أحدث المقالات

قرآنيا هناك كثير من المواقف والايات الحاكية عن سِيَر التاريخ تُظهر لنا نظرية التحدي والمواجهة ، وتؤسس لها تأسيسات منهجية ثابتة المعايير والمبادئ ومتغيرة الوسائل والآليات في تحقيق نفس النتائج.

ولعل وقفة بسيطة مع الأدوات التي جُهّزَ بها الإنسان تجعلنا ندرك عظمة الخالق وجلالة خلقه ، فأن يتزود الإنسان بحرية فطرية واختيار وإرادة وعزم وعقل توضع فيه بالقوة وبشكل متساوي بين كل البشر ، فهو حجة باطنية علينا ، كون كل هذه الأدوات نحتاجها واقعا في التحديات التي تواجهنا في سيرنا من الدنيا إلى الآخرة بل في عمارتنا للأرض وسعينا في تحقيق العدالة النفسية لإرساء العدالة الاجتماعية والتي جوهرها التوحيد وكنهها العبودية فقط لله .

فمثلا في معارك النبي ص كان مشروع النبي ص التوحيدي يشكل تحديا لمجتمع المشركين الذين استخدموا أدواتهم التي زودوا بها وهي الإرادة والعزيمة والعقل والاختيار والحرية في مسار مضاد لما خلقت له بالقوة ، فكان إخراجها للفعل في مواجهة ما اعتبروه تحديا نتيجة تعصبهم وعنادهم وجحودهم للحق هو إخراج خاطيء ترتبت عليه نتائج خاطئة وكارثية على وجودهم الإنساني . بينما في المقابل كان يواجه بسط المشروع النبوي تحديا هو المشركون ولذلك استخدم أيضا النبي ص ومن آمن معه كل أدواتهم التي أعطاها لهم الله في سبيل مواجهة هذا التحدي ، لكنه كان منهجا للمواجهة في طول إرادة المانح والخالق فكان التفاعل التبادلي بين الخالق ونبيه محققا للأهداف الرسالية العظمى.

وما أريد قوله أن الظالم والمظلوم وأهل الحق وأهل الباطل كلهم يمتلكون بالقوة نفس أدوات مواجهة التحديات ، لكنهم يختلفون في زاوية التشخيص لتلك التحديات ومن ثم زاوية إخراج ما تم إيداعه بالقوة إلى الفعل ، كون تلك الأدوات تتبع التشخيص وتخضع لأفكار العقل التي تحرك بالتالي عواطفها وحواسها وأعضاءها.

وعل في نفس جبهة الحق ذاتها يصبح هناك اختلاف في توجيه أدوات مواجهة التحديات نتيجة أيضا اختلاف في فهم هذه التحديات ، ورغم أن جبهة الحق يفترض أن تتشعب فيها السبل كي تصب كلها في صراط واحد وجبهة واحدة ، ويكون اختلاف العقول والأفكار هو نقطة قوة وكمال وتكامل لأجل تقوية هذه الجبهة في وجه جبهة الباطل ، إلا أن الحقيقة هو أن ما يحدث غالبا داخل جبهة الحق هو تحويل مسارات اختلاف العقول في فهمها للتحديات إلى بذور تبذر في تربة هذه الجبهة لتثمر خلافات تشتتت الارادات والعزم وتوجه أدوات مواجهة التحديات توجيهات تضرب الجبهة ولا توحدها، ليصل الأمر أن يتحول كثر في داخل جبهة الحق إلى مستبدين قادرين على خفض سقف الحرية إلى حد تنساق فيها إرادات أتباعهم إنسياقا تعطل فيه العقول باستخدام آلة الدين ، وتوجه فيه الإرادات باتجاه ظاهره الله وحقيقته الأنا التي تحولت لفرعون لكن بلباس يشبه لباس جبهة الحق .

لذلك كانت المرجعية القرآنية في رسم منهج ثابت في آليات المواجهة من جهة وان اختلفت اشكالها باختلاف الزمان والمكان ، وفي معالم تشخيص التحديات بكلياتها وان اختلفت أشكالها زمكانيا ، ففرعون  إضافة لكونه واقع قصصي وحدث تاريخي إلا أنه يرمز لحقيقة الاستبداد ومواصفاته ، والتي يمكن أن تنطبق على الذات والأسرة والمجتمع والعالم والحكام والأنظمة وهكذا ، فهي تعطي قصة بمعايير ثابته لكن بتمظهرات مختلفة .

وطبيعة التحديات التي واجهت تلك المجتمعات مع اختلاف أزمنتها إلا أنها عكست تحديات واحدة في كلياتها مختلفة في مصاديقها ، فجميع أطراف جبهة الحق الحقيقيين كانت تحدياتهم واحدة في دعوتهم للحق ، وكانت آليات مواجهتهم متشابهة.

وعبر التاريخ كان المنهج كما هو في مواجهة الصالحين ولكن باشكال مختلفة وشخوص متغيرة ، فكل الأنبياء واجههم ورفضهم المستبدون و المترفون ومن تلبس بلباس القداسة والملأ وهددوا باستقرارهم وسلب حياتهم وتشريدهم وقتلهم وكل أنواع العنف التي تحاول إجبارهم على التراجع ، إلا أن كل من في جبهة الحق من الأنبياء والمخلصين كانت آليات مواجهتهم ثابتة المنهج متغيرة الأشكال وفق الزمان والمكان .

إلا أنهم جميعا رفضوا التهديد واستمروا في الدعوة إلى الحق وكانت آليات رفضهم واستمرارهم تختلف وفق اختلاف تشخيص الواقع ومعطياته لتتناسب الآليات مع ذلك الواقع لتحقق نفس الهدف .

واليوم نعيش نحن تحديات كثيرة يشبه بعضها تلك التحديات وبعضها في لبه هو لا يختلف عن التحديات التاريخية والقرآنية لكن في ظاهره يختلف لاختلاف الزمان والمكان ،

ومواجهتها والياتها أيضا تختلف نسبيا من شعب إلى شعب ومن جماعة إلى جماعة ومن منطقة إلى منطقة ومن حزب إلى حزب.

لكن المفارقة اليوم أن داخل الجسد الإسلامي وداخل الجسد الطائفي والمذهبي وفي داخل جسد المذهب وهو الداخل الحزبي هناك أيضا تحديات وآليات مواجهة وهناك أيضا جبهة حق وجبهة باطل ، والسبب هو أن هناك من يمارس ممارسات أهل الباطل تحت فهم شرعي خاطيء وملتبس فيتحول إلى فرعون دون أن يلتفت وتصبح تشخيصاته للحق والباطل معيارها ذاتي حزبي ، ومن ثم آليات مواجهته لا تختلف كثيرا عن آليات مواجهة أهل الباطل إلا أنها فقط ألبست ثوبا شرعيا .

لكن واقع الأمر أنها باطلة وستؤول في كينونتها إلى الانحدار والتلاشي والاندثار ، حتى لو كان ظاهرها ديني ، إلا أنها استبطنت باطلا وبآليات أهل الباطل لتصبح في عرض إرادة الله لا في طولها لتستحق  الفشل .

وكم نعيش هذه النماذج في أنفسنا وضمن أسرنا وفي نطاقنا المتدين لدرجة أن كثرة هذه الممارسات تحولت إلى حق ألبس ثوب فتوى شرعنتها وتحولت لمسلمات دينية في عقل الأتباع وتنمطت عقولهم على ذلك ،  بالتالي سلبوا إرادة المواجهة ، وكرسوا الاستسلام أمام هذا التحدي الذي ظاهره ديني وواقعه لاديني .

إن القرآن هو سفينة النجاة فلا يمكن بوجوده أن نعيش هذه الفوضى باسم الدين ، فالمنهج القرآني واضح كوضوح الشمس ، ونظرية التحديات والمواجهة تتجلى فيه تجليا واضحا كمنهجا ثابتا باختلاف أشكاله وانتظام آلياته ضمن مبدأ المنهج وغايته ،  لتكون آليات تتناسب مع المبدأ والغايات بل تكون سببا في تحقيق أسمى الغايات التي كلها في طول الله لا في عرضه.

وما نحتاجه فقط قدرة على التشخيص السليم وإنصافا يهدينا للواقع ويخلصنا من كل العصبيات بما فيها عصبية الأنا للذات .

وطالما حديثنا عن التحديات وآليات المواجهة ، يجرني الحديث إلى تجربة إنسانية لامست شغاف القلب والعقل حدثت في منطقة الإحساء ، وأخرى في منطقة العوامية .

كلنا ندرك أن الاستبداد هو نوع من أنواع الربوبية البشرية يستبطن شركا خفيا ، كونه يستعبد الناس لإرادة المستبد الذي يبسط يده على العقول ليصنع وعيها كما يريد ، لذلك هو دائما ما يحاول خلق تحديات جديدة يحاول من خلالها جر الناس لمعارك وهمية واصطناع أحداث تشغلهم عن التحدي الحقيقي فيستغل سبل وآليات مواجهتهم ليجرها كي تنصرف عن مواجهة تلك التحديات الحقيقية إلى تحديات وهمية تستنزف طاقتهم العقلية وتوجه إراداتهم لما هو في صالح المستبد وفي عرض المشروع الالهي.

فهناك في الاحساء تعيش النساء تحديات كبيرة جدا منها تحديات العادات والتقاليد التي تفرض عليهم قيودا وأعرافا اجتماعية كثيرة تحد من حريتهم و حركتهم ،إضافة لقيود الدولة والتي أهمها على الاطلاق منعهم من قيادة السيارة والتنقل بها بل منعهم من التنقل دون وجود محرم ، وبالتالي توجيه حراك المرأة إلى دائرة ضيقة وتعمق تهميشها وتغييب وعيها العقلي وتضيق من نشاطها وقدرتها الاجتماعية في مسار الاصلاح والتغيير ، كون المرأة ركن مهم جدا في ذلك بل أثبتت التجربة التاريخية والبشرية أن الركن الأكثر فاعلية أيضا .

فبالرغم من كل هذه التحديات المعيقة لأي نشاط توعوي أو تربوي إلا أن آليات مواجهة التحدي من قبل ثلة ونخبة من النساء كانت واقعا مثيرة للدهشة كونها تتشابه كثيرا مع المنهج القرآني في مواهجة التحديات ونمط الاليات المتناسبة مع طبيعة التحديات ، فبالرغم من قيود الأعراف وقيود الوجاهات وقيود السلطة وكثرة الممنوعات لحساب المباحات ، إلا أن هذه الثلة وبإرادتها الصلبة وعزيمتها الالهية كون الهدف إلهي استطاعت أن تستمر في مسيرتها العلمية والتربوية وأن تؤسس قاعدة علمية رصينة قادرة على التحدي والنهوض دوما بالمجتمع والانتشار في داخله ، لكن ما يمنعها من البروز كنموذج نسائي كما في البحرين واليمن ولبنان وغيرها من الدول هو حائط الأعراف والسلطة الأبوية للوجاهات وحائط الفتاوى التي يغلب عليها طابع الفقه الفردي من جهة ويتبع في كنهه مدرسة تقليدية في فقه المرأة .

لذلك كل هذه الجهود الجبارة والمهمة والنموذجية من قبل هذه النخبة النسوية علنيا وعملانيا هي سجينة جغرافيا معينة تحاول كسر حدودها لكن أيضا المحاولات لا تعدو أنها محاولات داخلية جغرافيا لكنها مناطقيا تتوسع .

فمحاولات المستبد من جهة التي تحاول جر المجتمع هناك لمعارك وتحديات وهمية لإشغالهم ولتوظيف أدواتهم في مواجهات فرعية تستنزفهم وتشغلهم عن ساحات المواجهة الحقيقية فتصنع لهم أحداث تشغلهم بها عن الحدث الحقيقي ، لكن هذه النخبة أظهرت وعيا مكنها من عدم الانفعال مع الحدث الذي رسمه الآخرون ، وعدم الانجرار له ، بل الثبات رغم جراحهم على الحدث الحقيقي بل كانوا غالبا ما يصنعون هم الحدث ويكملوا مسيرة مشروعهم في وعي المجتمع والنهوض به من تخديرات السلطة المستبدة وأحداثها المصطنعة ، وتوجيه كل أدواتهم وآليات مواجهتهم نحو التحديات الحقيقية .

فهنا تحدياتهم ( النخبة النسوية في الإحساء) تكمن في استبداد السلطة ومكرها وفي بعض الوجهاء وبعض العلماء وفي أعراف المجتمع وعاداته ، وفي فهم الدين وحد حركتهم سواء من الدولة ذاتها من خلال ما شرعنته من قوانين حدت من حراكهم أو من خلال وجهاء المجتمع وعلمائه وما يحملوه من ثقل في التأثير على قرار المجتمع وخياراته الذين يواجهون أيضا حراكهم التوعوي بطريقة ندية ضدية تحولهم لنخبة منبوذة اجتماعيا وفكريا .

لكنهم إنصافا رغم ذلك استطاعوا مواجهة هذه التحديات بجهد وكدح وإصرار في تحقيق مشروعهم وأهدافهم وفي التوسع به رغم كل محاولات تحجيمه ، لكن نجاحهم كما ذكرت نجاحا جغرافيا محدد يحتاج أن يتجاوز حدود الجغرافيا ليقدم نموذجا،  خاصة أنهم بأصالتهم ورصانتهم العلمية والمنهجية قادرون على الانتشار والنمذجة.

أما في العوامية فالتحديات مختلفة ، كون المجتمع هناك في أغلبه صعب الانكسار أمام تحديات السلطة ، لكنه ينقصه الوعي والمنهج والقيادة ، وما أعنيه بالوعي هنا ، التشخيص السليم للتحديات وتوجيه آليات المواجهة بالاتجاه الصحيح لتحقق الأهداف المستحقة .

كون المجتمع هناك غالبا مدرك للحدث ويحاول أن لا تجره السلطة لمعارك وهمية وأن لا تصنع له حدثا يبعده عن الحدث الحقيقي ، لكن تكمن المشكلة في تشخيص التحدي وفي توجيه آليات المواجهة المناسبة.

خاصة مع نجاح السلطة في تشويه سمعة المنطقة وعزلها عن محيطها الاجتماعي لكنها واقعا فشلت في كسر عزيمة المجتمع العوامي وإجباره على السكوت أو الرضوخ.

وما يحتاجه اليوم مجتمع العوامية هو العلم والنمو المعرفي وامتلاك استراتيجيات واضحة في الاهداف والآليات ، والقدرة على الانتشار اجتماعيا لكسر العزلة من خلال اثبات خلاف ما تدعيه السلطة من خلال السلوك الاجتماعي والوعي المعرفي القادر على كسر حاجز الصمت وتحويل نموذج صمودهم وعزتهم وقوة شكيمتهم إلى نموذج مناطقي ، وهو ما حاولت السلطة إسقاطه في مهده من خلال تشويه صورة العوامية في محيطها الاجتماعي الحاضن لها ، ليلفظها المحيط وتدخل في عزلة حقيقية ، بات الخروج منها يحتاج من أهلها حركة اصلاحية داخلية واستراتيجية قادرة على إعادة بناء جسور الثقة بينها وبين محيطها بزيارات لعقلائها توضح الصورة والحقيقة وتزيل اللبس للنخب ، وبأنشطة ثقافية وفكرية وعلمية وورش عمل يشترك بها المحيط الاجتماعي للعوامية سواء داخل العوامية ، أو خارجها بحيث يذهب العواميون بأنفسهم بعمل أنشطة بالتشارك مع القرى المجاورة تثبت عكس ما رسمته السلطة في ذهنية الناس لتعيد اندماج العوامية في محيطها .

فعلى طول الخط الزمني البشري كانت هناك تحديات مختلفة وكانت هناك آليات للمواجهة تختلف باختلاف التحديات ويختلف تشخيص التحدي باختلاف الانتماءات ، فهناك انتماء لجبهة الحق وآخر للباطل يخلق تحديات طرفانية تختلف آليات مواجهتها لكل طرف ويكون النصر حليف جبهة الحق ، وهناك تحديات داخل جبهة الحق ذاتها لاختلاف المراتب الوجودية وبالتالي اختلاف مستويات الادراك ، وهو ما يخلق تحديات مختلفة ويفرض آليات مواجهة مختلفة .

لكن الأهم هو أن التحديات في داخل جبهة الحق قد يستخدم فيها البعض أدوات الباطل في المواجهة وغاياته بل يمارس ممارساته مذيلا لها بفتاوى شرعية أو أعراف اجتماعية أو وجاهة سلطوية تفرض ذاتها بنفوذها ، لذلك السلاح الأنجع هو الوعي المعرفي وامتلاك القدرة على التشخيص السليم وعدم الانجرار لمعارك وهمية يفرضها الآخرون لنكون نحن وقودها ونحترق بعد ذلك بنارها.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً