أحدث المقالات

قراءة نقدية لآراء كديور حول الإمامة والتاريخ

ترجمة: منال باقر

المقدّمة ـــــــ

طرح ـ مؤخّراً ـ بعض الكتّاب المسلمين شبهات حول الإمامة، نتعرّض لاثنتين منها، نحلّلهما وننتقدهما في هذا البحث، هما:

1 ـ لقد كانت خصائص الإمامة في اليوم الأوّل مختلفةً عنها في العصور اللاحقة، فقديماً كانت تعني فهم القرآن والعدالة ومحوريّة الحق وتهذيب النفس، إلى أن تحوّلت تدريجيّاً إلى النصب والنصّ والعصمة والعلم بالغيب.

2 ـ إنّ الله تعالى فوّض إلى رسوله وإلى الإمام علي والأئمة من بعده خلق العالم وأمر الدين وتدبير شؤون البشر والرزق والمعاش، وهذه المسألة موجودة في مجاميعنا الروائية في باب تفويض الأمر من الله إلى النبي والأئمة بعده.

عدم التناقض بين مؤهلات الإمامة وبين مسألة النصّ والنصب ـــــــ

ممّا لا شكّ فيه أنّ ملكات الإمام النفسانيّة وقابليّاته الذاتيّة التي عبّر عنها الكاتب بتهذيب النفس والعدالة واتباع الحق والمعرفة بالقرآن.. شكّلت مناخاً لأحقّية الإمام المنصّب للحكومة من قبل الله تعالى. وأساساً هذا الأمران لا يتعارضان مع بعضهما البعض. حيث يتعلّق الأول بمقام الثبوت وعلل تعيين الإمام، أمّا الثاني فهو نتيجة لهذه القابليّات والمؤهّلات التي ذكر بعضها الكاتب وغفل عن بعضها الآخر.

لنفرض أن ثمّة جهة رسميّة تودّ تعيين وزير لرئاسة وزارة ما، وتريد أن تعرّفه للمجلس النيابي، عندها من المسلّم به أن تشكّل اللياقة والقابليّة والقدرة ـ المرتبطة بأمور هذه الوزارة ـ شروطاً واقعيّة للانتخاب، وفي حال انتخب الفاقد لهذه المؤهّلات، سيرفض العقل هذا الاختيار والانتخاب؛ وبناء عليه، تعدُّ المؤهلات الخاصّة بوزارة ما سبباً لأن يقوم رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء بتسمية شخص ما ضمن وزراء حكومته. إذاً، هل ثمّة وجه للقول بأنّ اللياقة والمؤهّلات والعلم والمعرفة شروط لوصول الوزير لا مسألة نصبه للوزارة وتقديمه للمجلس النيابي؟؟ من الواضح عدم وجود تعارض بين هذين الأمرين حتى نحتاج للتوفيق بينهما.

نعم، لم تكن مسألة نصب الإمام مسألةً حديثة الظهور في القرنين الثالث والرابع الإسلاميين حتّى يطرحها متكلّمو تلك العصور، بل يمكن القول: إنّ الرسول وأهل بيته كانوا قد طرحوها مراراً وتكراراً؛ لأنّ الأرضيّة والأجواء آنذاك كانت حاضرة من أجل نصب علي وأوصيائه. يُعرّف الإمام علي× أهلَ بيت رسول الله’ في خطبة طويلة في نهج البلاغة لا مجال لذكرها كاملة، كان قد استند إليها الكاتب أيضاً، وهي: «ولهم خصائص الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة، الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ونقل إلى منتقله»([1]).

ويعتبر الإمام في هذه الخطبة أنّ ملاك الخلافة هو وصية الرسول، لا إقبال الناس؛ من هنا، كانت خلافة السابقين لخلافته خارجةً عن دائرة الحق.

وليس هذا هو المورد الوحيد الذي يدلّ على نصب الرسول’ للإمام علي× بل قد أشار إلى موارد أخرى في نهج البلاغة، نذكر بعضها من باب المثال: «والله ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأصلاً عليه منذ قبض الله نبيّه حتى يوم الناس هذا»([2])؛ فيا تُرى ما هو الحقّ القطعي الذي سُلب منه بعد وفاة الرسول؟؟ هل هو حقّه الذي جاء بالبيعة، أم هو الحقّ الذي أعطاه إياه الخالق عزّ وجلّ بواسطة النبي؟ بالتأكيد لا يقصد الحقّ الأول؛ لأنّ البيعة لم تكن قد تمّت، بل المقصود هو الحق الثاني. ويقول الإمام علي في هذا السياق عندما قال له أحد الحاضرين: يا ابن أبي طالب! إنّك لحريص على الخلافة: «بل أنتم والله أحرص، وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه»([3]).

مجدّداً، ما هو الحق الذي يذكره الإمام؟ هل هو الحق الذي كان أعطاه إياه الناس أم هو الحق الذي منحه إياه الله تعالى؟؟ الاحتمال الأول عبارة عن بيعة الناس وإقبالهم، ولم تكن أبداً قد تمت البيعة في اليوم الذي قال فيه الإمام هذا الكلام (يعني يوم شورى الستة أشخاص أو يوم السقيفة).

وبغض النظر عن هذه الأحاديث، كان قد نقل ما يقارب 360 عالماً سنيّاً رواية الغدير ـ وهي الرواية الأكثر تواتراً في الإسلام ـ إضافة إلى هذا، رواها أكثر من 110 من الصحابة، وفي تلك الخطبة ومع الأخذ بعين الاعتبار ما سبق للنبي’ من حديث عن وفاته ورحلته إلى ربه، يراد بكلمة «مولى» الولاية وتولّي الزعامة، زعامته هو، ومما يؤكّد على هذا نزول آية الإبلاغ: {بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) وآية الإكمال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3). إنّ هذه الآيات تدلّ على أن مقام الولاية من بعد الرسول’ هو مقام نصب وتنصيب، وولاية الإمام× إنّما نُص عليها من قبل الله تعالى. نعم، إنّ النصب الإلهي يستلزم أرضيةً مناسبة له مثل العلم والمعرفة والزهد والصدق والعدالة وغيرها من ميّزات.

واعتقد أن الحديث في هذا الموضوع من أوضح الواضحات، وإنّما أوردته من باب التذكرة.

خطأ الكاتب في تحليل مناخ صدور كلمات الإمام الحسين× ـــــــ

يقول الكاتب: إنّ الإمام الحسين× قال ـ مخاطباً أهل الكوفة ومجاوباً أهل مكّة ـ ما يلي: «فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله»([4]). وعلى أساس هذا الكلام، يكون الإمام هو العامل بكتاب الله، والراعي للعدل والإنصاف، والمتديّن بالفعل، والمهذب لنفسه، والمخلص و.. وهذه صفات قابلة للتعميم بحيث يتَّصف بها أيّ مسلم.

لم يكن مناسباً ليعرّف الإمام الحسين× الإمامَ بهذه الصفات الأربع؛ إذ ينبغي أولاً تحديد ظرف ومكان الحديث، ثمّ نتوصل للنتيجة؛ فعندما أصرَّ الوليد حاكم المدينة على الإمام الحسين× حتّى يبايع يزيداً، أجابه: ينبغي على المسلمين قراءة فاتحة الكتاب، حتّى لا يخضعوا للحكام أمثال يزيد، كما كان قد بيّن الإمام في جوابه على رسائل ودعوات أهل الكوفة خصائص حاكم المسلمين حيث حدّدها بتلك الصفات الأربع، والهدف من وراء هذا التحديد هو إعلان انتفاء صلاحية حكّام ذلك العصر لممارسة السلطة، من أمثال يزيد واليزيديين وسائر طواغيت الزمان الذين تولّوا زمام السلطة والحكم، وذلك دون تمتّعهم بالمؤهلات الضروريّة؛ فالحاكم والإمام يجب عليهما العمل بكتاب الله والعدالة، وأن يكونا متدينين بحقّ، وبكل ما للكلمة من معنى.

إنّ ظرف الكلام وزمانه يدلان على أنّ الإمام الحسين×، كان قد نظر إلى زاوية خاصّة في مسألة الإمامة، وهي عدم صلاحية هذه الفئة الحاكمة؛ ذلك أنّها فاقدة للشروط الضرورية، أمّا أن الإمامة تستلزم شروطاً أخرى أو لا، فلم يكن الإمام في مقام بيان ذلك حتّى نستنتج من سكوته عدم وجود شروط أُخرى والقول بأنّ الإمامة هي العمل بالقرآن والعدالة فقط.

إنّ حصر المؤهّلات بهذه الصفات الأربع هو حصر نسبي وليس حقيقيّاً؛ والشاهد على هذا وجود صفات أُخرى ضرورية إضافة إلى تلك الأربع، مثل الدراية بالسُنّة النبويّة والأحكام الإلهيّة، والقدرة على إدارة البلاد والدفاع عن حريم الإسلام، والرجولة وغيرها من الصفات… وبحق أقول: لا يليق بمن درس ـ بدرجة أو بأخرى ـ في الحوزة العلميّة أن يعتبر هذه المعرّفات معرّفات حقيقيّة نافياً أيّ صفة أخرى كالنص من جانب الله تعالى.

مغالطات الكاتب، والخلط بين الإمامة والبيعة ـــــــ

يقول الكاتب (كديور) في قسم من خطابه، إنّ علياً× ـ من أجل الميثاق الذي أخذه الله تعالى العلماء ـ قَبِل بيعة الناس له، وبدأت بذلك خلافته. إن حجة الله في الكلام العلوي هو الناس، أي أنكم أيها الناس قد أتممتم الحجة، وأنتم ـ أيّها الناس ـ حجّة عليّ، وقد مزقتم صمتي الذي استمرّ 25 سنة، وأسندتم إليّ ـ بعدما كنت جليس منزلي ـ الخلافة والإمامة، إنكم أنتم الحجة لو تعلمون.

ليس من شك في أن الإمام علياً قد قال هذه الجمل في خطبة الشقشقيّة، لكنه لم يقلها بالطريقة التي أوردها الكاتب. إنّ الإمامة مقام إلهي مثل النبوّة، حيث يختاره الله تعالى، وبعبارة أخرى: الإمامة استمرار لعمل النبوة وأدوارها؛ إذ تستمر وظيفة النبوّة بعد وفاة الرسول’ الذي شكّل حكومةً إسلاميّة وجاهد المشركين وضمن أمن البلاد.. تستمر عبر قبول الناس لإمامة شخص ما. وإذا لم يقبل الناس ـ لأيّ سبب ـ حكم شخص ولو كان من قبل الله تعالى فلا يمكن أن تسلب عندها إمامته، إلاّ أنه عندها يُعْذر عن القيام بوظائفه؛ لذلك كان الإمام طوال خمس وعشرين سنةً ينتقد الخلفاء وأعمالهم، لكن حيث لم تكن له السلطة، لم يمكنه الاستفادة من هذه الشرعيّة.

وعندما صمّم الناس ـ بعد مقتل عثمان وتنبّههم للفساد ـ على إعادة الحياة إلى مجاريها وإجراء العدالة والمساواة وفق قانون الرسول في المجتمع الإسلامي، لم يكن هذا الشخص غير علي بن أبي طالب، للقيام بهذه المهمة؛ لذا توجّه الناس إلى منزله ـ وكان لا يزال جسد عثمان في بيته ـ حتى تصوّر الإمام أنّ الناسَ تريد قتله، وهنا تحقّق أساسا الخلافة: الأول عندما منحه الله تعالى مقام الإمامة في يوم الغدير، والثاني قبول الناس به عندما اجتمعوا على خلافته بأجمعهم، وطلبوا منه تسلّم زمام الأمر والحكم، اللهم إلاّ عدداً من الأشخاص القليلين.

بناء على هذا، لم يكن كلام الإمام علي× في خطبة الشقشقيّة دالاً على نفي أيّ أساس آخر، بل كان يشير إلى اكتمال نظام الإمامة بتحقق هذين الأساسين معاً.

من جهة ثانية ـ ووفق استدلال (كديور) ـ فإن 25 سنة من السكوت لن تعني شيئاً؛ لأنّه في هذه المدّة لم تتمّ الحجة ولم يبايعه الناس حسب ما قال كديور.

إنّ المشكلة في كلام كديور واستدلالاته أنّه أخذَ كلام إمام المتقين مجرداً من القرائن، وهو عمل غير صحيح، وفي حال أخذ كلامه مدعّماً بالقرائن وحدّد موضع الكلام وظرفه فلن يستنبط مثل هذا الاستنتاج أبداً؛ من هنا، نستطيع أن نرى العديد من المغالطات في كلامه أيضاً، لأنّه أخذ كلام الإمام المعصوم مجرداً عن القرائن الزمكانية؛ فمثلاً ذكر الإمام الحسين أنّ ثورته وقيامه لم يكونا لطلب الجاه والسلطة، بل لإعادة معالم دين الله التي مُحيت، وليس هناك نقاش في أن من أهداف الإمام الحسين× رفع التحريفات التي وقعت من جانب الأمويين، إلاّ أن هذا لا يعني أن وظائف الإمام وشروطه مختزلان في هذه الكلمة وهذا الهدف.

العصمة من خصائص الإمامة ـــــــ

تختلف الإمامة والخلافة عند الشيعة عنهما عند أهل السنّة، فهي عبارة عن مقام إلهي، ينبغي على الحاصل عليه مواصلة وظائف الرسالة ومهمّاتها؛ فالإمام ليس نبيّاً أو رسولاً مع أن الكثير من وظائف الرسول موكلة إليه؛ إذ ينبغي عليه توضيح مجملات القرآن، والأحكام التي لم يتسنّ للرسول الوقت الكافي لإيضاحها، والإجابة عن الأسئلة المستجدّة في العقائد والأحكام، فيكون وجوده في المجتمع ـ مثل النبي ـ محورَ الحق بحيث لا يفسح المجال عندها للاختلافات والانشقاقات في الأمّة؛ لذلك ظهرت العديد من الفرق بعد وفاة الرسول، فلو كان الإمام هو المحدّد من قبل الجميع بعد الرسول، وكانت له ذات المكانة المعطاة للرسول، ورجع إليه الناس في معرفة الحق والباطل، لانتفى وجود الفرق والخلافات.

إضافةً إلى ذلك كلّه من الأدوار والمكانة، يجب أن يكون الإمام مديراً ومدبّراً وشجاعاً ويقظاً وعالماً بمقتضيات زمانه.. ولن يتيسّر لنا معرفة مثل هذا الشخص إلا عن طريق الرسول، بل حتّى تربيته لن تتمّ إلاّ عبر العناية الإلهيّة، وطبعاً ينبغي لمثل هذا الشخص أن يكون معصوماً عن الخطأ والاشتباه، مصاناً من الذنوب.

أمّا الإمامة عند أهل السنّة، فهي عبارة عن مقام اجتماعي تؤخذ شرعيته من بيعة الناس، فيجب أن يكون الإمام ـ مثل رئيس الجمهورية ـ مديراً ومدبّراً وشجاعاً، ولا ضرورة مطلقاً لكي تتوفّر فيه صفات أو كمالات أخرى غير التي ذُكرت.

وبناءً على ما تقدم، تعتبر العصمة من خصائص الإمامة في المدرسة الشيعيّة، وليست من صناعة المتكلمين أو نسج عقولهم، وإذا كان المتكلم قد طرحها فإنّه قد أقام عليها الدليل العقلي إلى جانب الدليل النقلي الواضح. وقد عرّف الرسول’ أهلَ البيت بأنّهم عِدْل القرآن حين قال: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»؛ فهذا الحديث المتواتر يدلّ على أنّ لله حجتين معصومتين في الأرض، يُشكّل التمسك بهما مصدراً للهداية، ويُعدّ الانحراف عنهما مصدراً للضلالة، وهاتان الحجّتان هما القرآن والعترة، وكما لم تكن هناك شبهة في عصمة القرآن، كذلك ينبغي أن يكون الأمر في عِدْلِه؛ وفي غير هذه الحال، يستحيل حصول التوازن بينهما، ولن يوضعا في مقابل بعضهما.

أساساً، الشيء الذي يكون محوراً للهداية ينبغي أن يكون ـ وكما قال الرسول’ـ معصوماً عن الخطأ والاشتباه، وإلاّ فلن يكون عندها محوراً للهداية، وإذا أراد المحاضر المحترم مطالعة الأدلّة على عصمة أهل البيت^ فعليه الرجوع إلى الكتب الكلاميّة اليوم. وما يثير الدهشة، أنّ إنساناً شيعيّاً درس في الحوزات الشيعيّة يشكّك في عصمة الأئمة^! فلينظر إلى ما يقوله الفخر الرازي ـ وهو من أسرة سنيّة ـ في تفسيره الآيةَ التالية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} من أنّها تدلّ على عصمة أولي الأمر من الخطأ، ولمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة تفسير هذه الآية عنده، رغم أن الرازي قد تورّط في نهاية المطاف في الخطأ عند تحديده مصداق أولي الأمر.

علم الغيب بين الخاصية والثبوت ـــــــ

لم تقدّم الكتب الكلاميّة العلم بالغيب خاصّةً وميزةً من ميزات الإمامة، لكن ثمّة أدلّة قاطعة على أن علم الأئمة^ هو من العلم الغيبي فقط في نهج البلاغة حيث أعطى الإمام× خبراً من الغيب. ويمكن مراجعة هذا القسم في كتاب «آكاهي سوم».

هفوات الكاتب المحترم، ومسألة التفويض ـــــــ

وأشير هنا إلى بعض المسائل التي تبيّن الواقع، وهي:

أولاً: كان الكاتب قد اعتمد على ذاكرته حين نقل عنواناً للباب بصورة غير صحيحة،«باب تفويض الأمر من الله إلى النبي والأئمّة من بعده»، مع أنّ العنوان ورد بصورة أخرى في أصول الكافي وهو: «التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمّة^ في أمر الدين». وتدل كلمة «في أمر الدين» على أنّ مورد التفويض هو الأمور الدينيّة وليس الأمور التكوينيّة مثل الخلق والتدبير. وإذا كان هنالك فئة في الماضي أو الحاضر تعتقد بهذه العقيدة، فلن يكون ذلك موجباً للاعتقاد بأنّ الروايات ناظرة إليهم. بناء على هذا، لا ينبغي أن نحمّل روايات هذا الباب على المفوّضة الكفرة والمشركين (لعنة الله عليهم) ولا يتجاوز مجموع هذه الروايات العشرة، ستّة منها ضعيفة وبعضها مجهول أيضاً.

والعالمون بهذه الاصطلاحات يعرفون عدم إمكانية الاحتجاج بمثل هذه الروايات، لكن فلنفرض صحتها كلّها، فإن المقصود من تفويض الدين إلى الرسول وأهل بيته هو تماماً كما شرحه العلاّمة المجلسي في شرح أصول الكافي حيث قال: «تفويض بيان العلوم والأحكام إليهم بما أرادوا ورأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم وأفهامهم، أو بسبب التقيّة، فيفتون بعض الناس بالأحكام الواقعيّة، وبعضهم بالتقيّة، ويسكتون عن جواب بعضهم للمصلحة، ويجيبون في تفسير الآيات وتأويلها وبيان الحكم والمعارف بحسب ما يحتمله عقل كل سائل كما سيأتي، ولهم أن يجيبوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في أخبار كثيرة: «عليكم المسألة وليس علينا الجواب» كل ذلك بحسب ما يريهم الله من مصالح الوقت، كما سيأتي في خبر ابن أشيم وغيره»([5]).

المعنى الآخر الذي يدل عليه منطوق هذه الروايات هو أنّ الرسول’ مارس تشريعاً لبعض الأحكام انطلاقاً من معرفته بملاكها، وأن الله تعالى قد أمضاها له على ذلك، فأمير المؤمنين× عندما يعرّف أهل البيت يقول: «عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية»([6]).

نعم، في بعض الموارد المعدودة على الأصابع، كان قد طرح الرسول الأكرم حكماً ما أمضاه ووافق عليه الله تعالى، وذلك إنّما حصل نتيجة التكامل الروحي والفكري للرسول تحت إشراف أمين الوحي، الأمر الذي فتح له باب الحق والصواب لتمييزهما عن الخطأ والضلالة، كما ولتمييز ما يوافق المشيئة الإلهية عن غيره.

بناء على هذا، ليس ثمة مشكلة بأن يبيّن الرسول حكماً في بعض الموارد ويوافقه عليه الله تعالى، وذلك لأجل علمه الواسع الشامل، حيث قال الإمام الصادق×: «إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه وأحسن أدبه، ولمّا أكمل له الأدب قال: إنّك لعلى خلق عظيم، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأمّة ليسوس العباد»([7]).

إذن، ذكر الإمام الموارد المحدودة التي طرح فيها الرسول حكماً ما ـ بناء على علمه بالملاكات ـ وفوضه الله تعالى إليه، مثلاً حرم الله تعالى الخمر إلا أن الرسول’ حرّم كل مسكر، إلى غيرها من الأحكام.

وقفات ختامية مع الكاتب المحترم ـــــــ

وفي نهاية وقفتنا هذه، أودّ أن ألفت نظر المحاضر إلى مسائل مهمة، هي:

1 ـ تُعدّ وحدة الأمة وانسجامها وتماسكها أساساً لرقيّها وتكاملها، وفي المقابل يؤدّي الانقسام ـ لفريقين أو أكثر ـ إلى ضعف الأمّة وانحطاطها. ولا ينتج عن هذا النوع من الخطابات غير زرع التفرقة والتمزق والتشويش، ولنفرض صحّة هذه المسائل، لكن ليس من الضروري طرحها اليوم، وإذا أُريد طرحها ينبغي أن يكون عندها المحيط محيطاً علمياً أكاديمياً متخصّصاً لا في المحافل العامّة، إنّ المسائل العقائديّة تختلف عن المسائل الاقتصاديّة والاجتماعية، حيث لا يمكن تعويضها، إضافة إلى أنه صار واضحاً أن استنتاجات الكاتب إنّما هي استنتاجات شخصية لا مستند لها من كتابٍ ولا سنّة.

2 ـ لا ينبغي للشخص الذي درس مدّةً في الحوزات الشيعيّة أن يحتجّ بعدم الرحمة في التعاطي معه كي يضعّف الأسس المذهبيّة، وليس ثمّة شك بأنّه لو لم يظهر نظام ولاية الفقيه لما رأيناه يلقي مثل هذه المحاضرات، ولوجدنا أمثاله يعرّفون الإمام بالنص والعصمة والعلم بالغيب، لكنّه حيث لم يستفد في حياته من نظام ولاية الفقيه صمّم ـ وبأيّ سبب وسبيل ـ أن يهزّ أركان النظام الذي يعتمد على إمامة أمير المؤمنين وأولاده. حتّى أن المحاضر لم يستطع إخفاء هذه العقدة؛ لذلك قال في خطابه: إنّ كل ما يثبت للأئمة أثبتوه للفقيه أيضاً.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد بجامعة طهران، قسم الفلسفة.

([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 2.

([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 3.

([3]) نهج البلاغة، الخطبة: 172.

([4]) الشيخ المفيد، الإرشاد: 204؛ وتاريخ الطبري 6: 196.

([5]) العلاّمة المجلسي، مرآة العقول 3: 145.

([6]) نهج البلاغة، الخطبة: 234.

([7]) الكليني، أصول الكافي 1: 265.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً