أحدث المقالات

قراءة في رواية «ثرثرة فوق النيل»

مقدّمة ـــــــ

ينطوي فنّ الكتابة على سحر مميّز ذاق طعمه القراء بشكل خاص وتعرّفوا نكهته، وهي لا تقف عند حدود تسليتهم ومَلء أوقات فراغهم وحسب، بل إنّها تحلّق بأرواحهم في عوالم راقية، وتسبح بمخيالهم في أجواء النور والفخامة. ويُعدّ نجيب محفوظ ـ من بين سائر الكتّاب من أبناء جلدته ـ روائياً مستطير الشهرة، بعيد الصيت، سار ذكره كل مسير، واخترقت سُمعته حدود بلاد العَرب لتَقرَع أسماع العالم أجمع، وذلك لتميّز كتاباته برشاقة اللّفظ وحُسن الصّياغة، والتّصرّف بأعنّة الكلام، والواقعيّة الحقّة، والغموض المُثير، وعذوبة المَشرب، والتفنّن في ضروب البيان؛ فهو روائي يتّصف ذهنه بالانطلاق والتحرّر، ومؤلّفاته بالواقعيّة، وقد كانت (القاهرة) مَهد إلهامه، ومَصدر آثاره، حتى لنراه لَم يُغادرها طيلة حياته إلاّ مرتين فقط.

كان نجيب محفوظ يَعشق الحريّة، ويتفانى في سبيل الديمقراطيّة، ويجتهد ويُناضل من أجل ترسيخ دعائم المساواة والعدالة في مجتمعه. كان الجَبر والاختيار في رواياته يتصارعان كعدوَّيْن لدودين، وضِدّيْن مُعانديْن، حتى لكأنه كان يطمح بنوع من الاشتراكية الخيالية في رواياته. ولا رَيب في أنّ مُطالعة نجيب محفوظ لروائع بعض مشاهير الكُتاب والروائيين العالميين،من أمثال شكسبير وتولستوي وكافكا وسارتر وكامو وهمينغواي وغيرهم، لا ريب في أنّ ذلك قد ترك أثراً كبيراً على كتاباته وفي بروز بوادر التجدّد في فِكره الأدبي([1]).

وُلد نجيب محفوظ في القاهرة عام 1911م في أسرة غنيّة وأدبيّة، وبعد حصوله على شهادة الدراسة المتوسطة، اتّجه إلى دراسة الفلسفة واستطاع في تلك الفترة نشر العديد من المقالات الأدبيّة والمتنوّعة في «المجلّة الجديدة». أمّا باكورة أعماله فقد كانت رواية «عَبث الأقدار» التي صدرت عام 1939م، وقد عَكَس نجيب محفوظ فيها الواقع الذي كان يعيشه مُجتمعه والآلام والمشاكل التي كان يُعاني منها أهل بلده، مُستلهماً ذلك كلّه من تأريخ مصر العريق. وفي هذا الصّدد يقول نجيب محفوظ: «لم أُحاول في هذه الرواية خَلق شخصيّات جديدة، ولم يَكُن هدفي أن أنقل القارئ إلى أجواء الماضي، بل سعيت إلى رسم صورة لحقائق العصر الذي نعيشه»([2]).

واستمرّ نجيب محفوظ في الكتابة حتى بلغت أعماله ما يربو على (32) رواية، و (13) مجموعة قصصية قصيرة. وبالنظر إلى ما كان يمتاز به نجيب محفوظ واجتهاده المتواصل في استحضار القيم الإنسانيّة والاجتماعيّة المشتركة في أعماله، فقد كان قرّاؤه فيما وراء حدود بلاده في تزايد مستمر، الأمر الذي أدّى إلى بروز حاجة ملحة لترجمة مؤلّفاته إلى العديد من اللّغات الأجنبيّة كالإنجليزيّة والألمانيّة والإسبانية والهولنديّة والفارسيّة وغيرها([3]).

هذا وكان نجيب محفوظ أوّل أديب مصري يتّجه نحو كتابة القصّة السينمائيّة، حيث أخذ ذلك عن المخرج السينمائي (صلاح أبو سيف) رائد السينما الواقعيّة في مصر.

وفي الحقيقة، تعتبر نشاطاته المستمرّة وخطواته الحثيثة في مجال الأدب السلّم الذي ارتقاه محفوظ لنيل جائزة (نوبل) للآداب عام 1988م، وقد أثار هذا الفوز جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام المصريّة، بين مؤيّد مدافع عن هذا الاختيار، ومعارض منتقد. أمّا الذين وقفوا منتقدين لآراء نجيب محفوظ وأفكاره، فقد اتّهموه بإشاعة القيم الجمالية الغربية والترويج لروح الخنوع والاستسلام الاجتماعي والسياسي في أوساط المثقفين العرب، حتى أنّهم اعتبروا الجائزة مُكافأة له على تأييده لاتفاقية كامب ديفيد. ولعلّ ذلك كان السبب على ما يبدو في تعرّض نجيب محفوظ بعد نيله الجائزة، وبالتحديد عام 1994م إلى محاولة اغتيال قامت بها إحدى المنظّمات المصريّة المتطرّفة، وهي المحاولة التي دفعته إلى أن يؤثر العزلة فيما بعد([4]).

الأعمال الروائية لنجيب محفوظ ـــــــــ

صنّف النشاط الروائي لنجيب محفوظ إلى عدّة مراحل مختلفة؛ ففي بداية حياته ألّف الثلاثية التأريخيّة: «عَبث الأقدار» عام 1939، و «رادوبيس» عام 1943 ، و«كفاح طيبة» عام 1944. وقد أطلَق النُقّاد على هذه المرحلة من حياة نجيب محفوظ وصف (المدرسة الفرعونيّة)، لتبنّيه نهجاً تاريخانياً وذلك عبر استلهامه وقائع رواياته من عمق التأريخ المصريّ القديم، حيث صوّر عظمة الحضارة المصريّة القديمة ومجدها التليد. ثم أعقبتها مرحلة أخرى في حياته اتّجه فيها هذا الروائي إلى كتابة الروايات الواقعيّة والاجتماعيّة، من قبيل رواية «القاهرة الجديدة» التي صدرت عام 1945 ، و«خان الخليلي» عام 1946م ، و «زُقاق المَدَقّ» عام 1947 ، و«السّراب» عام 1948، وأخيراً «بداية ونهاية» عام 1949.

ويتبنّى الكاتب في جميع تلك الروايات رؤيةً اجتماعية سوسيولوجية تسلّط الضوء على الظروف الصعبة والقاسية التي عاشتها الطبقة المتوسطة من المجتمع المصريّ في تلك الفترة ولا سيّما في السنوات التي توسّطت الحربين الكونيتين. ويُمكن القول بأنّ روايته المعروفة «زُقاق المَدَقّ» تمثّل ذروة أعماله الفنية وقمّة ازدهارها؛ إذ صوّر بصِدق وواقعيّة الواقع الاجتماعي اليومي لزقاق يُعرَف بـ«المدقّ»، والذي يرمز لبلده مصر، ويجسّد في هذه الرواية ـ على غرار الشخصيات البورجوازية التي خلقها في سائر رواياته ـ حياة بعض سكان هذا الزقاق، الذين ينتفضون ضدّ الصراع الطبقي المُزري السائد آنذاك، لكنّهم ـ في نهاية المطاف ـ لا يَجدون مفرّاً من الاستسلام والخضوع للواقع. وبالنسبة لرواية «السّراب» فقد نحا فيها الكاتب منحى سيكولوجياً مغايراً لما كتبه في السابق.

بعد تلك المرحلة، ترك نجيب محفوظ الكتابة مدّة سبع سنوات، ليظهر من جديد عبر ثلاثيّته الروائية الرائعة التي نُشِرت بين عامي 1956 و 1957، وشملت «بين القصريْن» و «قصر الشوق» و «السّكريّة»، ويجسّد الكاتب في هذه الثلاثية صورة عن الحياة اليومية لثلاثة أجيال قاهريّة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والظروف السياسيّة والاجتماعيّة الشاذّة التي أعقبت تلك الحرب. ويبدو أنّ شخصيّة بَطل الرواية (كمال عبد الجواد) ـ وباعتراف الكاتب نفسه ـ تَعكس إلى حدّ بعيد شخصيّة نجيب محفوظ نَفسه([5]).

أمّا في المرحلة التالية التي يُمكن تسميتها بمرحلة الواقعيّة الفلسفيّة، فقد قام الكاتب بتأليف سلسلة من الروايات هي: «أولاد حارتنا» و «اللّص والكلاب» و«السّمان والخريف» و«الطريق» و«الشحّاذ» و«ثَرثرة فوق النّيل» و«ميرامار» ونشرت على التوالي في الأعوام: 1959 ، 1961 ، 1962 ، 1964، 1964، 1965، 1966 و 1967. وتجدر الإشارة إلى أنّ أعمال نجيب محفوظ لا تقتصر على هذه التي ذكرنا والتي أوصلته إلى الشهرة والمجد، بل له مؤلّفات كثيرة أخرى غيرها نذكر منها ـ على سبيل المثال ـ: «المرايا» عام 1971 ، و«حبّ تحت المطر» عام 1973 ، و«الكرنك» عام 1974، و«حضرة المحترم» عام 1975 ، و«ملحمة الحرافيش» عام 1977، و«أرض الحبّ» عام 1980 ، و«ليالي ألف ليلة» عام 1981 ، و«الباقي من الزمان» عام 1982، و«رحلة ابن فطّومة» عام 1983، و«امام العرش» عام 1983 ، و«العيش في الحقيقة» عام 1985 ، و«يوم مَقتل الزعيم» عام 1985 ، و«حَديث الصباح والمساء» عام 1987 ، و«ثرثرة على البَحر» عام 1993.

الأسلوب الأدبي لنجيب محفوظ ــــــــــ

عاصر نجيب محفوظ عمالقة الأدب العربيّ من أمثال الدكتور طه حسين وأحمد أمين وحسن الزّيات ومصطفى صادق الرّافعي ومصطفى لُطفي المنفلوطيّ وابراهيم عبد القادر المازنيّ وعبّاس محمود العقّاد؛ ولابدّ أنّه اطّلع على نتاجاتهم وتعرّف على ما كتبوه وقرأ لهم ما ألّفوه بشكل كامل، ولا بَراح إذن من أنّه استقى من عيون أدبهم السلسبيل، وروى ظمأه من ماء مَشربهم الصافي. وقد قال نجيب محفوظ عن ذلك ذات مرّة: «لقد تبلور أسلوبي الأدبي وتكاملت مُكوّناته في التأليف والكتابة إثر مُطالعتي لآثار أعلام الأدب العربي وكُتّاب الرواية الغربية؛ فقد أخذتُ عن طه حسين أسلوبه في كتابة القصة، واستفدّت الكثير ممّا قرأته للعقّاد كالإيمان بالقيَم الفنيّة الخاصّة مثل قيم التحرّر والديمقراطيّة وكذلك الإيمان بالعِلم والاشتراكيّة والماضي الإنساني.»([6]).

وعند مُطالعة كتابات نجيب محفوظ والبحث في تفاصيلها، تواجهنا حقيقة مَفادها أنّ أهمّ ما يُميّز تلك الكتابات هو عدم تأثرها بتيار الأدب العربي الرومانسي، حيث تُبرز جميع رواياته وبوضوح ميلاً شديداً نحو الواقعية.

كما ذكرنا، فقد استهلّ نجيب محفوظ حياته الأدبيّة بتأليف القصص التاريخيّة، وكانت هناك عوامل عدّة شدّته لانتهاج هذا الأسلوب، منها سيطرة فكرة إحياء الحضارة المصريّة القديمة على مخيلته وبيان الوقائع من منظار تاريخي. ولا شكّ في أنّ مصر بتاريخها الحافل بالأحداث قديماً وحديثاً، كانت ملهماً خصباً للكاتب، حيث استطاع بكلّ مهارة ودقّة توظيف الرموز والأمثلة التاريخية لبلده في تصوير الوقائع السياسيّة والاجتماعيّة التي عاشتها مصر في فترة الاحتلال البريطانيّ والحكم الارستقراطي الذي كان سائداً آنذاك. وربما يعود توظيفه للرمز التأريخي إلى أنّ المجتمع المصري في ذلك الوقت لم يكن مهيّئاً بعدُ لاستقبال أفكاره الجديدة، ولا شك في أنّ عجز الشعب عن مواجهة الحكم الملكيّ كان يزيد الأوضاع ضعفاً ووهناً. ومع ذلك فإنّ امتزاج الرمزيّة بالواقعية في تلك المرحلة من الزمان يعدّ أمراً مشهوداً لا لبس فيه. ويمكن أن نستشفّ ذلك من خلال بعض العبارات الواردة في روايته «ثرثرة فوق النيل» التي صاغها في قالب مسجّع موزون يحمل إيقاعاً أقرب إلى الشعر، في حين استعان بلغة رمزية مبهمة وغامضة، ليطلق ذهن القراء نحو تصورات وقراءات شتى ولينظروا إلى الأحداث من زوايا نظر متعددة([7]).

والسمة الأبرز التي تتجلّى في معظم كتابات نجيب محفوظ هي القدرية بمعنى الاستسلام والخضوع للمصير، إذ يعتقد محفوظ أنّ الكلمة الفصل في النهاية هي للقضاء والقدر وليس لأماني الإنسان ورغباته. لذلك نراه دوماً ينهي رواياته بحالة من الاستبداد المطلق لا يترك معها أيّ بَصيص للأمل في قلب المشاهد الذي يصبح فريسة للمصير والقدر([8]).

لقد كان نجيب محفوظ بحقّ كاتباً صادقاً مع نفسه، يستقي موضوعات رواياته من تجاربه وخبراته الشخصيّة، وكان يؤمن بأنّ القاهرة هي ملهمة أفكاره والحقل الخصب لإبداع الشخصيّات وخلق الأحداث التاريخيّة لرواياته([9]). ولهذا استطاع وبكلّ جدارة إعطاء صورة حيّة عن أدق التفاصيل في بيئته المصرية، من قبيل المساجد والحمّامات والمكتبات، وكذلك الأزقّة والأماكن التأريخيّة. ويُطلَق على هذه المرحلة الأدبية من حياة نجيب محفوظ بـ«مرحلة الواقعيّة» أو «مرحلة ما قبل الثورة»([10]).

أمّا أبطال قصص هذا الكاتب في تلك المرحلة ـ أي مرحلة الواقعيّة ومرحلة ما بعد الثورة ـ فيُمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات رئيسيّة، هي: 1 ـ الانتهازيون والوصوليون. 2 ـ التيار اليساري كشخصيّة (علي طه) في رواية «القاهرة الجديدة» و(أنيس زكي) في «ثرثرة فوق النّيل». 3 ـ المُتديّنون الذي يحملون آراءاً واهية وأفكاراً خياليّة، مثل شخصيّة (علي الجنيدي) في «اللّص والكلاب» و(عبد المنعم شوكت) في «الثلاثية»([11]).

وكما أسلفنا، فقد اعتزل نجيب محفوظ الكتابة وأحجم عن التأليف في الفترة 1952 ـ 1957 ، ولعلّها كانت فرصة أنضجت واقعيته لتصل بها إلى الذروة ـ كما يقول غالي شكري([12]) ـ وكان يبحث عن أسلوب جديد في الكتابة، لذا لجأ في هذه المرحلة إلى استخدام الأسلوب الرمزي في تصوير الواقع السائد. ولعلّ الدوافع الرئيسيّة التي أدّت به إلى سلوك الاتجاه الرمزي هي تأثره بالروايات الحديثة والتأثير المباشر الذي ولّده إحساس الموت في أعماقه، فضلاً عن الشعور بالنهليستية التي تستبطنها الطبيعة.

بعد تلك الوقفة والصمت الطويل الذي دام سبع سنوات، عاود كاتبنا من جديد مسيرة الكتابة والتأليف، فأنتج في هذه الفترة الروايات «أولاد حارتنا» و«اللّص والكلاب» و«السّمان والخريف». ومنذ هذا التاريخ بدأ حقبة جديدة في الكتابة تمثلت في تكريسه للعنصر «الرمزي» بمعناه الفني والمصطلحي، مُحيداً في الوقت نفسه عن الإطناب والإسهاب، وكان يعبّر عن آرائه في قالب من الغموض والإشارات والإبهام والتّعقيدات والتلميحات. وبعد تلك المرحلة، برع محفوظ في تطعيم أعماله الأدبية ببعض التقنيّات الأوروبيّة واستعان بها في كتابة رواياته، مثل المونولوج (monologue) والمونولوج الداخلي (interior monologue) وحديث النفس (soliloquy) والمونولوج الدرامي (dramatic monologue) والارتجاع الفني (flashback). وهكذا بدأ يتّجه بأسلوبه نَحو السورياليّة، فنجد أعماله تتسم بالتيار الذهني الجارف والصناعة البديعيّة بشكل ملحوظ، إلاّ أنّه لم ينفصل إطلاقاً عن الواقعيّة التي تعوّدها([13]).

بعد ذلك، عرفت رواياته أنماطاً جديدة مثل العَدميّة (nihilism) والمُخدّرات والجريمة والعقل والثقافة… حيث اقتبس بعضها عن الغرب، والباقي استلهمه من قلب الواقع المصري والحقائق الموجودة فيه. ويغلب في هذا النوع من الروايات التي قدمها محفوظ الطابع الحواري، أو بعبارة أخرى توظيف المشاهد، على التخليص أو الوصف المجرّد، حيث تكون الجُمَل قصيرة ومقتضبة، وذات وَزن مُعيّن، أقرب إلى الإيقاع الشعري. وقد بدأ هذا الأسلوب ـ كما يقول نجيب محفوظ نَفسه ـ مع رواية «أولاد حارتنا» وبلغ ذورته في «ثرثرة فوق النيل»([14]).

دراسة تحليلية لرواية «ثرثرة فوق النيل» ــــــــــ

في السنة التي تمّ فيها نشر رواية «ثرثرة فوق النيل» كانت الفلسفة الوجوديّة (existentialism) قد وجدت طريقها من الغرب إلى البلدان الأخرى، عبر أعمال فنية كثيرة صدرت بعد الحرب العالميّة، مثل «الطاعون» و«الغريب» لآلبير كامو، والأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وهي أعمال تعكس بوضوح ضحالة التفكير الغربي وعدميّته وضياعه. وقد كانت حالات من هذا القبيل موجودة بالفعل داخل المجتمع المصري في تلك الآونة، ولم يكن نجيب محفوظ ببعيد عن ذلك الواقع([15]).

لكن، على الرّغم من ذلك، يبدو أنّ محفوظ، وعلى غرار الروائيين الواقعيين الآخرين من طبقته، استطاع تصوير الحقائق الموجودة في المجتمع بصورة موضوعية وحيادية تامة. أمّا بطل روايته فهو رجل من الطبقة المتوسطة في مصر (أنيس زكي) ويتلخّص دوره في كونه راوياً أصليّاً للقصة؛ وتتميّز شخصيّته بالحيرة والتيه والانغماس في أفكار واهية وعدمية. ومن خلال اختياره لهذا الأسلوب يحاول نجيب محفوظ إضفاء طابع واضح من الواقعية على روايته تلك، مبرزاً مهارته السيكولوجية في توزيع الأدوار، حيث يوظّف هذه الخبرة السيكولوجية في نقل وسرد دقائق وتفاصيل أفكار (أنيس زكي) وتصرّفاته، مُبيّناً من خلال ذلك كلّه طموح ذلك الرّجل وأمانيه. وكلما توغل الكاتب في الرواية، أتاح للقارئ أن يكتشف زوايا كثيرة في شخصية البطل (أنيس زكي)، وبالتالي التعايش معها؛ لذلك نلاحظ أنّ معظم فصول الرواية تُستهلّ بأسلوب المونولوج، حيث يصوّر الكاتب شعور (أنيس زكي) بالغضب والحقد على بيئته المحيطة به بصدق وعُمق([16]). وقد أتاح هذا لنجيب محفوظ سبر تركيبة شخصيّاته الروائيّة والحديث عن أفكارها وخصائصها الأخلاقية والسلوكية، بل وحتى خصائصها الجسمية أيضاً، والانتقال بالأحداث من مكان إلى آخر بصحبة القارئ، ليزيد من قدرته على الحركة والتنقّل عبر المشاهد المختلفة. بمعنى أنّه يحاول إكساب روايته القدرة على وصف العناصر التي تساهم في تحليل الأحداث بشكل أدقّ.

ومن نافلة القول أنّ نجيب محفوظ حاول أن ينقل رؤيته التاريخانية وما يختزن في ذاكرته عن التاريخ المصري العريق إلى بطل روايته، ومن ثم فهو عند مشاهدته لأيّ نوع من الظلم أو الاستبداد كان يرجع بذاكرته إلى الظلم والطغيان الذي مارسه سلاطين مصر على شعبها عبر القرون الماضية([17]).

وينتهي الفصل الأوّل من الرواية بالأزمة التي تلمّ بأنيس زكي، تلك الشخصيّة المنهزمة المُجبَرَة على فعل شيء ليس له أدنى إيمان بحقيقته، لا لشيء إلاّ لحاجته الماسّة إلى المال؛ ونتيجة لذلك، يشعر القارئ بخروج أنيس زكي من سجن رهيب، وذلك مع آخر عبارة تُنهي الفصل الأوّل([18]).

وتسلّط رواية «ثرثرة فوق النيل» الضوء على زوايا مختلفة من المأزق الذي كانت الطبقة المثقفة المصرية تعيشه في عقد الستينات. ولابدّ لنا من البحث عن جذور تلك الأزمة في السنوات التي سبقت الثورة المصريّة عام 1952م؛ فالذين كانوا يحلمون باحتلال مواقعهم الطبيعية في النظام السياسي بعد قيام الثورة وطرد المستَعمِر الإنجليزي، تمّ استبعادهم تماماً عن الساحة السياسيّة. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّ نجيب محفوظ كان قبل الثورة كاتباً مُحافظاً، لا يُفصح عن أفكاره وآرائه بشكل واضح، فلم يُبدِ أيّ رأي أو وجهة نظر صريحة حيال الأوضاع، والسياسيّة منها على وجه الخصوص، بل كان ينظر إلى الوقائع الموجودة بعين الشك والارتياب. ولعلّ ذلك ما جعله يظهر غير مُنحاز أو سلبي في كتاباته([19]).

ويبدو أنّ هذا الكاتب بعد صمته الذي دام سبع سنوات، لم يكن راضياً ولا مقتنعاً بما قدّمه النظام الثوري الحاكم في تلك الفترة، فانبرى ـ بعد عام 1959 ـ إلى نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي سادت مصر قبل تلك السنة. ويقول محمد سعيد([20])،«بالنظر إلى أنّه لم تتح للطبقة المثقفة المشاركة الحقيقية في النظام السياسي آنذاك، وكانت مواهبهم وطاقاتهم تذهب هباءً، لذلك لم يكن أمامها إلاّ الثرثرة والتحليق في الخيال والأوهام. وقد عالج نجيب محفوظ وصوّر تلك الظاهرة في روايته «ثرثرة فوق النيل» مع تغيير طفيف في الهيكل، مستفيداً من تجاربه باعتباره «زعيم الحرافيش» أو تجارب المفكرين من أمثاله. وبابتعاده عن التهويل والمبالغة، ومن خلال الاستناد إلى مهارته الفائقة في توظيف أساليب السرد والمونولوج في الحوار الأدبي، استطاع محفوظ سوق قرائه إلى مضمون الرواية الزاخر واستيعاب مفاهيمها. وكلّما أحسّ بوقوع عبء ثقيل على بطل الرواية بحيث يقوده إلى نوع من التحليل النفسي الذاتي، قام بإعادة سرد التجارب بمرارتها وحلاوتها لكي يتوصّل إلى الغاية المنشودة. والحقيقة أنّه بأسلوبه هذا يُعين بطل الرواية على بلوغ السكينة والاستقرار الفكريّ»([21]).

الشكل الفني للرواية ـــــــ

يقترب الشكل الفني لرواية «ثرثرة فوق النيل» إلى حدّ بعيد من القوالب المسرحية، حيث تجري أغلب أحداثها داخل عوّامة على نهر النيل. وقد اختار نجيب محفوظ هذا الشكل مُجبَراً لكي تكون أقرب إلى البناء القصصي، ولأنّ شخصيّاته في تلك الرواية كانت مقيدة الحركة والانتقال، فقد وجدت في الثرثرة والتخيّل ضالّتها وغايتها. والحقيقة كما نرى أنّ هذا الشكل ينسجم مع هيكل الرواية وبنائها العام، حيث يتبيّن أنّ ما يدور في خلد تلك الشخصيات من ثرثرة وخيال وأماني بعيدة المنال تشير كلّها إلى وجود تعارض بينها وبين واقع الحال، وهي ـ أي تلك الشخصيات ـ عاجزة عن التعاطي بإيجابية مع واقعها المرير([22]).

ويسود في هذه الرواية أسلوب المحاورة على الأسلوب الروائي؛ ولكي يتمكّن من شرح عمق الأزمة النفسية الموجودة، عمد الكاتب إلى استخدام أسلوب «المونولوج» بشكل غاية في الكمال والدقة. وترمز العوّامة التي تدور فيها معظم الأحداث والوقائع إلى النخبة المصرية المثقفة، ولعلّ السبب في اختيار محفوظ للعوّامة ـ وهو خيار موفّق إلى أبعد حدّ ـ يرجع إلى رغبته في تصوير تذبذب الحقائق وعدم استقرارها. وهنا، نرى أنّ نجيب محفوظ استطاع خلق الانسجام بين شكل الرواية ومحتواها من خلال استخدامه لأسلوب المحاورة، لأنّ هذا يمنح الكاتب قدرةً أكبر في تقصّي مختلف أبعاد الأزمة بشكل أكثر دقّة. ويفصح أسلوب المحاورة عن فاعليته أكثر فأكثر حينما يكون وسيلة لملء أوقات الفراغ لساكني العوّامة. إلاّ أنّه مع ذلك يجب الالتفات إلى نقطة جوهرية وهي أنّه على الرّغم من تحقيق الكاتب لهدفه ونجاحه في تصوير المأزق النفسي الذي تعاني منه الطبقة المثقفة في مصر، إلا أنّه فشل في أهم عنصر تنطوي عليه رسالة الرواية، ألا وهو إدخال اللذة إلى نفس القارئ.

ولأوّل مرة نلاحظ نجيب محفوظ ـ ومن خلال هذه الرواية ـ يلجأ إلى أسلوب الوحدة المكانية، إضافة إلى تكراره استخدام البِنية القصصيّة المستندة إلى عدد من الأبطال في تلك الرواية، لتعكس كلّ شخصية بُعداً معيّناً في الرواية([23]). هذا، وقد استعار الكاتب نفس البنية القصصيّة في عدد من رواياته مثل «القاهرة الجديدة» و «زقاق المَدق» و«الثلاثية». واضطُرّ إلى الاستعانة بهذا الأسلوب من أجل أن يرسم صورة عامة للقارئ لكن بأبعاد مختلفة، لتقوم كل شخصية في الرواية بإيصال رسالة خاصة عبر دور مستقل([24]). وعلى الرّغم من أن (أنيس زكي) يمثل الشخصية الرئيسيّة في الرواية إلاّ أنّ للكاتب حضوراً أيضاً بين ثنايا الرواية ـ وإن بشكل غير مباشر ـ ليعبّر عن أفكاره ويبيّن آراءه بشأن الأحداث الجارية([25]).

وقد كان لاستخدام أسلوب «المونولوج» أو «حديث النّفس» في هذه الرواية بالذات أثره البالغ في تميّزها عن سائر الأعمال الأدبية التي كتبها محفوظ. وهو أسلوب درج الكتّاب على استخدامه لتصوير الاضطرابات والهواجس الدينيّة لشخصيات قصصهم أو رواياتهم. ويحاول كاتبنا هنا أن يظهر تبويباً منطقياً لتصوّره حول الموضوع، فنرى مثلاً أنيس زكي ـ الشخصيّة الرئيسية في الرواية ـ يخوض في بحر الوعي واللاوعي، ليتمّ استخراج حوادث القصة شيئاً فشيئاً من خلال المونولوج كأمر ثانوي، بحيث استخدم الكاتب كلمة (صوت) بدلاً من (قال) في كل مرحلة من مراحل القصة([26]). لكنّه من البديهي ألا يكون ضمن كتابة الحوار أيّ إيقاع صوتي، بل نرى الكاتب يستعين بالجُمَل الصامتة، من هنا فهو يحاول كتابة الحوار بكلمات تعطي معنى الإيقاع. ومع ذلك فإنّ الحوار ـ سواء كان في إطار الواقع أم القصة ـ يفتقد إلى التسلسل وفقاً لترتيب الأشخاص، بل يأتي ضمن حجم الحديث وبشكل متقطّع، ومن أجل الإشارة إلى حديث كل شخصية يقوم المؤلّف بذِكر اسم أو هويّة تلك الشخصية.

هذا، وقد استخدم الكاتب الوصف في روايته بنَوعيْه: العيني والتعبيري. لكن ونظراً إلى طبيعة شخصيّة أنيس زكي، فإنّ الوصف العيني يفقد تأثيره في هذه الرواية بالتدريج، واهباً مكانه للوصف التعبيري؛ ذلك لأنّ أنيس زكي كلّما نظر إلى شيء تذكّر شبيهه أو ضدّه، فيشعر بتأثير ذلك على وجوده وكيانه([27]).

وثمّة نقطة مهمة تسجّل لصالح نجيب محفوظ، وهي أنّه آثر استخدام اللغة الفصحى على العامية في جميع رواياته، فلم يكن يميل إلى استخدام اللغة الدارجة لا في رواياته ولا في الحوارات التي تضمّنتها تلك الرواية. وتتحدث كل شخصية في رواية «ثرثرة فوق النيل» بحسب طبقتها الاجتماعيّة كما هي الحال مع (العمّ عبده)، فعلى الرغم من كونه شيخاً كبيراً وأُمّياً وإنساناً يمتاز بنقاء السريرة، إلاّ أن نجيب محفوظ يأبى إلا أن يكون حديث هذا الرجل وكلامه موزوناً ومنسجماً مع القواعد اللغوية في النحو والصرف، وينأى بنفسه عن التحدث باللهجة العامية([28]).

خلاصة تحليلية نقدية واستنتاج ـــــــ

عرفنا ممّا سبق أنّ عميد الرواية العربية نجيب محفوظ كاتب واقعيّ ومتحرّر، سعى من خلال أعماله أن يقدّم للقارئ صورة واضحة وجليّة عن الأوضاع السياسيّة والاجتماعية في مصر. وكان محفوظ يعشق سيادة الحرية والديمقراطية، وقد جاهد وناضل من أجل ترسيخ دعائم المساواة والعدالة في مجتمعه. وكانت لروايته «ثرثرة فوق النيل» صدى مسموعاً وصيتاً كبيراً، وقد تميّزت بالخصائص التالية:

1 ـ يغلب على هذه الرواية طابع الحوار، أو كما يُقال: توظيف المشاهد، على التخليص أو الوصف المجرّد.

2 ـ تتميّز عن بقيّة القصص التي كتبها محفوظ بالواقعيّة والإيمان والصّدق الفني.

3 ـ استخدام جُمَل قصيرة ومُقتضبة ومسبوكة بأسلوب شعريّ جميل.

4 ـ من حيث الشكل الفني هي أشبه بالمسرحية إلى حدّ بعيد.

5 ـ استخدم محفوظ في هذه الرواية كلاًّ من الوصف العيني والتعبيري.

6 ـ تتميّز الرواية عن غيرها من رواياته باستخدام أسلوب «المونولوج» أو «حديث النفس».

7 ـ استخدام أسلوب الوحدة المكانيّة ولأول مرّة.

8 ـ تتسم الرواية بالتيار الذهني الجارف والصناعة البديعيّة بشكل واضح وملحوظ.

9 ـ كان الكاتب يفضّل استخدام اللغة الفصحى على العاميّة، سواءٌ في رواياته أم في الحوارات.

10 ـ يغلب على هذه الرواية أسلوب المحاورة على الأسلوب الروائي، ولكي يتمكّن من بيان الأزمة النفسية الموجودة، عمد الكاتب إلى استخدام «المونولوج» بشكل غاية في الكمال والدّقة.

11 ـ وعلى الرغم من تحقيق الكاتب لهدفه ونجاحه في تصوير الأزمة النفسية القائمة بين طبقة المثقفين في مصر، إلاّ أنّه لم يُفلح في أهمّ عنصر تتسم به رسالة الرواية، وهي إدخال اللذة إلى نفس القارئ.

الهوامش

(*) أستاذة مساعدة في قسم اللغة العربية بجامعة طهران.

([1]) علي شلق، نجيب محفوظ بين الرواية والأدب الروائي: 39، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1994م؛ وفاطمة الزهراء محمّد سعيد، الرمزيّة في أعمال نجيب محفوظ: 8 ـ 9 ، ترجمتها إلى الفارسيّة نجمة رجائي، جامعة فردوسي، مشهد، 1999م.

([2]) محمّد سعيد، الرمزية في أعمال نجيب محفوظ: 14.

([3]) http://www.almaz.com/nobel/literature/1988 .

([4]) http://www.almaz.com/nobel/literature/1988.

([5]) غالي شكري المنتمي، دراسات في أدب نجيب محفوظ: 17، القاهرة، 1987.

([6]) محمد سلام زغلول، دراسات في القصة العربيّة الحديثة: 258 ـ 259 ، موسوعة المعارف، 1973.

([7]) انظر: نجيب محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 82 ـ 90، مكتبة مصر، القاهرة، بلا تاريخ؛ ومحمّد سعيد، الرمزية في أعمال نجيب محفوظ: 27.

([8]) زغلول، دراسات في القصّة العربية الحديثة: 262.

([9])http://www.ahram.org.eg/weekly.26/4/1381.

([10]) زغلول، دراسات في القصة العربية الحديثة: 264.

([11]) فاروق عبد المعطي، نجيب محفوظ بين الرواية والأدب: 24 .

([12]) دراسات في أدب نجيب محفوظ: 239.

([13]) http://sis.gov.eg/egyrtinif/cultur.

([14]) عبد المعطي، المصدر نفسه: 103.

([15]) أحمد محمد عطيّة، مع نجيب محفوظ: 104، دار الجيل، بيروت، 1983 م.

([16]) محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 5 ـ 9.

([17]) نبيل راغب، الشكل الفني عند نجيب محفوظ: 317 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1675.

([18]) راجع: محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 11.

([19]) زغلول، دراسات في القصّة العربية الحديثة: 289.

([20]) الرمزية في أعمال نجيب محفوظ: 297.

([21]) راجع مثلاً: محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 5 ـ 6، و 34 ـ 35.

([22]) نبيل راغب، الشكل الفني عند نجيب محفوظ: 312.

([23]) أنظر: محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 13 ـ 15 ، 111 ـ 115.

([24]) محمد سعيد، الرمزية في أعمال نجيب محفوظ: 297.

([25]) أنظر مثلاً: محفوظ، ثرثرة فوق النيل: 5 ـ 7.

([26]) أنظر: المصدر نفسه: 158.

([27]) أنظر: المصدر نفسه: 5 ـ 6.

([28]) أنظر مثلاً: المصدر نفسه: 82، 14، 168، 142.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً