛ والاعتقاد الراسخ (strong conviction). وقد جاء ذكر المعنى الثاني في الإنجيل([11]).

ونشاهد هذا المعنى في كلام القديس بولس، حيث قال: «الإيمان» هو الاطمئنان بالأشياء التي يمكن أن تصل إليها الأيادي، وهو أيضاً الاعتقاد الراسخ بـ«الأشياء غير المرئية»([12]).

وقد جاءت كلمة (الإيمان) ومشتقاتها في  القرآن 812 مرة. وذُكرت أيضاً في الكتب السماوية الأخرى مرّات ومرّات، فقد جاءت في المزامير 84 مرة، وفي التثنية 23 مرة، وفي أشعيا 34 مرة، وفي أرميا 21 مرة([13]).

الإيمان في رأي السيد الطباطبائي ــــــ

يحوي الإيمان مجموعة من المفاهيم المرتبطة فيما بينها، لكنّها في نفس الوقت ليست واحدة. فإذا أردنا تعريف الإيمان يجب أن نؤكّد على المفاهيم المعنائية له [وقد ذكرنا سابقاً أن ليس مرادنا التعريف المنطقي]، فبعض هذه المفاهيم تأتي باعتبارها مرادفة للإيمان، وبعضها موضّحة له. وعلى أية حال فإنّها بمجموعها تدلّنا على مواصفات الإيمان. كما يمكن ملاحظة هذه النقطة في الكتابات حول الإيمان عند المسلمين، ويمكن ملاحظتها أيضاً بين كتابات أتباع الديانات السماوية الأخرى.

مفاهيم الإيمان عند العلامة الطباطبائي ــــــ

لابأس أن نلقي نظرة على المفاهيم التي استخدمها العلامة الطباطبائي في وصف الإيمان. وهذه المفاهيم في رأيه عبارة عن:

الهدوء والسكون العلمي (Intellectual Pecefulness)، الالتزام العلمي (practical commitment)، التصديق (affirmation/assent)، الطاعة (Obedience)، الاطمئنان (Assurance)، اليقين (Certainty)، الخوف (awe)، الحب (Love)، العقد القلبي(Mental relatedness)، الوفاء (Faithfulness)، التوكل (Trust)، العمل (Work/action)، العمل الصالح (Good deed)، و…

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المفاهيم لها دور أساسي أيضاً عند علماء الأديان الأخرى.

والسؤال هنا: كيف استطاع العلامة الطباطبائي أن يجمع كل هذه المفاهيم ويَضمّ بعضها إلى البعض الآخر بهذا الشكل؟ وعلى أيّ واحد من هذه المفاهيم تتمحور؟ وكيف استطاع أن ينظّم تلك الشبكة من المفاهيم؟

وقد عرّف العلامة الطباطبائي في تفسير «الميزان» (الإيمان) بعدّة تعاريف، منها:

1ـ «الإيمان سكونٌ علميٌّ خاصٌّ من النفس بالشيء، ولازمه الالتزام العملي بما آمن به، والفسق  هو الخروج عن الالتزام المذكور»([14]).

2ـ «الإيمان هو رسوخ العقيدة في القلب. وأصلها جاء من مادّة (أمن)، فيكون معناه منح الأمان»([15]).

3ـ «الإيمان هو الإذعان والتصديق بشيء بالالتزام بلوازمه، طبعاً الإيمان الذي يتبعه العمل، لا أنه لا يتبعه شيء، ولذا نجد القرآن كلما ذَكَر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الإيمان بالعمل الصالح، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97)([16]).

ويضيف السيد الطباطبائي: «و ليس مجرد الاعتقاد بشيء إيماناً به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره، فإن الإيمان علم بالشيء مع السكون والاطمئنان إليه، ولا ينفك السكون إلى الشيء من الالتزام بلوازمه»([17]).

4ـ «الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به، بحيث تترتّب عليه آثاره العملية»([18]).

5ـ «الإيمان بمعنى الالتزام بما يقتضيه اليقين، وهو هِبَةٌ»([19]).

6ـ «فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقاً لا يكفي في حصول الإيمان واتّصاف من حصَلَ له به، بل لابدّ من الالتزام بمقتضاه، وعقد القلب على مؤدّاه، بحيث يترتّب عليه آثاره العملية ولو في الجملة»([20]).

لقد أظهَرَ العلامة الطباطبائي بعض المفاهيم المهمّة في تعريف الإيمان، ومنها: أنه نوع من السكون والاطمئنان النفسي، رسوخ العقيدة في القلب، منح الأمن والأمان، السير على النهج العملي، العلم بالشيء مع السكون والاطمئنان.

ويمكن ملاحظة مفهومين أساسين ومحوريَّين في تعريف العلامة الطباطبائي للإيمان، بحيث إن بقيّة المفاهيم موضِّحة لهذين المفهومين المهمّين، وهما: العلم؛ والعمل ـ الالتزام العملي ـ. والعلم هو الحائز على الدرجة الأولى في الأهمية؛ لأنه يقول كما تبيّن سابقاً: اجعلوا العمل إلى حدٍّ ما مواكباً للعلم، وعبارة (إلى حدّ ما) تشير إلى التقليل من أهمية العمل بالنسبة للعلم. وفي مكان آخر يقول: ليس الإيمان هو العلم فقط؛ لأن  بعض الآيات تخبرنا عن أشخاص انحرفوا بواسطة العلم، كما في سورة محمد، الآية 25([21]).

إذاً المؤمن ـ حسب رأي السيد الطباطبائي ـ يجب أن «يلتزم بمقتضى علمه، وينعقد قلبه وفق ذلك المؤدّى، بحيث تبرز آثار ذلك العلم عليه»([22]).

وعلى أية حال دعونا نبحث مفهومَي (العلم) و(العمل).

مفهوم العلم عند السيد الطباطبائي ــــــ

يوضّح الطباطبائي نفسه لنا معنى (العلم)، ففي كثير من العبارات، التي سنوردها لاحقاً، يتبيّن أن العلم أولاً: يجب أن ينتهي بنا إلى العقيدة والالتزام بها؛ وثانياً: يكون ذلك العلم مصاحباً للسكون والطمأنينة.

يمكن استخلاص مفهوم العلم عند العلامة الطباطبائي من عباراته السابقة. فقد قال: (الإذعان والتصديق) في عبارته «الإيمان بمعنى الإذعان والتصديق بالشيء…»، (الاعتقاد) في عبارته «الإيمان ليس مجرد الاعتقاد…»، و(العقيدة) في عبارته «اليقين علم مئة في المئة، لا يشوبه شك ولا ترديد». فهذه مجموعة من المفاهيم توضّح لنا (العلم) عند العلاّمة الطباطبائي.

ومعرفة ثمرة هذه المفاهيم واضحٌ تماماً، وهو أن العلم هو نفسه المعرفة الذهنية.

ربما يمكن أن نناقش (اليقين)، حيث إن العلامة الطباطبائي استفاد في كلامه من ألفاظ الهدوء، السكون، الطمأنينة والنفس أيضاً، وهذه المفاهيم تعطي معنىً نفسياً، لا معنىً علمياً. وقد قلنا: إنه جاء في «الميزان»: (الإيمان سكون علمي في النفس). فإذا كانت هذه المفاهيم تدور في دائرة النفس فإن المفاهيم المذكورة سابقاً حول اليقين ستكون يقيناً نفسياً.

والذي مكَّننا من أن نأخذ هذه اللفظة (اليقين) بمعناها العلمي وجود ألفاظ مثل: الإذعان والتصديق، الاعتقاد، العقيدة والعلم.

وكلما ذكر العلامة (السكون والاطمئنان العلمي) أمكننا أن نعبّر عن (النفس) بمعنى الذهن، وتستخدم الثقافة الإسلامية (النفس) بمعنى (الذهن).

علماً أن العلامة الطباطبائي لم يوضح هذه المعاني وضوحاً تاماً، ولم يفكك بينها…

ويمكن أن يكون لألفاظ اليقين، العلم، السكون والاطمئنان، معنى علمي يشير إلى المعرفة العلمية، ويمكن أن يكون لها معنى نفسي أيضاً.

والمعنى العلمي هو أن العلم بمعنى الاطّلاع الحاصل في الذهن، وإذا كان هذا الاطّلاع مئة في المئة يتحول إلى يقين ذهني، ونتيجة هذا اليقين الذهني هو السكون والاطمئنان الذهني، يعني عدم الشك.

أما في دائرة النفس فإن الاطلاع يظهر أيضاً، لكنه يعني الشعور العاطفي، الذي يفهم الإحساسات ويدركها. عندما يكون الشخص في مواجهة حادث أو شيء معيّن تظهر عليه حالة نفسيّة تحكي نوعاً من الاطّلاع، وهو اطّلاع نفسي يتبعه يقين نفسي. وهذا اليقين  يكون مواكباً للهدوء والسكون والاطمئنان.

دور العمل في الإيمان ــــــ

جاء مفهوما (العمل) و(الالتزام العملي) مرّات عديدة في تعريف العلامة الطباطبائي (للإيمان). فقد جاء في أحد تفسيراته: «الإيمان عبارة عن العلم، مضافاً إلى الالتزام به»([23]). ويقول في مكان آخر: «ليس الإيمان هو مجرد الاعتقاد بالشيء، إلاّ أن نعتقد بلوازم ذلك الشيء، ونقبل آثاره»([24]). وقال أيضاً: «إن الذي يخرج عن هذا الالتزام العملي بما آمن فهو فاسق»([25]).

ومن خلال ما مرّ من أقوال يمكن أن نقول: إن السيد الطباطبائي يقول بالتفاوت بين (العمل) و(الالتزام العملي)، لكنه لم يبيّن ذلك بشكل واضح؛ لأن القارئ سيكون متردّداً في مراد العلامة من هذين المفهومين، وهل أن مراده واحد أم لا؟

من الواضح أن (الالتزام العملي) له ارتباط بالنفس، والواقع أن العزم على العمل مرتبط بالعلم، و(العمل) مرتبط بالأعضاء والجوارح. والتفكيك بين هذين المفهومَين له تأثير كبير وحياتي في مفهوم الإيمان، وسوف نتطرّق إليه فيما بعد.

ومن المواضيع الضاربة في القِدَم دور العمل في الإيمان، حيث كان موضعاً للبحث بين كبار الإلهيين المسلمين.

فمثلاً: نفى المرجئة([26]) دور العمل في الإيمان، وقالوا: إن الإيمان هو أمرٌ قلبي فقط. وتنقسم عقائد هذه المجموعة إلى قسمين: قسم يعتقد بأن الإيمان هو علم أو معرفة؛ وقسم يعتقد أنه إقرار لفظي فقط. ولا نشاهد أثراً (للعمل) في تعريف الإيمان لدى القسمين. وتأتي أهمية بحث دور العمل في الإيمان من خلال معرفة دور المعصية في الإيمان، وكيف تؤثر المعصية فيه. من الواضح عند أمثال المرجئة أن المعصية ليس لها دور في الإيمان؛ أما أمثال الطباطبائي، الذين قالوا بتأثير العمل في الإيمان، فإنه سيكون للمعصية حتماً تأثير على الإيمان أيضاً.

وهنا سؤال يطرح نفسه: هل أن المعصية ليس لها دور في الإيمان العلمي، أو أن تأثيرها في الإيمان النفسي، أم أن أثرها بشكل خاص يكون في العمل؛ الذي هو أحد جوانب الإيمان؟ هذه المسائل يجب أن يكون لها بحث مستقل.

وعلى أية حال فإن هناك مجموعة تقول بأهمية دور العمل، أمثال: المعتزلة، وهي الطائفة التي عرّفت الإيمان حسب الطاعات، أي أداء التكاليف الدينيّة، فالذي يغفل عن أداء الطاعات غير مؤمن في رأيهم. أما الأشاعرة فعندهم ستة آراء مختلفة تعبّر عن جماعات مختلفة من المعتزلة حول الإيمان. ورغم التفاوت والاختلاف بين هذه الجماعات لكنها تتّفق في نقطة مشتركة، رغم اختلافهم في دائرة الذنب وحدوده، وهي أن المعصية تؤثّر في الإيمان.

 فهذا مثلاً هشام الفرطي، وهو أحد المعتزلة، يقسّم الإيمان إلى قسمين: إيمان بالله؛ وإيمان لله. فيعدّ الإيمان بالله كفراً، أما الإيمان لله فهو عبارة عن أداء بعض الفرائض، مثل: الصلاة، والزكاة، والتي إذا تركها العبد يعتبر فاسقاً([27]).

ويعتبر الزمخشري أيضاً من المعتزلة، وهو يقول في تفسير آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (يونس: 10): إن الإيمان يكون هادياً إذا صحبه العمل الصالح([28]).

أما الشيخ المفيد فيقول: إن الأعمال لا تدخل في تعريف الإيمان. وإن مرتكب الكبيرة مؤمن مذنب([29]).

ومن الجدير ذكره أن الزمخشري لم يكن مفرطاً من هذه الجهة.

وعلى أية حال فقد ظهرت مجموعة تمثل الإفراط في نفي دور الإيمان في العمل، من قبيل: المرجئة؛ ومجموعة ثانية تمثِّل التفريط في إعطاء الإيمان دوراً مهماً في العمل، أمثال: المعتزلة؛ وهناك مجموعة ثالثة تمثِّل الحالة المتوسطة بين المرجئة والمعتزلة في اتّخاذ الإيمان العلمي، وتؤكد أيضاً على الجَنْبَة العملية للإيمان.

ويمكن تصنيف السيد الطباطبائي ضمن المجموعة الثالثة، التي بين المرجئة والمعتزلة، فهو يعتقد بتأثير العمل في الإيمان، لكن عبارته «إلى حدٍّ ما» تُشير إلى جعلها بعد رتبة المعرفة. ويقول: «والإيمان هو الإذعان والتصديق بشيء بالالتزام بلوازمه… ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصفٍ جميل أو أجرٍ جزيل شفع الإيمان بالعمل الصالح، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (النحل: 97)([30]).

ما هو معنى عبارة «إلى حدٍّ ما»؟ وما هي الأعمال التي تشملها؟ سؤالان سوف نغوص في أعماق تفسير السيد الطباطبائي للبحث فيهما.

وهناك نقطةٌ جديرةٌ بالتنبّه لها، وهي أن الظاهر من رأي الطباطبائي أن (العمل) الذي هو نفسه (العمل الصالح) ليس جزءاً من ذاتيات الإيمان؛ لأنه جاء في تفسير الآية الكريمة {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} (النور: 55): «مِنْ تبعيضية، لا بيانية، والخطاب لعامّة المسلمين، وفيهم المنافق والمؤمن، وفي المؤمنين من يعمل الصالحات ومنهم من لا يعمل الصالحات، والوعد خاص بالذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات محضاً»([31]).

يقسّم العلامة الطباطبائي في هذه العبارة المؤمنين إلى مجموعتين: إحداهما: ليس لديها عمل صالح، وهي ضمن المؤمنين، لكن لا يشملهم الوعد الإلهي {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. وبالنتيجة فإن دور الإيمان في العمل ليس ذاتياً، بل هو عَرَضيّ. وهذا المطلب يمكن تأييده من خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض الآيات الحاوية على خطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، حيث تأمر المؤمنين بالتقوى، وإقامة الصلاة، والجهاد، والابتعاد عن الربا، كما تدعوهم للأعمال الصالحة. فإذا كان العمل من ذاتيات الإيمان فلا معنى لخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالنسبة إلى الذين لا يعملون الصالحات.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ}.

وهناك آيات أخرى تصبُّ في هذا المضمون، مثل: آية 69 من سورة مريم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. وهذه الآية من أوضح الآيات التي تحكي عن وجود الذنب عند الأشخاص المؤمنين؛ لأنها تقول: {لَنُكَفِّرَنَّ أي نُغَطّي سيئات المؤمن.

إذاً أين هو موقع العمل؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه في الحياة الإيمانية للمؤمن؟ وهل يمكن في الواقع أن يكون الشخص مؤمناً، ولا يكون لهذا الإيمان أثرٌ على العمل الذي يقوم به؟

العمل نتيجته النجاة ــــــ

من الأفضل أن نبحث مسألة دور العمل في الإيمان في باب درجات ومراتب الإيمان، التي سوف نتعرض لها في ما بعد. ولكن عندما يبرز الإيمان في العمل، ويجد الإنسان نفسه متّجهاً صوب الإيمان، فإن ذلك الشخص المؤمن الذي فيه هذه الصفات سوف يصل إلى درجة تؤهّله للنجاة والفلاح.  وعلى هذا سوف تكون نتيجة الإيمان والعمل الصالح في القرآن (الحياة الطيبة): {مَنْ عَمِلَ صالحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أنثى وهُوَ مُؤمِنٌ فلنُحيينَهُ حَياةً طيّبَة} (النحل: 97)، ولكن شرط الحياة الطيبة أن يكون العمل الذي يوصل إليها ناشئاً عن الإيمان. يقول السيد الطباطبائي حول هذه الحياة الطيبّة: «الإحياء إلقاء الحياة في الشيء وإفاضتها عليه. فالجملة بلفظها دالّة على أن الله سبحانه يكرّم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياة جديدة، غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامّة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه، وتبديل الخبيثة من الطيبة، مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه. ولو كان كذلك لقيل: فلنطيّبَن حياته»([32])، يعني أن المؤمن يولد لحياةٍ جديدة تختلف خصوصياتها عن الحياة العامّة.

وعلى المؤمن أن يسير في طريق الإيمان صوب الحياة الطيبة. وهذا الطريق لا يمكن سلوكه إلاّ من خلال (العمل). فالذي يؤمن ويعمل الصالحات ستشمله المغفرة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ}([33])، وسوف يوَفّون أجورهم بالتمام والكمال {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ}([34])، ويدخلهم الجنّات {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ}([35])، وكذلك {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}([36])، وإن الخطأ البسيط لا يؤثر على حياتهم {لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}([37])، وإنهم يدخلون في رحمة الله {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}([38])، وتُعطى لهم أعلى الدرجات {لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى}([39])، وهم خلفاء الله في الأرض {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}([40]). وكل هذه المفاهيم تدل على الفلاح والنجاة. وفي الواقع إن سعي المؤمن في الوصول إلى الفلاح والنجاة لا يكون إلاّ بالعمل.

إلى هنا توصّلنا إلى أن الإنسان يمكن أن يكون مؤمناً من دون عمل، ولكن لا يمكنه الوصول للنجاة إلاّ بالعمل. وهذا المطلب يحتاج إلى بحث أكثر، وسوف نبحثه في (درجات ومراتب الإيمان).

الالتزام العقلي ــــــ

الالتزام العقلي والعقد القلبي مفهومان من مجموعة مفاهيم يمكن ملاحظتها عند السيد الطباطبائي. ويمكن أن نصنّفهما ضمن دائرة النفس. وقد تكلّمنا كثيراً حول الالتزام العملي، ولكن العقد القلبي الذي ورد في كلام السيد الطباطبائي هو في الواقع المعادل للالتزام العقلي. ويذكر الفلاسفة أن (Intellectual commitment) مقابل (Practical Commitment).

لم يبيّن السيد الطباطبائي أي تحليل حول هذا المفهوم، ولم يبيّن هل هو داخل في مجموعة مفاهيمه أم لا؟ ولا يظهر في تعاريفه بشكل واضح سوى الإيمان.

ويُستَشمّ من هذين التوأمَين ـ العقلي؛ والعملي ـ مفهوم التعهّد والعزم، ولكن أحدهما تعهّد عملي؛ والآخر تعهّد علمي. وبعبارة أخرى: إن لمفهومي التعهد والعزم وجهين: الأول: اهتمام في دائرة العلم والاعتقاد؛ والثاني: يؤكد على ساحة العمل، عمل على أساس العلم والاعتقاد.

المعرفة، ثم الالتزام العقلي، ثم الالتزام العملي، ثم العمل.

الالتزام العملي جسرٌ بين العلم والعمل ــــــ

إذا لم يكن (الالتزام العملي) في رأي السيد الطباطبائي إلاّ (العمل) فإن العلم الذي هو يقين مئة في المئة ـ حسب رأيه ـ سوف يَنْجَرّ إلى العمل بشكل آلي ـ أوتوماتيكي ـ، ويؤثر على سلوك الإنسان بشكل فوري. وهذا غير ممكن.

والظاهر أن السيد الطباطبائي كان متنبّهاً إلى هذه المشكلة؛ لذلك قال: يجب أن يكون هناك جسرٌ يربط بين العلم والعمل. فقد قال في «الميزان»: «إذا لم يلتزم التزاماً عملياً، وعمل خلاف ما آمن به، فإنه فاسق»([41])، بمعنى أنه يدور مدار هذا الالتزام من حيث وجوده أو عدمه، فيؤدي إلى أن يكون المؤمن يعمل وفق إيمانه أو خلافه.

ومن ناحية أخرى فإن هناك آية قرآنية تُشير إلى إمكانية العمل خلاف العلم واليقين، وهي: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل: 14). لذا يجب أن يكون هنالك شيء ما؛ كي ينجرّ العلم واليقين مئة في المئة (حسب رأي السيد الطباطبائي) إلى العمل. وعلى أية حال فإن السيد الطباطبائي يمرّ على هذه المسألة من دون أن يبيّنها.

دور العمل في الإيمان حسب رأي الشيخ ابن تيمية ــــــ

يبدو بشكل عام أن العبور من مرحلة الذهن والعلم إلى مرحلة الجوارح يحتاج إلى جسرٍ أو معبر روحي. وسوف نبذل جهدنا لإظهار ذلك المعبر من خلال آراء بعض الإلهيين المسلمين. ويمكن الإشارة مثلاً إلى ابن تيمية.

من أجل إثبات أن العمل من جملة الأجزاء الأصلية والمهمّة لمفهوم (الإيمان) أدخَلَ مفهوم (العمل القلبي) أو (الفعل النفسي) في البناء المعرفي للإيمان.

فعندما يتكلم ابن تيمية حول محلّ الإيمان في وجود الإنسان يقول: إن القلب هو المحل الأصلي للإيمان([42]). ويخصّ كل واحد منهم بوظيفة معينة: إحداها: الوظيفة الذهنية (العلم)، الذي يعتبر  أنه (التصديق)؛ والأخرى: الأعمال الخاصّة بالقلب نفسه، وهي عبارة عن محبّة الله ورسوله، والخوف منه سبحانه، والعداوة لكل مَنْ يعادي الله ورسوله([43]). وكان ابن تيمية يعتبر التوكّل من جملة أعمال القلب، التي يقول: إنّ الله ورسوله يعتبرانها من الإيمان.

وبعدها يقول: إذا كان في القلب العلم والإرادة فإن هناك تأثيراً قطعياً على كل أجزاء البدن، ولا يمكن أن يتخلّف البدن عن إرادة القلب([44]).

العمل القلبي هو حلقة الوصل عند ابن تيمية ــــــ

أدخل  ابن تيمية مفهوم (العمل القلبي) بعنوان حلقة الوصل بين التصديق الباطني وبين العمل الظاهري أو البدني، من ناحية أدائه وعدم أدائه. ومن خلال دخول هذا المفهوم قام ابن تيمية بالرد على القائلين بعدم دخول العمل ضمن الإيمان، ومن جانب آخر فإنه قد بيّن ووضّح انتقال العلم إلى العمل.

وقد نسب ابن تيمية الفهم إلى القلب، وذلك من خلال قسم من الآيات القرآنية، وليس على أساس التحليل العقلائي له. ويأتي بشواهد قرآنية تقول بإطلاق اسم العقل على القلب([45]).

والنقطة الأخرى التي يمكن استخلاصها من كلام ابن تيمية هي الإشارة إلى دور الإرادة في العبور من العلم إلى العمل، وذلك في كتابه المعروف «كتاب الإيمان»، وهي مجرّد إشارة.

ولو قام ابن تيمية بتحليل هذه النقطة الحساسة والمصيرية لتوصّل إلى ردم الفجوة الحاصلة من خلال العبور من العلم إلى العمل. وبعبارة أخرى: كيف استطاع الفكر الإسلامي أو الثقافة الإسلامية أن تحلّ مشكلة العبور من ساحة المعرفة والعلم إلى ساحة العمل؟

وعلى أية حال فإن مفهوم (العمل القلبي) أو (الإرادة) تبيّن سعي ابن تيمية في تبيين الجسر الرابط بين المعرفة (العلم) والعمل. وهو في الواقع خطوة نحو الأمام.

ويمكن أن نلاحظ هنا تشابه وجهات النظر بين السيد الطباطبائي ابن تيمية حول الجسر الرابط بين العلم والعمل، وأن العمل القلبي في رأي ابن تيمية هو في الواقع (الالتزام العملي) عند السيد الطباطبائي وكما أسلفنا كثيراً فإن السيد الطباطبائي يشير بـ (الالتزام العملي Practical Commitment)، ويشير ابن تيمية بـ (العقد القلبي)، إلى الجسر الرابط بين المعرفة والعلم وبين العمل.

وفي بعض الأحيان يمكن ملاحظة هذا المفهوم عند فلاسفة الدين الجديد. فمثلاً: عندما يتكلم (آنتوني كني) بالتفصيل عن معاني عبارة (الاعتقاد بالله) يقول في المعنى الثالث: «إن هذا الاعتقاد أكبر من الصدق بالقضايا الاعتقادية باعتبارها وحياً فقط، فيجب أن نلتزم بها التزاماً عقلياً صرفاً». ويضيف في مكان آخر: «وإن لازم هذا الاعتقاد أن الإنسان بعض الأحيان يصمّم في قضايا معينة، ثم يقوم بالعمل وفق هذا التصميم»([46]).

وفي الواقع فإن (آنتوني كني) في تعبيره عن معنى (الاعتقاد بالله) يقوم برأب الصدع والفجوة بين العلم والعمل، فيملأها بالتصميم/العزم (Resolution) في العمل بمقتضى الاعتقاد.

وقد استفاد في البداية من لفظة (الالتزام العملي/ Pratical Commitment)، ثم عرّج على لفظة (التصميم/العزم) للاستفادة منها في توضيح مراده.

تبيِّن ماهية الإرادة وآليّتها لماذا تميل الإرادة الشخصية إلى إنجاز العمل تارةً، وإرادة شخصية أخرى على خلافها ـ عدم إنجاز العمل ـ ؟ وهذه مسألة تشغل الذهن. هل أن الإرادة في  بعض آليات علم النفس هي أن النيّات تتبدل إلى حركات جسمية؟ هذا الرأي يعتبره بعض الفلاسفة أسطورة، أمثال: (أي. جي. آير)([47])، وجيلبرت رايل، الذي يسمّيها بـ (المحفّزات المخفية)([48]).

منذ زمن القديس توماس أكويناس طُرح في العالم الغربي مفهوم الإرادة في مفهوم الإيمان بشكلٍ كأنه فتح الطريق أمام ذوي الإرادة([49]).

وقد سعى المفكّرون الثلاثة المذكورون: ابن تيمية (من مفكري القرون الأولية)، والطباطبائي (من مفكري المسلمين المعاصرين)؛ وآنتوني كني (فيلسوف ديني غير متديّن معاصر)، في تحليل كيفية العبور من ساحة العلم إلى ساحة العمل، حيث استفادوا بشكل أو بآخر من مفاهيم متشابهة، وكلها مرتبطة بساحة النفس.

وقد قيل كلام كثير حول دور الإرادة في الإيمان في فلسفة الدين الجديد، بل ظهرت مذاهب فكريّة محورها (الإرادة) في هذا المجال.

ويمكن الإشارة إلى كتاب (پُل تيليش) «بحث حول الإيمان» (Dynamics of Faith)، الذي يعتبر من أبرز الكتابات التي كتبت حول قضيّة الإرادة ودورها في الإيمان.

وخلاصة المطلب ـ ووفقاً لما قيل سابقاً ـ في مسألة حصول الإيمان هو حصول المعرفة الذهنية أولاً، ثم في الساحة النفسية نلتزم العمل بتلك المعرفة. أو بعبارة أخرى: يأخذ التصميم بالعمل شكله وفق المعرفة، ثم يسري وينتقل إلى الأعضاء والجوارح.

 علاقة العلم بالالتزام ــــــ

كما هو واضح فإن الالتزام يأخذ شكله الذهني والعملي في ساحة النفس، وهو مبتنٍ على تصميم واحد، ويمكن أن يتّخذ هذا التصميم ويطبّقه أو يتجنّبه؛ لذا يمكن أن نسمي الإيمان بأنه أمر فعّال لا منفعل.

أما عند السيد الطباطبائي فإنه يعرّف العلم بشكل من الصعب أن نستنتج العلاقة بينه وبين الالتزام. وكما أسلفنا كثيراً فإن السيد الطباطبائي يقول بأن الإيمان هو الاستقرار والهدوء العلمي، الذي لاشك فيه ولا ترديد.

ومن جانب آخر فإنه يقول في مكان آخر: «فإذا آمن أحد في أمانةٍ أودَعَها عنده، أو عهدٍ عاهَدَهُ، وقطع على ذلك، استقرّ عليه، ولم يتزلزل بخيانة أو نقصٍ»([50]). ويضيف السيد الطباطبائي أيضاً: «الإيمان هو ثبات العقيدة في القلب»([51]).

فإذا ضَمَمْنا العبارات الثلاث إلى بعضها نخلص بنتيجة مفادها أن العقيدة هي اليقين العلمي الحاصل في القلب، أو في داخل الإنسان؛ لحصول الاطمئنان والسكون النفسي. وبالنتيجة سوف لا يتزلزل الإيمان، وإلاّ سوف يُصاب بالتزلزل.

وهنا أسئلة تطرح نفسها: كيف يمكن لليقين العلمي مئة في المئة أن يكون غَرَضاً للتزلزل؟ وهل يمكن لهذا اليقين مئة في المئة أن يتزلزل؟ وكيف يمكن الرجوع للدرجة العليا إذا ما حدث هذا التزلزل وهذا النزول؟

نعم، نحن في مواجهة تعارض لم يبيّنه السيد الطباطبائي في حديثه. وإذا أردنا إعادة هيكلية كلامه بشكل أو بآخر يجب أن نقول: من المحتمل أن يكون في أعماق تفكير السيد الطباطبائي أن اليقين العلمي مئة في المئة في محلّه، لكن التزلزل الواقع هو في دائرة الاستقرار والاطمئنان في الداخل، الذي هو ضمن الحدود النفسية التي لها ارتباط بالالتزام العملي، ويظهر ذلك من قوله: «ومن هنا يظهر بطلان ما قيل: إن الإيمان هو العمل؛ وذلك لأن العمل يجامع النفاق، فالمنافق له عمل، وربما كان ممّن ظهر له الحق ظهوراً علمياً، ولا إيمان له على أية حال»([52]).

والذي يجعل الصعوبة والمشقّة في مسألة إعادة النظر هذه هو أن السيد الطباطبائي يقول: إن الاطمئنان والسكون الحال في القلب بعد اليقين العلمي أمرٌ قهريٌّ وقطعيٌّ؛ لأنه يقول: إن اليقين الحاصل في القلب مستقر وساكن، ولا يمكن أن يزلزله شيء، فإذا حصل هذا الاطمئنان في القلب قهراً فلا يبقى هناك مكان للتصميم والالتزام بعد ذلك.

وعلى أية حال فإن السيد الطباطبائي أكّد على النواحي الثلاث: العلم؛ والنفس؛ والعمل، لكنه لم يبيّن ولم يبحث تركيبة الإيمان في هذه النواحي. والحقيقة أنه لم يكن في حسبانه أن يقدِّم طرحاً حول النظام الموافق (Consistent) للإيمان.

منزلة الإخلاص في الإيمان ــــــ

الوفاء، الأمانة، البقاء على العهد أو البيعة، كلّها تشير إلى معنىً واحدٍ. وسوف تواجهنا هذه المفاهيم في المواضيع التي كُتبت في باب الإيمان.

ويكفي في بيان مفهوم الوفاء أن بعض المحققين جعلوه من المعاني الأساسية للإيمان، بل إن بعضهم عرّف الإيمان بالوفاء (الإخلاص)، لا أنه من أجزاء الإيمان.

ولأهمية الموضوع دعونا نبحث في موضوع (الوفاء) بعض الشيء، ونبدأ بحثنا حول الألفاظ.

(وفى) بمعنى أتَمَّ، وأوفَيتُ الكيل بمعنى ملأت المكيال. أما معنى العمل بالقول والعهد فإنه يأتي بشكل تركيبي (وفى بعهده)([53]). ولفظة (وفى) جاءت في القرآن حول المعنى المُراد بشكل مركّب مع لفظة (عهد) أو (نذر): {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40)، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النمل: 91)، {وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} (البقرة: 177)، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (الإنسان: 7)، والألفاظ المعادلة لهذه الكلمة في اللغة الانگليزية (Fealty, Loyalty) (الكلمة الإنگليزية مأخوذة من اللفظة الفرنسية في القرون الوسطى (Fide litas)، و(Fidelity) دائماً تحمل معنى (تحقق القول المُعطى) يعني (الوفاء بالعهد). وقد جاء هذا المعنى ـ مفهوم الوفاء ـ في قسم من الأديان غير السماوية، ففي تلك الأديان يرسمون على أجسامهم علامات تدل على اعتناقهم الديني، فتكون هذه النقوش بمثابة البيعة للدين الجديد، وتلعب دوراً في تذكير ذلك الشخص بمعنى أنه سيكون وفياً لمن بايَعَهُ، يعني قبول الدين الجديد والبقاء وفياً ومخلصاً له([54]).

وكلمة الوفاء تشكّل قسماً من ألقاب الأباطرة([55])، ونحن نعلم أن الأباطرة يقومون بدور الآلهة. ويمكن الإشارة إلى أن وصف الأباطرة في ذلك الزمان له جنبتان، وهذا الوصف يدلّ على أنهم قد وَفَوا بالبيعة مع الناس، وبالقول الذي قالوه لهم. فمثلاً: إذا نظرنا إلى لقب الإمبراطور (آنتونيوس بيوس  Antoninus Pius) نشاهد أن لفظة (Pius) اللاتينية بمعنى (Loyalty) (الوفاء)([56]).

الارتباط بين الوفاء والالتزام العملي ــــــ

يمكن ملاحظة مفهوم الوفاء أو الأمانة في كلام السيد الطباطبائي، وكذلك عند المتألهين للأديان الأخرى، حيث نظّم مفهوم (الالتزام العملي). ويمكن القول بأن مفهوم (الوفاء) الذي يقصد به الوفاء بالعهد يحمل الطرح التالي:

1ـ قبول أن التصميم على العمل أكثر مقبولية في المحيط العلمي.

2ـ الإقدام على العمل وفق هذا التصميم.

3ـ الإصرار على حفظ التصميم الأولي ـ القرار ـ.

ولا يخفى أن (التصميم على العمل أكثر مقبولية في المحيط العلمي) هو نفسه (العهد) الذي يعتبر مقدّمة (للوفاء)، والحقيقة أن الوفاء يبدأ من (المبادرة إلى العمل بذلك التصميم)، وسوف يستديم مع (الإصرار على حفظ التصميم الأولي).

في الواقع إن عبارة (الوفاء بالعهد) مفهوم يتضمن مفهومين أو عهدين: أحدهما: التصميم على العمل؛ والآخر: الإصرار والتصميم على حفظ ذلك التصميم.

والأول كأنه (العهد)، والثاني كأنه (الوفاء)، وهو مفهوم سيّال؛ لأنه يحمل داخله التكرار. وقد صار واضحاً أنه كيف يمكن لمفهوم الوفاء أن يستقرّ بجانب مفهوم (الالتزام العملي). ففي الواقع يمكن القول: إن الالتزام العملي هو نفسه (العهد)، الذي هو مقدمة لمفهوم الوفاء، الذي يستقر بجانب مفهوم (الالتزام العملي). ويمكن القول: إن الالتزام العملي هو نفسه (العهد)، الذي هو مقدمة لمفهوم (الوفاء).

وكما أسلفنا سابقاً فإن هذا المفهوم حول الله سبحانه قد استُعمل في كافة الأديان، وقيل: إن الوفاء والأمانة تبدأ من الله سبحانه، ثم بعد ذلك يأخذ الإنسان من ذلك الوفاء في حياته اليومية. يقول السيد الطباطبائي: «فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده، أو عاهده، وقطع على ذلك، استقرّ عليه، ولم يتزلزل بخيانة أو نقص»([57]).

وقد طُرحت هذه المسألة المهمة في دائرة المعارف الدينية أيضاً، وطُرحت كذلك في بقية الأديان([58]). ولكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الله وبين مخلوقاته.

و النقطة التي تستحق الوقوف عندها في كلام السيد الطباطبائي أن حصول الاستقرار والسكون والاطمئنان في قلب المؤمن منوطٌ باليقين بأنّ الله لا يخون مطلقاً، ولا يكسر العهد. وبعبارة أخرى: «بعد رؤية الوفاء عند الله سبحانه».

«الطمأنينة والاطمئنان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنّت الأرض، وأرضٌ مطمئنّة إذا كان فيها انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها، والحجر إذا هبط إليها»([59]).

السكون والاطمئنان هو نفس المعنى الذي يعطيه المفهوم القرآني للسكينة. ويقول حوله السيد الطباطبائي في مكان آخر: «إن السكينة روح إلهي، أو تستلزم روحاً إلهياً من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط الجأش»([60]).

والسؤال الذي يقفز هنا: أين مكانة الوفاء الالهي في مسألة الإيمان؟ قلنا: إن وفاء المؤمن يبدأ من المبادرة بالعمل بما صمَّمَه هو، والإصرار على حفظ ذلك التصميم بشكل دائم. وعلينا أن نبحث الوفاء الإلهي في(التصميم على حفظ التصميم الأولي). فعندما يشاهد الشخص المؤمن الوفاء الإلهي سوف يحصل له الاطمئنان، لأن قوّة التصميم الأولي في اختياره كامنة في فطرته.

علماً أن السيد الطباطبائي يعتبر شرط تحقق الإيمان الوفاء([61])،  يعني أن الإيمان يتحقق بواسطة الاطمئنان والسكون. ومن هنا يمكن أن نستلهم ما يعطيه الإيمان من معنى الموهبة والعطية.

الإيمان عطية إلهية ــــــ

تشير إحدى التعليمات الدينية إلى الإيمان بأنه موهبة إلهية. وهنا سؤال يطرح نفسه: إذا كان الإيمان هبة إلهية فما هو دور الإنسان في اختيار الإيمان؟ وهل له إرادة في ذلك؟ يجيب السيد الطباطبائي في «الميزان» بالقول: «الإيمان الواقعي ولوازمه عطية وفضل من الله سبحانه»([62])، ويضيف في مكان آخر: «الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين [يعتبر] من الموهبة الإلهية»([63]). ويبدو أن وفاء الله سبحانه يمكن أن يكون مفتاحاً لحلّ الكثير من الأمور. وكأنه يوجد هناك ارتباط قوي بين الوفاء الإلهي وبين الهِبة الإلهية للإيمان. وإظهار الله سبحانه للوفاء بوعوده يضفي على المؤمن الهدوء والاطمئنان مترافقاً مع الأمل والرجاء، وهذا الأمل بمثابة مصدر قوّة للوقوف عند التصميم الذي يتّخذه.

والمقصود من هِبَة الإيمان هو الهدوء والسكينة التي يمنحها الله سبحانه وتعالى للعبد ويلقيها في قلبه بعد كل تصميم، فيمنحه الأمل في أن يُقدِم على التصميم مرة ثانية، وكأنه يقول له: إنّ عزمك لم يذهب هباءً.

«التلوث بالكفر وأمثاله يخرجه الله سبحانه من قلوب المؤمنين شيئاً فشيئاً، حتى لا يبقى في قلوبهم إلاّ الإيمان، ويكون خالصاً لله سبحانه»([64]). وهذه هي الموجبة التي يحصل عليها الإنسان من الطمأنينة والهدوء المتكرِّر الذي يحصّله المؤمن بعد كل وفاءٍ.

وهناك آية أخرى تبيّن موهوبية الإيمان بشكل واضح، وهي: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4). يعتقد السيد الطباطبائي أن معنى زيادة الإيمان مِن قِبَل الله سبحانه هو أن «الله الذي أوجد الثبات والاطمئنان الذي هو لازم من لوازم مرتبة من مراتب الروح يلقيها في قلوب المؤمنين، ليشتدّ به الإيمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة، فيصير أكمل ممّا كان قبله»([65]). يبدو أن تأثير الله سبحانه في مسألة الإيمان تأثير مستمر يَرِد بعد كل تصميم يتّخذه الشخص.

من الواضح أن الوقوف والثبات على التصميم الأوّلي سوف يحقّق الاستمرار في اتّخاذ التصميم الذي يليه. وهذه التصميمات لها نتائج لا حصر لنهايتها.

وهناك ارتباط جدلي ـ ديالكتيكي ـ مستمر بين وفاء الله المتعاقب وبين التصميمات المتعاقبة للمؤمن في الوفاء بعهده. وهذا هو المعنى الحركي ـ  الديناميكي ـ للإيمان.

وهنا تعيش في نفس المؤمن حالتان؛ فهو إما أن يكون فعّالاً؛ أو منفعلاً. ففي الحالة التي يكون فيها فعّالاً تكون تصميماته معقّدة وملتوية بعض الشيء، وأما حين يكون مُنفعلاً فيستقر في الاطمئنان حتى يحصل له الإحساس بوفاء الله سبحانه. وهذه كلّها تشمل قسمين من الإرادة في ساحة النفس: أولها: الإحساسات والعواطف؛ والثاني: قسم الإرادة.

فالسكون والاطمئنان مرتبط بالقسم الأول، أما التصميمات المتعاقبة ففي القسم الثاني.

ومن الجدير ذكره أن مواجهة الإنسان مع الله ومواجهة الله سبحانه مع الإنسان تدور في هذه الدائرة.

أحد أسماء الله (المريد). والمريد بمعنى الذي يريد أن يفعل شيئاً. والإنسان أيضاً يمكن أن نسمّيه (مريداً)؛ لأنه يريد شيئاً، ثم يقوم بفعله.

ومن الجدير ذكره أن إرادة الله سبحانه لا يمكن أن نفهمها كإرادة الإنسان، ولكن معنى الإرادة والعزم مشترك بينهما. فعندما (يريد) الله فما هو مراده؟ يرى (مولوي) أن مُراد الله هو الإنسان، يعني أن الله يصنع إرادة الإنسان، والإنسان عنده العزيمة للذهاب باتّجاهه.

إذاً في الدائرة النفسية كلٌّ من إرادة الله وإرادة الإنسان مطلوبٌ ومؤثّرٌ، ونتيجتهما السكون والاطمئنان اللذان يحصلان بشكل مكرّر ودائم، وهذا معنى النشاط الإيماني.

وهذه النظرة متفاوتة تماماً مع رأي تيليش بالنسبة إلى النشاط الإيماني، لكنه لا يتواجه معه.

والنقطة المهمة في دائرة النفس هي أنها غير عمياء، ولا ضالّة، بل إنها حاوية على العواطف والأحاسيس. وأفضل مصداق على ذلك هو الفرح والحزن اللذان نعلم بهما، ولكن هذا الاطّلاع ليس ذهنياً.

وهكذا يمكن أن يظهر سؤال آخر: هل أن الإيمان فعل أم انفعال؟ قد استقرّت مسألة الإيمان على أنه فعل وانفعال نفسيّ. وهذا الكلام لا يتنافى مع الذين يقولون: إن الإيمان هو الفعل؛ لأنهم يؤكّدون على الإرادة التي هي مقابل اليقين النفسي مئة بالمئة، وهو أمرٌ انفعالي. والمقصود من الفعل والانفعال هنا أن كليهما في دائرة النفس.

وهكذا شاهدنا كيف أن مفهوم (الأمل/الرجاء) دخل في مُحصّل الإيمان. وهو المفهوم الذي جاء به القديس بولس في تعريفه للإيمان. وعلى أية حال يمكن تبيين الخوف، والحب، والتوكل، وغيرها من المفاهيم الدينية، في دائرة النفس وحول محور (الالتزام).

الهوامش

______________________________

(*) أستاذة مساعدة في جامعة طهران.

([1])non – realism in religion : وهي نِحلَة تعتقد بعدم إمكان إثبات وجود الله سبحانه عن طريق العقل. ولكن بما أن الآثار الدينية لا يمكن تجاهلها لذا يجب حفظها. وهذه النحلة تعرّف الله والدين بأنه غاية (براغماتية). ومن جملة قادة هذا التيار وهذه النحلة (دان كيوبت)، الذي يعتبر كتابه «بحر الإيمان» من أهم الكتب، وقد تُرجم إلى الفارسية.

([2]) ولد پُل تيليش (Paul Tillich) عام 1886 في ألمانيا. وفي سنة 1933 أخرج من جامعة فرانكفورت، فذهب إلى أمريكا. وصار أستاذ الإلهيات وفلسفة الدين في جامعات أمريكا. أهم آثاره وأشهرها حول إلهيات البروتستانت كتابه «بحث حول الإيمان»، والإلهيات.

([3]) أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)، صاحب الكتاب المهم «كتاب الإيمان».

([4]) Encyclopedia Of Religion, Mircha Eliade, (Faith, Jaroslav pelican), p: 3

([5])Love, Power and Justice, paul Tillioh, 1954, oxford university press, p: 3

([6]) مفردات ألفاظ القرآن: 22.

([7]) المصدر نفسه: 23.

([8]) المصدر نفسه: 24.

([9]) persuasion: المعنى المتداول لهذه الكلمة في اللغة الإنگليزية هو الترغيب. وهو المعنى الرسمي للاعتقاد.

([10]) لاكاستا، دائرة المعارف الإلهية المسيحية، 1: 54.

([11]) المصدر نفسه.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) المصدر نفسه.

([14]) الميزان في تفسير القرآن 16: 414.

([15]) المصدر نفسه 1: 55.

([16]) المصدر نفسه 1: 55.

([17]) المصدر نفسه 1: 55.

([18]) المصدر نفسه 18: 409.

([19]) المصدر نفسه 15: 325.

([20]) المصدر نفسه 18: 409.

([21]) المصدر نفسه 18: 411. والآية هي: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) الميزان 18: 409.

([24]) المصدر نفسه، النحل: 97.

([25]) المصدر نفسه 16: 414.

([26]) المرجئة: من الإرجاء بمعنى (التأجيل) والإمهال. فصار اسمهم المرجئة؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. ويعتقدون أن المعصية لا تضرّ الإيمان، وكذلك لا تفيد الطاعة مع الكفر. ومن أجل الاطلاع أكثر حول هذه الفرقة راجع كتاب «الفَرْق بين الفِرَق»، للبغدادي، وكتاب «الملل و النحل»، للشهرستاني.

([27]) الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين: 303.

([28]) الزمخشري، الكشاف عن حقايق الأقاويل في وجوه التأويل 2: 226.

([29]) أنديشه هاي كلامي شيخ مفيد: 477.

([30]) الميزان.

([31]) الميزان 15: 214.

([32]) الميزان 12: 521 ـ 522.

([33]) {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 9).

([34]) {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. (آل عمران: 57).

([35]) {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} (النساء: 122).

([36]) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69).

([37]) {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 7).

([38]) {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ} (الجاثية: 30).

([39]) {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى} (طه: 75).

([40]) {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55).

([41]) الميزان 16: 44.

([42]) ابن تيمية، كتاب الإيمان: 137.

([43]) المصدر نفسه: 136.

([44]) المصدر نفسه: 136.

([45]) بعض الآيات التي استند إليها ابن تيمية في حديثه هي: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} (هود: 91)، و{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} (الأنفال: 23)، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا..} (الأعراف: 179).

([46]) كني، ما هو الإيمان: 4؛ (What is Faith,  A.J Ayer , P.155).

([47]) A.J. Ayer , P. 155 What is faith,

([48]) Gilbert Ryle , The concept of Mind , p. 67

([49]) كيفية فتح هذا الطريق تجده مكتوباً باختصار في «نظرية الإيمان، ونقد آل مكي عليها».

([50])  الميزان 15: 14.

([51]) المصدر نفسه 18: 415.

([52]) المصدر نفسه 18: 415.

([53]) انظر: مفردات ألفاظ القرآن.

([54]) انظر: دائرة المعرف الدينية: 250.

([55]) جمع إمبراطور.

([56]) انظر: دائرة المعرف الدينية: 250.

([57])  الميزان 15: 14.

([58]) بليكان، دائرة المعارف الدينية: 250.

([59]) الميزان 2: 407.

([60]) المصدر نفسه: 411.

([61]) المصدر نفسه 18: 476.

([62]) المصدر نفسه 16: 161.

([63]) المصدر نفسه 15: 325.

([64]) المصدر نفسه 4: 52.

([65]) الميزان 18: 409 ـ 411.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً