أحدث المقالات

عمق الفقاهة وسموّ الأخلاق

الشيخ حسن بن موسى الصفّار(*)

مفتتح

من أهمّ التحدّيات التي واجهتها الأمة الإسلامية في هذا العصر تحدّي التوفيق بين الأصالة والانفتاح؛ ذلك أن التخلف العميق الذي تعيشه الأمة في مختلف مجالات الحياة يقابله تقدُّم باهر أنجزته الحضارة الغربية. هذا التقابل أدّى إلى وجود تيارين في أوساط أبناء الأمة:

تيار يتبنى الانفتاح بلا حدود على الحضارة الغربية، دون أيّ تحفّظ على ما تحمله من قيم وثقافات، وما تمارسه مجتمعاتها من تقاليد وسلوكيات، وإنْ كانت مخالفة لقيم الأمة، وعلى حساب هويتها الدينية. وقد يذهب البعض في هذا التيار إلى تحميل القيم الدينية مسؤولية تخلُّف الأمة، وأن التقدُّم لن يتحقَّق إلاّ بالالتحاق بركب الحضارة المتقدمة قيماً وثقافة وأخلاقاً.

أما التيار الآخر فيدعو إلى الانغلاق على الذات، والقطيعة الكاملة مع الغرب، برفض جميع منتجاته، دون تصنيف أو تمييز؛ للحفاظ على الهويّة الدينية للأمة، وحماية قيمها وتراثها من الغزو الأجنبي، الذي يستهدف تدميرها والقضاء عليها.

وقد عانَتْ الأمة كثيراً من تداعيات وجود هذين التيارين؛ حيث قاد التيار الأول مسيرة الانبهار بالآخر، وإضعاف ثقة الأمة بذاتها وتاريخها وتراثها وقيمها الدينية السامية، وبثّ روح الهزيمة والاستسلام في أوساط الأمة تجاه حضارة زاحفة، تريد الهيمنة على مصائر الشعوب ومقدّراتها.

بينما عزَّز التيار الآخر واقع التخلف والانحطاط، بالتبرير له دينياً، ورفض أيّ تطوُّر وتجديد، وعدم مواكبة مستجدّات الحياة، مما ولَّد نفوراً من الدين في مساحة واسعة من أبناء الأمة الطامحين للإصلاح والتغيير، وأعطى الفرصة لتشويه صورة الإسلام، واتّهامه بالرجعية والتخلف.

كما أن الصراع بين هذين التيارين كلّف الأمة باهظ الأثمان والخسائر، وأضعف تماسك مجتمعاتها، واستقرار أوطانها.

وكانت الأمة بحاجةٍ ماسّة أمام هذا التحدّي الخطير إلى نهجٍ وسطي متوازن، يجمع بين الأصالة في الانطلاق من قيم الدين، ومبادئه الثابتة، وبين الانفتاح على تطوُّرات العصر ومستجدّات الحياة، ويستفيد من تجارب المجتمعات المتقدّمة، بدراستها والانتقاء منها.

هذا النهج المطلوب لا يقوم بعملية جمع تبرُّعي متكلفة، على حدِّ تعبير علماء الأصول، في معالجة موضوع الجمع بين مدلولات الأدلة المتعارضة، بل ينطلق هذا النهج الوسطي من فهم موضوعي لقيم الدين ومبادئه، التي أقرَّتْ شرعية الاجتهاد في استنباط مفاهيمه وتشريعاته، بما يستوعب تطوُّرات الزمن والمجتمع، ودعَتْ إلى النظر في سنن الطبيعة والحياة، واعتماد مرجعية العقل، والاستفادة من مختلف الآراء والتجارب والخبرات البشرية.

وبحمد الله تعالى لم تَخْلُ ساحة الأمة من هذا النهج الإصلاحي المنقذ، وإنْ كان محدود المساحة والتأثير، قياساً للتيارين الرئيسين. لكنّ التوقُّعات تشير إلى تقدُّم كبير لهذا النهج في المستقبل القريب. وقد بدأت إرهاصات صعود هذا النهج وتقدُّمه في واقع الأمة.

الشيخ الفيّاض وعمق الفقاهة

من أهمّ إرهاصات تقدم نهج الإصلاح وجود فقهاء كبار، ومراجع دين بارزين، ضمن المؤسَّسة الدينية التقليدية، يتبنُّون هذا النهج الرائد، ومن هؤلاء الفقهاء العظام المرجع الديني الكبير الشيخ محمد إسحاق الفيّاض حفظه الله.

وهو فقيهٌ عصامي. وُلد سنة 1930م، لعائلةٍ فقيرة، تمتهن الفلاحة في إحدى قرى محافظة (غزني)، وسط أفغانستان، جنوب العاصمة كابُل.

بدأ رحلة العلم والمعرفة في منتصف العقد الأول من عمره، مستفيداً من الفرصة المتاحة في قريته، حتى منتصف العقد الثاني من عمره، حيث غادر إلى مدينة مشهد في إيران، وانضمّ إلى مدارسها الدينية، مدّةً وجيزة، ثم عزم على الهجرة إلى النجف الأشرف، حيث وصلها بعد عناءٍ شديد. واستقرّ فيها، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقطع مراحل الدراسة العلمية الحوزوية بجدٍّ وإتقان، حتّى أصبح من أبرز الفقهاء المراجع في النجف الأشرف.

ومَنْ يتابع بحوث الشيخ الفيّاض، ويقرأ كتبه العلمية، ويتأمّل فتاواه الفقهية، يجد فيها العمق العلمي، والأسلوب البليغ، والطرح المستوعِب لأطراف كلّ مسألة.

يظهر ذلك جليّاً في تقاريره لبحث أستاذه السيد الخوئي (محاضرات في أصول الفقه)، في عشر مجلَّدات؛ وفي كتابه (المباحث الأصولية)، الذي يقع في أربعة عشر مجلَّداً؛ وفي تعاليقه المبسوطة على العروة الوثقى، التي طُبعت في عشرة أجزاء. ومن كتبه المهمة: كتاب (الأراضي)؛ وكتاب (أحكام البنوك).

وما يهمّنا التأكيد عليه في هذا المجال أن فقه الشيخ الفيّاض يمثِّل أنموذجاً رائعاً للتوفيق بين الأصالة والانفتاح. فالممارسة الفقهية لدى الشيخ الفيّاض محكومة بالضوابط المقرّرة، وفي إطارها العلمي الدقيق، وبأدوات الصناعة المتداولة في البحث الأصولي والفقهي، لكنّها ممارسةٌ اجتهادية بامتيازٍ، حيث يبذل الشيخ الفيّاض قصارى جهده للتعامل مع الأدلة، بانفتاحٍ كامل، دون رهبةٍ أو تقيُّد بفهم السابقين. وإلى جانب تفحّص الدليل، يجتهد الشيخ الفيّاض في مقاربة موضوع البحث؛ للوصول إلى التشخيص الواقعي للموضوعات في واقعها المعاصر، وصورتها الحاضرة؛ لأن المستجدّات والمتغيّرات في الموضوع تؤثّر في تحديد الموقف منه، وتطبيق العنوان عليه.

 

دور المرأة بين تيّارين

وتأتي رؤية الشيخ الفيّاض لموقع المرأة في النظام السياسي الإسلامي أنموذجاً مشرقاً لممارسته الاجتهادية المتميِّزة؛ حيث أجاب سماحته عن خمسة وعشرين سؤالاً تفصيليّاً حول هذا الموضوع بفتاوى فاجأَتْ مختلف الأوساط، بما عكسَتْه من انفتاح عصريّ على قضيةٍ شائكة؛ إذ تبالغ الأوساط الدينية التقليدية في التحفّظ على دور المرأة السياسي والاجتماعي.

وتمثِّل هذه القضية مشهداً بارزاً للاشتباك بين تيّاري الانغلاق والانفتاح في الأمة؛ حيث يصرّ التيار الأول على حصر دور المرأة في وظيفة الزوجية والأمومة بين جدران منزلها، وتحت الهيمنة المطلقة لزوجها، دون الاعتراف لها بأيّ حقٍّ أو دور في شؤون الولايات العامة وإدارة المجتمع. ويتمسَّك هذا التيار بفهمٍ معيّن لبعض النصوص الدينية، متأثِّراً بالعرف السائد، والتقاليد المتوارثة.

بينما يتجاوز التيّار الآخر كلّ القيود والحدود الدينية؛ لمحاكاة التجربة الغربية في المساواة التامّة بين الرجل والمرأة، مع ما تحمله تلك التجربة من مساوئ ومفاسد، وخاصة على الصعيد الأخلاقي، وتماسك الكيان الأسري.

وعاشت الأمة في هذه القضية بين: إفراط التيار المحافظ؛ وتفريط تيار الانفتاح. وكانت أنظار الغيارى والواعين من أبناء الأمة تتطلَّع إلى رؤيةٍ شرعية عصرية، تنطلق من فهم أصيل لتعاليم الدين، ومعرفة موضوعية بمستجدّات العصر، وتطوّرات الحياة الاجتماعية.

 فلم يعُدْ مقبولاً في عصرٍ تتفاخر فيه المجتمعات بمشاركة كلّ أفرادها في إدارة شؤون حياتهم العامة، ويكون فيه الشعب مصدراً لكلّ السلطات، أن يُحْرَم نصف الشعب، متمثِّلاً في المرأة، من أيّ مشاركة سياسية واجتماعية.

وقد تأخَّرَتْ الاستجابة لهذا التحدّي من قبل فقهاء الإسلام طويلاً، ولا زال بعضهم متحفِّظاً تجاه هذه القضية، ومتمسكاً بالآراء التقليدية. لكنّ عدداً من الفقهاء المعاصرين خاضوا غمار البحث في الأدلة الشرعية، بروحٍ اجتهادية منفتحة، أوصلَتْهم إلى تقديم رؤية شرعية، تفسح المجال لمشاركة المرأة في الشأن العامّ، السياسي والاجتماعي؛ لتقوم بدورها إلى جانب شقيقها الرجل في إدارة الحياة، ومسار التنمية، وحركة المعرفة والعلم.

ولا شَكَّ أن صدور هذه الرؤية، بما تضمّنته من فتاوى تفصيلية، من قِبَل فقيهٍ في مقام الشيخ الفيّاض يشكِّل انتصاراً كبيراً لخطّ الأصالة والانفتاح، ويمثِّل دعماً قويّاً لحقوق المرأة، ولمشاركتها الفاعلة في بناء الأوطان والمجتمعات.

فالشيخ الفيّاض ليس مجرَّد باحث أو مفكِّر، أو صاحب فضيلة علمية، بل هو مرجعٌ ديني بارز في الساحة الدينية، وأستاذٌ ضليع في الفقه والأصول، يحتشد في مجلس درسه مئات الفضلاء، ويمتلك أعلى مقوّمات المرجعية والفقاهة والإفتاء، كما يحظى بثقة وتقدير مختلف الأوساط العلمية والدينية.

 

رؤية الشيخ الفيّاض حول دور المرأة السياسي والاجتماعي

وفي ما يلي نستعرض أبرز آراء الشيخ الفيّاض ورؤيته حول دور المرأة السياسي والاجتماعي، من خلال إجاباته عن الأسئلة التي قُدِّمت إليه.

المرأة لكلّ المواقع في الحكومة المدنية

يجب على المرأة المسلمة أن تستر بدنها من الأجنبي، وأن تحافظ على كرامتها وشرفها وعفّتها من تدنيس كلّ دنس.. فإذا كانت المرأة المسلمة كذلك جاز لها التصدّي لكلّ عملٍ لا ينافي واجباتها في الإسلام، سواءٌ أكان ذلك العمل عملاً اجتماعيّاً، كرئاسة الدولة مثلاً، أو غيرها من المناصب الأخرى، أم فرديّاً، كقيادة السيارة والطائرة ونحوها.

ومن الواضح أن تصدّي المرأة للأعمال المذكورة لا يتطلَّب منها السفور، وعدم الحفاظ على كرامتها الإسلامية كامرأةٍ مسلمة، بل محافظتها عليها في حال تقلُّدها لمناصب كبيرة في الدولة تزيد من شأنها ومكانتها الاجتماعية، وصلابتها في العقيدة والإيمان.

والخلاصة: إنّ المرأة المسلمة إذا كانت قويّةً في إرادتها، وصلبة في عقيدتها وإيمانها بالله تعالى، ومحافظة على شرفها وكرامتها، فلها أن تتصدّى لكافّة المناصب المشار إليها، ولا فرق من هذه الناحية بين الرجل والمرأة.

المرأة وتولّي السلطة الدينية

إنّ أكثر الفقهاء العظام لا يقولون بثبوت تولّي المرأة لمنصب السلطة الحاكمة في الدولة القائمة على أساس مبدأ الدين، إذا توفَّرت في المرأة كافّة شروط هذا المنصب.

ولكنّ الثبوت لا يخلو عن قوّةٍ؛ حيث إنه لا دليل على عدم الثبوت إلاّ دعوى الإجماع في المسألة. والإجماع في نفسه لا يكون حجّةً إلاّ إذا أحرز أنه كان ثابتاً في زمن المعصومين^، ووصل إلينا من ذلك الزمان يداً بيدٍ وطبقة بعد طبقة. ولا طريق لنا إلى إحراز ذلك أصلاً.

إنّ أكثر فقهاء الطائفة، من المتقدِّمين والمتأخِّرين، لا يقولون بالولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط، ومنها: الأعلمية، والقائلُ بها بينهم قليلٌ، وأما مَنْ يقول بها للفقيه فإنما يقول: إذا توفَّرت شروطها فيه، كالأعلمية والعدالة والكفاءة ونحوها، وأما ثبوت هذه الولاية للمرأة المسلمة فهو محلّ إشكالٍ، بل منعٍ، عند أكثر الفقهاء.

ولكنّ الثبوت عندنا غيرُ بعيدٍ، إذا توفَّرت شروط الولاية فيها كافّةً، من الأعلمية والعدالة والكفاءة وغيرها، فضلاً عن تقلُّدها مناصب أخرى.

إنّ أكثر الفقهاء قد ادَّعَوْا الإجماع على المنع عن تصدّي المرأة لمنصب القضاء والإفتاء والولاية العامة في الدولة الإسلامية. ولا إجماع في البين.

لا فرق بين الرجل والمرأة في النظام الإسلامي العامّ، بكافّة أشكاله وألوانه، من العقائدي والعملي والسياسي والاقتصادي والحقوقي وغيرها، ما عدا المناصب الثلاثة المشار إليها آنفاً عند الفقهاء.

المرأة في القضاء المدني

القضاء العُرْفي بين الناس، الذي لا يكون مبنيّاً على ثبوت الولاية والزعامة الدينية للقاضي، لا فرق فيه بين الرجل والمرأة.

المرأة في البرلمان

يجوز للمرأة أن ترشِّح نفسها للدخول في البرلمان، أو في سائر المجالس النيابية، شريطة أن تحافظ على كيانها الإسلامي، وكرامتها كامرأةٍ مسلمة.

يجوز تولّي المرأة رئاسة اللجان البرلمانية، ويجوز تولّيها رئاسة البرلمان.

يجوز للمرأة أن تشترك في انتخاب رئيس الدولة وأعضاء السلطة الحاكمة وأعضاء السلطة التشريعية وسائر المجالس الانتخابية كافّةً.

 

المرأة والعمل الديبلوماسي

لا مانع أن تقوم المرأة بدور السفارة عن البلاد في الخارج، أو أن تكون شرطية.

المرأة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةٌ إلهية واجبة على الكلّ، بلا فرق بين الرجل والمرأة. وأما اختصاص هذه الفريضة بالرجل دون المرأة فهو غير محتملٍ، كاختصاص سائر الفرائض الإلهية؛ لأنّ المرأة أيضاً معنية بخطاب الآية المباركة والأحاديث الشريفة؛ فإنّ اختصاص حكم في الشريعة المقدّسة بطائفةٍ دون أخرى منوطٌ بتحقُّق موضوعه في هذه الطائفة دون الأخرى، كأحكام الحَيْض والاستحاضة والنفاس وما شاكلها؛ حيث إنّ اختصاصها بطائفة النساء من جهة اختصاص موضوعها بها، وإلاّ فأحكام الشريعة مشتركةٌ بين الجميع. فإذن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كوجوب الصلاة والصيام والحج ونحوها، ولا مقتضي للاختصاص. ومجرّد أن الخطابات القرآنية موجَّهة للذكور لا يدلّ على الاختصاص.

أمّا أوّلاً: فلأنّ الأحكام الشرعية المجعولة في الشريعة المقدّسة لا يحتمل اختصاصها بطائفةٍ دون أخرى؛ تطبيقاً لقاعدة الاشتراك في التكليف لأهل شريعةٍ واحدة.

وثانياً: إنّ الخطابات القرآنية بحَسَب النوع موجَّهة إلى الناس أو الإنسان، وهو يعمّ الرجل والمرأة، هذا من ناحيةٍ.

ومن ناحيةٍ أخرى إنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذات مراتب، منها: أن يكون باللسان، ولا يعتبر فيه أن تكون لدى الآمر والناهي سلطةٌ تنفيذية، فمَنْ كان قادراً عليه، ولو بالنسبة إلى عائلته فقط، وجب.

 

المشاركة بالرأي في الشأن العامّ

إنّ المشاورة بين أفراد الأمة الكفوئين من الرجال والنساء، في تمام أجهزة الدولة، وتشكيل الشورى، من واجبات الدولة؛ لأنّ تبادل الأفكار والخبرات العلمية والعملية، والمشاورة في الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والتعليمية وغيرها، أمرٌ ضروري في كلّ دولةٍ، سواء أكانت شرعية أم لا. ولا فرق بين أن يكون أفراد الأمة الكفوئين من الرجال أو النساء؛ لأنّ تقلُّد المناصب الحكومية لا بُدَّ أن يكون بحسب الكفاءة واللياقة، سواء أكان رجلاً أو امرأة. وعليه فيجوز للمرأة ترشيح نفسها لعضوية المجالس البرلمانية، إذا كانت عندها الكفاءة واللياقة والخبروية، سواء أكانت في الدولة الإسلامية أم غيرها.

المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق العامة

لا تُستثنى المرأة من مساواتها بالرجل في الحقوق الاجتماعية والفردية والفكرية، وحرّية التعبير، وإبداء الرأي، والدخول في كافّة الاستثمارات والأنشطة المالية في الأسواق والبورصات العالمية، وحيازة كافّة الثروات الطبيعية، وإحياء الأراضي البائرة وغيرها، كلّ ذلك في الحدود المسموح بها من قبل الشَّرْع. فلا يسمح بالاستثمارات والأنشطة الاقتصادية المحذورة المعيقة للقيم والمثل الدينية والأخلاقية، كالاستثمار بالرِّبا، والاتّجار بالخمور والميتة ولحم الخنزير والمخدّرات، والاحتكار، والغشّ، وغير ذلك، هذا من جانبٍ.

ومن جانب آخر: إنّ الدولة الإسلامية الشرعية تتكفَّل جميع الحقوق للإنسان المسلم، وتقدِّم له الحرّية بكل الاتجاهات والأنشطة، ولكنْ في الحدود المسموح بها شرعاً، لا مطلقاً، بأنْ لا تؤدي هذه الحرّية إلى تفويت حقوق الآخرين، وأنْ لا تعيق القيم والمثل الدينية والأخلاقية، كالكذب والغيبة ونحوهما، فإنه ليس حُرّاً فيها، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة.

إنّ شهادة المرأة في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تعادل شهادة الرجل، ولا فَرْق بينهما، وكذلك صوتها كصوت الرجل. وأما أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فهي إنّما تكون في موارد خاصّة؛ للنصّ الخاصّ في الشرع.

 

قوامة الرجل في الحياة الزوجيّة فقط

إنّ المراد من الدرجة في الآية الكريمة ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228) المنزلة، حيث إن منزلة الرجل في داخل الأسرة هي أنه قوّام على المرأة، ومعنى ذلك أن أمر المرأة بيده، فإنه متى شاء الاستمتاع بها ليس لها الامتناع، كما أن إطلاق سراحها بالطلاق بيده.

وهذا الحكم مختصٌّ بداخل الأسرة.

وبدل المنزلة الثابتة للرجل في نظام الأسرة فإنّ للمرأة حقوقاً عليه، كالنفقة، بما يليق بشأنها وكرامتها وحالها، من المسكن والملبس والأطعمة والأشربة والمعيشة معه بسلامٍ وأمن، وغيرهما من الحقوق.

وأمّا في خارج الأسرة فلا فَرْق بين الرجل والمرأة في جميع أدوار الحياة العامة وشؤونها، من الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها.

إنّ قوامة الرجل على المرأة تقتصر في الحياة الأسرية، وأما في الحياة العامة فلا فرق بينهما، كما تقدَّم.

لا اعتبار لنصوص تزدري المرأة

إنّ الحديثَ المرويّ عن رسول الله| في وصف المرأة بأنها ناقصة عقل ودين غيرُ معتبرٍ، فلا يصحّ نسبته إلى الرسول الأكرم|.

هذا إضافةً إلى أنه غير قابلٍ للتصديق؛ ضرورة أنه خلاف ما هو المحسوس والمشاهد في الخارج؛ لأنّ المشاهد والمحسوس فيه أن عقل المرأة لا يقلّ عن عقل الرجل، في كافّة الميادين العلمية التي للمرأة فيها حضورٌ ووجود.

هذا إضافة إلى أنه يظهر من الآيات والروايات أنه لا فَرْق بين الرجل والمرأة في ذلك.

ولعلّ هذا الحديث ـ على تقدير اعتباره ـ ناظرٌ إلى أن طبيعة المرأة بحَسَب النوع حسّاسة، وذات مشاعر الحبّ ورقّة القلب، والميل إلى الزينة والجمال، أكثر من طبيعة الرجل، فلهذا قد تغلب هذه الإحساسات والمشاعر على عقلها وتفكيرها في الحياة العامّة، لا أنّ كلّ امرأة كذلك؛ إذ قد توجد امرأةٌ أكثر صلابة في إرادتها وقوّة قلبها من الرجل، ولهذا تُسمّى بالمرأة الحديدية.

إنّ الحديثَ الذي ينسب للرسول|: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة» غيرُ معتبرٍ، بل غيرُ قابلٍ للتصديق؛ لأنّ معناه أن المرأة بما هي امرأة لا تتمكّن من إدارة البلاد وشؤونها كافّة، وأنّ ولايتها عليها تؤدّي إلى سقوطها بتمام اتجاهاتها الحيوية. وهذا ليس إلاّ من جهة نقصان عقلها، وقصور تفكيرها. وقد تقدَّم أن هذا خلاف الوجدان في كافّة المعاهد العلمية والساحات الاجتماعية التي للمرأة فيها حضورٌ.

إنّ هذه الآيات ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ (الأحزاب: 53)، ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33)، مختصّةٌ بنساء النبيّ الأكرم|.

عمل الزوجة خارج المنزل

إنّ حقّ الزوج على الزوجة الاستمتاع بها متى شاء، وفي أيّ وقتٍ أراد، ولا يحقّ للزوجة الامتناع، والخروج من البيت المنافي لهذا الحقّ.

وليعلم أن ثبوت هذا الحقّ للزوج على الزوجة إنما هو بالمقدار المتعارف الاعتيادي.

وهذا المقدار لا ينافي توظيف المرأة، وخروجها من البيت بمقدار ستّ ساعات أو ثمانٍ، باعتبار أنّ الرجل نوعاً يخرج من البيت بهذا المقدار في نفس الوقت.

وأمّا إذا كانت المطالبة من باب العناد، والمنع من التوظيف، فهل تجب على المرأة الإطاعة؟

فيه وجهان. ولا يبعد عدم الوجوب. هذا نظير ما إذا طلب من المرأة الاستمتاع طول (24) ساعة، فإن إطاعته غير واجبة في هذا الفرض؛ لانصراف الأدلّة عن مثل هذه الفروض.

نعم، لو كانت الوظيفة واجبةً على المرأة في الدولة الإسلامية من قِبَل وليّ الأمر؛ لمصلحةٍ عامة، فلا يحقّ لزوجها أن يمنعها من الوظيفة، وإنْ كانت منافيةً لحقّه، وإلاّ فالوظيفة غير واجبة على المرأة حتّى تصلح أن تزاحم الواجب.

 نعم، لو كانت المرأة موظَّفةً في الدولة، كأنْ تكون معلمة أو متصدّية لمنصب من المناصب فيها، وأقدم الرجل على الزواج بها على الرغم من أنها موظَّفة، وقبلت المرأة شريطة أن تبقى في الوظيفة، وجرى العقد بينهما على هذا الشرط، فلا يحقّ للزوج حينئذٍ أن يمنعها من الوظيفة، أو أنّ المرأة اشترطَتْ على الرجل ضمن عقد الزواج التوظيف في الحكومة، فإذا رضي الرجل بالعقد كذلك، وجرى العقد بينهما على هذا الشرط، فليس له أن يمنعها من ذلك.

وأما المضاجعة فهي حقّ الزوجة على الزوج، لا العكس.

إنّ للمرأة أن تشترط على الرجل في ضمن عقد النكاح شروطاً تتعلَّق بالواجبات الزوجية، كالمضاجعة، والخروج من المنزل، فإذا رضي الرجل بها، وجرى العقد بينهما على هذه الشروط، وجب عليه الوفاء بها.

تحديد المهور وغياب الزوج

يجوز تحديد المهور إذا رأى الحاكم الشرعي فيه مصلحةً عامة؛ باعتبار أنها غير محدَّدة في الشريعة المقدّسة. وكذلك له تحديد غياب الزوج إلى مدّةٍ معيَّنة إذا رأى فيه مصلحةً كذلك.

وأما تغيير الحكم الشرعي فهو ليس من صلاحية الحاكم الإسلامي، مهما كانت مرتبته ومقامه. وحتّى النبيّ الأكرم| ليس له ذلك؛ لأنه بمقتضى الآية الكريمة ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ ليس له هذا الحقّ.

 

الانتماء للإسلام والتعايش المذهبي

يرى الشيخ الفيّاض أن الإسلام يتقوَّم بإعلان الإيمان بالتوحيد والرسالة. فمَنْ أظهر الشهادتين حكم بإسلامه، وإنْ لم يعلم موافقة قلبه للسانه، بل حتّى مع العلم بالمخالفة أيضاً؛ لنصّ الكتاب العزيز، والسنّة الشريفة، والسيرة.

وفي ذلك إشارة إلى قبول رسول الله| لإسلام المنافقين، الذين نصّ الوحي على كذبهم في إظهارهم للإسلام، كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: 1).

ويرى الشيخ الفيّاض أنه حتّى إنكار المعاد ليس سبباً مستقلاًّ للكفر، كالتوحيد والرسالة، كما أن الإيمان بالمعاد ليس قيداً مستقلاًّ في الإسلام، إلاّ إذا عاد إنكار المعاد لإنكار الرسالة، بلحاظ أن إنكار الرسالة يستلزم إنكاره، والتصديق بها تصديق بالمعاد، فإنّ الإيمان به من أظهر ما اشتملت عليه الرسالة السماوية.

ولا يرى الشيخ الفيّاض موضوعيةً لما اصطلح عليه بعض الفقهاء من أنّ إنكار شيءٍ من ضروريات الدين موجِبٌ للكفر؛ لأنه لا دليل على أن إنكار الضروري سببٌ مستقلّ للكفر، وعدم إنكاره معتبرٌ في الإسلام.

بل إنّ إنكاره مع الالتفات إلى أنه إنكار للرسالة كفرٌ. ولكنّه لا يختصّ بالضروري، بل إنكار كلّ حكمٍ شرعي مع الالتفات إلى أنه ممّا جاء به الرسول| كفرٌ، وإنْ لم يكن ضروريّاً؛ باعتبار أنه تكذيب للرسالة.

وبهذا التأصيل الديني يضع الشيخ الفيّاض حدّاً لتوجُّهات التكفير، التي تجعل من الاختلاف المذهبي أو الفكري مبرِّراً لانتهاك حرمات المسلمين المخالفين، ويرسي هذا التأصيل أرضيّة التسامح، والقبول بالتعدُّدية في إطار الانتماء للإسلام.

وانطلاقاً من هذا التأصيل فإن مَنْ اعترف بالوحدانية والرسالة فهو مسلمٌ، محقون الدم والعرض والمال.

لذلك لا يرى الشيخ الفيّاض، خلافاً لمعظم الفقهاء، مبرِّراً للقول بنجاسة أيّ طائفةٍ من المسلمين، حتّى النواصب، وهم مَنْ ينصبون العداء لأئمّة أهل البيت ويسبّونهم، فإنه لا يرى نجاستهم، ولا نجاسة الخوارج؛ لعدم وجود دليلٍ يثبت نجاستهم.

نشير هنا إلى أن مصطلح النواصب لا يُقْصَد به أهل السنّة، وإنما خصوص من يظهر العداء والبغض لأهل البيت^، والمسلمون سنّةً وشيعة يتقرَّبون إلى الله بحبّ أهل البيت^، حيث أمر بمودَّتهم في كتابه، وأوصى النبيّ| أمّته بحبِّهم وتولِّيهم.

ويرفض الشيخ الفيّاض التسرُّع في إصدار حكم الارتداد عن الدين، والإخراج منه؛ حيث أجاب عن سؤال اتّهام بعض الكتّاب بالانتقاص من الدين، والحكم عليهم بالكفر، أجاب سماحته: «المعيار في الكفر والارتداد إنما هو بإنكار التوحيد والرسالة. فإنكار الضروري مع الالتفات إلى أن إنكاره يستلزم تكذيب الرسالة كفرٌ. هذا هو المعيار في الكفر والارتداد، ولا يثبت بغير ذلك».

وخروج المسلم من مذهبه إلى مذهبٍ آخر لا يخرجه عن دائرة الإسلام، ولا يصبح مرتدّاً. هكذا أجاب الشيخ الفيّاض عن سؤالٍ حول مَنْ تخلّى عن مذهب أهل البيت^، وانتحل المذهب السنّي، هل يعتبر مرتدّاً؟ فأجاب سماحته: «المرتدّ هو مَنْ خرج عن دين الإسلام، إمّا بإنكاره الألوهية والتوحيد أو رسالة النبيّ الأكرم».

ويحذِّر الشيخ الفيّاض من توجُّه أيّ حكومةٍ من الحكومات لممارسة الضغوط على أتباع المذاهب الأخرى، من السنّة والشيعة وغيرهم: «لا يحقّ لأيّ دولة تحميل مذهبٍ على أهل مذهبٍ آخر، فإنّه قد يثير البلبلة والفتنة والنفاق في البلد. بينما إذا كان أهل كلّ مذهب أحراراً في مذهبهم، وإقامة شعائرهم، فهذا يوجب الاستقرار فيه، واستتباب الأمن».

ويرى الشيخ الفيّاض أنّ اختلاف المذهب لا يخلّ بشرط التكافؤ في التزاوج بين المسلمين: «لا مانع من التزوُّج بالمسلمة؛ لأن المسلم كفؤ المسلمة، ولا يضرّ الاختلاف في المذهب».

ويوصي الشيخ الفيّاض بعدم الانجرار إلى أسلوب المهاترات الطائفية، واستخدام لغة البذاءة والسبّ والشتم في الخلافات المذهبية، والتزام المنطق العلمي. ففي إجابته عن سؤالٍ حول انتشار الكتب المسيئة للشيعة ومذهبهم، قال حفظه الله: «الوظيفة أمام هذه الظاهرة هي الدفاع عن المذهب بصورةٍ سلمية ومنطقية، بدون الشجب والاستنكار، فإنه يثير عواطف الآخرين سلباً، ومنشأٌ للفتنة».

وحول الكتابات التي تُزوِّر أحداث التاريخ قال سماحته: «الوظيفة الشرعية تجاه ما كتب هؤلاء من تغيير للحقائق هي بيان ما هو الواقع والحقيقة، بالكتابة والإعلام، بشكلٍ موضوعي، وبالحكمة والموعظة الحسنة، والإشارة إلى ما وقع فيه من الاشتباه والتغيير وقلب الحقائق في الكتاب، بدون الطعن والشتم. وهذه الطريقة أوقع في النفوس، وتؤثِّر فيها تأثيراً إيجابيّاً، بينما المواجهة مع هؤلاء قد تؤثِّر سلبياً».

ويفتي الشيخ الفيّاض باستحباب الصلاة في جماعة أهل السنّة في الحرمين الشريفين: «إنّ صلاة الجماعة مع أهل السنّة في الحَرَم وغيره مستحبةٌ، وليست بواجبة. وعلى المصلّي إذا صلّى معهم أن يقرأ الحمد والسورة لنفسه، ولا يكتفي بقراءة الإمام».

وينصح الشيخ الفيّاض سائلةً شيعية عن التعامل مع جارتها السنّية بقوله: «عليكِ أن تتعاملي معها معاملةً حسنة وطيّبة، وتزوريها في بيتها ودارها، وتسألي عن أحوالها، ولا فرق من هذه الناحية بين أن يكون جارك شيعيّاً أو سنّياً؛ لأنّ القاسم المشترك الإسلام، وهو الأهمّ، وهو الحاقن للدم والعرض والمال».

هكذا تبدو رؤية الشيخ الفيّاض، ونظرته لجامعيّة الإسلام لكلّ أبنائه، على اختلاف مذاهبهم، وضرورة حفظ التعايش والاحترام المتبادل بين المسلمين، انطلاقاً من فهمه وقراءته العلمية الاجتهادية لنصوص الكتاب والسنّة.

وما أحوج ساحة الأمة لهذه الرؤية الأصيلة المنفتحة المتسامحة، في مقابل التحدّيات الخطيرة التي تعيشها الأمة، والتي تُهدِّد بتمزيق أوصالها، واحتراب مجتمعاتها، وتجزئة أوطانها!

 

حفظ النظام، ورعاية القوانين

يؤكِّد المرجع الديني الشيخ الفيّاض أهمِّية حفظ النظام العام للمجتمع، ورعاية القوانين والمقرّرات التي تضعها الدولة؛ حمايةً للمال العام، ومصالح المواطنين، حيث يتضرَّر الوطن والشعب من الفساد والتلاعب بثرواته، ومن تسيُّب الموظَّفين وتساهلهم في القيام بواجباتهم الوظيفية.

وقد أجاب سماحته عن عشرات الاستفتاءات حول هذا الموضوع، مؤكّداً التزام أنظمة الدولة ومقرَّراتها، وحرمة المخالفة بالفساد والتسيُّب والتلاعب.

وفي ما يلي بعض النماذج:

سؤال: إنّي موظفٌ في الدولة، وأعمل في أحد مخازن وزارة الصحّة، وفي بعض الأحيان يوصيني الأصدقاء عن بعض الأدوية، علماً أنّ الأدوية لا تؤثِّر على المركز الصحي المأخوذة منه، وإنها تذهب إلى مَنْ يحتاجها فعلاً؟

الجواب: إذا كان عملك هذا مخالفاً للقانون والتعليمات الصادرة من قبل الدولة فلا يجوز.

سؤال: أرجو بيان رأي المراجع العظام بشرعيّة بيع الوقود البنزين والنفط وغيره بأخذه من المحطّات باسم الدين، أو باسم السلطة، وبيعه في الأسواق بالسعر التجاري، أو استخدامه لمتطلّبات شخصية؟

الجواب: لا نجوِّز كلَّ عملٍ مخالف للنظام العام.

سؤال: يوجد موظَّفون في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية يأخذون مبلغاً من المال مقابل إصدار هويّةٍ لأشخاص غير مستحقّين، وحالتهم المادّية جيّدة جدّاً، مما يحرم الفقراء والمستحقّين من حقوقهم، فما حكم ذلك؟

الجواب: لا يجوز مثل هذه الأعمال التي تضرّ بالبلد وشعبه؛ لأنه يدخل في الفساد الإداري والمالي المستشري في البلد، من المراتب العالية إلى الدانية، وهو إرهابٌ ثانٍ ضدّ المستضعفين.

سؤال: أستلم راتباً من الدولة؛ لأنني كنْتُ في الجيش المنحلّ ـ في العراق ـ، والآن أعمل في عقدٍ مع وزارة التربية (حماية المنشآت). ما هو الحكم الشرعي بالنسبة لأخذ الراتبين معاً؟

الجواب: إذا كان على خلاف نظام الدولة فلا يجوز ذلك.

سؤال: أنا طبيبٌ، وقد أحتاج بعض الأدوية لي ولعائلتي، وأنا أسجِّل هذه الأدوية على باصات المرضى الذين صرف لهم العلاج من الصيدلية، وذلك بإضافة العلاج الذي أحتاجه، بدون الإضرار بحقّ المريض، فهل هذا جائزٌ لي؟

الجواب: كلُّ تصرُّفْ يخالف الأنظمة والقوانين المعمول بها في البلد لا نُجوِّزه.

 

من آرائه في الثقافة والمجتمع

ولعلّ من المفيد أن نستطرد في عرض بعض آراء المرجع الديني الشيخ الفيّاض حول بعض القضايا الفكرية والاجتماعية، كشواهد على ممارسته للاجتهاد الفقهي الأصيل، المنفتح على حاجات المجتمع، وتطوّر الحياة:

الإسلام بريءٌ من الإرهاب والإرهابيين

وظيفةُ كلّ مسلم، من منظور الشرع، أن يدافع عن الحقّ بالوسائل المتاحة الممكنة له، لا أكثر، ويبتعد عن تبرير الباطل بصورة الحقّ، وبيان أن الدين الإسلامي هو دين السِّلْم والسلام والعدل، وأن الإسلام شجب الإرهاب بكافّة أشكاله وألوانه، واهتمّ بحفظ النفس، بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وشجب واستنكر بشدّةٍ قتل النفس بغير مبرّر، بقوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً.

وهل هناك نصٌّ في أيّ نظامٍ في العالم أقوى من ذلك، في الاهتمام بحفظ حقوق الإنسان، والتأكيد عليها؟

ولكنْ من المؤسف جدّاً أنه توجد في الآونة الأخيرة طائفةٌ بين المسلمين تقوم بالأعمال الإرهابية اللا إنسانية، كقتل الأبرياء من النساء والرجال والأطفال والشيوخ بشكلٍ فجيع لا إنساني باسم الدين، والإسلام بريءٌ منهم.

ومن هنا على قادة المسلمين، من الدينيين والسياسيين، رصّ صفوفهم، وتوحيد كلمتهم، في إزالة هذه الغدّة السرطانية عن جسم الأمة الإسلامية بكافّة الوسائل الممكنة والمتاحة، كالإعلام بشتّى أشكاله، وإعمال القوّة، وغيرهما.

ووجود هذه الظاهرة الخبيثة في جسم الأمة يتيح الفرصة لدخول الأعداء في البلاد الإسلامية؛ تارةً بذريعة أنّ الدين الإسلامي يُروِّج للإرهاب والتطرُّف؛ وأخرى بذريعة أن المسلمين غير قادرين على دفع الإرهاب والإرهابيّين عن بلادهم.

عوامل الهيمنة الأجنبيّة

على المفكِّرين والمثقَّفين والسياسيين من الأمة أن يفكِّروا وبجدٍّ ما هو العامل الأساس لسيطرة هؤلاء (المستكبرين) على العالم ومقدَّرات الأمة الإسلامية؟

والجواب: إنّ العامل الأساس لها يتّضح في عدّة نقاط:

الأولى: ضعف الدول الإسلامية في الاقتصاد، رغم الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها.

الثانية: تخلُّف المسلمين في العلوم المعاصرة والتقنيات العالية والتكنولوجيا المتقدّمة. وهذا التخلُّف من العامل الأساس لضعفهم في الاقتصاد، وعدم الاستفادة من الثروات الطبيعية في البلاد كما ينبغي؛ لأنّ الاستفادة منها كذلك بحاجةٍ إلى التقنيات العالية والخبرة.

الثالثة: الفرقة والخلاف بين القادة السياسيين للدول الإسلامية، وعدم وحدة الصف والكلمة بينهم، وعدم اتّخاذهم موقفاً موحَّداً تجاه الشرق والغرب، واهتمامهم بحفظ مصالحهم الشخصية وكرسي الرئاسة أكثر من اهتمامهم بحفظ المصالح العامة للشعب. ومن هنا لو كان لهم موقفٌ موحَّد في الاتجاهات العامة لبلدانهم السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها لكان الشرق والغرب جميعاً يحسب لهم إزاء ذلك ألف حساب.

وهذه العوامل تتيح الفرصة للأعداء، وتفتح الطريق أمامهم، للدخول في البلاد الإسلامية، والسيطرة على مقدَّرات الأمّة في كافّة المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والعسكرية والأمنية وهكذا. والغرض من وراء كلّ ذلك هو إبقاء البلاد الإسلامية متخلّفة؛ حتّى يكون هذا التخلُّف ذريعةً لبقائهم فيها، والسيطرة على مقدّراتها. ومن الطبيعي أنّ البلد إذا كان متخلّفاً سياسيّاً واقتصاديّاً وعلميّاً في العصر الحاضر فهو غير مستقلّ، ولا بُدَّ حينئذٍ أنْ يدور في فلك الغرب والشرق؛ لإشباع حاجياته. وهذا مؤسفٌ جدّاً جدّاً.

 ومن هنا على القادة السياسيين في البلدان الإسلامية، وأهل الحلّ والعقد، التفكير الجادّ في القضايا المصيرية لشعوبهم في العصر الحاضر، وهو عصر العلم والفضاء. وإلى متى تبقى البلدان الإسلامية متخلّفة؟! ولهذا عليهم بحكم وجدانهم ومسؤوليتهم أمام الله وأمام شعوبهم:

أوّلاً: رصُّ صفوفهم وتوحيد كلمتهم في كافّة المجالات، تجاه الشرق والغرب.

وثانياً: الاهتمام الجادّ والحثيث في حفظ مصالح الأمة العامة، ونبذ كلّ فرقة وخلاف بينهم في هذا المجال.

ثالثاً: القيام بجلب التقنيات العالية في مختلف المجالات إلى بلدانهم، وبكافّة الوسائل الممكنة والمتاحة، والاستفادة منها في تطوُّرها ووصولها إلى مستوى العالم المعاصر.

على المفكِّرين منازلة الجَوْر

إنّ على كافّة الحكومات الإسلامية أن تكون جادّةً بتشويق المفكِّرين والمبدعين، وتوفير كافّة الوسائل المادية والمعنوية لهم؛ للقيام بعملية الإبداع والتفكير في مختلف المجالات العلمية، فإنها بذلك تقدِّم خدمةً جليلة للأمة، بل لنفسها أيضاً.

كما أنّ على المفكِّرين والمبدعين من الأمة عدم التنازل أمام الحكومات الجائرة عن مبادئهم الأساسية، وأن يكونوا متمسِّكين ومؤمنين بها إيماناً راسخاً قويّاً.

وعليهم الاهتمام البالغ، والسعي الحثيث، وبكافّة الوسائل المتاحة، بالإبداع والتفكير في مختلف الاتجاهات العلمية والتقنية؛ خدمةً للأمة.

كما أنّ لهم المنازلة مع هذه الحكومات، ولكنْ بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان أخطائها بلسانٍ طيّب، وبكلامٍ مقبول، والتأكيد على أنّه ليس كلّ فكرٍ وإبداع لا يكون موافقاً لمصالحهم الضيِّقة إرهابٌ وتطرُّف، وإنْ كان يخدم الأمة والمجتمع.

دراسة الفلسفة

لا بأس بدراسة الفلسفة، أو المناقشة فيها، في حدِّ نفسها. نعم، لو كان الشخص غير مؤهَّل لدراستها، بأن كانت تؤدّي إلى انحرافه وإضلاله، لم يجُزْ له دراستها.

هل نحن في زمن ظهور المهديّ#؟

الواجب على المؤمنين أيَّدهم الله تعالى الاعتقاد بإمامة الإمام الحجّة بن الحسن العسكري×، والاعتقاد بوجوده، وانتظار ظهوره. وأما زمن الظهور فلا علم لأحدٍ منّا بذلك.

عَلَم الوطن في الاحتفالات الدينيّة

في الإجابة عن سؤال: نقوم في مواليد أهل البيت^ باحتفالاتٍ في الشارع، ونضع الزينة، وكذلك نقوم بوضع عَلَم وطننا المملكة العربية السعودية. وأحد الإخوة أفادنا أنه لا يجوز وضع علم بلدنا ضمن الاحتفال. ما صحّة هذا الكلام؟

قال الشيخ الفياض: لا مانع من وضع العَلَم ضمن الاحتفال.

أفضل مراسيم عاشوراء

في الإجابة عن سؤال: ما هي أقدم وأفضل مراسيم العزاء في ذكرى عاشوراء، التي يمكن أنْ يؤدِّيها المؤمن؟

قال سماحته: الأفضل إقامة المجالس التثقيفية لبيان الأحكام الشرعية الابتلائية، مع ذكر المصائب الواردة على أهل البيت^، وخصوصاً الإمام الحسين×. وكذا مساعدة الزوّار، والفقراء، وإطعامهم.

لا يجوز ولا قيمة لانتزاع الاعترافات بالتعذيب

لا يجوز تعذيب المسلمين جسديّاً، ولا نفسياً، في الشريعة الإسلامية المقدّسة؛ لانتزاع الاعتراف منهم بالجرائم، وإنْ كانت من الجرائم الخطرة. ولا قيمة للاعتراف بها تحت التعذيب. ويمكن إثبات الجريمة من وجهة النظر الإسلامية بأحد الطرق التالية:

الأوّل: العلم الوجداني بوقوع الجريمة من شخصٍ، كما إذا رأى جماعةٌ أنه ارتكب الجريمة الفلانية.

الثاني: الشياع المفيد للعلم بأن الجريمة وقعَتْ من الشخص الفلاني.

الثالث: اعتراف المجرم بجريمته عن شعورٍ وعقل واختيار، بدون إكراهٍ وإجبار؛ لأن الاعتراف سيّد الأدلّة عند العقلاء، وفي الشرائع السماوية.

الرابع: البيِّنة، وهي شهادة شخصين عادلين بوقوع الجريمة من الشخص الفلاني.

والحاكم الشرعي في المحاكم الإسلامية يعتمد إثبات الجريمة على أحد هذه الطرق فحَسْب. ولا يحقّ للسلطات في الدولة الإسلامية أن تقوم بانتزاع الاعتراف من المتَّهمين بالإكراه والإجبار، وتحت الضغوط النفسية أو الجَسَدية. وليس لهذا الأسلوب أيّ مخرجٍ شرعيّ في الإسلام.

 

الشيخ الفيّاض وسُمُوّ الأخلاق

حين تعرَّفت على الشيخ الفيّاض أدهشني عظيم تواضعه، وسموّ أخلاقه، حيث تعلو محيّاه البشاشة، وتتخلَّل حديثه الابتسامة، ويتعامل مع زائريه وتلامذته بعفويّة وبساطة، تجعلك منطلقاً في الحديث معه والانفتاح عليه، دون تهيُّبٍ أو قلق. فهو لا يُشعر جليسه، مهما كان مستواه، بالتعالي، ولا يقابل أحداً بغضبٍ أو انفعال، مهما كانت درجة سخونة موضوع النقاش. يُعبِّر عن رأيه بهدوءٍ واحترام، ويُصْغي للرأي الآخر، فيقبله إنْ رآه صحيحاً، ويناقشه إنْ رأى فيه خَلَلاً بموضوعيةٍ وحكمة.

وبهذا الخُلُق الكريم أتاح الفرصة لمختلف الأطراف أن تتواصل معه، ولم يجعل اختلافه أو تحفُّظه على أحدٍ سبباً للقطيعة والعداء، بل يرى في التواصل والعلاقة مع الآخرين سبيلاً لتصحيح آرائهم ومواقفهم، أو التقليل من أخطائهم.

ولا شَكَّ أنّ هذا النهج الأخلاقي في التعامل مع الناس، وخاصّة من قبل القيادات الدينية، هو ما ينسجم مع تعاليم الدين الأخلاقية، ويتوافق مع ما تنقله السيرة العَطِرة من أخلاق رسول الله| والأئمّة الهداة من آله^.

أما التعالي والتكلُّف والحدّية والانفعال، ومقاطعة المخالفين في الرأي حتّى في الأمور الجانبية، فهو ما سبَّب كثيراً من الصراعات والتشنُّجات في الساحة الدينية، وفي أوساط المؤمنين.

ونحن نعيش عصراً اتَّسعت فيه رقعة التعليم والمعرفة، ووسائل الاتصال والاطّلاع، وازدادت فيه ثقة الأفراد بأنفسهم، وتعدَّدت الآراء والتوجُّهات الفكرية والسياسية، مما يستدعي أن يتّسع صدر القيادات الدينية لاستيعاب هذه التطوُّرات والتوجُّهات.

فإذا ما اتخذت القيادات الدينية أسلوب الحدّة والصرامة تجاه كلّ مَنْ له وجهة نظر مختلفة فإنّ ذلك سيفجِّر ساحة المجتمع الديني، ويحوِّلها إلى ميدان صراعات وخلافات، كما حدث ذلك بالفعل في عددٍ من الموارد والمواقف.

بينما يُسْهم نهج الاستيعاب والحكمة في نزع فتيل الصراعات والخلافات، وضبط حالة الاختلاف، والحفاظ على تماسك المجتمع ووحدته وتآلفه.

وقد مثَّلَتْ مرجعية السيد السيستاني أنموذجاً رائعاً لالتزام هذا النهج، فقدَّمَتْ خدمةً كبيرة لساحة الموالين لأهل البيت^، وللأمة الإسلامية جمعاء، وبشكلٍ خاصّ للشعب العراقي الذي دفعَتْ عنه مرجعيّة السيد السيستاني؛ بهذا النهج الحكيم، كثيراً من الشرور والمخاطر، في مرحلةٍ حسّاسة دقيقة، بعد سقوط النظام الصدامي، وهيمنة الاحتلال الأمريكي.

وكان الشيخ الفيّاض من أبرز المراجع الداعمين لمواقف السيد السيستاني، والمتبنّين لنهجه.

وحين برزت مرجعية الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر&، وحصلت تباينات بين منهجيته في الحراك الاجتماعي والسياسي وبين المنهجية السائدة في الحوزة العلمية، لم تنقطع الصلة بين مرجعية السيد الصدر وبين الشيخ الفياض، بل كان يحظى منها بالاحترام والتقدير.

وعند تصدّي الشيخ الفيّاض للمرجعية الدينية لم يتحفَّظْ على منح ثقته ووكالته لمَنْ يرتبط بمرجعياتٍ أخرى تختلف معه في بعض التوجُّهات، بل كان معياره أهليّة الشخص، ووجود مصلحةٍ في احتضانه؛ من أجل خدمة الدين والمجتمع.

وحين أُثيرت مسألة الخلاف حول بعض تفاصيل مظلومية الصديقة الزهراء÷، وتحوّلت إلى مادةٍ للنزاع وشقّ الصف الشيعي، رفض الشيخ الفيّاض الانجرار إلى هذه المعركة المفتعلة، وحذَّر من دور الأعداء في إذكاء مثل هذه النزاعات، واستفادتهم منها، حيث أجاب عن سؤال حول الموضوع بقوله: «وأما مظلومية السيدة فاطمة الزهراء÷ بعد أبيها| فلا شبهة فيها، نصّاً وتأريخاً. وأما النقاش حول هذه المسألة، والجدال والسباب والشتائم والشجب والاستنكار، فلا يفيد الطائفة إلاّ فرقةً، ولا يستفيد منها إلا الأعداء. وحلّ مثل هذه القضايا لا بُدَّ أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالشجار والشجب والاستنكار؛ فإنّه يزيد في تعقيد القضايا أكثر فأكثر. و[ينبغي] أن يكون الحلّ بين الأطراف الصالحة، وهدفهم الوحيد من وراء ذلك، خدمة المذهب ومصالح الطائفة العامة».

ولا تنفصل هذه المنهجية لدى الشيخ الفيّاض عن مجمل تكوين شخصيته الأخلاقية، فهو يعيش صفاء النفس، وطيب القلب، والإخلاص لله، والمحبّة لعباده، وخاصّة المؤمنين.

لذلك يتَّسم تعامله مع الجميع بالاحترام والتواضع. يقول عنه أحد تلامذته القريبين منه، الشيخ علي آل محسن: «عُرف الشيخ الفيّاض بالتواضع الجمّ، بل اشتهر عنه ذلك، وعرفه عنه كلّ مَنْ لقيه.

وكان، حتّى بعد تصدّيه للمرجعية، إذا زاره أحدٌ في بيته يفتح له الباب بنفسه، ويُحضر له الشاي، ويقوم بواجب الضيافة، ولم يكُنْ يعتمد على ولدٍ أو خادم، حتّى أصرَّ عليه بعض محبّيه أن لا يفتح الباب بنفسه؛ لكثرة الاغتيالات التي حصلت في النجف في تلك الفترة، فاضطرّ إلى أن يستعين بخادمٍ.

وأما تواضعه العلمي فإنّ شيخنا الأستاذ لا يستنكف أن يطرح آراء زملائه ومعاصريه، كما يلاحظ ذلك مَنْ قرأ كتبه الفقهية والأصولية، ولا يقتصر على ذكر آراء أساتذته وجهابذة الفقه والأصول؛ لأن المهمّ عنده في ما يُطْرَح للمناقشة العلمية هو قوّة القول ودقّته، بغضّ النظر عن قائله.

رأيتُه حليماً عندما يُسيء إليه الآخرون، وصبوراً على ما يُصيبه منهم، ولم أَرَه طول السنين التي تشرَّفْتُ فيها بمعرفته يحقد على أحدٍ، أو يتكلَّم على مَنْ أساء إليه، ولم أعرف عنه أنه أراد الإضرار بأحدٍ، أو عمد إلى الإساءة إلى أحدٍ، أو مقابلة إساءته بالإساءة.

وربما بلغ الشيخ أن بعضهم انتقصه، أو وقع فيه، أو قلَّل من شأنه، فكان يسمع ذلك، ولا يُعيره شيئاً من اهتمامه، ولا يجعل سماع ذلك سبباً لمقابلته بالمثل.

وأذكر أني كنت مع سماحة الشيخ في أحد المطارات، وكان يريد السفر، فلما دخل المطار، أراد الموظف أن يُسيء إلى الشيخ؛ لأسباب طائفية، وأن يفتِّشه تفتيشاً شخصياً، فساءني ذلك، وقلْتُ للموظَّف بغضبٍ: هذا مرجعٌ كبير، كيف تصنع معه ذلك؟ فقال لي الشيخ: لا بأس، دَعْه يفعل ما يريد.

وكثيراً ما سمعْتُه يُشيد بالمراجع المعاصرين المعروفين، ويُثني عليهم، علماً، وتقوى، ووَرَعاً، بل كان يزور جملةً منهم، غير منتظر منهم ردّ الزيارة له.

وكم رأيْتُه لما كنْتُ في النجف يزور السيد السيستاني كلَّ ليلة خميس، كما كان يزور غيره.

وقد حدث أن جمعاً حاشداً من مقلِّديه قصدوا منزله في إحدى ليالي عيد الفطر، وانتظر الناس من الشيخ أن يعلن عن ثبوت العيد عنده أو عدم ثبوته، لكنّه لم يفعل، فسأله شخصٌ منهم بصوتٍ عالٍ: هل ثبت عندك العيد، يا شيخ؟ فقال الشيخ: لقد ثبت عند المرجع الأعلى للطائفة السيد السيستاني أن غداً يومُ عيدٍ، فقال له الرجل: نحن نقلِّدك، ولا نقلِّد السيد السيستاني! فغضب الشيخ، وقال: إذا ثبت عند السيد السيستاني فهذا كافٍ…

وقد كانت مفاجأةً للجميع أن يصف الشيخ الفيّاض السيد السيستاني بأنه المرجع الأعلى للطائفة أمام تلامذته ومقلِّديه!

ما رأيتُه يزجر طالباً، ولا يهين شخصاً، ولا يحقِّر من شأن شخصٍ، وما رأيتُ أحداً أُهين في حضرته أو أُسيء إليه بمرأىً منه ومسمع فسكت».

هذه هي تجلِّيات الأخلاق السامية التي يربّي الإسلام عليها أبناءه، والتي يجب أن يتّصف بها المرجع والعالم الديني، ليكون متأسِّياً برسول الله| وبالأئمّة الهداة من أهل بيته^. وهذا ما يسطِّره التاريخ عن سيرة المراجع العظام والعلماء المصلحين. رحم الله الماضين وحفظ الباقين، وأدام الله الشيخ الفيّاض ذُخْراً للأمّة والدين.

________________

(*) كاتبٌ وباحث. من أبرز الشخصيات الإسلاميّة في المملكة العربية السعوديّة. ومن الشخصيات الناشطة في مجال التوعية الدينيّة، وعلى صعيد التقريب بين المذاهب الإسلاميّة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً