أحدث المقالات

دراسةٌ في المفهوم والمناشئ والآثار

ـ القسم الأوّل ـ

السيد أمير العلي(*)

مقدّمة

يتناول هذا البحث موضوعاً محدَّداً، هو (الاحتياط في الفتوى)؛ ليدرسه في أبعاده الشاملة، ولينتهي من هذه الدراسة إلى تصوّر واضح عن الموضوع، على الأقلّ في المستوى والإطار العلميين اللذين ينطلق في حدودهما البحث، ولا يصحّ له أن يتجاوزهما.

ينتمي هذا الموضوع إلى مجالٍ قد يتسنّى لنا تسميته بالبيان الفقهي؛ حيث نريد منه ـ كما سيتّضح في فصول البحث ـ امتناع الفقهاء في بعض الأحيان عن بيان وعرض رأيهم العلمي في المسائل، واستبدالهم ذلك بالإشارة إلى طريق الاحتياط في المسألة التي يتطرّقون إليها، أو حين يضيفون إلى بيان رأيهم العلمي بياناً لطريق الاحتياط في تلك المسألة.

ولأنّ هذه الظاهرة يتكرَّر حضورها في خطاب الفقه الشيعي المعاصر، وهي كانت مصبّاً لإشكالات وُجِّهت إليها؛ باعتبارها تضفي ـ حسب المستشكلين ـ مزيداً من التعقيد والتشدُّد على الأحكام والتشريعات الفقهية، وربما تصيّر المباحات أحكاماً إلزامية، ممّا يغلق أبواباً رحبة في أفق الشريعة، وممّا يغلق بإزاء ذلك أبواباً كان يمكن أن تكون مدخلاً لانفتاح الأجيال الجديدة على الدين والتديُّن؛ ولأنّ الدراسات حولها جاءت قليلةً ومحدودة وغير وافية؛ ولأنّ هذه الظاهرة ـ وإنْ كنّا نسبناها إلى مجال البيان الفقهي ـ ترجع في خلفياتها ومناشئها إلى ما هو أبعد من مجرّد البيان، ويصل أحياناً إلى داخل العملية الاستدلالية التي يقوم بها الفقيه لاستنتاج واستنباط الرأي العلمي، لكلّ هذا جاءت هذه الدراسة.

الاحتياط والفتوى في اللغة والاصطلاح

التعريف اللغوي

أـ الاحتياط

تستعمل كلمة (الاحتياط) في اللغة، ويُراد منها العمل بأوثق الوجوه وأسلمها وأحزمها؛ ويُراد منها أيضاً المحافظة على الشيء، ورعايته والتعهُّد بمصالحه.

فقد جاء في بعض المعاجم اللغوية:

ـ ([حاطه] يحوطه، حوطاً وحيطة وحياطة، بكسرهما: حفظه وصانه وكلأه ورعاه، وذبّ عنه، وتوفّر على مصالحه، وتعهّده. و[احتاط] الرجل لنفسه أخذ في الحزم وبالثقة)([1]).

ـ ولعلّ هذه الكلمة مأخوذةٌ من الشيء الذي يحيط بالشيء([2]).

من خلال ما تقدَّم من كلمات علماء اللغة نصل إلى أنّ المراد من (الاحتياط) في أمرٍ ما هو (المحافظة عليه، من خلال الأخذ بأوثق وأحزم الوجوه).

ب ـ الفتوى

أمّا الفتوى فيُراد منها في اللغة جواب الفقيه عمّا يوجَّه إليه من مسائل.

فقد جاء في المعاجم اللغوية:

ـ (يُقال: أفتى الفقيه في المسألة إذا بيَّن حكمها، واستفتيتُ إذا سألتُ عن الحكم، ويُقال منه: فَتْوى وفُتْيا)([3]).

ـ ([الفتوى]: الجواب عمّا يشكل من المسائل الشرعية أو القانونية، جمعه: فتاوي وفتاوى)([4]).

ـ وقال بعض علماء اللغة بأنّ أصل هذه الكلمة هو الفتى، وهو الشابّ القوي([5]).

الاحتياط في الفتوى اصطلاحاً

ـ الفتوى هي رأي المجتهد في الحكم الشرعي، الذي يعلنه ويبيّنه للمقلِّدين، وربما تطلق ويراد بها نفس بيان رأي المجتهد لمقلِّديه([6])، فتكون حسب الاستعمال الثاني اسم مصدر من الفعل أفتى. وبعبارةٍ أخرى: هي بيان حاصل ونتيجة عملية الاستنباط، وتقديمها للآخرين في مقام العمل بها.

أما الاحتياط فهو يستعمل في العلوم الشرعية باستعمالات متعدِّدة، تلتقي جميعها في معنى جامع، هو (التحفّظ والتحرّز عن الوقوع في مخالفة الواقع)([7]).

ـ أمّا الاحتياط في الفتوى([8])، الذي نبحث عنه هنا، فهو تحرّز وتحفّظ الفقيه في مقام الإفتاء، وذلك ببيان الطريق الذي يُحرز به مقلِّدوه ـ إذا عملوا به ـ امتثال الواقع؛ أو هو (عدم الإفتاء بالجواز، احتياطاً، من قِبَل المجتهد)([9]).

الفرق بين الرأي العلمي والفتوى

الفتوى هي رأي الفقيه في مقامٍ خاصّ، ولا تطلق على كلّ رأيٍ يصل إليه الفقيه، حيث إنّنا نعرف أنّ للفقيه أكثر من مقام ومهمّة، منها: الاجتهاد، وهو عملية استنباط واستخراج الحكم الشرعي من مصادره المقرَّرة، كما أنّ له مقاماً آخر هو الإفتاء، وهو مقام بيان آرائه التي يصل إليها في عمليات الاجتهاد وتقديمها للمكلَّفين؛ حتّى يعملوا بها ويستندوا إليها في امتثال التكاليف الشرعية، إذا كانوا يرَوْنه مشتملاً على الشروط المعتبرة في مرجع التقليد.

ومن هنا نقول: إنّ نتيجة عملية الاستنباط نطلق عليها (رأي)؛ بلحاظ كونها حصيلة اجتهاد الفقيه، ونطلق عليها (فتوى)؛ بلحاظ تقديمها وبيانها للمقلِّدين في مقام العمل. ولذا فإنّ هناك شرائط معتبرة ومختلفة في هذين المقامين؛ حيث لا يشترط في مقام الاستنباط سوى امتلاك مَلَكة الاجتهاد، بينما لا يكون الحاصل على هذه المَلَكة مؤهَّلاً للإفتاء، ولا تكون آراؤه حجّة، إلاّ إذا توفَّر على جملة من الشرائط الأخرى المذكورة في محلّها، كالبلوغ والعدالة وغيرها([10]).

ولذلك فإنّ للفتاوى كتباً مخصَّصة، تعرف بـ (الرسائل العملية)؛ لأنها تتضمّن الآراء التي يقدّمها الفقيه من أجل عمل مقلِّديه بها، وهي تختلف عن الكتب العلمية الاستدلالية، التي يدوِّن فيها الفقهاء عمليات استنباط الأحكام، ويبيِّنون فيها كيفية وصولهم للرأي الاجتهادي الذي يتبنّونه. وقد نجد آراء يصل إليها الفقيه، ويدوّنها في كتبه الاستدلالية، بينما لا نجدها في كتبه الفتوائية العملية، فليس كلّ ما يصل إليه الفقيه من رأيٍ يبيِّنه كفتوى.

الاحتياط في اصطلاح العلوم الشرعية

لقد استعملت كلمة (الاحتياط) في العلوم الشرعية، كالحديث والفقه وأصوله، باستعمالاتٍ كثيرة، يمكننا أن نجعلها في مستويين: أحدهما: الاحتياط بوصفه دليلاً على الحكم الشرعي، والآخر: بوصفه سلوكاً وعملاً، ينصبّ عليه الحكم الشرعي، أو يؤدّي إليه. وللاحتياط في كلٍّ من هذين المستويين اصطلاحات متعدّدة. نكتفي هنا بالتعرّض للاحتياط بوصفه سلوكاً للمجتهد المتصدّي للمرجعية، في مقابل الاحتياط كسلوك للمكلَّف غير المجتهد. وهو بهذه النظرة يكون في مجالين، ثانيهما هو موضوع البحث الذي بين أيدينا، وهما:

1ـ الاحتياط في الاستدلال

وذلك بأن يبذل المجتهد غاية جهده، ويراعي الدقّة بالقدر الممكن، حين يقوم بعملية الاستنباط من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي؛ فإنّ الاجتهاد مهمّة عظمى ومسؤولية كبرى، لارتباطها بأحكام الله تعالى، ولأنّها تؤدّي إلى الوقوع في المفسدة الواقعية أو تفويت المصلحة الواقعية حين الخطأ، والوصول إلى المصلحة الواقعية وتجنّب المفسدة الواقعية حين الإصابة.

ولعلّ من هذا الباب التوصيات الشديدة التي نجدها في كلمات العلماء عندما يقدّمون لطلاّبهم إجازات الاجتهاد، ويشهدون لهم بالوصول إلى مرحلة القدرة على الاستنباط، حيث نجدهم يوصون كثيراً بمراعاة الاحتياط في تفعيل هذه المَلَكة والاستفادة منها؛ فالاحتياط سبيل النجاة. وإنّ من الخصائص المفترضة في الفقيه أن يكون متتبِّعاً ومدقِّقاً في جميع الأدلة المحتملة للمسألة التي يريد استنباط حكمها، وأن لا تكون لديه حالة إفراطية في الوثوق والاعتماد على رأيه، بل يسعى للوصول إلى حالة الانسجام بين رأيه وبين الشرائط الموضوعية المفترضة في البحث العلمي، فيضع احتمال اشتباهه وخطئه في عين الاعتبار أثناء قيامه بعملية الاستنباط([11]).

2ـ الاحتياط في مقام بيان النتيجة الاجتهادية

قد يتصدّى الفقيه لبيان وعرض نتائج اجتهاداته، ويقدِّمها لمَنْ يرجع إليه في التقليد؛ حتى يعمل بها، ويخرج بذلك عمّا في ذمّته من التزام تجاه أحكام المولى جلَّ وعلا. وهنا يأتي استعمال واصطلاح آخر للاحتياط، وهو يشير إلى طريقةٍ خاصّة من البيان في هذا المقام. حيث يقوم الفقيه المرجع ببيان الطريق الذي يتأكَّد من خلاله المكلَّف بخروجه عن العهدة، وامتثاله للحكم الواقعي.

وهذا البيان لطريق الاحتياط يكون في حالات ثلاث:

الأولى: أن يكون رأي المجتهد وحصيلة اجتهاده في مسألةٍ ما هو كون وظيفة المكلَّف الاحتياط، ولذلك يقدِّم الاحتياط كفتوى يجب العمل بها لمَنْ يقلِّده. ويسمّى هذا النوع من البيان وهذه النتيجة الاجتهادية المبيَّنة (فتوى بالاحتياط).

الثانية: أن يمتنع الفقيه المرجع عن إبداء رأيٍ وفتوى في المسألة، ويقوم بَدَل ذلك ببيان طريق الاحتياط لمقلِّديه، فإذا عملوا وفق هذا الطريق يكونون قد أحرزوا امتثال الواقع. والفقيه في هذه الحالة قد يكون له رأيٌ، لكنّه لا يبدي فتوى، وإنّما يكتفي بالإشارة إلى طريق الاحتياط في المسألة. ويُسمّى هذا النوع من البيان (الاحتياط الوجوبي)، وقد يطلق عليه (الاحتياط المطلق)([12]).

الثالثة: أن يكون للمرجع رأيٌ في المسألة، ويقوم ببيانه لمقلِّديه، لكنّه إلى جانب ذلك يشير إلى طريق الاحتياط، فيكون للفقيه في هذه الحالة فتوى واحتياط، يقدّمهما معاً في بيانٍ واحد. ويسمّى هذا النوع من بيان الفتوى (الاحتياط الاستحبابي)([13]).

ولمزيدٍ من التوضيح:

تشترك الحالات الثلاث في بيان الطريق الذي يتأكَّد معه المكلّف من امتثال واقع الحكم الشرعي المتوجّه إليه. لكنّ هذا الطريق في الحالة الأولى هو رأي وفتوى الفقيه المرجع وحاصل اجتهاده في المسألة، بينما لا يكون كذلك بالضرورة في الحالة الثانية، لكنّ المرجع يقدِّمه كبديل عن الفتوى التي لم يبيِّنها، وهو في الحالة الثالثة رديفٌ يقدِّمه المرجع لمقلِّديه، إضافة إلى بيان رأيه وفتواه في المسألة.

ولا يكون الاحتياط فتوى ورأياً نهائياً يقدِّمه الفقيه لمقلِّديه إلاّ في الحالة الأولى. ولذلك يصطلح على هذا النوع من الاحتياط (فتوى بالاحتياط). بينما في الحالتين الأخريين لا يكون مؤدّى ومقتضى الاحتياط رأياً نهائياً أو فتوى للمرجع، بل إمّا أن يتوقّف عن إبداء رأيه، ولا يعطي مقلِّديه فتوى في المسألة، وإنّما يكتفي ببيان طريق الاحتياط، الذي يضمن به فراغ ذمتهم، وإتيانهم بما يطابق الواقع على كافّة الاحتمالات، وهذا ما يسمّى (احتياطاً وجوبياً)؛ أو أن يبدي رأيه الذي توصّل إليه في عملية الاستنباط، ويبيِّنه ويقدِّمه كفتوى، لكنّه يشير أيضاً إلى طريق الاحتياط، وهذا ما اصطلح عليه بـ (الاحتياط الاستحبابي).

تعبيرات الفقهاء عن الاحتياط

جرت عادة الفقهاء والمراجع على أن يعبِّروا عن الاحتياطات الوجوبية والاستحبابية بتعبيراتٍ خاصّة، يشيرون إليها في مقدّمات رسائلهم العملية.

وإذا ما أردنا أن نقدِّم تصوّراً عامّاً عن تعبيراتهم سنجد أنّ هنا شكلين من التعبير عن نوعي الاحتياط: الاستحبابي؛ والوجوبي، أحد الشكلين صريحٌ، والآخر غير صريح.

التعبير الصريح

تستعمل فيه اصطلاحات محدّدة. ففي الاحتياط الوجوبي نجد هذه الكلمات مثلاً: الأحوط وجوباً، الأحوط لزوماً([14]). وفي الاحتياط الاستحبابي نجد هذه الكلمات مثلاً: الأحوط استحباباً، يجوز على إشكالٍ([15])، الأَوْلى([16]).

التعبير غير الصريح

ويقوم الفقيه في هذا النوع من التعبير بالإشارة إلى احتياطه في المسألة بذكر كلمة (الأحوط) مثلاً، أو الإشارة إلى تردُّده في المسألة أو إشكاله على أدلّتها، بكلماتٍ مثل: فيه إشكال([17])، مشكل، فيه تأمُّل، لا يخلو عن تأمُّل([18])، محلّ تردّد([19])، يبطل على الأحوط([20]). والاحتياط حينئذٍ يكون محتملاً لأن يراد به الوجوبي وأن يراد به الاستحبابي، ولذلك يبيِّن الفقيه عادةً ضابطة للتمييز بين الاحتمالين في هذا التعبير. والضابطة هي أنّ الاحتياط (إنْ كان مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى فهو استحبابيّ)، وإذا لم يكن مسبوقاً ولا ملحوقاً بالفتوى فهو وجوبيّ([21]).

ففي الاحتياط الوجوبي بهذا النوع من التعبير لا يبيِّن الفقيه رأيه، ولا ينصّ على وجوبية الاحتياط، بل يكتفي بالإشارة إلى احتياطه أو تردُّده في مورد المسألة، بينما حين يحتاط استحباباً فإنّه يشير إلى احتياطه أو تردُّده، لكنّه يسبق ذلك أو يلحقه بالفتوى.

إلفاتةٌ

ولا بُدَّ من الإلفات إلى أنّ الفتوى التي ذكرنا بأنّ الفقيه يلحقها أو يسبقها بالاحتياط الاستحبابي تكون في نفس مورد الاحتياط، فليس كلّ احتياط نراه مسبوقاً أو ملحوقاً بالفتوى نعتبره استحبابياً، بل لا بُدَّ أن تكون في نفس مورده ومخالفة له في المؤدّى، لا أن تكون في مورد غير مورده([22]).

كما أنّ الفتوى المخالفة للاحتياط الاستحبابي تكون دائماً فتوى بالجواز، حيث إنّ الاحتياط لا يكون حسناً مستحبّاً غير لازم في مورد الفتوى بالحرمة أو الوجوب، بل هو لازمٌ لا تمكن مخالفته. ولذلك فإنّ تردُّد الفقيه إذا جاء في سياق فتواه بالجواز يكون استحبابياً، كما إذا قال: يجوز على إشكالٍ أو تأمّل([23]). بينما إذا جاء الاحتياط في سياق الوجوب، كما إذا قال: يجب على إشكالٍ أو يجب على تأمُّل، يكون حينئذٍ فتوى بالوجوب([24])، غاية الأمر أنّ الفقيه أراد الإشارة إلى وجود إشكال في دليل المسألة.

السيرورة التاريخية للاحتياط في الفتوى

عندما نتتبَّع الكتب الفقهية التي يعرض فيها الفقهاء فتاواهم، ويقدِّمون فيها آراءهم لعمل مقلِّديهم بها، نجد هذا النوع من الاحتياط حاضراً بوضوح عند المراجع المتأخِّرين. حتى أنّ السيد اليزدي(1337هـ) في مقدّمة كتاب العروة الوثقى، وهو أشهر كتاب فتوائي في القرن الأخير، أشار وبيَّن استعماله لهذا الاحتياط، ونبّه إلى طريقته في التعبير عنه، وتبعه في ذلك مَنْ علّق على كتابه من الفقهاء، وهم كثيرون([25])، كما جرت عادتهم على توضيح استعمالهم للاحتياط في الفتوى في الرسائل العملية التي كتبت بعد العروة الوثقى. لكنّني لم أعثر على تصريحٍ أو توضيحٍ اصطلاحي لهذا النوع من الاحتياط عند الفقهاء المتقدِّمين، بل حتّى المتأخِّرين، إلى ما قبل عصرنا القريب.

الفقهاء القدماء والفتاوى الحديثية

ولعلّ ما يصعِّب عملية العثور على مثل هذا الاحتياط عند المتقدِّمين، خصوصاً فقهاء الغيبة الصغرى والقريبين منها، هو عدم تطوُّر العملية الاجتهادية عندهم بالشكل الذي يتيح لنا الوقوف بوضوحٍ على خطواتهم الاستدلالية وبياناتهم لآرائهم الفقهية. وقد التفت المهتمّون بتاريخ الفقه الشيعي إلى هذه الحقيقة، ونبّهوا إلى أنّ طريقة القدماء من الفقهاء كانت جاريةً على الالتزام بإيراد نصوص الروايات في كتبهم الفقهية، مثل: كتب الشيخ الصدوق(381هـ)، كالهداية والمقنع والفقيه، وكتاب المقنعة، للشيخ المفيد(413هـ)، ورسائل السيّد المرتضى(436هـ)، وغيرها، بحيث كانت فتاواهم أشبه بنقلٍ لعبارات مقتبسة من متون الأحاديث الواردة عن المعصومين^([26]).

حتّى أنّ بعض الفقهاء برَّر أهمّية الإجماع المتكوّن عند المتقدّمين بأنّ إطباق القدماء من أصحابنا على فتوى أو اشتهارها بينهم في تلك الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل المتلقّاة والمأثورة يكشف أو يؤدّي إلى الحَدْس بتلقّيهم ذلك يداً بيدٍ من قبل الأئمّة^، ولو لم تكن هذه الفتوى موجودةً نصّاً في الجوامع الحديثية التي بأيدينا([27])، بل إنّ الشيخ الطوسي(460هـ) يصرِّح في كتابه المبسوط بأنّ الحساسية المفرطة تجاه الخروج عن هذه الطريقة، وأنس الطائفة بالأخبار وصريح ألفاظها، كانت تمنعه من عمل كتابٍ فقهي استدلالي يبيِّن فيه احتواء تراث التشيُّع على أصول المسائل، وقدرته على الحضور القويّ في مجال تفريعات المسائل الفقهية([28]). وقد كان له رضوان الله عليه دورٌ مهمّ في الانتقال من مرحلة الفقه الحديثي أو من مدرسة الفقهاء المحدِّثين إلى مرحلة الفقه الاجتهادي الأصولي أو مدرسة الفقهاء الأصوليين، وقد (توِّجت هذه النقلة العلمية الموفّقة بالعمل الرائد الناضج الذي قام به الشيخ الطوسي في كتابه (المبسوط)، الذي تطوَّرت مادّته بما هو أوسع من الاقتصار على الحديث، وتمثَّل منهجه في الاعتماد على القواعد، لغويةً، وأصوليةً، وفقهيةً)([29]). وإذا التفتنا إلى طريقتهم هذه سوف لن نتوقَّع العثور على تعبيرات تكشف عن استدلالات معقَّدة قاموا بها، ووصلوا من خلالها إلى مواقف فقهيّة خاصّة، كالاحتياط الذي ندرسه هنا.

فكرة الاحتياط في الكتب الفتوائية القديمة

نعم، يوجد عند بعض الفقهاء المتقدِّمين ـ الشيخ الطوسي(460هـ) ومن قبله ـ والفقهاء المتأخّرين ـ الفقهاء بعد الشيخ الطوسي ـ ما يمكن أن نعتبره داخلاً في احتياطنا الذي نبحث عنه، والذي يكون مضمونه ـ كما تقدّم ـ هو توقُّف الفقيه عن إصدار فتوى وإحالة المكلَّف إلى طريق الاحتياط، أو إتاحة المجال له ليقلِّد غيره من الفقهاء، أو إصداره فتوى في مسألةٍ ما مع إشارته إلى طريق الاحتياط في موردها؛ حيث سنجد في ما سنعرضه من نماذج أنّ بعض المتقدِّمين يصدر فتوىً ثمّ يلحقها بالاحتياط، وهذا في روحه يرجع إلى الاحتياط الاستحبابي.

كما سنجد أنّ بعض المتأخّرين يتردَّد أو يتوقّف في مسألةٍ ما، ونتيجة هذا هو عدم وجود فتوى للفقيه في هذه الموارد، ونحن أمام هذا الفرض لا نتوقّع ممَّنْ يقلِّد الفقيه المتوقِّف سوى موقفين؛ إمّا أن يعمل وفق ما يقتضيه الاحتياط؛ كي يتيقّن ببراءة ذمّته تجاه الحكم المحتمل؛ أو أن يرجع في ذلك إلى فقيهٍ آخر ويعمل بفتواه في مورد المسألة، وإنْ لم يتّخذ أحد هذين الموقفين سيكون عمله غير معتمد على ما يضمن به امتثال حكم المولى، وهذا يرجع في روحه أيضاً إلى الاحتياط الوجوبي.

 بل إنّنا سنجد بعض الفقهاء المتأخّرين يتوقَّف أو يشكل على بعض الأدلّة في مسألة، ثمّ يتبع ذلك بالاحتياط، وهذا هو عين ما يستعمله الفقهاء المعاصرون في بيانهم للاحتياط الوجوبي، حيث يكون الاحتياط غير مسبوقٍ ولا ملحوق بفتوى جازمة.

نماذج من كتب الفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين

نقدّم في ما يلي بعض ما وقفنا عليه من فتاوى الفقهاء المتقدِّمين والمتأخِّرين؛ حتّى تتّضح لنا الصورة التاريخية للاحتياط في الفتوى، ونتبيَّن حجم حضوره في واقع الممارسات الإفتائية لفقهائنا في القرون الهجرية المتقدّمة.

نماذج من الاحتياطات الاستحبابية عند المتقدّمين والمتأخّرين

1ـ أبو الصلاح الحلبي(447هـ): (أن يكون ممّا يصح بقاؤه ولا يفسد بطول المكث، كالذهب والفضة وسائر العروض، فيجب تعريفه سنةً كاملة في أيام الجمع والأعياد والمواسم والأسواق، فإنْ جاء صاحبه‌ ردّه عليه، وإلاّ فلاقطُه بالخيار، بين أن يتصرّف فيه ويضمن المثل، دون الربح؛ أو يتصدَّق به عن صاحبه؛ أو يعزله انتظاراً للتمكّن منه، وهو أحوط الأمرين)([30]).

2ـ الشيخ الطوسي(460هـ): (وأمّا ما لا يُكال ولا يُوزن فلا بأس بالتفاضل فيه والجنس واحد نقداً، و لا يجوز ذلك نسيئة، مثل: ثوب بثوبين ودابّة بدابتين ودار بدارين وعبد بعبدين، وما أشبه ذلك ممّا لا يدخل تحت الكيل والوزن. والأحوط في ذلك أن يقوِّم ما يبتاعه بالدراهم أو الدنانير أو غيرهما من السلع، ويقوّم ما يبيعه بمثل ذلك، وإنْ لم يفعل لم يكن به بأس)([31]).

3ـ المحقّق الحلّي(676هـ): (المسك طاهر‌ يجوز بيعه في فأرةٍ، وإنْ لم يفتق، وفتقه أحوط)([32]).

4ـ العلاّمة الحلّي(726هـ): (مسألة: ما يقول سيّدنا في مَنْ يروي عن سيّدنا رسول الله| هل يجوز أن يقول: «قال رسول الله كذا»، مع أنّه لا يعلم يقيناً قاطعاً أنّ سيّدنا رسول الله| قال ذلك، أم لا يجوز أن يقول: قال رسول الله كذا، إلاّ أن يقول: رُوي عن رسول الله|، أو يروى عن رسول الله كذا. وكذلك إذا روى عن أحد الأئمّة^. أوضِحْ لنا ذلك، نجّاك الله من المهالك.

الجواب: ‌لا يجوز أن يقول ذلك على سبيل الجزم، إلاّ مع القطع بنقله، كما في المتواترات، و أمّا إذا قال ذلك على سبيل الظنّ فلا بأس. والأحوط أن يقول: «رُوي» ونحوه).

توضيحٌ وتعليق

وهكذا نرى أبا الصلاح الحلبي في النموذج الأوّل يخيِّر اللاقط ـ بعد التعريف وعدم مجيء صاحب اللقطة ـ بين التصرُّف والعزل. وهذه فتوى فيها تخيير بين أمرين، ثمّ نجده يشير إلى أنّ الأحوط هو العزل، وهذا في روحه هو الاحتياط الاستحبابي.

وفي النموذج الثاني نجد الشيخ الطوسي يذكر أنّ الأحوط هو أن يقوِّم المشتري ما يبتاعه من السلع بالدنانير أو غيرها، وكذلك يقوّم البائع ما يبيعه، لكنّه يذكر أيضاً أنّ عدم التقويم لا بأس به. وهذه فتوى بالجواز رافقها وسبقها احتياط، وهذا ما يصطلح عليه بالاحتياط الاستحبابي.

وهكذا نرى الفكرة ذاتها في ما نقلناه عن المحقِّق والعلاّمة الحلِّيين.

نماذج من الاحتياطات الوجوبية عند المتأخّرين

المحقّق الحلّي(676هـ)

1ـ (والماء المستعمل في غسل الأخباث نجسٌ، سواء تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر، عدا ماء الاستنجاء؛ فإنّه طاهر ما لم يتغيّر بالنجاسة أو تلاقيه نجاسةٌ من خارج، والمستعمل في الوضوء طاهرٌ مطهِّر، وما استعمل في رفع الحدث الأكبر طاهرٌ، وهل يرفع به الحدث ثانياً؟ فيه تردُّد، والأحوط المنع‌)([33]).

2ـ (والأدهان تتبع ما يستخرج منه، فدهن السمسم جنسٌ، وكذا ما يُضاف إليه، كدهن البنفسج والنيلوفر، ودهن البزر جنسٌ آخر. والخلول تتبع ما تعمل منه، فخلّ العنب مخالفٌ لخلّ الدبس، و يجوز التفاضل بينهما نقداً، وفي النسيئة تردُّد)([34]).

العلاّمة الحلّي(726هـ)

1ـ (لو قطع طوافه بدخول البيت أو بالسعي في حاجةٍ له أو لغيره في الفريضة فإنْ كان قد جاوز النصف بنى، و إلاّ أعاده، وإنْ كان نفلاً بنى مطلقاً. ولو دخل عليه وقت فريضة، وهو يطوف، قطع الطواف، وابتدأ بالفريضة، ثمّ عاد فتمَّم طوافه من حيث قطع. وهل يبني من حيث قطع أو من الحجر؟ فيه إشكالٌ، الأحوط الثاني، والخبر يدلّ على الأوّل)([35]).

2ـ (ولو قتل في الشهر الحرام أو الحرم ألزم ديةً وثلثاً. ولا تغليظ في الأطراف. ولو رمى في الحلّ فقتل في الحرم غلّظ، وفي العكس إشكالٌ)([36]).

تعليقٌ

وهكذا نرى في ما تقدّم من نماذج أنّ الفقهاء المتأخّرين يتوقَّفون عن إصدار فتوى؛ نتيجة الإشكال أو التردّد. وقد ترافق هذا التوقّف مع الإشارة إلى طريق الاحتياط، كما في المثالين الأوّلين اللذين نقلناهما عن العلاّمة والمحقّق الحلّيين؛ أو أنّهم اكتفوا بالإشارة إلى توقُّفهم عن إصدار الفتوى نتيجة الإشكال أو التردُّد، وهذا ما نجده متكرِّراً عند المحقّق الحلّي في شرائعه، فإنّ تردّداته (عبارة: فيه تردّد) من الكثرة والوضوح بحيث لا يخفى على أيّ دارسٍ أو متصفِّح لهذا الكتاب.، وهو في بعض مواضع التردّد هذه يشير إلى الأقوى أو الأشبه، وفي مواضع أخرى يشير إلى الأحوط، وفي مواضع أخرى يكتفي بالتردّد أو التوقّف.

أمّا العلاّمة الحلّي فقد تكرَّرت في بعض كتبه عبارة (فيه توقُّف) في عدد كثير من المواضع، وكذلك تكرّرت في بعض كتبه عبارة (فيه إشكال) أو (على إشكال)، إلى درجة أدَّتْ إلى وقوف تلامذته ومتابعي كتبه وفتاواه على هذه الظاهرة. وهذا ما ذكره محقِّق كتاب (غاية المراد في شرح نكات الإرشاد)، في سؤال وجّهه بعض المتابعين إلى أحد تلامذة العلاّمة، نقلاً عن مجموعتين مخطوطتين في المكتبة المركزية بجامعة طهران، وهذا نصّ السؤال وجوابه:

(سؤال: سئل عن شيخنا الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، خاتم المجتهدين، فخر الملّة والدين، عن المسائل الآتية، وهو أنّ المولى الأقدم والإمام المقدّم جمال الحق والدين& قد ذكر في كتاب القواعد في بعض المواضع «على إشكال»، وفي بعضها «وفيه إشكال»، وفي بعضها «وفيه إشكال منشؤه كذا»، [….] فلينعم ببيان ذلك مفصّلاً، أدام الله معاليه.

جواب: أدام الله أيّامك أيّها السائل. اعلم أنّ قوله&: «فيه إشكال» إشارة إلى أنّ دليلي الطرفين قد تعارضا ولا ترجيح، فتارةً يكون وجه الإشكال ظاهراً فيهمله، اتّكالاً على ذهن الناظر، أو يحتاج إلى تطويل فيهمله أيضاً؛ وتارةً يكون مشكلاً وهو مختصرٌ فيذكره. والفرق بين قوله: «على إشكال» و«فيه إشكال» أنّه في الأوّل يكون قد جزم بحكم ثمّ يحصل له إشكال بظهور معارض، ولا ترجيح، وفي الثاني يكون التردّد حاصلاً في الابتداء، من غير جزم)([37]).

بين الاحتياط كاصطلاح والاحتياط كواقع

رُبَما يتّضح لنا ممّا عرضناه من أمثلة أنّ مضمون وفكرة الاحتياط كانت موجودة بدرجةٍ ما عند العلماء المتأخّرين (منذ المحقّق والعلاّمة الحلّيين)، بنوعَيْه الوجوبي والاستحبابي، وكان موجوداً بنوعه الاستحبابي عند المتقدِّمين (كالشيخ الطوسي). أو على الأقلّ يتّضح وجود ما يمكن اعتباره ـ في مؤدّاه ـ احتياطاً في الفتوى، حَسْب ما بيَّنا من معناه المتداول في العصر الحاضر.

لكنّنا نودّ أن نشير إلى أنّ الإفتاء بما يوافق الاحتياط كان موجوداً بشكلٍ واضح عند المتقدّمين والعلماء القريبين منهم، وهو غير الاحتياط الذي نبحث عنه؛ إذ إنّه فتوى بالاحتياط، لا احتياط في الفتوى. ولذلك فإنّ المتتبِّع لكتب المتقدّمين الفقهية يجد فيها حضوراً لتعبيرات مثل: (دليل الاحتياط يقتضيه([38])، الاحتياط يقتضيه، الأحوط كذا([39])، طريقة الاحتياط([40])، دليلنا أنّ ما ذكرناه أحوط([41])). وقد التفت إلى هذه الظاهرة بعض العلماء، ونصّ على كون الاحتياط من أقوى الأدلّة عندهم؛ لأنّ (دليل الاحتياط لا يمكن الخصوم دفعه، ولا بُدَّ له من الموافقة عليه بغير خلاف بين أهل القبلة، فهو دليلٌ قائم بذاته، أقوى الأدلّة عند المحقّقين المحصِّلين المعتبرين)([42]). ويظهر أنّ مساحة استعمالهم لهذا الدليل واسعةٌ. وبهذا الدليل وجّه العلماء ما يبدو من اختلاف في آراء الشيخ الطوسي بين كتاب فقهي وآخر، أو ترجيحه لرأيٍ في كتاب على رأي تبنّاه في كتاب آخر؛ (لأنّ الاحتياطـ ـ والمراد تحصيل البراءة اليقينيّة ـ عنده دليل شرعي. ولذا استدلّ على ما أفتى به في الخلاف بتيقُّن البراءة، ولذا تراه ـ كالسيّد وتابعيه ـ يستدلّون على مذاهبهم بطريقة الاحتياط)([43]).

ولذا حاولنا أثناء تتبُّعنا لحضور فكرة الاحتياط في الفتوى ـ بمعناه المتداول ـ في كتب المتقدّمين أن لا نخلط بينه وبين الفتوى بالاحتياط؛ فإنّ الثاني ليس محلّ نظرنا في هذا البحث. ولذلك أيضاً نشير إلى أنّ المثالين الأوّلين من الأمثلة التي نقلناهما من كتب المحقّق والعلاّمة الحلّيين يحتمل أن يكونا أقرب إلى الاحتياط عند المتقدّمين، بمعنى أن يقصد العلاّمة في المثال أنّ دليل الاحتياط يقتضي أن يبني الطواف من الحجر، فالأحوط ليس هو نتيجة الإشكال، بل هو أحد الطرفين المحتملين في المسألة، مقابل ما يدلّ عليه الخبر، كما يحتمل أن يقصد المحقّق الحلّي من الأحوط في المثال أنّ دليل الاحتياط يقتضي المنع بعد وجود التردُّد.

ومهما كان فإنّه حتّى لو قلنا بوجود فكرة وروح الاحتياط في الفتوى عند المتقدّمين، والطبقة الأولى من المتأخّرين، فلا بُدَّ من الاعتراف بعدم كون الاحتياط بهذا المعنى موجوداً بوضوحٍ وكثرة في كتبهم. نعم، الاحتياط الاستحبابي ـ وفق ما عرضناه من أمثلة وغيرها ـ يبدو أنّ وجوده كان أكثر وأوضح.

اشتداد ظاهرة الاحتياط في الفتوى

ولعلّه إلى هذا أشار الشيخ جنّاتي ـ وهو من العلماء الباحثين في تأريخ الاجتهاد والبيان الفقهي ـ إلى أنّ هذه الظاهرة لم توجد عند الفقهاء إلى ما قبل القرن الحادي عشر؛ حيث (ظهرت الرسائل العملية بالطريقة المتداولة، وباحتياطاتها ومميّزاتها الخاصّة، في المرحلة الرابعة [من مراحل تطوّر البيان الفقهي]، والذي كان رائدها الشيخ البهائي، وأمّا قبله فإنّ الرسائل ـ مثل: رسالة جمل العلم والعمل للسيّد المرتضى، وتبصرة المتعلّمين للعلاّمة الحلّي، ورسالة المحقّق الثاني صاحب المقاصد، والكتب العلمية العملية مثل: شرائع الإسلام ـ لم تشتمل على الاحتياطات بالنوع الموجود في الرسائل العلمية المعاصرة)([44]).

كما يشير سماحته إلى حضور الاحتياط في بيان الفتوى عند الشيخ الأعظم الأنصاري(1281هـ) بشكلٍ كبير؛ لما اتّسم به رضوان الله عليه من نزعةٍ احتياطية في سلوكه، إلى درجةٍ أوصاه فيها الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر(1266هـ)، عندما نوّه في مرضه الأخير بأهليّته للمرجعية، بأن يقلِّل من احتياطاته؛ لأنّ الإسلام شريعةٌ سمحة وسهلة. لكنْ رغم هذه التوصية لا زالت هذه الظاهرة مستمرّة([45]).

وإذا رجعنا إلى الرسالة العملية للشيخ الأنصاري، المسمّاة بـ (صراط النجاة) ـ وهي عبارة عن استفتاءات جمعها وصاغها الشيخ محمد علي اليزدي، وأيّدها وأمضى العمل بها الشيخ الأعظم([46]) ـ نجده رضوان الله عليه يصرِّح بأنّ موقف المكلّف من احتياطات مرجعه المطلقة (الوجوبية) هو العمل بها أو الرجوع في موردها إلى الأعلم فالأعلم من الفقهاء الآخرين([47])، مما يدلّ على حضور هذه الاحتياطات عنده. وهذا ما نراه بوضوح شديد في موارد كثيرة من الرسالة آنفة الذكر عند الشيخ نفسه، وعند الفقهاء الذين علَّقوا عليها([48]).

على أنّه اتّضح من خلال ما تقدَّم أنّنا نخالف الشيخ جنّاتي في عدم وجود هذا الاحتياط إلى ما قبل الشيخ الأنصاري. نعم، يمكن التشكيك في تحوّل الاحتياطات بهذا المعنى إلى ظاهرةٍ قبل هذا العصر.

الاحتياط في الفتوى عند الفقهاء المعاصرين

وحينما نصل إلى واقع البيان الفقهي في الرسائل العملية المعاصرة نجد هذا النوع من الاحتياط موجوداً بوضوحٍ، خصوصاً في كتاب العروة الوثقى، للسيد كاظم اليزدي(1337هـ)، وفي تعليقات الفقهاء الذين كتبوا آراءهم على حاشية هذا الكتاب الشهير، وكذلك في الرسائل العملية الكثيرة التي كُتبت بعده. إنّ ظاهرة الاحتياط عند السيّد اليزدي مثلاً بلغت في بياناته الفقهية إلى مستوىً (بحيث لتحفل بعبارة الأحوط، وأحياناً يتجاوز الأحوط إلى الأحوط منه ثانيةً، ممّا يفصح بوضوحٍ عن مدى تحفّظه حيال الحكم، إذا كان مصحوباً بعدم اليقين أو الظنّ، ويمكننا ملاحظة تعدّد «الأحوط» لديه في ممارسات متنوّعة)([49]).

على أنّنا نلحظ تفاوتاً في مستوى حضور الاحتياطات عند المراجع المعاصرين، وإنْ كان هذا التفاوت ليس كبيراً في ما بين أيدينا من رسائل عملية متداولة، سوى بعض الرسائل التي حاول أصحابها الابتعاد عن هذه الظاهرة بقدر إمكانهم([50]). ولعلّ أوضح محاولة هي ما نراه في كتاب (الفتاوى الواضحة)، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي لم يتضمّن سوى أقلّ من عشرة احتياطات وجوبية. نعم، يوجد في الكتاب احتياطات استحبابية ليست بالقليلة، حتّى أنّه رضوان الله عليه لم يأتِ على ذكر هذا المصطلح، ولم يُشِرْ إلى العبائر التي يتَّخذها للتعبير عنه في الموضع الذي عقده لتوضيح العبائر المتكرّرة في هذه الرسالة([51])، التي احتوت على أبواب العبادات بشكلٍ مفصّل، ما عدا باب الزكاة وباب الحجّ الذي عرض أحكامه بصورةٍ مختصرة.

محاولة إحصائية للاحتياطات في الرسائل العملية المعاصرة

وللوقوف على صورة أوّلية لمدى حضور هذه الاحتياطات عند المراجع المعاصرين، ولمستوى التفاوت بينها، نعرض في الجدول التالي، إحصاءً لعدد الاحتياطات الوجوبية والاستحبابية، في كتاب الصوم، من جملة من الرسائل العملية المراجع المعاصرين. مع الإلفات إلى أن الفروع والتفصيلات الفقهية متفاوتةٌ من رسالةٍ إلى أخرى.

مناشئ الاحتياط في الفتوى

مدخلٌ

من المنطقي جدّاً أن يسأل الواقف على هذه الظاهرة:

كيف ينشأ الاحتياط في الفتوى عند الفقيه؟ وما هي موارد الاحتياط؟

وفي استعراضنا للمناشئ والموارد التي يختار فيها الفقيه أن لا يبدي رأياً وفتوى، بل يحتاط احتياطاً وجوبياً أو استحبابياً، سنسير مع الفقيه في خطواته الاستدلالية، عبر محطّات ثلاث؛ واحدة منها ستكون قبل عملية الاستدلال، أو قبل تمامها؛ وأخرى أثناء جمع وملاحظة وتقييم الفقيه لأدلّة المسألة التي يسعى للوصول إلى حكمها؛ وثالثة بعد أن ينتهي من استدلالاته، وبعد وصوله لرأيٍ نهائي فيها. ونرى أنّ هذا التدرّج في الاستعراض سيقدِّم تصوّراً أدقّ لما نروم الوصول إليه في هذا البحث.

قبل استكمال عملية الاستدلال

قد يواجه الفقيه مسألة ًما، لكنّه لا يراجع الأدلّة المحتملة للوصول إلى الحكم فيها([52])؛ لضيق وقته، أو عدم توفّر المصادر لديه، أو لأيّ سببٍ آخر، أو أنّه يستقصي بعض الأدلّة فيجدها غير وافية بالإيصال إلى الحكم، ولا يستكمل البحث عن بقيّة الأدلّة المحتملة في المسألة([53]). وفي هذه الحالة بصورتَيْها يجد الفقيه نفسه غير قادر على الإفتاء وإبداء رأي جازم يطمئنّ إليه، فلا يفتي في المسألة، بل يلجأ بَدَل ذلك إلى الاحتياط.

داخل عملية الاستدلال

1ـ التوقّف في النصّ الدالّ سنداً أو دلالةً

أثناء عملية البحث الاستدلالي قد يلتقي الفقيه بدليلٍ نصّي، يكون من المحتمل احتواؤه على الحكم الشرعي للمسألة التي يبحث عنها، لكنّه حين يتأمّله يجد أنّ الاعتماد عليه يواجه بعض الصعوبات، مثل: أن يكون الدليل المحتمل رواية، فيها ضعف من ناحية السند، أو من ناحية المتن. وهنا لا يستطيع الفقيه أن يعتبرها دليلاً موصلاً إلى نتيجة معتمدة، وبالتالي لا يصل إلى رأيٍ وفتوى([54]).

مثال:

 ([المورد] لو نذر صوماً فعجز عنه، تصدّق عن كلّ يومٍ بمدّ من طعام على الأقوى، والأحوط مدّان.

[المنشأ] لخبر إسحاق بن عمّار: (يعطي مَنْ يصوم عنه في كلّ يوم مدّين). وسائل الشيعة، كتاب النذر والعهد، الباب 12، الحديث 1. وفي دلالته وسنده ضعف)([55]).

2ـ وجود احتمال مقابل في الاستظهار

وربما يجد الفقيه نصّاً من آيةٍ قرآنية كريمة أو رواية معصومية شريفة، ويفهم منه ما يمكن أن يستنتج منه حكماً، لكنّه إذا أمعن في النظر يرى أن احتمالاً آخر قد يفهم من النصّ، ويكون هذا الفهم موصلاً إلى نتيجةٍ مختلفة عمّا يعطيه الفهم الأول. وهذا ما يجعل الفقيه إمّا أن يعدل من الفتوى إلى الاحتياط الوجوبي، أو أن يضيف إلى الفتوى احتياطاً استحبابياً([56]).

وإذا أردنا أن نذكر بعض الاحتمالات التي تواجه الفقيه في تعامله مع النصوص الشرعية فبإمكاننا ذكر ثلاثة احتمالات متكرّرة في عمليات الاستدلال، هي:

أـ احتمال الانصراف

والانصراف ـ الذي يعني وجود علاقة بين اللفظ وبعض أفراده، بحيث تؤدّي هذه العلاقة إلى انسباق هذا الفرد إلى الذهن عند إطلاق اللفظ ـ له حالاتٌ متعدّدة؛ يكون في بعضها مسبّباً لظهور اللفظ في ذلك الفرد دون غيره؛ أو هو مع غيره بدرجة متساوية لا مرجّح بينهما؛ وفي حالات أخرى يكون مؤدياً إلى إجمال الدليل؛ لكنّه في حالات أخرى لا يزلزل الظهور الإطلاقي في الدليل([57]). وما نريده من الانصراف هنا هو ما لا يؤدّي إلى زلزلة الظهور، ولا إلى إجماله. إنّ الفقيه في هذه الحالة قد لا يولي هذا الانصراف المحتمل دَوْراً في الوصول إلى الفتوى والحكم الذي يستنبطه من الدليل، لكنّه يوليه اهتماماً في مقام الإفتاء، فيتنزَّل من الفتوى إلى الاحتياط الوجوبي، أو يردف الفتوى باحتياطٍ استحبابي([58]).

ب ـ احتمال الخصوصية

فقد يأتي الخطاب الشرعي بحكمٍ له موضوع، ويكون الموضوع محتفّاً ببعض الأوصاف والحيثيّات، والفقيه في هذا الفرض يكون أمام احتمالين؛ فإمّا أن يستظهر ويفهم دخالة هذه الأوصاف في الموضوع، بحيث تكون قيوداً يدور الحكم مدارها، وحينئذٍ لا يستطيع تعميم الحكم إلى الموضوع غير المتَّصف بها، وإمّا أن يستظهر عدم دخالة هذه الأوصاف، ويفهم بأنّ علّة الحكم ومداره هو صرف هذا الموضوع بدون تلك القيود، وحينئذٍ يستطيع تعدية الحكم من مورد النصّ إلى غيره، وهذا ما يصطلح عليه بإلغاء الخصوصية. وهو ليس بمعتبرٍ ولا مقبول ما لم يساعد عليه الظهور العرفي.

 لذلك فإنّ الفقيه إذا تردَّد في الاستظهار ولم يجزم بأحد الاحتمالين فلن يستطيع التعدية، بل يجعل الحكم دائراً مدار تلك الأوصاف المذكورة في الخطاب الدالّ([59]). لكنّ الفقيه في بعض الحالات وإنْ كان قد استظهر إلغاء الخصوصية، إلا أنّه يجد احتمالاً لعدم الإلغاء، وهو وإنْ كان في نظره غير ناهضٍ، ولا يؤيّده الظهور، لكنّه يجعله يتنزَّل إلى الاحتياط في مقام الإفتاء([60])، وهذا يجري أيضاً فيما إذا استظهر الخصوصيّة واحتمل ـ احتمالاً غير ناهضٍ ـ إلغاءها.

ج ـ احتمال الأولوية

يحدث أحياناً أن يقوم دليلٌ يثبت حكماً لموضوع معيّن، وهنا يلتزم المجتهد بالحدود العرفية لدلالة الدليل، ولا يتعدّى عنها دون مبرِّر عرفي من داخل الدليل أو من خارجه. ومن مبرِّرات التعدّي والتسرية أن توجد علاقة التزامية ـ يقبلها العرف حين الالتفات إليها ـ بين ثبوت الحكم لموضوع وثبوته لموضوعٍ آخر؛ وذلك بالأولوية القطعية، كما إذا ثبتت حرمة قول كلمة (أفٍّ) للوالدين؛ فإنّ هنا ملازمةً عرفية واضحة تقتضي حرمة ضربهما مثلاً، من باب الأولوية والفحوى. وهذا خاضعٌ لمعايير الفهم العُرْفي، ولا يمكن القبول بأيّ ملازمة مدَّعاة دون إيضاح مبرّرها.

هذا، والفقيه قد يلتفت إلى وجود دعوى أو احتمال للأولوية، يراد بها إثبات حكمٍ ثابت لموضوع وتسريته إلى موضوعٍ آخر، ولا يجد مبرِّراً مقبولاً لهذه الدعوى يجزم أو يطمئنّ به لكي يفتي بمؤدّاه، لكنّ هذا الاحتمال أو هذه الدعوى تجعله يركن إلى الاحتياط الاستحبابي، الذي يردفه بفتواه، أو يتنزّل عن الفتوى إلى الاحتياط الوجوبي([61]).

3ـ وجود دليل مقابل ضعيف

إذا قام دليلٌ لفظي يثبت حكماً لموضوع من الموضوعات، لكنْ وقفنا على دليلٍ يعارضه معارضةً بدوية، فإنّ الخطوة الأولى في التعامل مع هذين الدليلين هو محاولة التوفيق والجمع العُرْفي بينهما، بأن نستنتج من ضمّ أحدهما إلى الآخر معنىً منسجماً معهما كلَيْهما، وبهذا تزول تلك المعارضة البدوية. كما إذا أتى أحدهما مطلقاً، بينما جاء الآخر بقيود للحكم أو الموضوع، فإنّه يمكن الجمع بينهما أحياناً بتقييد الدليل الأوّل بالقيود المذكورة في الدليل الثاني، إلى غير ذلك من الجموع والتوفيقات العُرْفية. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أنّه لا يمكن لأيّ دليلٍ لفظي أن يعارض دليلاً آخر، بل لا بُدَّ من توفُّره على شرائط الحجّية، وإلاّ فسيكون الدليل الذي يقابله غير قادرٍ أصلاً على معارضته، حتّى نلجأ إلى محاولة الجمع والتوفيق بينه وبين الدليل المقابل.

ومن هنا قد يجد الفقيه دليلاً يدلّ على حكمٍ ما، لكنْ يجد في مقابله دليلاً آخر يؤدّي إلى حكمٍ مختلف عمّا وصل إليه. وهنا أيضاً ربما يكون الدليل المقابل إذا ضمّه إلى الدليل السابق يؤدّي إلى تقييده فَرَضاً، ويكون هذا الجمع مقبولاً عُرْفاً، لكنّ الدليل المقابل أو المقيِّد يكون ضعيفاً غير ناهضٍ للمعارضة أصلاً، وحينئذٍ يبقى الفقيه مع ما استنتجه من الدليل المعتبر، ولا يفتي بمقتضى الدليل الضعيف المقابل، فلا يفتي بإضافة هذا القيد، بل يبقى مع الإطلاق في الفرض المذكور. إلاّ أنّه مع ذلك قد يتنزَّل الفقيه في هذه الحالة إلى الاحتياط بمقتضى الدليل الضعيف([62])، فيحتاط بالتقييد، وبذلك يحرز العامل بالاحتياط امتثال الحكم الموجود في الواقع، على فرض اتّفاق مطابقة الدليل المقيّد الضعيف للواقع([63]).

مثالٌ:

[المورد] (لا بأس بتزويج المرأة الزانية غير ذات البعل‌ للزاني وغيره. والأحوط الأَوْلى أن يكون بعد استبراء رحمها بحيضةٍ من مائه أو ماء غيره إنْ لم تكن حاملاً، وأما الحامل فلا حاجة فيها إلى الاستبراء، بل يجوز تزويجها ووطؤها بلا فصلٍ)([64]).

[المنشأ] (منشأ الاحتياط وجود المقيّدات الضعيفة الواردة في المقام، مع إعراض المشهور عنها، في مقابل المطلقات)([65]).

4ـ دعوى الإجماع أو عدم الخلاف

الإجماع ـ الذي هو في مجمله عبارة عن اتّفاق العلماء على رأي فقهي ـ واحدٌ من أدلة الاستنباط التي يذكرها علماء أصول الفقه، وهم قد وضعوا شروطاً لتحقّق الإجماع، تابعة للوجوه التي قرَّبوا بها حجّيته. كما قسّموا الإجماع إلى: محصّل؛ ومنقول. يقوم المجتهد في المحصّل بنفسه بتتبُّع آراء العلماء في مسألةٍ معيّنة، ويقف على اتفاقهم فيها، بينما ينقل له هذا الاتّفاق مجتهدٌ آخر. وصرَّحوا بأنّ المحصّل حجّةٌ، بينما ذهب مشهور العلماء إلى عدم حجّية المنقول. وأغلب الإجماعات المذكورة في الكتب الفقهية هي منقولةٌ، فلا تكون لها حجّية، ولا يعتمد عليها في مقام الاستنباط؛ لعدم توفُّر شرائط الحجّية فيها([66]).

ورغم وضوح هذا؛ إلاّ أنّ بعض الفقهاء التزم بالاحتياط في الموارد التي ينقل الإجماع فيها كبار الأصحاب وأعاظم العلماء، وإنْ لم يذهب إلى الفتوى بمضمونه([67]). بل إنّنا نجد بعض الفقهاء يتحوَّل من الفتوى إلى الاحتياط الوجوبي أو الاستحبابي، بمجرّد دعوى وجود إجماع، وإنْ لم يكن ناقله من كبار الفقهاء المعروفين بتتبُّع الأقوال([68]).

مثالٌ:

([المورد] (من مستحبّات السجود) الجلوس مطمئنّاً بعد رفع الرأس من السجدة الثانية قبل أن يقوم، و هو المسمّى بجلسة الاستراحة، والأحوط لزوماً عدم تركها.

[المنشأ] ثمّ إنّ منشأ احتياط المصنّف& وجماعة من المحشِّين لــ «العروة الوثقى» في عدم ترك جلسة الاستراحة هو وجود القول بوجوبها، مع ملاحظة دعوى الإجماع من السيّد&، والأخبار المذكورة الدالّة بظاهرها على الوجوب، ولكنّ الإجماع غير ثابت، وادّعى جماعةٌ الشهرة على الاستحباب. ولا يترك الاحتياط بعدم تركها)([69]).

5ـ السيرة غير المحقَّقة

نستطيع استكشاف الحكم الشرعي من غير طريقٍ لفظي، ومن جملة هذه الأدلة الصامتة سيرتا العقلاء والمتشرِّعة. أما سيرة العقلاء ـ وهي تباني وتعارف العقلاء العملي على فعل شيء أو تركه ـ فإنّ دلالتها على الحكم الشرعي منوطةٌ بإحراز معاصرتها للمعصوم، وكونها بمرأىً منه، وبإمضائه وعدم ردعه عنها. وأما سيرة المتشرّعة ـ وهي تباني المؤمنين المتديّنين والمنطلقين في سلوكياتهم من توجيهات الشريعة المقدّسة على سلوك معيّن، لكنّ تبانيهم هذا لا يكون منطلقاً من سجيّتهم العقلائية ـ فإنّه لا يشترط عدم ردع الشارع عنها، بل لا معنى لاشتراط ذلك بعد فرض ابتنائها على أوامر الشارع نفسه، لكنّ شرط هذه السيرة هو إحراز وجودها ومعاصرتها للمعصوم أيضاً، حتّى نضمن عدم تكوّنها من أسباب أخرى، كالعادات الاجتماعية والتقاليد المتغيّرة. وما لم تتوفَّر هاتان السيرتان على هذه الشروط فلا يمكن للمجتهد أن يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية([70]). ولذلك فإنّ الفقيه قد يقف على سيرةٍ مدّعاة، وعندما يتأمَّلها يجدها غير متحقّقة، أو غير متوفّرة على الشرائط المعتبرة، لذلك لا يعتمد عليها في الإفتاء بمؤدّاها، لكنّها في نظره تكون كاشفة كشفاً احتمالياً عن الحكم الشرعي، وهذا ما يجعله يحتاط بما ينسجم مع الحكم المحتمل احتياطاً وجوبياً أو استحبابياً، حَسْب قوّة الاحتمال الناشئ. وهذا يجري في السيرة العقلائية([71])، وكذلك في السيرة المتشرِّعية([72]).

مثالٌ:

ويمكننا أن نعرض ماذكره السيد الخوئي في الاستدلال على أنّ الدخان من مفطرات الصوم كنموذجٍ للاحتياطات الناشئة من هذا المنشأ؛ حيث قال: (اللهمّ إلاّ أن يفرّق بينه و بين ما تقدّمه من البخار باستقرار سيرة المتشرّعة على التحرُّز عن الدخان من مثل: التنباك والترياك والتتن حال الصوم، بحيث أصبح البطلان به كالمرتكز في أذهانهم، بل قد يُدَّعى بلوغ تناوله من الاستبشاع حدّاً يكاد يُلحقه بمخالفة الضروري. ولكنّ التعويل على مثل هذه السيرة والارتكاز مشكلٌ جدّاً؛ لعدم إحراز الاتّصال بزمن المعصومين^، وجواز الاستناد إلى فتاوى السابقين، لو لم يكن محرز العدم، كما لا يخفى.

إذن لم يَبْقَ لدينا دليلٌ يعتمد عليه في الحكم بالمنع، بعد وضوح عدم صدق الأكل ولا الشرب عليه. وعليه، فمقتضى القاعدة هو الجواز، وإنْ كان الاحتياط بالاجتناب ممّا لا ينبغي تركه، رعايةً للسيرة المزبورة حَسْب ما عرفت، والله سبحانه أعلم)([73]).

6ـ وجود روايات متعارضة

الفقيه في عملية الاستنباط الفقهي يتعامل مع جملةٍ متنوّعة من الأدلة. لعلّنا أشرنا إلى بعضها في ثنايا الفقرات السابقة، ومن أهمّ مآخذ الأحكام هي الروايات الواردة عن الرسول وأهل بيته^. وكما هو واضحٌ فإنّ الاعتماد على هذه الروايات يقوم على ركنين أساسين، هما: الاعتبار والحجّية من جهة صدورها ونسبتها؛ والاعتبار والوضوح من جهة الدلالة. وما لم ترتفع الرواية إلى مستوى الاعتبار من هاتين الجهتين فإنّها لن تسهم في إيصال المجتهد إلى الحكم الشرعي في المسألة التي يبحث عنها. والتراث الروائي الذي وصل إلينا يتضمّن روايات كثيرة متفاوتة من حيث القوة والضعف في الصدور، ووضوح الدلالة وخفائها، خصوصاً عند مقارنة الروايات في دلالاتها.

وهذا هو أحد المواضع التي تتجلّى فيها أهميّة البحث الفقهي الاجتهادي، وتتركّز عندها صعوبة المهمّة التي يقوم بها الفقيه، فلعلّ مسألةً جزئية تأخذ من المجتهد جهداً مضاعفاً بسبب تعدُّد الروايات واختلافها في الدلالة. وهو في هذه المواضع يستخدم القواعد والضوابط الأصولية التي يقتنع بها في باب تعارض الأدلة، في مستوييه: البَدْوي غير المستقرّ، الذي يتعامل معه عبر ما يسمّى بالجمع العرفي؛ والمستقرّ الذي يتعامل فيه عبر ما يحدِّده من عوامل الترجيح، أو خياري التساقط والتخيير أو الترجيح، وهذا ما يبحث بالتفصيل في باب تعارض الأدلّة من علم أصول الفقه.

إنّ الفقيه في جهده الاستدلالي قد يواجه روايات متعدّدة ومتعارضة، لا يصل فيها إلى حلٍّ توفيقي، ولا إلى حلٍّ ترجيحي، فيجد أنّ بعضاً منها يدلّ على حكم لا يدلّ عليها بعضٌ آخر، وهو عندئذٍ لا يستطيع الإفتاء بمضمون بعضها دون بعض، فيختار عند ذلك أن يحتاط، بما يؤدّي إلى العمل بما يتوافق معها جميعاً، وبذلك يحرز عدم مخالفة أيٍّ منها على فرض كونها متوافقةً مع واقع الحكم الشرعي([74]). ورُبَما يختار الفقيه الاحتياط أيضاً حينما يواجه روايات متفاوتة أو متخالفة في دلالتها على الحكم الشرعي، وتكون جميعها بنظره تواجه إشكالات، بحيث لا يترجَّح عنده بعضها على بعضها الآخر([75]). وفي أحيان أخرى قد يرى الفقيه إمكانية الجمع بين هذه الروايات المتخالفة بَدْواً، أو إمكان ترجيح بعضها، لكنّه أيضاً يلجأ إلى الاحتياط؛ محاولة منه للعمل بما يتوافق مع الحكم الواقعي الذي يحتمله بالنظر إلى مجموع هذه الروايات التي أمامه([76]).

7ـ الشكّ في صدق العنوان وتحقّق الموضوع

الأحكام الشرعية في غالبيتها مجعولةٌ على نحو القضية الحقيقية، أي إنّ الحكم فيها ينصبّ على موضوعٍ مقدَّر الوجود، فكلّما وُجد الموضوع وُجد الحكم في مرتبته الفعلية. وهذا يعني وجود علاقة أشبه بالعليّة بين الحكم الفعلي وموضوعه، فالموضوع شبه علّة والحكم شبه معلول؛ لا يتحقّق الثاني إلاّ إذا تحقّق الأوّل. ولذلك فإنّ الفقيه يبحث عادةً عن الأحكام الكلية، بينما يكون التطبيق من وظيفة المكلّف، ولذلك أيضاً تجري البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية، باتّفاق العلماء، حتّى الأخباريين الذين ذهبوا إلى أصالة الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية.

نعم، قد يتصدّى الفقيه لتطبيق الحكم الشرعي على موضوعه، إذا التبست على المكلّفين بعض خصائص موضوع الحكم، كما إذا كان هناك عنوانٌ كلّي له مصاديق جزئية، فيطبّق الفقيه على هذا العنوان العامّ حكماً معيّناً، فيثبته له أو ينفيه عنه. وفي بعض الحالات يأتي الفقيه إلى هذا الموضوع العامّ ويكون لديه حكمٌ واضح، إلا أنّه يرى بعض الخصائص في موضوع ذلك الحكم، ويشكّ في احتواء هذا العنوان عليها، وبذلك يكون لديه شكٌّ في انطباق الحكم على العنوان، وفي فعلية الحكم. وهنا يمكن للفقيه أن يتمسّك بالبراءة، فينفي الحكم الإلزامي عن ذلك العنوان العام. لكنّ الفقيه في بعض الحالات يرتقي شكُّه إلى درجة يترك معها التمسّك بالبراءة، فيختار الاحتياط الوجوبي أو الاستحبابي، فيثبت الحكم التكليفي أو الوضعي على العنوان الذي يشكّ في كونه محقِّقاً لموضوع دليله. ورُبَما يكون أمام الفقيه حكمان محتملان تجاه هذا العنوان، أو يحتمل أن يكون العنوان محقّقاً لموضوع دليلين متقابلين، ويكون أحد الدليلين فيه خصوصية زائدة، فيختار الفقيه الاحتياط بما ينسجم مع كون العنوان موضوعاً لكلا الدليلين المتقابلين، بتقابل الإطلاق والتقييد، أو غيره من التقابلات غير المؤدّية إلى التعارض المستقرّ([77]).

مثالٌ:

([المورد] الأحوط ترك السجود على القنّب.

[المنشأ] إنّ القنّب ـ على ما فسّره بعض أهل اللغة ـ نبات يفتل من لحائه حبال وخيطان. والميز بين اللحاء والقشر واضحٌ، والضخيم منه يفتل حبلاً والرقيق خيطاً. ومنشأ الاحتياط هو ما في محكيّ «الذكرى» من تعارف لبسه في بعض البلاد، فمعه يحتمل اندراجه تحت المستثنى، وهو واضحٌ. فإن ثبت ما هو القنّب وما تعارف عمله منه لباساً أو غيره فلا كلام فيه؛ لوضوح المنع على تقدير تعارف اللبس، والجواز على تقدير عدمه. وإنّما الاحتياط لعدم العثور على شي‌ءٍ من ذلك ثبوتاً ونفياً)([78]).

ملاحظة: قد يكون هذا من الفتوى بالاحتياط؛ وذلك لأنّ وجوب الصلاة متيقّن، ومع الشك في كون القنّب مما يلبس، سيكون المكلف الذي يسجد عليه شاكّاً في تحقّق السجود الصحيح، وبالتالي سيكون بسجوده على القنّب غير محرز لأدائه الصلاة الواجبة، والشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وهذا يقتضي الاحتياط بترك السجود على القنّب.

8ـ الاحتياط لخصوصيةٍ في مورد المسألة

اهتمّت الشريعة الإسلامية اهتماماً خاصّاً ببعض المسائل المرتبطة بحقوق الناس وحرماتهم، مثل: ما يرتبط بالدماء والأعراض والأموال الكبيرة، فسَعَت لوضع القوانين الدقيقة والمشدّدة فيها. وتحقيقاً لمزيدٍ من العناية بهذه المجالات فإنّها أضافت توصيات عامّة إلى هذه القوانين، تقتضي مراعاة كمال الدقّة وشدّة الاحتياط في تطبيقها([79])، حتّى صار حسن الاحتياط فيها مشهوراً واضحاً، يستدلّ به الفقهاء في بحوثهم الاستدلالية([80]). ولذلك قد يختار الفقيه أن يحتاط احتياطاً وجوبياً أو استحبابياً، ويكون منشأ الاحتياط هو كون المورد فيه خصوصية تقتضي الاهتمام والاحتياط.

مثالٌ:

(والصحيح ما عليه مشهور المتأخّرين من أنّ عقد النكاح مشمولٌ للقاعدة العامة في العقود والإيقاعات، وسائر المعاملات، من جواز إنجازها بأيّ لفظ يدلّ على قصد إنشائه لغةً وعرفاً، ولا حاجة إلى التكرار، سواء كانت الصيغة المستعملة متعدّية بنفسها أو بأيّ حرف جرّ. فيكون التكرار مبنياً على الاحتياط الاستحبابي.

نعم، استعمال غير هذه المواد الثلاث: النكاح والتزويج والتمتّع قد يكون تركه مبنياً على الاحتياط الوجوبي، كقوله: أدخلتك في حبالتي أو في زوجيّتي أو قطعتُ معك المهر، أو جعلتُك زوجتي أو حليلتي، ونحو ذلك كثيرٌ؛ فإنّ ترك ذلك هو مقتضى الاحتياط في الفروج. فتأمَّلْ)([81]).

9ـ حسن الاحتياط

العقل والشرع يتّفقان على رجحان وحسن الاحتياط؛ لما فيه من الاهتمام والتحفّظ على أوامر الله عزَّ وجلَّ، وشكره على نعمه الكثيرة. وهذا ما قد يكون منشأً لكثير من الاحتياطات في الرسائل العملية، خصوصاً الاستحبابية منها([82]). وهذا أيضاً ما يجعل الفقيه يرجِّح الاحتياط لأدنى تردُّد أو لأقلّ وجهٍ من وجوه الاستدلال، بل هذا ما قد يجعل الفقيه يلجأ إلى الاحتياط؛ بسبب نظره إلى احتمالٍ من احتمالات الواقع الذي لم يصِلْ إليه في المسألة، حتّى لو لم يجد وجهاً استدلالياً محتملاً عليها([83]).

بعد اكتمال عملية الاستدلال

1ـ الخروج عن مخالفة الشهرة غير المعتبرة

قد يتوافق عددٌ من الفقهاء على رأيٍ فقهي، ويكون هذا العدد كبيراً، لكنّه دون مستوى الإجماع. هذا الاتفاق يحقِّق ما يصطلح عليه (شهرة فتوائية)، بشرط أن تكون الفتوى مورد الاتّفاق غير معلومة ولا محتملة المدرك. وقد وقع الاختلاف بين العلماء في حجّية هذه الشهرة، بين مَنْ قال بحجّيتها مطلقاً، ومَنْ قال بعدم حجّيتها كذلك، وبين مَنْ فصّل بين الشهرة بين العلماء المتقدّمين فهي حجّة؛ لكشفها عن الدليل الذي لم يصلنا، وبين الشهرة المتكوِّنة بين العلماء المتأخّرين فليست بحجّة([84]). لكنّ الرأي السائد والمعروف هو عدم حجّية الشهرة المتأخّرة، فلا تعتبر دليلاً من أدلّة استنباط الحكم الشرعي.

ورغم كون الشهرات المتأخّرة معتمدةً على مدارك اجتهادية معلومة عادة للفقيه، وكذلك بعض الشهرات المتقدّمة، إلاّ أنّ الفقهاء يتوقّفون عندها، ولا يتجاوزونها، ما لم تقم لديهم أدلّة قوية في مقابلها، خصوصاً إذا كانت فتوى المشهور موافقة للاحتياط([85]). ولعلّ من أسباب هذا هو احترام العلماء وإكبارهم، ومعرفة دقّتهم في البحث العلمي. ولذلك يلجأ الفقيه المرجع أحياناً إلى الاحتياط الوجوبي حينما يصل إلى فتوى ونتيجة فقهية واضحة الأدلّة عنده، لكنّها تخالف الشهرة الفتوائية، أو ما اشتهر بين الفقهاء، حتّى المتأخّرين منهم([86]). ورُبَما يذهب إلى الاحتياط الاستحبابي إنْ كانت الشهرة بدرجةٍ غير كبيرة([87]).

2ـ الابتعاد عن مخالفة القول المقابل

من مناشئ الاحتياطات في الرسائل العملية، سيَّما الاستحبابية منها، هو أن يوجد مخالفٌ من الفقهاء، سواء المتقدّمين أو المتأخّرين. فإذا وصل الفقيه إلى نتيجةٍ نهائية في عملية الاستدلال، لكنْ وجد مخالفاً لها، فإنّه يشير إلى طريقة الاحتياط، الذي يحرز به امتثال الواقع على فرض كونه موافقاً لذلك القول المخالف، إلى جانب الفتوى التي يبديها لمقلِّديه([88]). بل قد يحتاط بعض الفقهاء إذا وجدوا قولاً لازمه ومؤدّاه مخالفٌ للنتيجة الاجتهادية التي يصلون إليها([89]).

مثالٌ:

([المورد] (زكاة الفطرة ـ فصل) في جنسها وقدرها والضابط في الجنس القوت الغالب لغالب الناس، وهو الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والأرز، والأقط، واللبن، والذرة، وغيرها. والأحوط الاقتصار على الأربعة الأولى، وإنْ كان الأقوى ما ذكرناه.

 [المنشأ] منشأ الاحتياط المذكور عند المصنف& إنما هو وجود القائل بذلك)([90]).

3ـ الخوف من تأدية الفتوى إلى لوازم سلبية

الفقيه في بيانه للنتائج التي يصل إليها من خلال الجهد الاستدلالي الذي يقوم به يقدّم هذه النتائج لمقلِّديه، من أجل عملهم بها ومطابقة أفعالهم معها. وهو أيضاً يعتبر ناطقاً ومبيّناً لصورة الفقه الإسلامي في نظر الآخرين. وهذا يعني أن للفتوى دوراً في توجيه سلوكيات المكلَّفين الشرعية، وأن للفقيه دوراً في بيان الدين وتصوُّره. ولذا فإنّ الفقيه يلحظ في إبدائه لآرائه ما قد يؤدّي إليه إعلان هذه الفتوى أو تلك من النظرة إلى الدين من جهةٍ، وما يسبِّبه التزام مقلِّديه بها من آثار عملية أو حتّى فكرية من جهةٍ أخرى؛ إذ قد تسهم الفتاوى أو البيان الفقهي إلى تكوّن قناعات أو روحيّات خاصّة، بعضها قد لا يكون مطلوباً أو متوافقاً مع بعض الأغراض التي ترجِّحها الشريعة.

فالفتوى بإباحة بعض الأفعال قد تؤدّي بنظر الفقيه إلى نزعةٍ تساهلية عند المكلَّفين، أو رُبَما إلى نوعٍ من العسر الذي يمكن تجنُّبه إذا رجعوا إلى فقيهٍ آخر يفتي بخلاف هذه الفتوى([91]). كما أن التصريح ببعض الآراء الفقهية المخالفة لبعض الأوضاع الاجتماعية أو الفكرية أو غيرها قد يسبِّب لوازم مضرّةً بالفقيه، أو تشويهاً لصورة الشريعة في أذهان الناس؛ لعدم توافقها مع بعض القناعات السائدة مثلاً، فيضطرّ الفقيه المرجع أو يرجِّح اتّخاذ جانب التقيّة، وعدم التصريح برأيه العلمي([92]). هذه اللوازم أو غيرها تجعل الفقيه يمتنع عن بيان رأيه الذي وصل إليه، فيلجأ إلى الاحتياط([93])، الذي يضمن به مطابقة أفعال مقلِّديه للحكم الذي وصل إليه وللواقع المحتمل في المسألة التي احتاط فيها.

عدم ظهور وجه الاحتياط!

هذه كانت جولةٌ تتبّعنا فيها موارد الاحتياطات الوجوبية والاستحبابية، ونظرنا إلى التعليقات والشروح الاستدلالية عليها، فوقفنا عند جملةٍ من المناشئ التي احتاط بسببها الفقهاء في هذه الموارد. وربما توجد مناشئ أخرى كان نظر الفقهاء إليها في احتياطاتهم المتكثِّرة، لكنّنا لم نوفَّق للوقوف عليها. وممّا ألفت انتباهي في جولة البحث هذه هو أنّ بعض المعلّقين أو الشارحين كانوا يشيرون إلى عدم ظهور الوجه والمنشأ الذي اختار الفقيه بسببه الاحتياط([94]). ولعلّ هذا يشير إلى أن بعض الاحتياطات تكون ناشئةً من أسباب خارج عملية الاستدلال، وهذا ما نحتمل أن يكون راجعاً للمنشأين الأخيرين اللذين ذكرناهما.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من المملكة العربيّة السعوديّة.

([1]) الزبيدي، تاج العروس 10: 225.

([2]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 2: 120.

([3]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 474 (حرف الفاء).

([4]) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط: 673.

([5]) الزبيدي، تاج العروس 20: 38.

([6]) مركز اطلاعات ومدارك إسلامي، فرهنگ نامه أصول فقه: 600، فتوا.

([7]) الشيخ محمد صنقور، المعجم الأصولي 1: 74.

([8]) ولا يفوتنا أن ننوّه إلى أنّنا بعد التتبّع في كتب المعاجم الاصطلاحية وفي الكتب الاستدلالية لم نعثر على تعريف لهذا الاصطلاح، سوى ما نقلناه. نعم، تمّت الإشارة إلى قسمَيْه في الرسائل العملية المتأخّرة.

([9]) موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^ 6: 184.

([10]) اليزدي، العروة الوثقى (مع تعليقات عدّة من الفقهاء): 26.

([11]) محمد رضا رجب نجاد، احتياط در ترك احتياط: 14.

([12]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 23، مسألة 64.

([13]) لاحِظْ: الشيخ علي الكربابادي، مع الفقيه في رسالته العملية: 105 ـ 106.

([14]) المصدر السابق: 108.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) الخميني، تحرير الوسيلة 1: 8، مسألة 34.

([17]) المصدر السابق 1: 542، مسألة 12.

([18]) السيستاني، المسائل المنتخبة: 56.

([19]) المصدر السابق: 310.

([20]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 596، فصل في الاستحاضة، مسألة 12.

([21]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 53، مسألة 64.

([22]) الكربابادي، مع الفقيه في رسالته العملية: 217.

([23]) السيد محمود الهاشمي، منهاج الصالحين: 19، مسألة 31.

([24]) الشيخ إسحاق الفيّاض، منهاج الصالحين 1: 21، مسألة 33.

([25]) بلغ عددهم أكثر من أربعين فقيهاً، حسب بعض الكتب التي جمعت التعليقات على العروة الوثقى، رغم أنّها لم تشمل كثيراً منها.

([26]) الشيخ عبد الهادي الفضلي، دروس في فقه الإمامية 1: 200.

([27]) البروجردي، الفقه الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر (تقرير: الشيخ حسين علي منتظري): 20.

([28]) الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 1: 2.

([29]) الفضلي، دروس في فقه الإمامية: 204.

([30]) أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه: 250.

([31]) الطوسي، النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 377.

([32]) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 13.

([33]) المصدر السابق 1: 8.

([34]) المصدر السابق 2: 39.

([35]) العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية 1: 587، مسألة 2031.

([36]) العلاّمة الحلّي، إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان 2: 233.

([37]) الشهيد الأوّل، غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 55 (المقدّمة)، تحقيق: رضا مختاري.

([38]) ابن إدريس الحلّي، أجوبة رسائل ومسائل في مختلف فنون المعرفة: 327؛ ابن البرّاج، جواهر الفقه: 22.

([39]) السيد المرتضى، جمل العلم والعمل: 125.

([40]) وإنْ كان قد اتّضح ممّا تقدّم عدم دقّة هذا الكلام بإطلاقه وعموميّته.

([41]) الطوسي، الخلاف 2، 355.

([42]) ابن إدريس الحلّي، أجوبة مسائل ورسائل في مختلف فنون المعرفة: 61.

([43]) المولى أحمد النراقي، مستند الشيعة 7: 14.

([44]) الشيخ محمد إبراهيم جناتي، تاريخ تحولات وبيان كيفيت فقه: 305.

([45]) المصدر السابق: 73.

([46]) الأنصاري، صراط النجاة (محشّى): 15.

([47]) المصدر السابق: 32.

([48]) لاحِظْ مثلاً: المصدر السابق: 46، 54، 59، 63، 66، 69، 70، وغيرها.

([49]) مقدّمة الدكتور محمد البستاني على كتاب العروة الوثقى والتعليقات عليها 1: 218.

([50]) تمّت الإشارة في كتاب (احتياط در ترك احتياط) إلى أن الشيخ علي نجفي الأردبيلي حاول الابتعاد عن هذه الاحتياطات في كتابه (ذخيرة المعاد)، لكنّني بعد المحاولة والبحث لم أصِلْ إلى هذا الكتاب.

([51]) محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة وفقاً لمذهب أهل البيت^: 93.

([52]) الشيخ رضا أستادي، ظاهرة الاحتياط في التراث الفقهي، مجلة نصوص معاصرة، العدد 4: 209.

([53]) السيد محمد رضا السيستاني، بحوث فقهية: 413.

([54]) لاحِظْ: السيد تقي القمّي، مصباح الناسك في شرح المناسك 2: 339.

([55]) الشيخ علي المشکيني، التعليقة الاستدلالية على تحرير الوسيلة 3: 28.

([56]) لاحِظْ: السيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي، بغية الهداة في شرح وسيلة النجاة 1: 548؛ الشيخ مرتضى الحائري، شرح العروة الوثقى 4: 424.

([57]) الشيخ محمد صنقور، المعجم الأصولي: 377 وما بعدها.

([58]) لاحِظْ: الميرزا محمد تقي الآملي، مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 7: 163.

([59]) صنقور، المعجم الأصولي 1: 578.

([60]) لاحِظْ: موسوعة الإمام الخوئي 21: 418.

([61]) لاحِظْ: موسوعة الإمام الخوئي 21: 372.

([62]) لاحِظْ: السيد موسى شبيري الزنجاني، كتاب نكاح 5: 1477.

([63]) لاحِظْ أيضاً: السيد مصطفى حسينيان، بحوث فقهية في المسائل المنتخبة 1: 464.

([64]) اليزدي، العروة الوثقى 5: 532.

([65]) الشيخ ضياء العراقي، تعليقة استدلالية على العروة الوثقى: 304.

([66]) الشيخ جعفر السبحاني، الوسيط في أصول الفقه 2: 57.

([67]) البهسودي، مصباح الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 2: 141.

([68]) لاحِظْ: الخوئي، مباني تكملة المنهاج 2: 157.

([69]) الشيخ مرتضى بني فضل، مدارك تحرير الوسيلة ـ الصلاة 1: 555.

([70]) المظفّر، أصول الفقه 3: 139 وما بعدها، الباب السابع، مسألة 2.

([71]) لاحِظْ: المشكيني، التعليقة الاستدلالية على تحرير الوسيلة 1: 22.

([72]) لاحِظْ: القمّي، مباني منهاج الصالحين 1: 345.

([73]) موسوعة الإمام الخوئي 21، 159.

([74]) لاحِظْ: الشيخ حسين الحلّي، دليل العروة الوثقى 2: 185.

([75]) السيد محمد رضا السيستاني، بحوث فقهية: 414.

([76]) لاحِظْ: السيد علي السيد شبّر، العمل الأبقى في شرح العروة الوثقى 1: 396.

([77]) لاحِظْ: السيد محمد الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى 3: 236.

([78]) المحقّق الداماد، کتاب الصلاة 3: 108.

([79]) الملاّ حبيب الله شريف الكاشاني، تسهيل المسالك إلى المدارك: 21.

([80]) لاحِظْ على سبيل المثال: المقدّس أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 1: 144.

([81]) السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه 6: 199.

([82]) لاحِظْ: المشكيني، التعليقة الاستدلالية على تحرير الوسيلة 1: 22.

([83]) لاحِظْ: الميرزا باقر الزنجاني، رسالة في فروع العلم الإجمالي: 198.

([84]) قواعد أصول الفقه على مذهب الإمامية: 373، إعداد مجمع فقه أهل البيت^.

([85]) المظفّر، أصول الفقه 3: 137.

([86]) موسوعة الفقه الإسلامي 6: 184.

([87]) لاحِظْ: موسوعة الإمام الخوئي 21: 306؛ القمّي، مباني منهاج الصالحين 1: 545.

([88]) لاحِظْ: السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذّب الأحكام 2: 483؛ الميرزا جواد التبريزي، تنقيح مباني العروة ـ الصوم 3: 31.

([89]) المحقّق الداماد، كتاب الصلاة 3: 108.

([90]) الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى ـ كتاب الزكاة ‌3: 269.

([91]) السيد محمد رضا السيستاني، بحوث فقهية: 413.

([92]) استفتاء خطّي، للشيخ گرامي قمّي، برقم 165/94، وتاريخ 6/9/1394هـ.ش.

([93]) الشيخ حيدر حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 140 (الهامش).

([94]) لاحِظْ: القمّي، مباني منهاج الصالحين 1: 122؛ الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى ـ كتاب الزكاة 3: 76.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً