أحدث المقالات

استعراض لنماذج في باب الحجّ

حيدر حب الله*

تمهيد

ثمّة أهمية كبيرة لدراسة العلاقة بين إنجاز الواجبات وإنجاز المستحبّات، وكذلك بين ترك المكروهات وترك المحرّمات و… فقد يفضي فعل نقوم به يكون واجباً إلى ترك مستحبّ، وقد يفضي فعل المستحبّ إلى تركنا الواجب، ليس هذا فحسب، بل قد يؤدّي فعلنا للمستحبّ إلى ترك الآخرين للواجب، أو العكس، وهكذا في باب المحرّمات والمكروهات، ممّا يستدعي دراسة أوجه العلاقة والارتباط بين هذه الإنجازات المتنوّعة.

وتتخطّى هذه القضية البُعد الفردي في الأمر إلى بُعد اجتماعي، كما سوف نركّز على بعض الأمثلة في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى؛ فمثلاً قد يؤدّي تقديم الآلاف ممّن أنجزوا سابقاً حجّة الإسلام الواجبة.. تقديمهم طلبات للحجّ، إلى الحيلولة دون حصول الآلاف ممّن وجبت عليهم حجّة الإسلام، نتيجة نظام التحديد والقرعة المستخدَمَين في الجملة في أيّامنا هذه على الحجيج، طبقاً للقوانين التي سنّتها وأجرتها المملكة العربية السعودية في العقدين الأخيرين، فهل يوجب هذا الأمر تحريم تقديم الطلبات للحجّ المستحبّ لأنّه يحول دون أداء الآخرين للواجب الشرعي فيكون صدّاً عن سبيل الله أم أنّ الموقف يندرج ضمن معايير أُخرى؟!

وكفى هذه المسألة الكثيرة الابتلاء لبيان أهمّية هذا الموضوع وضرورة دراسته.

ويجب أن نشير في بداية هذا البحث المتواضع إلى أنّ بحثنا هنا سوف يدور حول ما يمكن أن تقدِّمه لنا القواعد والأصول والمعايير العامّة في الشريعة الإسلامية وأصول الفقه الإسلامي، أمّا التطبيقات ووجود أدلّة خاصّة في هذا المورد هنا أو هناك يمكنها أن تغيّر مسار القاعدة أو القواعد، وكذلك تحديد هل هذه القاعدة أو تلك تجري في هذا المورد أو ذاك؟ فهذا أمرٌ يرجع إلى الأبحاث الفقهيّة الفرعيّة التي قد تختلف في معطياتها ونتائجها.

كما تجدر الإشارة هنا إلى عدم إفراد الأصوليّين والفقهاء بحثاً مستقلّا ً لدراسة طبيعة علاقة الأفعال بعضها ببعض؛ إلّا أنّ أغلب هذه الصور معلومٌ قواعديّاً في كلماتهم، يمكن التعرّف عليه بتحليل نظرياتهم في أُصول الفقه وفي الفقه أيضاً.

الهيكلية العامّة لافتراضات الدراسة

ويمكن تصوّر أصل الموضوع في صورتين اثنتين جامعتين:

الصورة الأُولى: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى تركه التكليف الثاني، فالفاعل والتارك في هذه الصورة شخصٌ واحد، لا اثنين، كما لو أدّى فعله لواجب شرعي مثل الصلاة إلى ترك مستحبّ وهكذا..

الصورة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى ترك طرف آخر للتكليف الثاني، سواء كان هذا الترك عمدياً أو قسريّاً أو.. فالفاعل والتارك هنا اثنان كما صار واضحاً.

ويجب أن نشير إلى أنّ قصدنا بكلمة «ترك» و«فعل» في الصورتين، يشمل صورة ترك واجب أو مستحبّ أو فعل حرام أو مكروه، وبعبارة جامعة: المراد بالترك مطلق التخلّف عن مفاد تكليف شرعي، فقد يكون في فعل الطرف الأوّل لحرامٍ مّا بحيث يؤدّي إلى فعل الطرف الثاني الحرام، وكذا الواجب، وبهذا يتبيّن أنّ صور هذه المسألة كثيرة جدّاً، كما سوف نلاحظ بعضه.

1ـ الترابط بين أفعال المكلّف نفسه

والبحث في الصورة الأُولى فيه عدّة حالات:

الحالة الأُولى: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى تحقيق موضوع حكم آخر في حقّ نفسه، كأن ينذر شكراً لله أن يوفّر لنفسه مبلغاً ماليّاً لصرفه في وجوه الخير والطاعة، ثم يفي بهذا النذر، فتتحقّق الاستطاعة منه فيجب عليه الحجّ، فهنا كان فعل الواجب محقّقاً لموضوع واجب آخر. وكذلك الحال في جمعه المال بوصف ذلك فعلاً مباحاً فيحصل بذلك سبب الاستطاعة، فيكون من باب إنجاز المباح المفضي إلى تحقيق موضوع الواجب.

وصور هذه الحالة كثيرة جدّاً والحكم فيها واضح؛ فإنّ فعليّة الحكم الثاني منوطة بتحقّق موضوعه، بصرف النظر عن مبرّرات هذا التحقّق، أي سواء جاء هذا التحقّق من إطاعة واجب آخر أم غيره. نعم، لو أخذ في تحقّق موضوع الحكم الثاني قيد أن لا يكون ذلك عبر طريق خاصّ، كالحرام مثلاً، لم يتحقّق موضوع التكليف الثاني حينئذٍ؛ لانعدام أحد قيوده وأركانه فيما لو كان الفعل الأوّل مخالفاً لتكليفٍ شرعي إلزامي.

وفي صور الحالة الأُولى هذه، يظلّ التكليف الأوّل على حاله، فإنّ إفضاء امتثاله إلى تحقّق موضوع تكليف آخر لا يغيّر من حكمه شيئاً؛ وذلك أنّه لن يصير بذلك مقدّمةً لواجب ولا لحرام، لفرض أنّه صار بامتثاله مقدّمةً وجوبيّةً لا وجوديّة، فلا يشمله قانون التلازم ـ لو قلنا به على المستوى الشرعي ـ بين المقدّمة وذيها، لا في طرف الحرمة ولا في طرف الوجوب.

الحالة الثانية: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى عدم انعقاد موضوع حكم آخر، بمعنى الحيلولة دون انعقاده، فقد كان لولا الفعل الأوّل في طريق الانعقاد لكنّ حدوث هذا الفعل حال دون انعقاده لسببٍ أو لآخر، كما لو قدّم مقداراً من المال لأحد أقربائه أو أصدقائه على نحو الهديّة المستحبّة التي تليق بشأنه، فأدّى ذلك إلى حلول الحول عليه وهو لا يملك فاضل المؤونة، الأمر الذي يلغي ـ أي يحول دون تحقّق ـ موضوع وجوب الخمس في أرباح المكاسب عليه، أو قدّم هذه الهدية قبل حلول أشهر الحج، وبنينا على أنّ الاستطاعة يُشرط فيها أن تكون متحقّقةً ولو في أوّل هذه الأشهر، فإنّ فعله لمستحبّ الصدقة أو الهدية أو الانفاق على العيال على نحو التوسعة، قبل مجيء أشهر الحج حال دون انعقاد الاستطاعة بالنسبة إليه.

وفي هذه الحالة لا إشكال في بقاء فعله الأوّل على حكمه الطبيعي ولا يغيّر من حكمه صيرورته سبباً للحيلولة دون انعقاد موضوع الحكم الآخر؛ وذلك أنّه لا يجب على المكلّفين أن يحقّقوا موضوعات الأحكام؛ لأنّ الحكم لا يبعث نحو موضوعه كما تقرّر في علم أصول الفقه، وهذا معناه أنّه لا يوجد خطاب متّجه نحو المكلّف يحمّله مسؤوليّة تحقيق الموضوع حتّى يعارض أو يزاحم الخطاب الموجّه في التكليف الأوّل الذي حال دون تحقّق موضوع التكليف الثاني، فيظلّ التكليف الأوّل على حاله حينئذٍ بلا معارض ولا مزاحم، كما لا يتحقّق التكليف الثاني ممّا يرفع مسؤوليّته عن كاهل المكلّف على نحو الدفع؛ لأنّ المفروض أنّ موضوعه لم ينعقد بسبب حيلولة امتثال التكليف الأوّل دون تحقّقه.

نعم، إذا كان موضوع الحكم الثاني ممّا تعلّق به ـ لا بوصفه موضوعاً ـ حكمٌ شرعي خاصّ، كما لو نذر أن يجمع المال للحجّ، عارض هذا الحكم الخاصّ مفاد الحكم الأوّل أو زاحمه، فدليل استحباب الهدية يطالب المكلّف بالإهداء، فيما دليل وجوب الوفاء بالنذر يُطالبه بالحرص على المال كي يتسنّى له تحقيق مقوّمات السفر هذا العام، فيقع التزاحم، ويقدَّم الأهمّ، وفي مثالنا هو الواجب لتقدّمه على المستحبّ، وتجري قواعد باب التزاحم حينئذٍ.

الحالة الثالثة: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى إعدام موضوع الحكم الثاني، بمعنى أن يكون موضوع الحكم الثاني متحقّقاً، لا يوجد ما يحول دون أصل انعقاده، إلّا أنّ بقاء تحقّقه منوط بجملة عناصر موضوعيّة، فالإقدام على الفعل الأوّل وفاءً للتكليف الأوّل سوف يؤدّي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني، ومثال ذلك أن تتحقّق الاستطاعة لكنّه يقوم بالتصدّق المستحبّ على الفقراء قبل حركة القوافل ممّا يُعدم قدرته على السفر، أو يكون عنده الماء ويدخل وقت الصلاة فيريق الماء ويُعدم موضوع التكليف بالوضوء، ممّا يجعله يُعجّز نفسه عنه.

ومن هذه المسألة ما يسمّى في أُصول الفقه بالتعجيز، إلّا أنّ صورة بحثنا لا تختصّ بحالة العجز، كما في مثال الوضوء المتقدّم، وإنّما تشمل حالة انعدام الموضوع للحكم الثاني مع قدرة المكلّف على الإتيان بالمتعلّق، كما لو فرضنا قدرته على الذهاب إلى الحجّ ماشياً متسكّعاً لا زاد ولا راحلة معه، فهنا لا يوجد تعجيز عن امتثال متعلّق التكليف، وإنّما انعدام الاستطاعة، طبقاً لاعتبارها الزادَ والراحلة.

وفي هذه الحالة تارةً يفرض الفعل الأوّل الموجب لانعدام الموضوع مباحاً، واُخرى يفرض قد تعلّق حكم شرعي به من الأحكام الأربعة الأُخرى، وفي المقابل تارة نفرض موضوع الحكم الثاني قد أخذ في تنجيزه التكليف الثاني البُعدُ الحدوثي فيه، وأُخرى يفرض ضرورة البُعدين الحدوثي والبقاء.

أ ـ فعلى تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، فإن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي فقط، بمعنى أن يكون حدوث الموضوع ـ ولو انعدم بعد ذلك ـ كافياً في التنجيز، ظلّ الحكم الثاني على حاله، لفرض تحقّق مبرّر تنجّزه وفعليّته وهو البُعد الحدوثي لموضوعه، إلّا أنّ الكلام في الفعل الأوّل فهل يتغيّر حكمه من الإباحة بعد لحاظ أدائه إلى ما أدّى إليه؟

والجواب بالعدم، إلّا إذا أوقع المكلّف في أمر لا يجوز إيقاعه فيه، فيصبح حراماً على تقدير القول بحرمة مقدّمة الحرام وهكذا…

ب ـ وأمّا على تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، لكن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي والبقائي معاً، فهنا يسقط التكليف الثاني لفرض انعدام موضوعه بانعدامه في مرحلة البقاء، إذا لم يكن قد حان زمن التكليف الثاني، وإلّا فإنّ هذا التعجيز وإعدام الموضوع يصدق عليه عنوان التخلّف عن أداء الواجب؛ فالمفروض أنّ الواجب قد صار فعليّاً وأنّه قد تحقّق وقته وتوجّه خطابه التنجيزي إلى العبد، وهو لم يمتثل، وبدلاً من أن يطيع أعدم الموضوع، فهنا حتّى لو كان الخطاب لا يتوجّه إليه بعد ذلك لانعدام الموضوع، إلّا أنّ العقاب على مخالفة الحكم يجري في حقّه على تقدير التنجيز، وهذا معنى القاعدة التي أصّلها الأصوليّون، والتي تقول: إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنّما ينافيه خطاباً، فهذا العبد إذا أمكنه الإتيان بالفعل الثاني من بعد سقوط موضوعه، فلا دليل يلزمه بهذا الإتيان، لفرض انعدام فعليّة الحكم حينئذٍ، إلا على بعض النظريات الأصوليّة التي تميّز بين الفعليّة والفاعلية في المقام، كما يذكره السيد محمد باقر الصدر([1]).

ومعنى ذلك انقلاب الإباحة في الفعل الأوّل إلى حرمة، لتعنونه بعنوان المقدّمة للتخلّف عن الواجب الآخر الذي تحقّق موضوعه حسب الفرض، فيكون هذا العنوان الثانوي مقدّماً على العنوان الأوّلي الذي كان يحكم بالإباحة في هذا الفعل.

هذا على تقدير كون التكليف الثاني إلزاميّاً، وإلّا فلا حرمة كما هو واضح.

ج ـ أمّا إذا كان الفعل الأوّل المفضي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني محكوماً بأحد الأحكام الأربعة، فإن أخذ البُعد الحدوثي والبقائي فلا محذور وترتّبت الآثار التي تحدّثنا عنها سابقاً، وظلّ الحكم الأوّل على حاله، أمّا لو أخذ البُعد الحدوثي فقط، ترتّب ما تقدّم إذا كان الحكم الأوّل هنا غير إلزامي؛ لتقدّم الثاني بملاك الأهمّية عليه إذا كان إلزاميّاً، وأمّا إذا كان إلزاميّاً أو لم يكن الثاني إلزاميّاً أيضاً، وتنجّز التكليف الثاني ودخل وقته، جرت قاعدة التزاحم بين التكليفين؛ لأنّ حفظ أحدهما سوف يلغي الآخر، فيُقدَّم الأهمّ منهما عند الشارع، ويعمل به، لفرض عدم إمكان امتثالهما معاً. نعم، إذا كان أحدهما في فسحة من الوقت وأمكن إجراء الثاني في هذه اللحظة ولو مع عدم القدرة على الأوّل فيها، ثمّ تجدّدت الاستطاعة للذي فات، وذلك ضمن الوقت، فهنا يمكن الجمع بينهما بلا أيّ محذور حينئذٍ.

الحالة الرابعة: أن لا يؤثر الفعل الأوّل في موضوع الفعل الثاني، لا إيجاد ولا إعداماً ولا دفعاً ولا رفعاً، فيكون حيادياً تجاهه، على مستوى موضوع الحكم، ومن الواضح في هذه الحالة أنّه لا يؤثر عليه، نعم، قد يعلم المكلّف أنّه لو فعل الفعل الأول فسوف ينبعث عنده داعي الفعل الثاني، بحيث لو لم يُقدم على الفعل الأوّل يحتمل أن لا يقدم على الثاني، والعكس هو الصحيح فلو أقدم على الفعل الأوّل فلن يقدم على الفعل الثاني، وهنا على تقدير إلزامية الفعل الثاني في وقته، قد يغدو واجباً عليه تحقيق الفعل الأوّل حتى لو كان مباحاً أو مستحباً، أو يحرم عليه حتى لو كان كذلك، وذلك من باب مقدّمة الواجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، أو من باب مقدّمة الحرام، إذ هو يعلم أنّه لو لم يقم بالفعل الأوّل فلن يقوم بالفعل الثاني، أو العكس بحيث لو قام بالأوّل قام بالثاني، والمفروض وجوبه عليه أو حرمته، فيجب عليه الفعل الأوّل، لتقوّم الفعل الثاني به، حتى لو كان هذا التقوّم على مستوى انعقاد النيّة وحصول الشوق إلى تحقيق الفعل الثاني.

وهذه الحالة لها أمثلة كثيرة، فقد يعلم المكلّف أنّه إذا صادق زيداً من الناس فسوف تضمحلّ في نفسه بواعث الإيمان، ويقصر عن فعل الواجبات، أو إذا عمل في الوظيفة الفلانية فسوف تعوقه ـ ولو في المستقبل ـ عن تحصيل سائر الواجبات، أو أحرز أنّه بذهابه إلى المسجد ورفقته للمؤمنين فيه، سوف تشتعل في نفسه جذوة الإيمان، ويقوم بفعل الواجبات الأخرى بحيث إنّه لن يفعلها لو لم يحصّل مثل هذه المقدّمة، فلا يبعد في هذه الحالات ـ ولو كان التأثير مستقبليّاً ـ أن يجب عليه أو يحرم هذا الفعل الآني الذي سيترك أثراً على أفعاله المستقبلية.

ويكفي هنا الصدق العرفي في مفهوم المقدّمية بحيث يرى العقلاء أنّه مسؤول عمّا فعله، لا ما إذا رأى العرف والعقلاء وجود الفاصلة بين الفعل الأوّل والثاني، بحيث لم ينسبوا التقصير في الثاني إلى الأوّل، بل إلى نية الفاعل أو عزيمته، كما لو أحرز ـ بالإحراز الإجمالي ـ أنّه سوف يقع في الحرام لو تزوّج، بحيث قد يؤذي زوجته، ففي هذه الحالة لا يرى العرف ـ إلا في حالات نادرة ـ أنّه بزواجه قد حقّق مقدمة عصيانه أو إحدى معاصيه، بل ينسبون ذلك إلى تقصيره بعد زواجه، وإلا لو أخذ بمثل هذه الإحرازات الإجماليّة للزم تحريم أمور كثيرة يُعلم من الشريعة عدم تحريمها.

ويمكن القول: إنّ العرف والعقلاء يوازنون هنا بين المصالح والمفاسد وبين صور المعاصي، فيرون أنّه لو لم يقدم على الزواج أو الوظيفة ـ مثلاً ـ فسوف يقع في معاصي أو مفاسد أخرى، لهذا يرون أنّه يجوز ـ أو قد يجب عليه ـ الزواج أو العمل الفلاني مع إلزامه برعاية نفسه فيما بعد الدخول في هذا العمل، أو يقولون: إنّ هذه الإحرازات المستقبلية لا يعتدّ بها في مثل هذه الموارد لعدم ضبطها؛ إذ يلزم منها تعطيل الحياة، والإخلال بالنظام، ما دام يحرز كلّ فردٍ ذلك؛ لهذا لم يتصوّر أحد من الفقهاء التحريم هنا، إلا في حالات خاصّة لها ظروفها الاستثنائية في العرف وعند العقلاء.

2ـ الترابط بين أفعال المكلّفين مع بعضهم

أمّا الصورة الثانية التي يترك فيها فعل أحد الشخصين تأثيره على الشخص الثاني، كما في مثال الحجّ الذي فرضناه مطلع البحث، فيقع الحديث عنها في حالات عديدة، ففعل كلّ من الطرفين قد يكون إلزاميّاً، وقد يكون غير إلزامي، كما أنّ تأثير فعل الطرف الأوّل قد يكون إيجابيّاً، بمعنى أن يساعد على امتثال الطرف الثاني للتكليف، وقد يكون سلبيّاً، بمعنى أن يساهم في تخلّفه عنه، كما أنّ تخلّف الثاني قد يكون عن اضطرار وقد يكون عن عناد تتوسّطه النيّة والإرادة أو لا تتوسّطه، كما قد يلغي فعل الطرف الأوّل موضوع الثاني وقد يحقّقه وقد يحول دون انعقاده، كذلك قد يكون فعل الطرف الأوّل في نفسه جائزاً وقد يكون حراماً.. إلى ما شاء الله تعالى من الصور والفروض التي تخرج عن طاقة هذا البحث المبنيّ على الإيجاز والاختصار، لكنّنا سنحاول رصد معالم الموضوع منهجيّاً في رؤية أُصوليّة مستوعبة إلى حدٍّ ما، فهنا عدّة حالات:

الحالة الأُولى: أن يكون ما قام به الطرف الأوّل معصيةً لله تعالى، إمّا بتخلّف عن واجب أو بفعلٍ لمحرّم، ويترك هذا الفعل تأثيره على فعل الآخرين، فهنا:

أ ـ أمّا فعله لنفسه، فقد كان معصيةً حسب الفرض فيكون غير جائز؛ لعدم موجب للخروج عن مقتضياته، إلّا في حالة واحدة، وهي أن يتحوّل هذا الفعل إلى مقدّمة واجب على الفرد نفسه بلحاظ فعل الآخرين، ويكون ذلك الواجب أهمّ من هذا الواجب أو الحرام، كما لو فرضنا أنّ تخلّف زيد عن الحجّ سوف يؤدّي إلى إقلاع عمرو عن قتل أحد المؤمنين، ففي مثل هذه الحال يمكن تصوّر تغيّر حالة الفعل بالنسبة للطرف الأوّل، ليصير جائزاً أو واجباً تبعاً لقانون التزاحم وتطبيقاته، نعم قد يُضاف إلى حيثيّة العصيان في هذا الفعل إفضاؤه إلى عصيان الآخرين، كما لو كان تخلّفه عن أحد أعمال الحجّ باعثاً على تخلّف الآخرين عن عمد، فإنّه وإن لم يكن الجزء الأخير للعلّة التامّة لعصيان الآخرين إلّا أنّه يصدق عليه عرفاً المساعدة على الحرام والإعانة عليه مع التفاته، فيكون مشمولاً لقاعدة حرمة الإعانة بناءً على القول بها، وقد لا يكون عدم امتثال الطرف الثاني عن عمد حتّى يكون إعانةً على الحرام، بل عن اضطرار؛ فهنا يصدق أنّ فعل الطرف الأوّل للمعصية كان صدّاً عن سبيل الله سبحانه، كما لو استؤجر لإيصال الحجيج من بلده إلى مكّة لكنّه تخلّف عن هذا الواجب الشرعي الملزم به بمقتضى عقد الإجارة، وفُرض أنّه لا سبيل لهؤلاء الحجيج للذهاب إلى مكّة غيره، فيكون عصيانه لوجوب الوفاء بعقد الإجارة ممّا يصدق عليه الصدّ عن سبيل الله، لأنّ المفروض أنّ الحجيج قد تعلّقت الأحكام بهم، فالحيلولة دون وصولهم صدّ عن سبيل الله، اللهم إلّا إذا قيل: إنّ الصدّ أخذ فيه حيثيّة المانع لا انعدام المقتضي والوسيلة.

ب ـ وأمّا بالنسبة للطرف الثاني، فالمفترض أنّه غير معني بعصيان الآخرين، لكن:

1ـ قد يكون هذا العصيان موجباً لتحقّق موضوع واجب آخر على الطرف الثاني، كما في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنّ عصيان الطرف الأوّل قد يحقّق تمام موضوع هذا الوجوب، فيصبح الثاني ملزماً شرعاً بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقّ الأوّل، وهذا معناه أنّ تحقيق معصية الآخرين لموضوع تكليف شرعي على الطرف الثاني وارد.

2ـ وقد يكون عصيان الطرف الأوّل دافعاً للتكليف عن الطرف الثاني، كما لو كان الطرفان معاً قد شرطا في تسليم الثمن أن يحجّ الطرف الأوّل هذا العام، فإنّ عدم حجّه سوف يحول دون تحقّق موضوع وجوب التسليم على الطرف الثاني.

3ـ كما قد يكون عصيان الطرف الأوّل رافعاً لموضوع التكليف عن الطرف الثاني، فهنا يسقط التكليف عن كاهل الطرف الثاني لفرض انعدام موضوعه، ولا معنى للحديث هنا عن فرضيّة التعجيز؛ لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني لم يعجّز نفسه وإنّما أُعجز عن أن يقوم بالواجب، فلا مسؤولية عليه ولا عقاب ولا خطاب.

4ـ وقد يكون عصيان الطرف الأوّل موجباً لتعمّد الآخرين المعصية ولو عن تقصير منهم، كما في الشخص الذي يتخلّف عن أداء فريضة الحجّ، ويكون له أنصاره وأتباعه ـ من أهل عشيرته أو حزبه ـ فيتّخذون موقفه عناداً ولجاجاً، فهنا تصدق المعصية على الطرفين معاً، ولا تختصّ بالطرف الأوّل حتّى لو تعنون ـ كما قلنا سابقاً ـ بالإعانة على الإثم؛ لأنّ عصيان الآخرين ـ كائناً من كانوا ـ ليس مبرّراً لعصيان الإنسان نفسه ما دام التكليف منجّزاً في حقّه.

نعم إذا كانت معصية الأوّل موجبةً لتوهّم الآخرين عدم توجه تكليفٍ ما إليهم فتركوه لا عن عناد بل عن جهل وقصور، لم يكن عليهم في ذلك حرج إلّا إذا كانوا مقصّرين في التعلّم، ويلحق الطرف الأوّل العاصي حرمة إضافية على تقدير معرفته بجهلهم وتوهّمهم حيث كان يجب عليه تعليمهم وإرشادهم إلى عدم الترابط بين فعله وفعلهم، فعدم قوله هذا لهم مع التفاته للأمر معصيةٌ اُخرى ناشئة عن إيهام الآخرين وإبقائهم في الجهل، مع أنّ وظيفة تعليم الجاهلين ثابتة شرعاً إلى جانب وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناءً على التفكيك بينهما على ما هو المشهور.

الحالة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل مباحاً أي غير إلزامي، بمعنى أنّه لا هو بالمعصية ولا هو بأداء للواجب الشرعي، فهنا تارة يعكس أثراً إيجابيّاً على أفعال الآخرين، وأُخرى أثراً سلبيّاً، وثالثة يكون حيّاديّاً بالنسبة إليها لا يؤثّر فيها لا سلباً ولا إيجاباً.

كما أنّه تارةً يحقّق موضوعاً وأُخرى يُعدمه وثالثة يحول دون تحقّقه بالنسبة لأفعال الآخرين.

أ ـ فإن ترك أثراً إيجابياً فبها ونعمت، يظلّ على الإباحة حينئذٍ، إلّا إذا صار مقدّمةً لواجب فتلحقه قواعد مقدّمة الواجب، فإن كان الفاعل ملتفتاً قاصداً كان مطيعاً على الكلام الموجود في أصول الفقه في الإطاعة والثواب في باب الوجوب الغيري.

ب ـ وإن ترك الفعل أثراً سلبيّاً على الآخرين، بأن أوقعهم في معصية أو في تخلّفٍ عن واجب، فإن لم يكن الفاعل ملتفتاً إلى ذلك فلا شيء عليه، أمّا إذا كان ملتفتاً فإن كان فعلهم لا عن عناد بحيث توجد علاقة اضطرار أو إلجاء إلى الفعل ولو عرفاً، صار الفعل حراماً لكونه إمّا صدّاً عن سبيل الله أو إعانةً على الإثم، أمّا إذا توسّط بين الفعل المباح لزيد و الحرام لعمرو نيّة عمرو وعناده بحيث لا يُنسب الفعل الحرام إلى زيد لا بالمباشرة ولا بالواسطة ولا بالإعانة و.. فإنّه لا يغدو المباح حراماً بذلك كما هو واضح، بل تكون الحرمة لاحقة لفعل الطرف الثاني، نعم قد يُلزم الفاعل للمباح بتركه مع علمه بالأمر من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تحقّق سائر شروطه، ولم يكن هناك سبيل آخر للأمر يُعمل به.

ج ـ أمّا إذا كان الفعل حياديّاً إزاء أفعال الآخرين، فلا محالة يظلّ على حكمه الأوّلي بالإباحة، لعدم عروض عنوان يغيّر حكمه، فيما تظلّ الأحكام على الآخرين على حالها.

د ـ وأمّا إذا أثّر الفعل في موضوع حكم يلحق أفعال الآخرين:

1ـ فإذا حقّق موضوعاً لحكم آخر ـ كائناً ما كان ـ ثبت الحكم الآخر على صاحبه، لتحقّق موضوعه، ولا شيء على الفاعل الأوّل. نعم، للطرف الثاني أن يسعى دون فعل الأوّل لفعله المباح حسب الفرض كي يحول دون تحقّق الموضوع؛ لأنّه لا يكون عاصياً بذلك ما دام الحكم لم يصر فعليّاً بعدُ.

2ـ أمّا إذا حال دون تحقّق موضوع، فالأمر كذلك أيضاً؛ يظلّ على حاله فيما لا يلحق الحكم الثاني الطرف الثاني لفرض عدم تحقّق الموضوع في حقّه، والحيلولة دون فعليّة الأحكام على الآخرين لا دليل يثبت حرمتها ما لم تكن الحيلولة نفسها ـ كفعل بقطع النظر عن وصف الحيلولة ـ متعنونةً بعنوان المعصية، فيلحقها حكمٌ آخر خارج عمّا نحن فيه.

3ـ أمّا إذا أعدم موضوع حكم كان موجوداً وفعليّاً، فمقتضى القاعدة عدم وجود أي مشكلة، إلّا من ناحية الصدّ عن سبيل الله، ومثال ذلك أن تحصل الاستطاعة للمكلّف لكنّ المطارات توقف إقلاع طائرة هذا المكلّف بحيث لا يمكنه السفر بعد ذلك، ونبني في باب الاستطاعة على أنّ تخلية السرب مفهوم مقوّم للاستطاعة نفسها، ففي هذه الحال امتناع المطار عن السماح للطائرة بالإقلاع إعدامٌ لموضوع الحكم وهو تخلية السرب حيث كانت متحقّقةً حسب الفرض، فهذا يوجب سقوط وجوب الحجّ عن المكلّف من جهة، كما أنّ إقفال المطار في حدّ نفسه ليس محرّماً، لكنّه قد يصدق هنا التحريم من باب الصدّ عن سبيل الله، إذ بهذا الفعل سيُصدّ عددٌ من الحجيج عن سبيل الله ويمنعون عن أداء فرائضهم، فبقطع النظر عن القواعد الموجودة في باب الحكم والموضوع، قد يصدق عرفاً هنا أنّه إذا لم يكن هناك مبرّر شرعي بمنع إقلاع الطائرة يكون هذا المنع حراماً، وكذلك مسألة إعطاء تأشيرة الدخول وغير ذلك، إلّا إذا قيل بأنّ عنوان الصدّ عن سبيل الله من العناوين القصدية بمعنى أنّه لابدّ للفاعل ـ حتّى يصدق عليه أنّه صادٌّ عن سبيل الله ـ أن يكون قاصداً لذلك ملتفتاً إليه متعمّداً راغباً في أن لا يحجّ هذا النفر من الحجيج فيحول دون إقلاع الطائرة، أو لا يعطي تأشيرة الدخول، وهكذا، فبناءً على أخذ القصدية يصبح هذا الفعل المباح ـ وهو الحيلولة دون إقلاع الطائرة ـ حراماً مع هذا القصد لا بدونه.

ولا يخفى أنّ المثال الذي مثّلناه غير مأخوذ فيه وجود أيّ عقد بين شركة الطيران وبين الركّاب، وإلّا لحقت الأمر أحكام إلزاميّة أخرى تتّصل بباب العقود والمعاملات.

الحالة الثالثة: أن يكون الفعل الذي قام به الطرف الأوّل أداءً لواجب أو تركاً لحرام، ومن الواضح أنّ هذا الفعل في حدّ نفسه إطاعةٌ للمولى سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك قد يترك تأثيراً على أفعال الآخرين وسلوكهم، فتارةً يكون إيجابيّاً وأُخرى سلبيّاً وهكذا..

1ـ قد يؤثّر أداء الإنسان لبعض الواجبات على تشجيع الآخرين وحثهم على فعلها والتقيّد بها، ومن الواضح في مثل هذه الحالة أن يكون فعله على حاله، بل لو قصد بفعله هذا أيضاً حثّ الآخرين والتفت ربّما يتضاعف الثواب من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا شكّ أنّه سوف يكون بفعله آمراً ناهياً، بل إنّ بعض الفقهاء القدامى كان يفسّر «اليد» في روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بامتثال الآمر الناهي للتكاليف الشرعيّة ليكون قدوةً لغيره، كما يظهر ـ على ما قيل ـ من سلار الديلمي في «المراسم العلوية»([2])، ومعه فلا إشكال في بقاء كلّ شيء من طرف الفاعل الأوّل على حاله، بل قد يصبح عمله هذا مجمعاً لأداء وظيفتين شرعيّتين، هما: الحجّ والأمر بالمعروف، أو الصلاة والأمر بالمعروف و… كما أنّ الطرف الآخر المنفعل تبقى الأحكام في حقّه على حالها، بل يشتدّ الأمر عليه بعد ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من طرف الآخرين في حقّه، ممّا فيه المزيد من إلقاء الحجّة عليه.

2ـ وقد يفعل الإنسان الواجبات ويترك المحرّمات دون أن يكون لذلك أيّ تأثير على أفعال الآخرين لا سلباً ولا إيجاباً، ومن الواضح أنّه لا موجب من طرف الآخرين لإيجاد تغييرات في الفعل وأحكامه وموضوعه، إذ لا يعارضه شيء ولا يزاحمه، وهذا واضح.

3ـ إلّا أنّ القضيّة تكمن في أنّ بعض التكاليف الشرعيّة التي ينجزها الإنسان قد تدفع في الطرف المقابل إلى معصية الله تعالى؛ وأعطي مسبقاً مثالاً من باب المستحبّات، فقد يُحرز الإنسان أنّه لو تزوّج امرأةً ثانيةً مع زوجَته فسوف يوقع ذلك زوجته في غير محرّم من المحرمات، وكذا الحال في الواجبات، فقد يكون ارتداء الحجاب أو التعلّم في المدرسة ـ وأحدهما واجب والثاني مستحبّ في الحدّ الأدنى ـ موجباً لدفع الآخرين لخلع حجاب الفتاة ظلماً وعدواناً؛ ممّا يوقعهم في الحرام، أو يعلم الإنسان أنّه لو حاور شخصاً آخر حواراً، لنفرض أنّه واجب أو مستحبّ، فإنّ الطرف الآخر سوف تصدر عنه مواقف غير شرعيّة بوصفها ردّ فعل سلبي على أداء المؤمن لوظيفته، وهذه قضية عظيمة البلوى.

وهنا، لا موجب للخروج عن عنوان الوجوب والحرمة أو الإطاعة والامتثال، لمجرّد أن الآخرين لا يعجبهم ذلك؛ فإنّ هذا ما تعنيه آية: ﴿وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾([3])، فإنّ روح هذه الآية يدلّ على أنّ الإنسان لا ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار آراء الآخرين ومواقفهم من إيمانه وتديّنه، بل عليه أن يكون في شخصيّته الإيمانية قويّاً عصاميّاً لا تهزّه رياح آراء الآخرين فيه ومواقفهم، وهذا ما تعطيه بعض الآيات الدالّة على أنّ القرآن يزيد الظالمين انحرافاً وفساداً وهلاكاً، بعنادهم وكفرهم.

نعم، قد تطرأ عدّة عناوين ثانوية توجب تغيير هذا المبدأ الأصيل في الشريعة الإسلامية، وهذه العناوين هي:

العنوان الأوّل: عنوان حفظ حرمة المؤمنين، وهو من العناوين الفقهيّة الأساسيّة، فإذا لزم من أداء واجب أو ترك حرام هتك حرمة المؤمنين، بحيث يصل الأمر إلى حدّ يتعدّى الفرد نفسه إلى حفظ حرمة الجماعة المنتسبة إلى الدِّين الإسلامي، فهنا تحسب المصالح والمفاسد، فإن وصل الأمر إلى حدّ أهميّة ملاك حرمة المؤمنين على الواجب الآخر سقط الوجوب، والعكس هو الصحيح.

ويختلف تشخيص الموارد، ففي القضايا العامّة التي إذا أوكلت إلى آحاد الناس لزم الهرج والمرج في التطبيق، يكون المرجع في التحديد هو الحاكم الشرعي المطّلع على حيثيّات الموضوع والحكم معاً، وفي غير هذه الموارد يوكل الأمر إلى الفرد نفسه، شرط أن يكون دقيقاً في حسابه، فلا يبرّر الفرار من التكليف الشرعي بعناوين وأغلفة دينية كما حصل ويحصل كثيراً.

العنوان الثاني: عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما لو كان ترك الواجب أو فعل الحرام يساعد على ذلك، وكانت شروط الأمر والنهي متحقّقة، فهناك يقع التزاحم بين واجب الأمر بالمعروف والواجب الآخر، على تقدير عدم وجود سبيل آخر للأمر بالمعروف غير هذا السبيل، وهنا تلحظ الأهمّية، فقد تكون أحياناً لصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد لا تكون.

العنوان الثالث: عناوين الاضطرار والحرج والتقيّة، فقد يُلحق أداء الواجب بالإنسان عندما يدفع الآخرين كردّ فعل سلبي إلى أذيّته.. قد يلحق به الضرر أو بأحد المؤمنين الآخرين، وكذا قد يكون الإتيان بالواجب نتيجة ردّ فعل الآخرين حرجيّاً، وهكذا، وهنا تطبّق قواعد باب الحرج والتقيّة والاضطرار، شرط أن يكون التطبيق في غاية الدقّة والأمانة، حتّى لا يجري التذرّع بوهم الحرج أحياناً للتفلّت من التكاليف الشرعيّة الإلهيّة.

وإذا لم توجد هذه العناوين الطارئة وأمثالها لم يجز التخلّف عن الإلزامات لعناد الآخرين، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾([4])، وقال سبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ…﴾([5])، فوجود الحقّ قد يدفع الآخرين إلى الباطل، ولا يكون ذلك مبرّراً ـ ما لم تطرأ مثل العناوين المشار إليها ـ للتخلّي عن الحقّ، وإلّا كان القرآن حينئذ مسبّباً للضلالة والغواية والعياذ بالله سبحانه، نعم، قد يكون فعل واجب على شخص موجباً لوهم شخص آخر يوقعه في الحرام الواقعي، وهذا أمرٌ آخر.

من هنا، يظهر الحال في المستحبّات والمكروهات؛ فإنّها قد تؤدّي إلى ردّات فعل على طرف آخر، وما دامت ردّة الفعل ناشئة عن عناد وقصد الباطل مع علمه بكونه باطلاً، فإنّ هذا لا يبرّر التخلّي عنها ما لم تطرأ مثل العناوين السالفة الذِّكر، والتي قد تجمعها قوانين التزاحم العقلائية، نعم إذا أوجبت سقوط الآخرين في الوهم قد تكون مشكلةً من ناحية تغرير الجاهلين، إلّا مع الإلفات بعد فعلها.

نظريّة ترابط الأفعال ودورها في الربط بين الفقه الفردي والمجتمعي

وانطلاقاً من مجمل ما تقدّم، لا يصحّ للإنسان أن يظنّ ـ من الناحية الشرعيّة ـ أنّ أفعاله التي يقوم بها، سواء كانت واجبات أم محرّمات أم مستحبّات أم مكروهات أم مباحات، بمعزل عن الآخرين وردّات فعلهم، بل إنّ الآخر في أيّ فعل من الأفعال له دور أحياناً في عنونة الفعل بعناوين قد تغيّر الحكم، أو تقوّيه، أو تنجّزه، أو تقيّده أو.. وهذا ما يؤكّد تواشج الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، وصعوبة فصلهما عن بعضهما البعض، فالأصحّ ـ وما نبحثه أنموذج بسيط لهذا التداخل ـ عدم وجود فقه فردي وفقه اجتماعي، بل ـ وهو ما يظهر من النظريات الأخيرة التي طرحها الإمام الخميني ـ هناك تداخل بين فقه الفرد وفقه المجتمع، فأبسط القضايا الفردية لها بُعد اجتماعي، فأحكام الطهارة تترك أثراً على صرف المياه في الدولة الإسلاميّة لا ينبغي الاستهانة بها، يعرفها مَن يقرأ المشهد من الأعلى، لا مع هذه التجربة الفردية الجزئية أو تلك، وهذه نقطة مهمّة، يفيدنا البحث الذي نحن فيه في أحد تطبيقاتها فقط.

ولعلّ هذا هو ما قصده الإمام الخميني من أنّ تعقيدات الحياة الجديدة يجعل الموضوع الذي يبدو في نظر الفقيه للوهلة الأولى منتمياً إلى دائرة معينة.. يجعله منتمياً إلى دائرة أخرى مختلفة تماماً، عندما يكون الفقيه مطلعاً بدقة على واقع الحال في الحياة الخارجية، فما لم يكن الفقيه حاضراً في الوعي على مستوى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. كيف يمكنه أن يتصوّر المشهد بدقّة ليعطي حكمه الحقيقي الملامس للواقع بالنسبة للمكلّف؟!

وهذا ما يجرّنا إلى موضوع أكثر خطورةً، وهو موضوع المرجعية والتقليد؛ فالفقيه غير المطلع على تعقيدات موضوعات الأحكام في الحياة المعاصرة.. كيف يمكنه أن يكون مرجعاً في التقليد للملايين من الناس؟! وهذا بالضبط ما عناه الإمام الخميني عندما تحدّث عن عدم القبول بعد اليوم بمرجع تقليد يقول بأنه لا علاقة له بالسياسة والاجتماع والاقتصاد وتحدّيات المرحلة على مختلف الصعد؛ فمحض الأعلمية الفنّية الصناعية لا يكفي للتصدّي للمرجعية وإن كان جيداً للغاية لفقيه متضلّع يجيد تحريك القواعد وتوظيف الأصول الاجتهادية.

إذا كانت الفتوى صبّاً للحكم الكلي على موضوعه الكلّي، فإنّ هذا التعريف لها نظري للغاية، فللفتوى بُعد واقعي جزئي عندما تصدر عن لسان المرجع الديني أو قلمه تنزل من رتبة الكلية إلى الاندماج النسبي بالواقع، ويصبح مطلُقها مسؤولاً عن تداعياتها الميدانية؛ لأن فتوى الفقيه تعبّر عن موضوع جزئي ـ نسبياً ـ عنيت: مقيداً بزمان حياة هذا المرجع ومكانها وبالظروف التاريخية المحيطة، فنتائج الأبحاث العلمية شيء، والفتاوى الموجودة في الرسالة التي يراد لها أن تتحرّك عملياً في واقع الحياة شيء آخر، والفقيه غير المرجع؛ لأنه يتحرك في دائرة العنوان الأولي، أما المرجع فلا يمكنه أن يغيب عن دائرة المتغيّر التي تفرض حركةً في العناوين.

هذا، وقد اتّضح موضوع الترابط بين الأفعال على مستوى تحقيق موضوع حكم آخر في حقّ الطرف الثاني، أو الحيولة دون حكم آخر أو انعدام موضع حكم آخر، في مختلف الصور؛ فلا نكرّر ولا نعيد، آملين أن تكون هذه الدراسة المتواضعة محاولة أولى لانتباه الباحثين في الفقه أكثر إلى تأثيرات الأفعال على بعضها بعضاً بما يساعد على تكوين فقه مجتمعي إن شاء الله تعالى.

(*) نشر هذا المقال في العدد السابع والعشرين من مجلة ميقات الحج، في إيران، عام 2007م. ثم نشر ضمن كتاب (بحوث في فقه الحج) للمؤلّف، عام 2010م.

[1]. انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، القسم الأوّل: 308 ـ 309.

[2]. أنظر:سلار الديلمي، المراسم العلوية: 263؛ والعلامة الحلّي، مختلف الشيعة 4: 474 ـ 475؛ والشيخ الطوسي، النهاية: 299 ـ 300؛ وابن البراج، المهذب 1: 341.

[3]. المائدة: 54.

[4]. البقرة: 26.

[5]. آل عمران: 7.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً