أحدث المقالات

لو دققنا النظر في جسد الإنسان لوجدنا أنه مزود بأجهزة وظيفتها تخليصه من السموم وبهرمونات وظيفتها إعادة الترميم وهي حاجة ضرورية ذاتية للجسد ، كونه يعمل ضمن منظومة عامة تتطلب منه وفق نظم دقيق هذه العمليات ليستمر في وظيفته ويحافظ على أدائه المتقن ، وأي خلل في عمل هذه الأجهزة ستكون نتيجتها خللا في عمل أجهزة الجسد تؤثر على كفاءته .

والروح كما الجسد تحتاج لمحطات تخلصا من الأدران التي تراكمت عليها طوال العام من اختيارات الإنسان وسلوكه ، هذه المحطات تكون وظيفتها هي :

١- التخلية

٢- التجلية

٣- التحلية

ولو نظرنا إلى أهمية بعض الأزمنة وبعض الأمكنة لوجدنا ارتباط هذه الأهمية بالإنسان جسدا وروحا ، فشهر رمضان من الأشهر العظيمة التي تغل فيها الشياطين وتفتح فيها أبواب الرحمة والمغفرة والعتق ، وكون مركزية هذا الشهر تكمن في ليالي القدر التي تتحقق فيها مشاريع الانسان ومستقبله من خلال خياراته ، فإن التمهيد لهذا الشهر يكون ضروريا ، حتى يتحقق للروح والجسد فيه مرتبة من مراتب الكمال وهي التحلية.

فيكون شهر رجب الخطوة الأولى في تخلية النفس من كل الأدران ، حيث الملاحظ فيه كثرة الأدعية والذكر وانصباب الرحمة ، وكأن التكثيف هنا ضروريا لتخليص النفس من أدرانها وإعادة برمجتها لعبودية خاضعة تستشعر الفقر الوجودي من خلال مسار الأدعية وما تحمله من معارف واضحة .

وبعد أن تتخلى النفس بالترويض خلال شهر رجب من أدرانها ، يأتي شهر شعبان ليتولى مهمة التجلي ، وارتقاء قابلية هذه الروح لتلقي الفيض ، لتتثبت الروح في شهر رمضان المسؤول عن التحلي .

إن اتصال الإنسان بهذه الأزمنة هو اتصالا حقيقيا واقعيا ، لا يُقتصر فيه على العبادات ، بل العبادات هنا جهاز من الأجهزة التي تعمل في جسد الروح ، ولكن يمتد في عمله إلى المحيط ومدى تجلي العبادة في المحيط الأسري والاجتماعي ، وانعكاس هذا السير الفردي على المسار الاجتماعي قولا وعملا.

ولعل هذه الآية توضح أهمية استواء النفس ليتضح لها الصراط المستقيم ، كون الاستواء يتطلب انضباط النفس بتعاليم السماء في الأرض لينكشف بهذا الاستواء الصراط المستقيم جليا في الدنيا .

أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

الملك – ٢٢

إذ الإنسان مثقل بالمظالم وحقوق الناس ، ومثقل بالتقصير في جنب الله وعياله ، وهذه الأشهر والمناسبات هي فرصة لاصلاح الفرد وإعادة اصلاح المجتمع وتوجيهه نحو فلاحه ، فلا تقتصر هذه الأشهر على بناء الفرد لأن الاسلام لا يرجح أصالة الفرد ولا أصالة المجتمع ، بل هو يولي الأصالتين أهمية قصوى ، ويعمل دوما على بناء الفرد لأنه النواة التي يتشكل منها المجتمع كما يعمل على بناء المجتمع وينظم ذلك في منظومة علائقية متقنة تمكن المجتمع من إحكام منظومته على أساس التقوى وحفظ القيم .

حيث تغيير النفس هو المنطلق لتغيير الأقوام ، وتغيير النفس مرتبط بالبعد الجوانحي في التزكية المتصلة بجهاد النفس ، والعبادات المتصلة بإحكام هذه النفس وإخضاعها للعبودية والطاعة بحب .

وشرط هذه العبودية والإخضاع هو تمظهر ذلك في السلوك الفردي وانعكاسه على المجتمع وبنائه على نفس الأسس التي بنيت النفس عليها في العبودية والطاعة والخضوع .

وهذا يجلي معنى من معان التوحيد في الفرد والمجتمع ، حيث يصبح الفرد والمجتمع موحدين تتجلى فيهم اسماء الله وصفاته وأفعاله.

فوظيفة هذه المحطات العبادية هي في إعادة صياغة الفرد وفق أسس التقوى القائمة على العبودية والخضوع ، وأيضا بضبط الأفراد يتم إعادة صياغة البنية الاجتماعية على نفس الأسس ، حيث كل مسيرة في الدنيا لابد أن يصيبها خلل وتحتاج إلى إعادة برمجة لتستوي فتنضبط على الصراط المستقيم.

هذه الأشهر تساعد في إعادة استواء النفس وضبطها لتعود على الصرط المستقيم، هذه العودة يجب أن تنعكس على الفرد والمجتمع ، انعكاسا يبلور التوحيد بطريقة أكثر تجليا ليكون الفرد والمجتمع مظهرا من مظاهر صفات الله وأفعاله .

وكي نعرف حقيقة الصدق في هذا الانضباط لابد أن نرى الأثر المترتب علينا وعلى مجتمعنا ، من خلال إعادة اصلاح ما فسد على مستوى النفس والسلوك والأسرة والمجتمع ، وهو ما يعني نهضة وثورة إصلاحية تشمل التنمية البشرية وعلى كافة الأصعدة ، وكلما تجلى القسط في المجتمع وكلما تحقق العدل ، يكون أثر هذه الأشهر الوظيفية قد حقق الثمار المرجوة منها كمحطات زمانية .

فلا تقتصر أهمية هذه الأشهر على الأفراد وإلا أصبحنا نؤمن فقط بأصالة الفرد وأبعدنا الدين عن الحياة لمصلح علمانيين ، بل يجب أن تتعدى الثمار واقعا من الفرد إلى المجتمع والدولة وتتحقق الثمار المرجوة في الكمال والاصلاح والنهضة .

والله العالم …

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً