أحدث المقالات

د. محمد علي عبد اللهي(*)

يحظى بحث صيانة الذات في المنظومة الفلسفية لـ «سْبينوزا»([1]) بأهمّية بالغة، ويُعَدّ بمنزلة النتيجة المترتِّبة على ميتافيزيقاه الخاصّة. تكمن أهمّية هذا البحث في تأثيره العميق الذي يتركه في النظرية الأخلاقية، والنظرية السياسية، وعلم النفس الفلسفي. إن البحث عن صيانة الذات من الأهمّية بمكانٍ، بحيث يمكن القول: إنه يشكّل المفهوم المحوري لفلسفة الأخلاق عند سبينوزا. لقد بحث سبينوزا صيانة الذات في الفصل الثالث من كتاب الأخلاق. لقد تمّ تخصيص الفصل الثالث لبيان منشأ وطبيعة العواطف، إلاّ أن سبينوزا يعمل في بداية هذا الفصل على التمهيد للدخول في صلب بحث قانون صيانة الذات، فقد بحث في نشاط وانفعال النفس وعواطفها ومشاعرها، لينتقل بعد ذلك إلى طرح قانون صيانة الذات ضمن القضية السادسة من القسم الثالث، حيث قال: «يسعى([2]) كلّ شيء ـ بقدر ما له من الكيان ـ إلى الاستمرار في كيانه»([3]).

في هذه القضية يتحدَّث سبينوزا عن سعي كلّ شيءٍ ـ وليس الإنسان فقط ـ إلى الحفاظ على بقائه واستمرار كينونته. فكلّ شيء يسعى إلى الاستمرار في كيانه بقدر ما له من الكيان. وفي القضية التالية (أي القضية السابعة) يعلن صراحةً عن أن الذات الفعلية لكلّ شيء لا تعدو السعي (Conatus) من أجل البقاء: «لا يعدو أن يكون الجهد الذي يبذله كلّ شيء من أجل الاستمرار في كيانه غير ماهية ذلك الشيء الفعلية»([4]).

لقد عمد سبينوزا إلى استعمال مفردة (Conatus) أول مرّة في هذه القضية السابعة. وقد استعمل المترجمون الإنجليز في مقابل هذا المصطلح اللاتيني تعابير مختلفة، من قبيل: (endeavaur)، و(force)، و(power)، و(effort)، وما إلى ذلك. ويمكن أن نعبِّر بلفظ «قانون صيانة الذات» لبيان مراد سبينوزا. يذهب سبينوزا إلى الاعتقاد بأن قانون صيانة الذات هو أوّل قانون في الطبيعة، وأنه أصل وجذر جميع العواطف، وشامل لجميع الأشياء. إن سبينوزا ـ كما أشار الأستاذ (جهانغيري)([5]) ـ يذهب ـ خلافاً للرواقيين، الذين اعتبروا هذه القوّة والشوق الطبيعي من مختصّات الكائنات الحيّة ـ إلى أنها شاملةٌ لجميع الأشياء، الأعمّ من الكائنات الحية وغير الحية، ومن هذه الناحية لا يرى فَرْقاً بينها، ويؤكِّد في المقابل أن ذات كلّ شيء لا تحتوي على أيّ قوّةٍ من شأنها أن تؤدّي إلى زوالها والقضاء عليها.

ماهية صيانة الذات

إن عبارة «بقدر ما له من الكيان» في القضية السادسة تحظى بأهمّية بالغة لفهم قانون صيانة الذات بشكلٍ دقيق وصحيح. إن قيد «بقدر ما له من الكيان» يذكِّرنا بتعريف الجوهر من وجهة نظر سبينوزا؛ إذ كان يقول: إن الجوهر هو وحده الكامن في ذاته، وأما الأشياء الجزئية (ومن بينها الإنسان) فهي ليست في ذواتها. وعلى هذا الأساس ليس هناك شيءٌ في ذاته سوى الله، وبالتالي لا صيانة لذات أيّ شيءٍ آخر غير الجوهر (الله)، ولا يمكن له أن يعمل على تجسيد ذلك. إلاّ أن هذا الأمر يعقِّد فهم هذا القانون؛ إذ إن قانون صيانة الذات من جهةٍ ـ من وجهة نظر سبينوزا في باب الجوهر ـ لا يشمل الإنسان والأشياء الجزئية؛ إذ لا شيء غير الله في ذاته؛ كي يسعى من أجل صيانة ذاته؛ ومن جهةٍ أخرى فإن قانون صيانة الذات قانونٌ عامّ، وإنه ـ طبقاً للقضية السادسة من الباب الثالث ـ شاملٌ لكل شيء.

وقد سعى سبينوزا في القضية الخامسة والأربعين من الباب الثاني إلى بيان وإيضاح هذه المسألة، قائلاً: «رغم أن ما يحدّد وجود كلّ واحد من هذه الأشياء على نمطٍ معيّن هو شيءٌ جزئيّ آخر، إلاّ أن القوّة التي بمقتضاها يستمرّ كلّ شيء في الوجود تنتج عن الوجود الأزلي لطبيعة الله»([6]).

وعلى هذا الأساس فإن القوّة التي يسعى الشيء بواسطتها إلى الحفاظ على ذاته تنشأ من الضرورة السرمدية لطبيعة الله. وعليه يجب أن نفهم نظرية صيانة الذات من خلال الالتفات إلى علاقة كلّ شيء مع الله. وفي هذه الحالة يمكن لنا أن نصل إلى فهمٍ صحيح لمراد سبينوزا من صيانة الذات. فكلّ شيء، أعمّ من الجوهر وحالات الجوهر، من حيث كونه في ذاته، وغير خاضع لتأثير العوامل الخارجية، يسعى إلى الحفاظ على وجوده. ليس هناك شيءٌ بالنظر إلى ذاته لا يشتمل على شيءٍ يقتضي عدمه.

استدلال سبينوزا على صيانة الذات

لنعمل على تنسيق وتنظيم استدلال سبينوزا على صيانة ذات الأشياء الجزئية غير الله على النحو التالي. وفي الحقيقة إن استدلال سبينوزا على صيانة الأشياء الجزئية يطوي هذه المراحل الثلاث (مقدّمتان؛ ونتيجة):

1ـ إن الأشياء الجزئية بوصفها حالات الله تعمل على تجسيد قدرته.

2ـ لا يمكن لأيّ شيء أن يفنى، إلاّ بواسطة شيءٍ خارج عن ذاته.

3ـ كلّ شيء جزئي يسعى إلى الاستمرار في كيانه بقدر ما له من الكيان.

يستمر هذا الاستمرار حتّى يصل إلى نتيجةٍ مفادها أن كل شيء ـ حتّى غير الله ـ بمقدار ما له من الكيان يسعى إلى الحفاظ على ذاته وكيانه. لا يمكن القبول بهذا الاستدلال ببساطةٍ، بل لا بُدَّ من شرح مراد سبينوزا خطوة بعد خطوة.

إن مفاد المقدّمة الأولى أن الأشياء الجزئية؛ بوصفها حالات الله، تجسّد قدرة الله، وكما نعلم فإن الأشياء الجزئية من وجهة نظر سبينوزا هي حالات صفات الله؛ فإن النفس والفكر والتصوّرات حالات لصفة الفكر، والفكر صفة الله. وإن صفات الله مُظهِرة ومَظهَر لذاته. إن الله يتجلى في العالم بواسطة صفاته. تنشأ عن ذات كل شيء أمور معيّنة بالضرورة، وهي أمورٌ خاضعة لقدرة تلك الذات. إن هذه الأمور هي تلك الأفعال التي يقوم بها. عندما تقوم علّةٌ بإيجاد معلول، وتقوم (أ) ـ على سبيل المثال ـ بإيجاد (ب)، تعمل (أ) على إيجاد (ب) بقدرةٍ خاصّة. وعلى هذا الأساس تكون (ب) تجسيداً لقدرة (أ). إذن فالخطوة الأولى من استدلال سبينوزا هي أن الأشياء؛ من حيث كونها مبيّنة لذت الله، تعمل على تجسيد قدرته.

والخطوة الثانية من الاستدلال هي أن الشيء؛ حيث لا يكون في ذاته، يكون متأثِّراً بالخارج، وما دام الشيء في ذاته يسعى إلى بقاء ذاته، وإذا لم يكن الشيء في ذاته فإنه لا يسعى إلى إبقاء ذاته؛ لأنه رازحٌ تحت ضغط جبرٍ خارجي. وكأنّ سبينوزا يريد أن يقول هنا: إن كلّ شيء نكتشف تعريفه وذاته لا نجد في ذاته شيئاً يريد القضاء عليه. ومن هنا فإن سبينوزا يدّعي في القضية الرابعة من الباب الثالث أن هذه المرحلة من الاستدلال بديهية؛ إذ يستحيل أن يزول شيء بالنظر إلى ذاته أو أن يسعى إلى زوال ذاته. وبالتالي فإن سبينوزا يسعى في الحقيقة إلى إثبات أن الشيء الذي تكون ذاته موجودةً يكون تابعاً لقانون صيانة الذات، ويسعى إلى الحفاظ على ذاته.

إن ما ذكرناه في توضيح استدلال سبينوزا على صيانة الذات كان يمثِّل شرحاً وبسطاً لبرهان القضيتين الرابعة والسادسة من الباب الثالث.

بَيْدَ أن فهم هذا البرهان لم يكن على تلك البساطة التي يدّعيها سبينوزا.

وقد عمد الأستاذ (باركينسن) إلى نقد برهان سبينوزا على النحو التالي: «إن ادّعاءه يقوم على فهمه لماهيّة التعريف. فهو يقول: إن تعريف الشيء يعمل على إثبات وجود الشيء المعرَّف، وليس نفيه، وعليه ما دمنا نلاحظ ذات الشيء فقط لا نستطيع أن نعثر فيه على شيءٍ من شأنه أن يقضي عليه. ورُبَما قال شخصٌ:

أـ لنفترض كون التعريف متناقضاً في ذاته، وفي هذا المورد لا يمكن للشيء الذي تمّ تعريفه أن يكون موجوداً. لا شَكَّ في أن سبينوزا يجيب بأنه لا يتحدَّث عن كلّ تعريفٍ، وإنما هو معنيٌّ بخصوص التعاريف الجيِّدة فقط، والتعريف الجيِّد يجب أن يكون منسجماً ومتناغماً في ذاته.

ب ـ حتّى إذا كان التعريف متناغماً في ذاته هل يحقّ لنا القول: إن الشيء الذي تمّ تعريفه لا يمكن له أن يضع حدّاً لوجوده، إلاّ بواسطة عاملٍ خارجي؟ يقول سبينوزا: إن التعريف «يثبت ذات الشيء الذي يتمّ تعريفه»، ولا ينفيه. رُبَما كان مراده ـ مثلاً ـ أنه في تعريف الدائرة نفترض أن الدائرة موجودة، ولا نفترض أنها غير موجودة. لنقبل على أساس هذا الدليل أن هذا هو ذات الشيء الذي نقوم به [أثناء التعريف]، إلاّ أن هذا لا ينتج منه أبداً أن يكون الشيء الذي يتمّ تعريفه موجوداً واقعاً، أو أنه يواصل الحفاظ على ذاته، إلاّ إذا تأثَّر بعوامل خارجية.

وعلى هذا الأساس يبدو أن ادّعاء سبينوزا في القضية الرابعة من الباب الثالث، وقوله: «إن الأخلاق الحقيقية بديهية»، ادّعاءٌ غير وجيه، وبالتالي إن برهان القضية السادسة من الباب الثالث، والأخلاق القائمة على القضية الرابعة من الباب الثالث، برهانٌ ضعيف.

يبدو أن سبينوزا لا يريد الاستدلال بذات وتعريف الشيء على وجوده وبقائه، بل مراده أن ذات الشيء الموجود ـ بالنظر إلى ذاته، وبغضّ النظر عن العوامل الخارجية ـ لا تقتضي عدمه، بل تقتضي دوامه. وإن الله ـ الذي هو علّة جميع الحالات، وإن ذات ووجود الحالات متعلّق به ـ موجودٌ. وعليه فإن الحالات بدَوْرها موجودةٌ بالنظر إلى ذاتها وعلّتها، إلاّ إذا حال دون ذلك مانعٌ خارجي. وعلى هذا الأساس فإن برهان سبينوزا في باب صيانة الذات غير ناظرٍ إلى إثبات وجود وبقاء وجود الذات من طريق الذات، فلا يكون إشكال الأستاذ باركينسن وارداً عليه.

لنفترض أن بإمكان سبينوزا أن يثبت صيانة الذات بهذا البرهان، وأن يثبت أن الإنسان يسعى من أجل الاستقامة والاستمرار في وجوده، فما الذي يثبته بذلك؟ فأيّ شيء يريد سبينوزا إثباته من خلال طرحه لنظرية صيانة الذات؟

يمكن القول في الجواب: إن نظرية صيانة الذات على النحو الذي يبيِّنه سبينوزا تمثِّل أفضل بيانٍ لبعض المعضلات الفلسفية التي يوجِّهها في منظومته الفلسفية. ومن بين هذه المعضلات مسألة السلوكيات الهادفة للإنسان. وهنا لا بُدَّ من الالتفات إلى أمرين، وهما:

أوّلاً: إن كل حالة متناهية هي ـ من وجهة نظر سبينوزا ـ متعيِّنة من الخارج.

وثانياً: كما أنه يرى أن الحالات (الأشياء الجزئية) تبدي من نفسها سلوكاً هادفاً. فإنه ـ على سبيل المثال ـ يقول في هامش الباب الأول من كتاب الأخلاق: «إن الناس يتصرَّفون دائماً لغايةٍ معيّنة»([7]).

إن الله وحده الذي لا غاية له. وعلى هذا الأساس يعمد سبينوزا إلى توظيف نظرية صيانة الذات من أجل بيان السلوك الهادف للإنسان. ومن الممكن هنا أن يطرح هذا السؤال نفسه: أفلم يكن الفلاسفة المتقدِّمون يرَوْن للإنسان غاية؟ وكيف كان هؤلاء الفلاسفة يبيِّنون السلوك الغائي للإنسان؟

يرى سبينوزا أن بيان الفلاسفة المتقدِّمين ـ ولا سيَّما فلاسفة العصور الوسطى ـ في باب السلوك الهادف للإنسان غير مقبول. إن لبحث الغاية في الفلسفة سابقةً تاريخية طويلة. كان الفلاسفة المدرسيين ـ تَبَعاً لأرسطو ـ يبيِّنون النشاط الهادف من خلال إرجاعه إلى العلّة الغائية، ومن ذلك أنهم ـ على سبيل المثال ـ يقولون: إن زيداً يمشي لغايةٍ صحية، بمعنى أن العلة الغائية تبيِّن السلوكيات التي يقوم بها الإنسان، من قبيل: العبارة المتقدّمة، التي تشير إلى أن الصحّة هي العلة الغائية للمشي. يرفض سبينوزا مفهوم العلة الغائية بوصفها بياناً للسلوك الهادف لدى الكائنات المتناهية، مثل: الإنسان؛ لأنه عندما يبحث في مورد ماهية العلّة لا يستطيع أن يقبل بالعلّة الغائية؛ لأن التصوُّر الذي يحمله عن علاقة العلّية ينحصر بالعلاقة المنطقية والضرورية. من وجهة نظر سبينوزا لا معنى لقولنا: إن المشي ناشئٌ من الصحة، أو إن الصحة هي التي أوجدت المشي. إن سبينوزا يستنتج العلاقة الوجودية من العلّية؛ فالعلّة هي الشيء الذي يوجد المعلول، والمعلول هو الشيء الذي ينشأ عن العلّة؛ بضرورة المنطق. ومن هنا لا يستطيع أن يفهم كيف ينشأ المشي من الصحّة؟

وعلى هذا الأساس لا يمكن لسبينوزا أن يقبل بالعلّة الغائية من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يقبل بالنشاط الهادف بالنسبة إلى الإنسان، وبذلك تتجلّى المفارقة الغائية.

وفي توجيه السلوك الهادف يعمد سبينوزا إلى طرح مفهوم صيانة الذات. فإذا كانت الصحّة تساعد على بقاء الإنسان في الوجود فإنه سيمشي. وإن هذا التفسير (صيانة الذات تؤدّي إلى السلوك الهادف) يشمل حتّى السلوك اللاشعوري من أجل الوصول إلى الغاية أيضاً.

وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن صيانة الذات قد تمّ طرحها في إطار تفسير السلوك الهادف. قد يمكن لشخصٍ أن يتصوَّر أن صيانة الذات إنما يكون لها معنى بالنسبة إلى الكائنات الحيّة المعقّدة فقط. بَيْدَ أن سبينوزا يرى أن صيانة الذات هي الخصيصة المشتركة بين جميع الكائنات.

إشكاليات قانون صيانة الذات

إن قانون صيانة الذات يواجه بعض الإشكالات، نشير في ما يلي إلى بعضها:

الإشكال الأوّل: إن إهمّ إشكال في قانون صيانة الذات هو كلّيته وتعميمه. يبدو أن كلّية وتعميم هذا القانون يواجه الكثير من موارد النقض. فالاستشهادي الذي يضحّي بنفسه من أجل أهدافه السامية هل يقوم بذلك من أجل الحفاظ على وجوده أم أنه يقضي على ذاته من أجل ذلك الهدف؟ إن مفاد قانون صيانة الذات هو أن كلّ شيء؛ من حيث إنه في ذاته، يسعى من أجل الحفاظ على وجوده وبقائه. ولكنْ كيف يمكن المواءمة بين تضحية الأشخاص بأنفسهم من أجل أهدافٍ معيَّنة وبين قانون صيانة الذات؟

الإشكال الثاني: إن لكلّ شيء ـ طبقاً لقانون صيانة الذات ـ نشاطاً داخلياً، وإنه يسعى من أجل بقاء وجوده. إن هذا الكلام يستلزم القول بالحرّية والاختيار، ولا نعني بذلك حرّية واختيار الإنسان فقط، بل حرّية واختيار كلّ شيء، وبالتالي يتعيَّن على سبينوزا أن يقول بأن الإنسان مختارٌ، في حين أنه يعلن صراحةً بأن الإنسان غير مختار، بل إنه عقد الفصل الرابع من كتابه (علم الأخلاق) لعبودية الإنسان، وفي القضية السابعة من الباب الأول، وفي النتيجة الثانية من القضية السابعة عشرة، يرى أن الله وحده هو المختار.

إن إجابة سبينوزا على كلا هذين الإشكالين واحدٌ. إن قانون صيانة الذات يدلّ على أن كلّ شيءٍ يسعى من أجل بقاء واستمرار وجوده، بَيْدَ أن هذا القانون ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيَّدٌ بأن كلّ شيء «بقدر ما له من الكيان» يسعى إلى الاستمرار في كيانه. وعلى هذا الأساس إن الذين ينتحرون لا يكونون في ذواتهم، ويكونون منفصلين وخارجين عن ذواتهم، وبذلك سيشكّلون مؤثِّراً وعنصراً خارجياً، وبالتالي لن يكونوا مشمولين لقانون صيانة الذات.

إن المراد من كون الشخص في ذاته هو أن لا يكون واقعاً تحت تأثير علّةٍ أو عاملٍ خارجي. إن مراد سبينوزا أن الإنسان ما دام خارجاً عن هيمنة وسلطة العواطف والمشاعر والرغبات يكون حُرّاً. ولو سيطر العقل على العواطف والمشاعر، وتمكّن من إدارة دفّة الإحاسيس والعواطف، تغدو حياة الإنسان عقلانيةً. وإن الحياة العقلانية حياةٌ فاعلة، وهي حياة يكون الإنسان في ذاته، وليس منفصلاً وأجنبياً عن ذاته، ورازحاً تحت تأثير العوامل الخارجية. وعلى هذا الأساس تكون الحياة العقلانية موجودةً في صلب نظرية صيانة الذات لسبينوزا. إن كلّ إنسانٍ بقدر ما له من الكيان يسعى إلى الاستمرار في كيانه، وحيث يكون الإنسان في كيانه يكون عقله مسيطراً على عواطفه ومشاعره، ولا يسمح للإنسان أن يعمل تحت تأثير العوامل الخارجية.

وعلى كلّ حالٍ إننا في مورد كلّ شيء نتعاطى مع واقعيةٍ تتمثَّل في السعي من أجل الحفاظ على الذات، وهذا بالنسبة إلى الكائنات الحيّة ـ مثل: الإنسان ـ يكون منشأً للأنشطة الهادفة. إن صيانة الذات ـ كما يصرِّح سبينوزا ـ حقيقةٌ واحدة في كل شيء، إلاّ أن لهذه الحقيقة الواحدة أسماء مختلفة، ومراتب متفاوتة. إن صيانة الذات إذا كانت مرتبطةً بالنفس فهي «إرادة»([8])؛ وإنْ كانت مرتبطةً بالجسد فهي «رغبة»([9])؛ وإنْ وُجدت في موردٍ ـ مثل: الإنسان ـ على شكل وَعْي وإدراك للرغبة فهي «طمع»([10]). وقد عمد سبينوزا إلى شرح وتفسير هذه المسألة على النحو التالي: «إذا تعلق هذا الجهد بالنفس وحدها سُمِّي إرادة، وإذا تعلّق بالنفس والجسم معاً سُمِّي شهوة، فالشهوة إذن ليست غير ماهية الإنسان بالذات، التي ينتج عنها بالضرورة ما يساعد على حفظها، وما يتحتَّم على الإنسان القيام به. ثم إنه لا يوجد أيّ فرقٍ بين الشهوة والرغبة، عدا أن الرغبة تتعلَّق عموماً بالإنسان من حيث إنه يعي شهواته، ولذلك يمكن تعريفها كما يلي: (الرغبة هي الشهوة المصحوبة بوَعْي ذاتها). لقد غدا من الثابت إذن ـ من خلال كلّ ما تقدَّم ـ أننا لا نسعى إلى شيءٍ ولا نريده ولا نشتهيه ولا نرغب فيه لكوننا نعتقده خيراً، بل نحن ـ على العكس من ذلك ـ نعتبره خيراً لكوننا نسعى إليه ونريده ونشتهيه ونرغب فيه»([11]).

ولكنْ ما هو المراد من العقل؟ وكيف يتغلَّب العقل على العواطف ويخضعها لسيطرته؟ يجيب سبينوزا عن ذلك قائلاً: إننا لو دقَّقنا في الموجبية الداخلية (إن للإنسان في ذاته موجبية داخلية) سندرك كيفية سيطرة العقل على العواطف والأحاسيس. إن الموجبية الداخلية تعني الفاعلية، والموجبية الخارجية تعني الانفعالية. فالذي يكون موجَباً من الخارج يعني أنه رازحٌ تحت تأثير العوامل الخارجية. وعليه ما هو شكل وكيفية الإنسان الفعال؟ يجيب سبينوزا عن ذلك في القضية الأولى من الباب الثالث قائلاً: «تكون النفس فاعلةً في بعض الأمور، ومنفعلةً في أمور أخرى، أعني: تكون فاعلة بالضرورة في بعض الأمور بوصفها تملك أفكاراً تامّة؛ وتكون منفعلةً بالضرورة في أمور أخرى بوصفها تملك أفكاراً غير تامّة»([12]).

وعلى هذا الأساس فإن الفاعلية والانفعالية على ارتباطٍ بامتلاك التصوُّر التامّ والصحيح والتصوُّر الناقص. فالفاعل هو الشخص الذي يمتلك تصوُّراً تامّاً. والتصوُّر التامّ يعني التصوُّر الصحيح، والتصوُّر الصحيح يعني الفهم. وعليه فإن العقل الذي يجسِّده الإنسان المختار والحُرّ يمثِّل صورةً عن الفهم. فالإنسان بواسطة الفهم يسيطر على العواطف. إن الإنسان الذي يكون فاعلاً من الداخل، ويمتلك تصوُّرات تامّة (يفهم بشكلٍ صحيح)، يسيطر على عواطفه. إذن فالتصوُّر التامّ تابعٌ للتصوُّر الصحيح. يقول الأصل البديهي السادس من الباب الأول([13]): لا بُدَّ أن تكون الفكرة الصحيحة (التصوُّر الصحيح) مطابقةً للموضوع الذي تمثِّله (المتصوَّر). إن نفس الإنسان حيث تمتلك تصوُّراً تامّاً تكون حُرّة. والتصوُّر التامّ هو التصوُّر الصحيح، أي إنه التصوُّر المتطابق مع متعلّقه. عندما يبيِّن سبينوزا هذا الأمر في الأصل البديهي السادس من القسم الأول قد يُظَنّ أنه يريد البحث حول الصدق، إذ إن التصوُّر ـ طبقاً لرأيه ـ يستلزم التصديق، والتصديق إنما يكون صحيحاً إذا كان مطابقاً للواقع. وعليه يبدو أننا نشهد هنا تبلور نظريةٍ في باب الصدق. ولكنْ من خلال هذا الفهم يطرح هذا السؤال نفسه: ما هي علاقة مسألة الصدق ببحث صيانة الذات؟

إننا كما ذكر بعض شُرّاح سبينوزا ـ ومن بينهم: الأستاذ باركينسن ـ سرعان ما سندرك أن سبينوزا ليس بصدد بحث مسألة الصدق، وإنما يدور بحثه حول المعرفة. يقول سبينوزا في حاشية القضية الثالثة والأربعين من الباب الثاني: «أن تكون لديك فكرة صحيحة لا يعني شيئاً آخر غير أن معرفتك للشيء هي معرفة كاملة وصحيحة»، وبعبارةٍ أبسط: إن الذي يمتلك تصوُّراً صحيحاً يكون لديه علمٌ بعلمه، أي إنه يعلم أنه يمتلك تصوُّراً صحيحاً، وأنه عالمٌ بصدق تصوُّره. رُبَما طرح هنا هذا الإشكال نفسه، وهو: إن كلام سبينوزا؛ إذ يقول: إن الذي يعلم أو الذي يمتلك تصوُّراً صحيحاً يعلم أنه يمتلك تصوُّراً صحيحاً، غيرُ صحيح. إننا في الكثير من الحالات نقول أموراً يثبت لاحقاً أنها كانت صحيحة، ولكننا في حينها لا نعلم أن ما نقوله صحيح. فمثلاً: قد نشهد مباراة لكرة القدم، وفي أثناء المباراة نقول: إن نتيجة هذه المبارة ستنتهي بفوز الفريق (أ) على الفريق (ب) بهدفٍ مقابل لا شيء، ويصدف أن تنتهي المباراة، وتكون نتيجتها فوز الفريق (أ) على الفريق (ب) بهدفٍ مقابل لا شيء، إلاّ أنني في الحقيقة لم أكن أعلم بأن تصوُّري هذا صحيح.

يقول سبينوزا في معرض الجواب عن هذا الإشكال: «أن تكون لديك فكرة صحيحة لا يعني شيئاً آخر غير أن معرفتك للشيء هي معرفة كاملة، أو أنها على أحسن ما يرام»([14]). فعندما يكون لدى الشخص تصوُّر صحيح يعلم أن لديه تصوُّراً صحيحاً، بمعنى أن لديه معرفةً تامّة وكاملة بالمسألة. وعليه فإن الذي يتكهَّن بنتيجة مباراة كرة القدم، رغم اتّضاح صحّة تكهّنه، إلاّ أنه حيث لم يكن يمتلك في حينها معرفةً كاملة لا يكون من وجهة نظر سبينوزا قد امتلك تصوُّراً صحيحاً.

والحاصل أن الإنسان الحُرّ يمتلك تصوُّراً تامّاً وصحيحاً، بمعنى أن لديه معرفة، وفي الوقت نفسه يعلم أن تصوُّره صحيح. ولكنْ ما هي المعرفة؟ وأيّ نوعٍ من المعرفة هو المراد؟ يرى سبينوزا أن المعرفة على ثلاثة أنواع، وأن النوع الثاني والثالث منها يستلزم تصوُّراً تامّاً، بمعنى أن الإنسان الحُرّ هو الذي يمتلك تصوُّراً تامّاً، ويكون لديه معرفة من النوع الثاني والثالث. وأما أنواع المعرفة فهي:

1ـ المعرفة الحسّية والتجريبية.

2ـ المعرفة الاستدلالية والنظرية.

3ـ المعرفة الشهودية.

إن المعرفة من المرتبة الأولى لا تقدِّم تصوُّراً تامّاً، وأما المعرفة من النوع الثاني والثالث فإنهما يقدِّمان لنا تصوُّراً تامّاً وصحيحاً. ويرى سبينوزا أن مقوّم المعرفة هو التصوُّر التامّ والصحيح. وفي ما يلي نبحث مقوّم النوع الثاني من المعرفة. يعمد سبينوزا في توضيح هذا النوع من المعرفة إلى استعمال مصطلحين، وهما:

1ـ المفاهيم المشتركة([15]).

2ـ التصوُّرات التامّة لخواصّ الأشياء([16]).

إن المفاهيم المشتركة هي ذات القضايا البديهية التي لا تقبل الإثبات. يشير سبينوزا في نتيجة القضية الثامنة والثلاثين من الباب الثاني([17]) إلى أن المفاهيم المشتركة تمثِّل المفاهيم الأساسية لميتافيزيقيته وعلمه. إنه يضع المفاهيم المشتركة في مقابل الأمور العامّة والمفاهيم الكلّية. إن هذه المصطلحات هي مصطلحات أرسطية، وتنتمي إلى العصور الوسطى، ويراها سبينوزا ناقصةً. إن مراده من الأمور العامة هي المفاهيم الفلسفية العامّة، من قبيل: الشيئية والوجود، ومراده من المفاهيم الكلّية، مفاهيم من قبيل: الحجر والإنسان. يرى سبينوزا أن المفاهيم الكلّية والأمور العامّة مبهمة، ولا يمتلك عنها جميع الناس مفهوماً وفهماً مشتركاً. ومن هنا فإن التصوُّرات التي يذكره سبينوزا، وتكون مقوّمة للمعرفة من النوع الثاني، هي معارف تتجلّى على أساس المفاهيم المشتركة بين جميع الناس، وليست من قبيل: المفاهيم الكلّية والأمور العامّة.

إن الفئة الثانية المقوّمة للمعرفة من النوع الثاني هي التصوُّرات التامّة لخواصّ الأشياء. والمراد منها الأشياء التي تتعلّق بشيءٍ واحد بالضرورة، وتمثِّل عرضاً خاصاً لذلك الشيء. وعليه فإن المعرفة من النوع الثاني نتيجةٌ لمفاهيم الأصولية المشتركة والحقائق الذاتية، وإن التصوُّرات الناشئة من هذه المفاهيم الذاتية والحقائق الأصولية تقدِّم لنا تصوُّرات تامّة. وعليه يجب القول: إن الأشخاص ـ من وجهة نظر سبينوزا ـ؛ حيث يمتلكون قوّةً يتمكَّنون بواسطتها من الحفاظ على ذواتهم، يتمتَّعون بالاختيار والحرّية، بمعنى أنهم يكونون مُوجَبون من الداخل، لا من الخارج. وعندما نقول: إن الإنسان فاعلٌ يعني ذلك أنه يمتلك تصوُّراً تامّاً، وإن هذا التصوُّر ينتمي إلى النوع الثاني والثالث من المعرفة. وبالتالي فإن الإنسان الحُرّ هو الذي يمتلك معرفة من النوع الثاني والثالث. إن الإنسان الحُرّ ليس منفعلاً، لا أنه لا يمتلك عواطف أو أحاسيس، بل إنه يمتلك العواطف قطعاً، ولكن هذه العواطف خاضعة لسيطرة عقله. وقد بيَّن سبينوزا في حاشية القضية الثانية من الباب الخامس([18]) خلاصةً لطرق السيطرة على العواطف. ومن بين تلك الطرق طريق المعرفة.

ولإيضاح ذلك نلفت الانتباه إلى المثال التالي: عندما يلحق شخص ضرراً بآخر فإن هذا الآخر سيحقد عليه، والحقد عبارةٌ عن انفعال، ويستلزم تصوُّرات غير تامّةٍ، بمعنى أن الحقد الذي هو من جملة العواطف يؤدّي بنا إلى عدم فهم فعل الشخص الذي ألحق الضرر بنا بشكلٍ صحيح، بمعنى أننا حيث نحقد عليه لا نستطيع أن نفهم فعله، ولا نتعرّف عليه بالمقدار الكافي، وأما إذا فهمنا فعله وأدركنا أنه ضروريٌّ بالنسبة له لن نعود نحمل حقداً تجاهه. إذن فالسيطرة على العواطف إنما تغدو ممكنةً في ضوء فهم الأوضاع والأحوال التي أوجدت الفعل.

وهنا يطرح هذا الإشكال نفسه، وهو أن الإنسان في بعض الأحيان رغم معرفته لفعل الشخص، إلاّ أنه يبقى حاقداً عليه، ويظلّ الحاقد رازحاً تحت تأثير عواطفه. ويجيب سبينوزا عن ذلك قائلاً: إن السبب في ذلك يعود إلى أن إرادة هذا الشخص ضعيفة؛ لأن المعرفة من النوع الثاني معرفة نظرية واستدلالية وكلّية، ولا تقدِّم لنا أمراً جزئياً. إن ضعف الإرادة يعود إلى عدم المعرفة الكاملة والجزئية. وإن نوع المعرفة؛ حيث يكون انتزاعياً وكلّياً، لا يكون كافياً للسيطرة على العواطف.

ولكنْ هل هناك طريقةٌ لعلاج ضعف الإرادة؟ يطرح سبينوزا في مقام الجواب عن ذلك النوع الثالث من أنواع المعرفة، والذي هو عبارةٌ عن المعرفة (الشهودية):

أوّلاً: إن المعرفة الشهودية تستلزم التصوُّرات الصحيحة بالضرورة.

وثانياً: إن هذه المعرفة ـ خلافاً للمعرفة من النوع الثاني ـ جزئيةٌ.

وفي المعرفة الشهودية يتمّ استنباط النتيجة من دون الاستفادة من الكبرى الكلّية، وأما في المعرفة العامّة والاستدلالية فإننا ندرك الكبرى الكلّية. وتوضيح هذا النوع من المعرفة يحتاج الى دراسةٍ مستقلّة، نتركها لفرصةٍ لاحقة.

كلمةٌ أخيرة

اتّضح ممّا تقدَّم مكانة بحث صيانة الذات في منظومة سبينوزا الفكرية؛ إذ إنه المفهوم المحوري لفلسفة الأخلاق عنده، فهو أوّل قانون في الطبيعة، وأصل وجذر كافّة العواطف، وهو شاملٌ لجميع الاشياء. كما ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الجوهر، باعتبار أن لا صيانة لأيّ شيءٍ من وجهة نظر سبينوزا إلاّ للجوهر؛ لأنّه الشيء الوحيد الموجود في ذاته. وعلى هذا تعرَّضت هذه المقالة إلى الإشكالات الواردة على هذا القانون مبيّنةً كيفية انسجامه مع منظومة سبينوزا.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ مساعِدٌ في جامعة طهران، قسم الفسلفة الغربيّة، پرديس قم.

([1]) باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677م): فيلسوفٌ هولندي. من أهمّ فلاسفة القرن السابع عشر الميلادي.

([2]) conaus.

([3]) باروخ سبينوزا، علم الأخلاق: 156، تعريب: جلال الدين سعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2009م.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) انظر: المصدر السابق، هامش الصفحة رقم 60، في الترجمة الفارسية لهذا الكتاب.

([6]) المصدر السابق: 133.

([7]) باروخ سبينوزا، علم الأخلاق: 73، هامش الباب الأول.

([8]) Voluntas (will).

([9]) Appetitus (Appetite).

([10]) Cupiditas (desire).

([11]) باروخ سبينوزا، علم الأخلاق: 158، الباب الثالث، حاشية القضية التاسعة.

([12]) المصدر السابق: 148، الباب الثالث، القضية الأولى.

([13]) المصدر السابق: 33، الباب الأول، البديهية السادسة.

([14]) باروخ سبينوزا، علم الأخلاق: 129، الباب الثاني، حاشية القضية الثالثة والأربعون.

([15]) Common notions.

([16]) adequate ideas of the properties of things.

([17]) انظر: باروخ سبينوزا، علم الأخلاق: 122.

([18]) المصدر السابق: 296.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً