أحدث المقالات

مقدمة كتاب دون كيخوته المصري

(دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر المُبدع نجيب سرور)

 

د.حازم خيري(*)

“نحن حبات البذار..

نحن لا ننمو جميعاً..

عندما يأتي الربيع..

بعضنا يهلك في هول الصقيع،

وتدوس البعض منا الأحذيه،

ويموت البعض منا فى ظلام الأقبيه..

غير أنا كلنا..لسنا نموت..

أبداً..لسنا نموت..”

                             نجيب سرور

 

كُتب علينا معشر البشر أن نُنفق أعمارنا، طالت أم قصرت، في طلب الحقيقة دون أن نُدركها، فمكانها الوحيد هو صدر الإله! وأراني بقولي هذا قد كفيت قارئي الكريم مئونة محاجتي، فما الجهد الماثل سوى محاولة جادة لالتماس الحقيقة، لا إدراكها. والحقيقة المقصودة هنا هي حقيقة نجيب سرور، ذلك الطوبائي الفذ الذي لم يقنع على الأرجح بشذرات من الطوبائية، وأبى إلا أن يبلغها، فاحترق ببلوغه إياها! وترك لنا ميراثاً يصعب على المسافر في أراضيه البت فيه برأي، فهو خليط من الكبرياء الشهي والكرامة الجريحة..!!

أقول إن المرء لا يملك إلا أن تتنازعه مشاعر الإعجاب والشفقة إزاء الطوبائي نجيب سرور! الإعجاب بإيمانه الجميل بنفسه،  والشفقة لما تكبده من أهوال وعذابات. والسؤال الذي لابد طارح نفسه.. لماذا؟..لماذا لقي نجيب سرور كل تلك الشراسة والقسوة وهو الذي كثيراً ما تغنى بالحب والحرية والرحمة؟!.. هل استحق الرجل النبيل ذلك؟ وإن لم يستحق، فلماذا كان هذا المصير المؤلم لذلك الكائن النبيل؟.. أسئلة لابد لها من إجابة شافية! ولكن..أين السبيل إلى مثل تلك الإجابة الشافية؟ سؤال آخر لطالما راودني، واستحوذ على اهتمامي فترة ليست بالقصيرة، أبحرت خلالها فى دروب فكرية شتى…

وظلت تساؤلاتي الحائرة جائلة فى صدري إلى أن فرغت من كتابي (الإنسان هو الحل)، الصادر عن دار سطور للنشر عام 2007، والذي أودعته رؤيتي للنهج الإنساني أو الأنسنية Humanism كما يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يسميها. ورحت أبحث عن شخصية أختبر عليها النموذج الأنسني التفسيري، في ضوء ما أتصوره إسهاما نظرياً جاداً أحرزه كاتب هذه السطور في مجال الفكر الأنسني.  حينئذ، قفزت إلى ذهني التساؤلات الحائرة حول الطوبائي نجيب سرور، صاحب الشخصية الحالمة العاصفة، الذي لم يتحمل الكون حلمه فرحل!! ورحت أنظر في الأمر، فأدركت أني بصدد فرصة ثمينة لابد لى ألا أفقدها…

وبالفعل قررت أن أختبر نموذجي الأنسني التفسيري على شخصية نجيب سرور، صاحب المأساة التى لم تزل الأجيال تتحدث على استحياء بأخبارها، ولم تزل تستصرخنا تفسيراً يقبله ذوو الضمائر الحية. وشرعت أجمع المعلومات والوثائق عن الرجل، فضلا عن إقبالي على اقتناء وحصر أعماله المنشورة وغير المنشورة. والحق أني وجدت في أرملته الروسية السيدة ساشا كورساكوفا خير معين، فقد فاجأتني في لقائي الأول بها بمقهى ريش الشهير بأن دفعت إلى بحزمة من الأوراق، قالت لي إنها مخطوطة دراسة قيمة غير منشورة، كتبها زوجها الراحل عن أبي العلاء المعري، وطلبت مني إعدادها للنشر وتقديمها!

وبقدر ما أثلج الطلب المفاجئ صدري بقدر ما أخافني لوعورة الطريق وثقل العبء! ولكم سعدت لاحقاً بتحقيق تلك المخطوطة المذكورة أيما سعادة، إذ زادت قناعتى بعد قراءتها بأهميتها وأهمية صاحبها، حتى أني أنجزتها فى وقت قصير نسبياً، وسلمتها جاهزة ومعدة للنشر إلى السيدة ساشا كورساكوفا، على أمل نشرها، وذلك فى مقابلة مع سيادتها بالقاهرة بتاريخ 15/11/2007. وقد نُشرت المخطوطة بالفعل فى المجلس الأعلى للثقافة، بعنوان (تحت عباءة أبي العلاء).

وأراني لست مبالغا حين أقرر بحق إن الكتاب الماثل يُعد بحق أول دراسة علمية وثائقية، تتناول حياة وفكر نجيب سرور بالتحليل العميق، استناداً إلى نموذج تفسيري يجمع – من وجهة نظر الكاتب  – بين العلمية والواقعية، وهو النموذج الأنسني، وكذا استناداً إلى كم يُعتد به من الأعمال المنشورة وغير المنشورة، التى لا أظنها أُتيحت لغير كاتب هذه السطور، فكما علمت من السيدة ساشا، ظلت هذه الأعمال حبيسة الأدراج لسنوات تربو على الثلاثين دون أن تجد من بين الباحثين من يتعهدها بالدراسة والتحليل، خاصة وأنها تؤرخ لفترة هامة من حياة مصرنا الغالية وعالمنا العربي المغبون. فمن المحزن حقا ألا تحظى حياة صاحبنا الطوبائي المُبدع بالاهتمام الكافى من جانب الباحثين، اكتفاء بالأحكام السطحية!

ولكم قوبلت حين شرعت فى استطلاع آراء من حولي – كعادتى دائماً – فى مسألة تعهدي لشخصية الراحل نجيب سرور وأعماله بالدراسة والتحليل، بعاصفة من الاستنكار والرفض! وتعددت الأسباب والحجج، فقد رماه أحدهم بالشيوعية! ورماه آخر بالجنون! ورماه ثالث بكونه نموذجاً فاشلاً لايستحق إلقاء الضوء عليه! وقال رابع بأن تفسير مأساة نجيب باستخدام النهج الأنسني ينطوي بالضرورة على إساءة فادحة للنهج نفسه! وقال خامس بأن نجيب كان خائناً لوطنه لا يستحق الذكر! وقال سادس بأن نجيب أساء لنفسه وللآخرين! وقال سابع دعنا من الرجل وسيرته وذلك بدون إبداء أسباب! وأنكر ثامن وجود شخصية بهذا الاسم!! ولا أدري لما لم يقنعنى أياً من الآراء السابقة، فزاد اصراري على إنجاز الدراسة الماثلة، لايماني بوجاهة موضوعها وأهميته، فليس معقولاً أن يلقى إنسان كل الاستياء والاستنكار على هذا النحو، وكذا ليس معقولاً أن يكون المُبدع نجيب سرور بهذه الصورة الباهتة التى رُوجت عنه ورُسمت له فى عيون مواطنيه، علاوة على عجزي عن إيجاد تفسير منطقي للصمت الاعلامي الرهيب والتجاهل التام لمكانة الرجل فى الفكر العربي، فى وقت لا يتوقف فيه ضجيج احتفاء الإعلام العربي بالأقزام وأنصاف الرجال من كل حدب وصوب؟!

على أية حال، لن أُطيل على قارئي الكريم وسأتركه يلمس بنفسه عبر قراءته لهذا الكتاب إلى أي مدى يُعد صاحبنا الطوبائي نجيب سرور شخصية جديرة بالدراسة على كافة الأصعدة. بيد أني أراني راغباً فى تنبيه قارئي الكريم لمسألة مهمة وهى ضرورة صبره وقراءته المتأنية للفصل التمهيدي لأهميته البالغة فى توضيح المنطق الذي استند إليه الكاتب فى تقسيم فصول كتابه الماثل، فالتقسيم لم يأت عشوائياً بل استند إلى الاسهام النظري الذي يزعم الكاتب أنه أضافه للفكر الأنسني، والذي تجسد فى قوله بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد بارد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر! وذلك استناداً لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على أهميتها وخطورتها…

وحول اختياري لعنوان هذا الكتاب (دون كيخوته المصري)، أؤكد أنني لم أفعل! فقد اختار صاحبنا الطوبائي نجيب سرور العنوان بنفسه! ولكن..كيف يكون ذلك وقد رحل الرجل عند دنيانا منذ سنوات عديدة؟! أقول إن نجيب سرور هو الذى أطلق على نفسه دون كيخوته، وذلك حين شُغف ببطل رواية ثربانتس الشهيرة التى تحمل نفس الاسم ورأى فيه نفسه، حتى أنه أهدى أخيه ثروت تمثالاً من المعدن لدون كيخوته أرسله له خصيصاً من روسيا ونصحه بقراءة الرواية، وأقول إن نجيب هو الذى أطلق على نفسه دون كيخوته، وذلك حين رثى نفسه بأبيات تقطر عذوبة ورقة، كُتبت على قبره بعد وفاته بالبنط العريض، قال فيها:

      قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح

      فاحفر هنا قبرا ونم

      وانقش على الصخر الأصم

      يا نابشا قبري حنانك

      هاهنا قلب ينام

      لا فرق من عام ينام وألف عام

      هذي العظام حصاد أيامي

      فرفقا بالعظام!..

ولقد ألحقت بكتابي هذا ثبتاً بأعمال ومؤلفات نجيب سرور، استندت فى اعداده للثبت الذي أورده الأستاذ محمد دكروب فى ختام دراسة نجيب سرور القيمة (رحلة… فى ثلاثية نجيب محفوظ)، الصادرة عن دار الفكر الجديد، ضمن سلسلة “الكتاب الجديد“، بيروت 1989، بيد أنني حذفت وأضفت الكثير من المعلومات التى لم تُدركها الطبعة المذكورة، ولم يُحط بها الأستاذ محمد دكروب. وكذلك ألحقت بالكتاب الماثل ملفاً وثائقياً، يضم وثائق عديدة مهمة، يُنشر أغلبها لأول مرة، ليعلم قارئي الكريم مدى احترامي لها وله، علاوة على الحاقى بالكتاب نفسه ثبتاً مهماً بالتواريخ المهمة فى حياة نجيب سرور تتمة للفائدة المرجوة.

ويظل كاتب هذه السطور مديناً بأسمى آيات الشكر والعرفان لكل من ساعده ولو بشق كلمة، وذلك لايمان الكاتب بأهمية العصف الذهنى الذى لطالما مارسه والذي يسمح له ولغيره باثارة قضايا مهمة وخطيرة يصعب على المرء منفرداً ادراكها. وللكاتب أيضاً أن يتوجه بالشكر الجزيل للقصاص والأديب الأستاذ ثروت سرور الأخ الأكبر لنجيب سرور وزوجته السيدة الفاضلة آمال مُغني، فقد أحسنا إلى الكاتب أيما إحسان، وذلك حين تفضلا باستقباله بمنزلهما الكائن بمدينة دمنهور وزوداه بالكثير من المعلومات والوثائق المهمة عن الراحل نجيب سرور، فلهما الشكر كل الشكر، كما لا يفوت الكاتب التوجه بالشكر الجزيل للسيدة ساشا كورساكوفا أرملة نجيب سرور الروسية وولديها الأستاذ شهدى والأستاذ فريد على كل ما قدموه من معلومات قيمة وما زودوا به الكاتب من أعمال غير منشورة، سمحوا له بالاطلاع عليها والاستعانة بها فى دراسته، فلهم الشكر كل الشكر..                             

 

الهوامش:

 


*) حازم خيري، دون كيخوته المصري، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2009).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً