أحدث المقالات

الشيخ إسماعيل إسماعيلي(*)

ترجمة: صالح البدراوي

 

مقدّمة ــــــ

الحديث عن إصلاح بنية مدارس العلوم الدينيّة (الحوزات الدينيّة) ليس حديثاً جديداً؛ فقد استحوذت فكرة إحداث التغيير في الحوزات الدينيّة على أذهان وأفكار المصلحين والحريصين في الحوزات العلميّة، وأصبحت شغلهم الشاغل منذ أمد بعيد. ولم تدَعْ التحولات الاجتماعيّة والسياسيّة المتسارعة في أوروبا، وتنامي الأفكار الجديدة في المجتمعات الإسلاميّة تبعاً لذلك، والانطلاقة السريعة للعلوم والصناعات في القرون الأخيرة، لم تدَعْ أدنى مجالٍ للشكّ في أنّ الحوزات العلميّة، بكلّ ما تحمله من قِدَم وخلفية علميّة وثقافيّة، وما تمتلكه من مكانة بارزة في المجتمعات الإسلاميّة، لو كانت تتوفَّر على تنظيم دقيق وهيكليّة كفوءة وفاعلة لأصبح بإمكانها أن تلعب أدواراً أهمّ بكثير ممّا لعبته، وتحقّق نتائج وإنجازات أبعد وأعمق ممّا حقَّقته حتّى الآن.

أضِفْ إلى ذلك فالرسالة التي يحملها رجال الحوزات العلميّة في فهم الدين بشكل عميق، وإيصال أحكام الله تعالى إلى الناس، والعمل على إصلاح المجتمع وتهذيبه، وتمكين الدين الإلهيّ من أداء دوره في كلّ زمان، تستوجب أن تتماشى الحوزات العلميّة مع الزمن وأن تتوفَّر على برامج ومؤسَّسات تمكِّنها من إعداد الطاقات والكفاءات الملتزمة الفاضلة، والمجتهدين والباحثين والمحقِّقين الأكفاء لهذه المهمّة.

ومن الواضح أن الحوزات العلميّة، بتركيبتها القديمة، وببرامجها، وأساليبها الدراسيّة والتبليغيّة البسيطة، لن تتمكَّن من القيام بأداء هذه الرسالة الهامّة بسهولة.

والحوزات العلميّة ـ كأيّ مؤسَّسة علميّة أخرى، بل بسبب أهمّية الرسالة الملقاة على عاتقها ـ بحاجة إلى الإصلاح والتحديث المستمرّين؛ لغرض المحافظة على ازدهارها وتطوّرها. وفي هذا السياق بُذلت الكثير من الجهود الحثيثة من قبل العلماء الحريصين والمصلحين الكبار في الحوزة العلميّة على طريق إحداث التغيير والتطوُّر، ورفع المستوى العلميّ والعمليّ للمدارس العلميّة الدينيّة، وتمّ تقديم برامج متعدِّدة في هذا المجال. وفي السنوات الأخيرة، حيث اتَّسمت حركة التحوُّلات الاجتماعيّة والسياسيّة بوتيرةٍ أسرع ممّا كانت عليه، اكتسبت الحاجة إلى إصلاح بنية الحوزة العلميّة وإيجاد تحوُّل جذريّ فيها أهمّية أكبر من ذي قبل، وأصبح الحديث عن إصلاح الحوزة هو حديث الساعة للحوزات العلميّة، وتمّ تداوله لعدّة مرّات. ومن هنا يجب أن يبقى باب الحوار والنقاش مفتوحاً على الدوام؛ لكي يصبح بالإمكان التحرُّك نحو حوزة نموذجيّة بشكل أكثر نضجاً ودقّة.

ونحن في هذا المركز الذي افتتح باسم رجل كبير، ومصلح متَّزن وذو نظرة شمولية، ألا وهو السيد الشهيد محمد باقر الصدر، سنلقي نظرة خاطفةً على فكره الإصلاحيّ؛ ليتسنّى للعلماء والباحثين والمفكِّرين من رجالات الحوزة العلميّة تلبية متطلَّبات عصرهم، وتحديد معالم طريق الغد، من منهل أفكار هذا العالم الحكيم، إنْ شاء الله تعالى.

 

أوضاع حوزة النجف الأشرف في عصر الصدر  ــــــ

عندما كان الشهيد الصدر يواصل دراسته الدينيّة في حوزة النجف الأشرف لم تكن الحوزة الصاخبة في النجف آنذاك في حالة جيّدة.

فسكوت الحوزة وعدم مبالاتها بالتحوُّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والمسائل التي تحدث خارج الحوزة كانت تلقي بظلالها الثقيلة عليها؛ إذ إن أيّ نوع من أنواع الاهتمام بالأمور السياسيّة العمليّة الخارجة عن دائرة اهتمامات الحوزة ورسالة المؤسسة الدينيّة كان يُعَدُّ أمراً منافياً للقيم والأخلاق الحوزوية. فالترويج للعلوم والفنون الجديدة والإنجازات الصناعيّة، وتعلم اللغات الأجنبية، وقراءة الصحف والمجلاّت، والاستماع للمذياع، وغيرها كثير، كان يُعَدُّ من الأمور التي هي دون شأن العالم الدينيّ.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ التداعيات المؤلمة التي أفضت إلى هزيمة الثورة الدستوريّة في إيران، التي حقَّقت انتصاراتها بجهود رجال الدين ومراجع النجف الأشرف وقيادتهم للثورة، كان لها تأثيرٌ بارز في ابتعاد المؤسَّسة الدينيّة عن السياسة، واختيارها منهج الانزواء والانكفاء.

المستعمرون وعملاؤهم المتخفّين كانوا كثيراً ما يؤكِّدون على عقم الممارسات السياسيّة وعدم فائدتها، ويروِّجون لفكرة فصل الدين عن السياسة، وتأصيلها في المجتمع، مستفيدين كثيراً من روح اليأس والملل التي دبّت في أوساط الحوزة في النجف.

وكان الشهيد الصدر على مقربة من تلك الأحوال، ويشاهد تصرُّفات الحوزة غير المبرمجة، ويتألَّم من فرط أوضاعها غير المنظّمة. فقد كان يرى أنّه لو كان هناك برنامج مدوَّن ومحسوب في حوزة النجف لاستقطاب الطلبة، ولو كانت هناك أساليب تعليميّة ودراسيّة وبحثيّة جديدة، بالاستفادة من أساتذة أكفاء، ومناهج دراسيّة مناسبة، وبرنامج محدَّد ومدوَّن، ولو أنّ الحوزة العلميّة أَوْلَتْ اهتمامها بالكمّ الهائل من المسائل والتحوُّلات التي كانت تحدث في العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ، لتمكَّنت من تقديم إنجازات أهمّ وأكثر فاعلية للعالم الإسلاميّ، خلال مدّة أقصر، وبتكاليف أقلّ.

وشهد الشهيد الصدر الأبحاث المعمَّقة والجهود المضنية لرجالات الحوزة من أجل فهم المسائل الفقهيّة والأصوليّة المعقَّدة وحلّها في أجواء النجف الساخنة، بالرغم من انعدام الإمكانات والوسائل الترفيهيّة والخدميّة، إلاّ أنّه كان يتألَّم بشدّة من أن هذه الجهود الكثيرة لم يكن بوسعها أن تعطي الثمار المطلوبة منها بدون التخطيط الواضح، وبدون الاطّلاع على العلوم الحديثة المعاصرة والمدارس السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة المختلفة، وبدون الاهتمام بالمسائل المستحدثة والمتطلَّبات المتجدِّدة للعالم الإسلاميّ، بحيث إنه أدرك بكلّ وضوحٍ، منذ أيّام شبابه الأولى، ضرورةَ إدخال الإصلاحات البنيوية الجذريّة على هيكل الحوزة العلميّة. واستحوذت فكرة إعادة تأهيل الحوزة العلميّة على فكره وذهنه. إن ازدهار مدارس العلوم العلميّة وتطوُّرها كان يمثل للشهيد الصدر هدفاً سامياً، لم يكن ليتحقَّق إلاّ في ظلّ إصلاح الوضع الموجود، وتحديث المسار، وإعادة التأهيل مرّة أخرى.

وفي عام 1384هـ عندما ألّف الشيخ محمد جواد مغنيّة كتاب (فقه الإمام الصادق)، وكتاب (علم أصول الفقه في ثوبه الجديد)، برؤيةٍ جديدة وأسلوب حديث أشرقت بارقة أمل في قلوب المهتمّين بالشأن الدينيّ. ورغم أنّ هذا الفعل جاء محدوداً، وحصل ضمن إطار جانب من المنهج التعليميّ للحوزة، إلاّ أنّ مجرّد هذا المقدار عدّ خطوة هامّة على طريق إصلاح الحوزة. وفي ذلك الوقت اعتبر الشهيد الصدر صدور مثل هذه الكتب بدايةً موفَّقة لعمليّة التغيير، ومبعثَ أملٍ للعاملين في الوسط الدينيّ، وأشاد في مقالةٍ له في هذا الخصوص بالشيخ الأستاذ مغنيّة، بكلّ إجلالٍ؛ لكسره حاجز الصمت، وتقديم المناهج الجديدة([1]).

وحسب رؤية الشهيد الصدر فإن أعمالاً من قبيل: ما قام به محمد جواد مغنيّة، وما قام به الشيخ محمد رضا المظفَّر في كتابة علم الأصول بأسلوب جديد، وافتتاح كلّية الفقه في النجف الأشرف، كان بإمكانها أن تمثِّل الخطوة الأولى على طريق إصلاح الحوزة العلميّة.

 

آراء الشهيد الصدر في إصلاح الحوزة العلميّة ــــــ

لقد كانت للشهيد الصدر العديد من الأفكار الجديدة والمبتكَرة لمختلف جوانب الحوزة العلميّة، وقدَّم للكثير منها أُطُراً جديدة للتطبيق. فقد أعطى أفكاراً وفتح الطريق في مجال النظام التعليميّ، وإدارة أبحاث التبليغ، وكيفية قبول الطلبة، وغير ذلك كثير من هذا القبيل. ومن خلال طرح المسائل السياسيّة والاجتماعيّة في حوزة النجف الأشرف نجح في ترغيب المؤسَّسة الدينيّة، وسحبها إلى الساحة السياسيّة، وطرح نظريّة المرجعيّة، ورفع مكانتها وفاعليّتها، وكذلك طرق تدعيم المركزيّة وديمومة المرجعيّة.

وفي مجال الفقه والأصول، اللذين يشكِّلان المرتكزين الأساسيين لعلوم الحوزة العلميّة، قدّم نتاجات نوعية قلّ نظيرها في هذا المجال. فقد انبرى بمفرده في المواجهة الجادّة والحقيقيّة مع الملحِدين، وتعرّض بالنقد للنظريّات المادّيّة والإلحاديّة للشرق والغرب، بما يمتلكه من ذكاءٍ ثاقب، وإحاطةٍ تامّة بالفلسفة والاقتصاد الإسلاميّين، وردّ على شبهاتهم، وقدّم أساليب جديدة في دراسة الفلسفة والمنطق.

ويمكن أن نستفيد من حزمة آرائه في شأن إصلاح الحوزة العلميّة؛ إذ إنه كان يقدّم إصلاح ثلاثة محاور في الحوزة العلميّة والمؤسسة الدينيّة على المفاصل الأخرى، وكان يعتقد أنه لو تحقَّق تحوُّل حقيقيّ في هذه المحاور الثلاثة فإنّ أمور الحوزة العلميّة ستنتظم إلى حدٍّ كبير. وهذه المحاور الثلاثة هي:

1ـ إصلاح النظام الإداريّ للحوزة العلميّة.

2ـ إصلاح النظام التعليميّ.

3ـ إصلاح ثقافة الحوزة العلميّة.

 

1ـ إصلاح النظام الإداريّ للحوزة العلميّة ــــــ

أدّت مدارس العلوم الدينيّة رسالتها على أحسن وجه منذ بدء نشوئها، وخلّفت لنا إرثاً ثميناً من علوم الفقه والأصول والفلسفة والكلام والتفسير والحديث وغيرها، وأَثْرَتْ المجتمع الإسلاميّ بعددٍ كبير من الفقهاء والحكماء والمفسِّرين والفلاسفة والمتكلِّمين والمحدِّثين والمنجِّمين والرياضيّين وغيرهم. إن العلماء المتخرِّجين من أحضان الحوزة العلميّة، والإرث العلميّ الذي خلّفوه لنا، من القيمة والمنزلة بمكانٍ، بحيث يمكن القول: إنّ كلّ ما تمتلكه الحوزات العلميّة والمؤسَّسة الدينيّة اليوم إنّما هو بفضل أعمالهم وجهودهم، والآراء العلميّة الرصينة لأولئك العلماء الكرام.

وممّا لا شكّ فيه أن هذا الإرث العظيم وهذه الإنجازات الكبيرة لم تكن لتتحقَّق على الإطلاق من الفراغ وانعدام التخطيط. فقد كانت لمدارس العلوم الدينيّة ومؤسَّسات المؤسَّسة الدينيّة إدارتها ونظامها الخاصّ بها منذ البدء. ورغم أن مؤسَّساتها وأسلوب إدارتها كانت بسيطةً جداً وبدائية، ولكنْ بسبب الإخلاص والصدق والزهد والطهارة والروحانية التي كانت تعمّ دائماً أجواء هذه المراكز العلميّة فقد اتَّصفت هذه المؤسَّسات البسيطة بفاعليّة كبيرةٍ، جديرةٍ بالتقدير في تلك الفترات والمراحل.

ومن هنا فإن الإصرار على وجوب الإصلاح وإحداث التغيير في النظام الإداريّ والهيكلي للحوزة العلميّة من قبل الشهيد الصدر إنّما ينطلق من عدم التناسق وعدم تداعي الأفكار والبرامج البسيطة السابقة للحوزة مع المتطلَّبات المعاصرة، وليس من منطلق أن الحوزة لم تكن تمتلك أيّ برنامج أو تنظيم في عملها. وكما بيّنّا في ما سبق فإن التحوُّلات العلميّة والثقافيّة والصناعيّة المتسارعة والمذهلة في عصرنا، وتوسع الحوزة العلميّة ومسؤوليّات الحوزات العلميّة في موازاة ذلك، تستوجب ـ وبشكلٍّ طبيعيّ ـ أن تُبنى المؤسَّسات والبرامج المنسجمة مع المتطلَّبات الملحّة لعصرنا في الحوزات العلميّة، وأن يُصار إلى تغيير النظام الإداريّ السابق وإصلاحه. إن المهام الكبيرة للحوزات العلميّة اليوم لا يمكن الاضطلاع بها من خلال المؤسَّسات البسيطة والبدائية، ومن الواضح أنها تتطلَّب المزيد من التخطيط الدقيق والتنظيم الأقوى.

لقد كان الشهيد الصدر يفكِّر في الحكومة الإسلاميّة، ويرى في إقامتها ضرورةً لابدّ منها لتطوُّر البشريّة. ومن الواضح أنّ هذه المهمة لا يمكن أن تتحقَّق بدون إصلاح الحوزة العلميّة، والتخطيط الشامل، وإعداد وتدريب الكوادر البشريّة القادرة على أن تؤسِّس القاعدة الرصينة لهذا الصرح المقدَّس: «…الحكومة الإسلاميّة ليست مجرد ضرورة دينيّة؛ إذ فضلاً عن ذلك فهي ضرورة للحضارة أيضاً؛ لأنها الطريق الوحيد القادر على تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلاميّ، والتحليق بها إلى مكانتها الطبيعيّة، لتكون قاعدة متقدِّمة للحضارة الإنسانيّة، وتتحرَّر ممّا تعانيه من التشتُّت والتخلُّف وألوان الفساد»([2]).

وانطلاقاً من أن هذه الحكومة تقوم ـ برأي الشهيد الصدر ـ على أساس الولاية المطلقة للفقيه فإن التحقُّق العيني لها لا يمكن أن يتمّ إلاّ في ظل الإسناد الكامل والشامل إلى علماء الدين والمهتمين بالشأن الإسلاميّ. ومن الطبيعيّ أن يُصار إلى توفير الأرضيّة اللازمة لهذه المهمّة في الحوزات العلميّة، والقيام بإعداد الطاقات الكفوءة في مختلف المجالات. وهذا الأمر في حدّ ذاته لا يمكن تحقيقه بدون امتلاك الحوزات العلميّة لإدارة قويّة، ومؤسَّسات، ونظامٍ إداريّ متماسك ومنسجم مع المتطلَّبات الراهنة. واهتمام الشهيد الصدر بإعداد الطلبة الشباب، وخلق الكوادر اللازمة للبحث والتبليغ وغير ذلك، والسعي لتعميق وعيهم السياسيّ والاجتماعيّ وتوجيهه، إنّما يأتي في السياق ذاته.

فقد أدرك بشكلٍ واضح أن إصلاح البنية الإداريّة للحوزة العلميّة من طراز حوزة النجف، بكلّ ما كان لها من خصوصية، بشكل ثوري أمرٌ غير ممكن، بل يجب أن يحصل ذلك بشكل تدريجيّ، وتهيئة الأرضيّة المناسبة لذلك، من خلال إعداد الطاقات الشابّة، وإدخال الأفكار الجديدة إلى الحوزة، وطرح مشاكل العالم الإسلاميّ في المحاضرات الدراسيّة والمناقشات.

ولم يطرح الشهيد الصدر برنامجاً واضحاً في خصوص إصلاح نظام الحوزة العلميّة، إلا أنّ اهتمامه بمؤسَّسة المرجعيّة، وتقديمه لمشروع دقيق؛ بهدف تقويتها وتفعيل دورها، والتأكيد على الموائمة بين الحوزات العلميّة الصغيرة والكبيرة، إنما جاء في إطار هذا الأمر؛ لأنه لا يمكن إحداث التغيير في كيان الحوزة العلميّة، والتخطيط لذلك، بدون الالتفات إلى مؤسَّسة المرجعيّة، وتعاضد الحوزات العلميّة مع بعضها البعض. ولهذا ففي سياق إصلاح الحوزة العلميّة سنقوم بدراسة وتقييم هاتين المسألتين من وجهة نظر الشهيد الصدر:

 

أـ نظريّة المرجعيّة ــــــ

المكانة المرموقة للمرجعيّة في الحوزات العلميّة ليست خافيةً على أحد. فبالإضافة إلى مقام الإفتاء والإجابة على استفتاءات الناس يتصدّى مرجع التقليد لمسؤوليّة إدارة الحوزات العلميّة، وتربية وإعداد الطلبة؛ إذ إن أخذ الأموال الشرعية وتوظيفها في الحوزات العلميّة يبيِّن هو الآخر هذا الأمر. ولهذا فإن الشهيد الصدر، مع تأكيده على ضرورة الحفاظ على مكانة المرجعيّة في الحوزات العلميّة، كان يرى أنه لابدّ من الإتيان بنظامٍ دقيق لها؛ لكي تتَّخذ هذه الرعاية التقليديّة شكلاً ممنهجاً.

ومن الواضح أنّ مرجع التقليد، الذي يأخذ على عاتقه زعامة الشيعة، والإشراف على الحوزة العلميّة، ويمتدّ أفق عمله ليشمل الحوزة العلميّة والمجتمع، لا يتمكَّن من أداء أعماله بنحوٍ جيِّد بعيداً عن التخطيط السليم، ودون امتلاك منظومة مؤسَّساتية منسجمة. ومن هنا كان الشهيد الصدر يرى أنه؛ لغرض تفعيل دور مؤسَّسة المرجعيّة، والوصول كذلك إلى تحقيق نظامٍ إداريّ سليم للحوزة العلميّة، لابدّ من إصلاح مؤسَّسة المرجعيّة.

وعلى هذا الأساس، ومن أجل التوضيح الصحيح لهذه المسألة في الحوزة العلميّة، وتوفير الأجواء اللازمة لإصلاح الحوزة، ابتكر الشهيد الصدر في الأعوام 1390 ـ 1393هـ أسلوباً جديداً في عمله، وبدأ بتدريس مادة تحت عنوان «مسألة المرجعيّة» لمجموعة من تلامذته، وأخذ يبحث هذا الموضوع بشكلٍ علميٍّ لعدّة أسابيع، وتناوله من زواياه المتعدِّدة.

وفي بداية الشروع بهذا البحث كلَّف الشهيد الصدر أحد تلامذته بكتابة جميع المواضيع التي تطرح في هذه الدروس، وقام ذلك الشخص بدوره بتنفيذ ما أوصاه الأستاذ به، وبعد انتهاء دروس البحث قدّم التلميذ ما دوَّنه للأستاذ. وقام الأستاذ بإعادة تقرير جانب من تلك التقريرات، وقدَّمها بتهذيب وتشذيب جديدين بعنوان «نظريّة المرجعيّة»([3]).

وضمن إحصائه لأهداف ومسؤوليّات المرجعيّة الدينيّة للشيعة يبيِّن الشهيد الصدر في هذا المشروع المؤسَّسات والدوائر والخطط اللازمة لتحقيق كلٍّ منها.

وفي هذا الصدد يقول أحد تلامذة الشهيد الصدر: «لقد كان الشهيد الصدر في صدد تنظيم الحوزة العلميّة في النجف؛ لأن هذه الحوزة تعدّ مركزاً للإشعاع الإسلاميّ في جزء كبير من العالم. فكان تنظيم هذه الحوزة وتوجيهها نحو الجهاد والنضال يُعَدّ أمراً في غاية الأهمّيّة. وحصل هذا الأمر بشكلٍ مباشر وغير مباشر من قبل الشهيد الصدر.

ووضع النظريّة الموضوعيّة للمرجعيّة التي تخطط؛ لكي تمتلك المرجعيّة أجهزة متكاملة، بحيث تبقى حتّى بعد موت المرجع الذي قام بتأسيسها. هذه النظريّة تمّ تفعيلها في الحوزة العلميّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ&،  وبتوجيهٍ منه.

وفضلاً عن ذلك فقد سعى الشهيد الصدر إلى إعداد وتربية مجموعة من الأشخاص الواعين واليقظين؛ ليشاركوا في تنظيم الحوزة العلميّة وتوجيهها نحو الجهاد والنضال»([4]) .

وبناءً على ذلك فإن تنظيم هيكلية الحوزات العلميّة إداريّاً يتوقَّف على الاهتمام بقضية المرجعيّة. وفي هذا السياق كانت للسيد الشهيد الصدر اتّصالات مستمرة مع مراجع التقليد في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف. فقد كان يسعى إلى تنظيم الحوزة العلميّة من خلالهم، وبخاصّة السيد محسن الحكيم.

يقول السيد محمد باقر الحكيم، نجل السيد محسن الحكيم، في هذا الصدد: «الهدف الأساسي للشهيد الصدر في الموقف الذي تبنّاه هو تعبئة المراجع وتوجيههم نحو الجهاد والمقارعة وتنظيم الحوزة العلميّة. وكان ليقظة السيد الحكيم، وتخطيط الشهيد الصدر، دورٌ مهمٌّ في تطوير وضع الحوزة العلميّة في النجف إلى فترة ما قبل وقوع الانقلاب العسكريّ في 17 تموز 1968م [1388هـ] . هذا الانقلاب الذي استطاع البعثيّون من خلاله استلام الحكم في العراق كان هدفه الأساسيّ يتلخَّص في القضاء على الحوزة العلميّة في النجف الأشرف ومنجزاتها، التي تحقَّقت بمرجعيّة السيد الحكيم، وتخطيط الشهيد الصدر»([5]).

 

ب ـ الحوزات المنسجمة ــــــ

كانت الحوزات العلميّة الصغيرة والكبيرة تعمل على مرّ التاريخ من أجل هدف واحد، وانتهجت أسلوباً واحداً في إعداد طلبتها وإدارة شؤونها. ولكنّها لم تكن ذات يومٍ على نحوٍ تمتلك فيه برامج منسجمة، ويسيّرها فكر واحد، وذوق واحد، بل إن إدارة كلّ حوزة ومؤسَّساتها وبنيتها التنظيمية كانت تتوقَّف على مزاج العالم الكبير وفكره، أو علماء تلك المدينة. ومن هنا لم يكن هناك برنامجٌ منسجمٌ وموحّدٌ في تنظيم العلاقة بين زعماء هذه الحوزات والطلبة، وفي كيفية صرف الرواتب الشهرية، وإدارة المدرسة، والكتب الدراسيّة، وطريقة الامتحان، واختيار الطلبة وقبولهم، والدروس الجانبيّة، وغيرها، بحيث يسود على كلّ الحوزات العلميّة.

وفي سياق الخطط والبرامج الجديدة والأهداف الكبيرة التي كان يطمح إليها في خصوص إصلاح النظام الإداريّ للحوزات العلميّة كان الشهيد الصدر يرى أن الحوزات العلميّة الكبيرة يجب أن تكون بالشكل الذي يؤدّي إلى وجود نوعٍ من الترابط والانسجام الدقيق بينها وبين الحوزات العلميّة الصغيرة؛ لأن جميع تلك الحوزات العلميّة هي بمنزلة مجموعة واحدة، ويجب أن يُصار إلى تطبيق برنامجٍ موحّد في جميع المجالات، وعلى جميع الحوزات العلميّة([6]).

والواقع أن الحوزات العلميّة الكبيرة ملزَمة بأنْ تقوم بتغطية جميع الحوزات العلميّة الصغيرة، من خلال تطبيق برنامجٍ شامل. ومن الواضح أن تطبيق برنامج من هذا القبيل، فضلاً عن أنه يعود بالنفع على الحوزات العلميّة الصغيرة في التمتُّع بامتيازات الحوزات العلميّة الكبيرة، يُساهم أيضاً في الحؤول دون إهدار الطاقات، واستنزاف الإمكانات، ويزيد من عطاء مراكز العلوم الدينيّة.

 

2ـ إصلاح النظام التعليميّ ــــــ

للتعليم في الحوزات العلميّة مكانةٌ وأهمّية خاصّة. فقد أولى المصلحون أكثر اهتماماتهم لهذا الجانب. وكانت جهودهم قبل انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة أو بعدها تسير باتّجاه تنظيم وإصلاح هذا الجانب. كما يتّضح من نتاجات الشهيد الصدر وكتبه بشكلٍ جليّ أن النظام التعليميّ، وطرق التعليم المتداولة في الحوزة العلميّة، والموادّ والكتب الدراسيّة، وكيفيّة إجراء الامتحانات، وغيرها من الأمور، تأتي في الصدارة من حيث الأهمّيّة.

وكان الشهيد الصدر يعتبر البرنامج التعليميّ للحوزة العلميّة غير كافٍ، ولا يفي بالغرض من مختلف الزوايا، ويعتقد أنه لابدّ من تغيير هذا الجانب بالكامل، والقيام بتأليف كتب دراسيّة جديدة وجامعة في جميع الاختصاصات والعلوم الإسلاميّة، والاستفادة في نفس الوقت من الأدوات التعليميّة الجديدة.

«لقد كان يأمل بأن يكون الجانب التعليميّ للحوزات العلميّة على قدرٍ كبير من التنظيم، وأن تكون فترة التعليم وساعات الدروس محدَّدة، والأساتذة وطلبة العلوم منتظمون، ومتمسِّكون بالأوقات الخاصّة المحدَّدة، وأن تكون الدروس والامتحانات والاختبارات ومعرفة النتائج وفقاً لما يجري في المراكز العلميّة الجديدة؛ كي لا تضيع جهود الطلبة، ويشعروا بالحيرة، ولا يعرفوا ما هو واجبهم؛ بسبب انعدام التخطيط، ولكي لا يتصرَّفوا وفقاً لأهوائهم ورغباتهم وميولهم، دون أن يكون لهم قانونٌ وبرنامج واضح، فتذهب فرص الحياة سدىً وتتلاشى»([7]).

إن فكرة تغيير النظام التعليميّ في الحوزات العلميّة، وضرورة القيام بها، نادى بها أفرادٌ آخرون غير الشهيد الصدر أيضاً، وكانوا يطرحون أحياناً بعض الأفكار والرؤى لتطويرها. والأمر المهمّ الذي يحظى بالأهمّيّة أنه لم يكتفِ بإبداء وجهة نظره، ونقد الأساليب والأنماط التعليميّة الموجودة ورفضها فحسب، بل أقدم على اتّخاذ بعض الخطوات العمليّة في هذا الجانب أيضاً.

فقد درّس العلوم الحوزوية، كالفقه والأصول والفلسفة والاقتصاد والتفسير وغيرها، بأسلوبٍ جديد، وعلى أساس برامجه التعليميّة. فكتب الفلسفة والاقتصاد ودرّسهما بأسلوبٍ ومنهج جديدين، وطرح نظريّات المادّيّين وأفكارهم في الفلسفة، وبيّن خواءها وضعفها بكلّ قوّة، وشيَّد صرح الاقتصاد والفلسفة الإسلاميّين الشامخ على أنقاض وركام نظريّاتهم الإلحاديّة الخاوية.

وأحدث تغييراً ملفتاً في أسلوب كتابة الرسالة العمليّة، وطرح الآراء والفتاوى، وقدّم رسالته العمليّة للمؤمنين بإخراج جديد تحت عنوان: (الفتاوى الواضحة). وبمجرَّد أن شَعَرَ أن الفرصة باتت مؤاتية لإظهار أهمّيّة دراسة القرآن والتفسير بادر إلى التخلّي عن دروسه في الفقه والأصول، واستبدلهما بدرس التفسير.

ولغرض تفجير طاقات طلبة العلوم الدينيّة، وتوجيه الأنظار إلى العلوم الأخرى، ورفع مكانتها في الحوزة العلميّة، أوصى تلامذته بأن يقوم كلُّ شخصٍ منهم بالتدريس والتحقيق في مادّة معيَّنة من العلوم الإسلاميّة، وأن لا يقتصروا على العلوم المتداولة والمواد التقليديّة في الفقه والأصول.

وتمكَّن من خلال هذه الحركة الذكيّة الرصينة أن يهيئ الأرضيّة المناسبة أمام الحوزة العلميّة، فتمكنت من خلال ذلك من إعداد المتخصِّصين وأصحاب الرأي في علوم التفسير والحديث والفلسفة والتاريخ والكلام والأخلاق والسياسة وغيرها، إلى جانب دروسها الأساسيّة. وقام التلامذة بدورهم بوضع توجيهات الأستاذ موضع التنفيذ، وانبرى كلّ واحدٍ منهم لإكمال دراساته في إحدى هذه الاختصاصات. ولكنْ ـ للأسف ـ حالَ العنف واستبداد الحكام المستبدّين والدمويين في العراق دون نموّ هذا الغرس الجديد وانبثاقه، ولم يكتملْ هذا العمل الخلاّق، وغرقت حوزة النجف العلميّة في دوّامة البلايا والفتن، وتمزَّقت أوصال لحمتها([8]).

ولمزيد من التعرُّف على الآراء الإصلاحية للشهيد الصدر في المجالات التعليميّة سنلقي في هذا الجزء من المقالة نظرةً خاطفةً على تلك الآراء:

 

أـ أصول الفقه وضرورات الإصلاح ــــــ

ورد الكثير من الكلام في خصوص الكتب الدراسيّة لعلم الأصول، والتي كانت متداولة في الحوزات العلميّة منذ أمدٍ بعيد وحتّى اليوم. ولو تجاوزنا الكثير من الإشكاليات والنواقص الموجودة فيها، من قبيل: صعوبة العبارات، وزيادة بعض المواضيع، وقِدَم أسلوب التأليف والكتابة، وغيرها كثير، فلا شكّ في أن بعض الكتب التي تدرّس في الحوزات العلميّة، مثل: (معالم الأصول)، للشيح حسن ابن الشهيد الثاني؛ و(فرائد الأصول)، للشيخ الأنصاري؛ و(كفاية الأصول)، للآخوند الخراساني، لم يتمّ تأليف أيٍّ منها بعنوان أنّه كتاب دراسيّ أو منهج دراسيّ، بل هي في الغالب عبارة عن دروس البحث الخارج التي كان يلقيها أصحابها، ثم صاغوها في متن مدوَّن، وهي تعود لسنين مضت منذ أمدٍ بعيد. وهذه مسألة لا يمكن الدفاع عنها بأيّ شكل من الأشكال.

ففي العصر الذي تغيّر فيه العلوم المختلفة لباسها أولاً بأوّل، وتحدث فيها تغييرات جوهرية في كلّ عام، ويقدِّم العلماء والخبراء والباحثون آراء جديدة في كلٍّ منها، ويبادرون إلى التحاور من أجل إتقانها وتفعيلها، وتتغيَّر بسرعة مذهلة، يصبح الإصرار على إبقاء المناهج الدراسيّة للحوزة العلميّة على حالها أمراً في غاية السلبيّة، وانعزالاً عن الحضارة والمدنيّة. ولكنْ من الواضح أن عدم كفاية هذه الكتب، وعدم ملاءمتها، كمنهج دراسيّ لا يعني على الإطلاق أنّها ليست من الأهمّية والقيمة بشيء؛ إذ إن كتباً من طراز (الكفاية) و(الرسائل) هي نتاج الأفكار السامية للعلماء المشهورين في عصرهم، واليوم، وبعد مضيّ عقود من الزمن، ما تزال هذه الكتب تحافظ على مكانتها، وخلال هذه المدّة وصل المئات من الفقهاء والأصوليّين البارزين إلى مقام الإفتاء الرفيع بالاستفادة من هذه الكتب.

ففي وقتٍ من الأوقات كان كتاب (الرياضيّات)، للشيخ البهائي؛ و(القانون)، للشيخ الرئيس، يُعَدّان من أحدث وأهمّ الإنجازات البشريّة في مادّتي الرياضيّات والطبّ. ولكنْ لا يمكن اليوم اعتبارهما في ذات المكانة المذكورة. كما أن تلك الكتب ليس في وسعها اليوم أن تكون كتباً دراسيّة وتعليميّة لعلم الرياضيّات أو الطبّ. ونفس هذا الأمر ينطبق أيضاً على الكتب الدراسيّة لعلم الأصول، مثل: (الكفاية)، و(الرسائل)، وغيرها.

ناهيك عن ذلك ففي النظم الدراسيّة المتطوِّرة يجب أن يُصار إلى تنظيم الكتب والمتون الدراسيّة لكلّ علم من العلوم بشكل يكمِّل بعضها بعضاً، في حين أن الكتب الدراسيّة للأصول في الحوزة العلميّة لا تقف عند عدم امتلاكها لهذا العنوان المهمّ فحسب، بل تتعدّاها إلى أن ينقد بعضها بعضاً، ويردّ عليها! فعلى سبيل المثال: (معالم الأصول)، وهو الكتاب الأوّل الذي يدرَّس في علم الأصول، تمّ تأليفه في القرن العاشر الهجري، وكتاب (القوانين) تمّ تأليفه بعد هذا الكتاب بقرنَيْن؛ أي في القرن الثاني عشر، ومن الطبيعيّ أن يشتمل على آراء جديدة، ويقدح في الكثير من آراء صاحب (المعالم)، ومع ذلك يدرَّس في المرحلة الثانية بعد (المعالم)، وفي المرحلة الثالثة يتمّ تدريس (فرائد الأصول)، للشيخ الأنصاري، والذي جاء بعده بحوالي قرنٍ من الزمن، فتناول الأصول بأسلوبٍ أكثر حداثة. وفي المرحلة الأخيرة من تدريس علم الأصول يتمّ تدريس (كفاية الأصول)، الذي جاء تأليفه بعد فترةٍ قليلةٍ من تأليف الرسائل، وهو في الحقيقة خلاصة دروس البحث الخارج للآخوند الخراساني. و(الكفاية) في الواقع هو حواشي الآخوند على آراء الشيخ الأنصاري في (الرسائل).

ويرى الشهيد الصدر أنّ أوضاع تدريس الأصول في الحوزات العلميّة غير منتظمة. فالطلبة يدرسون في كلّ مرحلة دراسيّة آراءً معيَّنة، ثم يرفضونها في المرحلة الدراسيّة اللاحقة.

يقول أحد تلامذته: «في ما يتعلَّق بالكتب الدراسيّة كان [الشهيد الصدر] يرى وجوب تغيير المناهج الدراسيّة، من (المعالم) إلى (الكفاية)، وكان يقول: «لو ألقيتم نظرة خاطفة على سائر العلوم الأخرى، كالرياضيّات مثلاً، وقارنتم الرياضيّات اليوم مع رياضيّات الشيخ البهائي فستجدون أن لا وجه للمقارنة بينهما، ولا معنى اليوم للقيام بتدريس كتاب الشيخ البهائي، وفي السنة القادمة نفنِّد آراءه، ثم نعود فنفنِّد تلك الآراء في المراحل الأعلى، ونطرح وجهات نظر جديدة. هذا الأسلوب غير متَّبع في أيّ علم من العلوم. ولكنْ في الحوزات العلميّة يتمّ تدريس (المعالم) في البداية، وبعد عدّة سنوات تذكر الأخطاء الموجودة في نظريّاته، وتُعرض آراء الشيخ الأنصاري على الطلاب، وبعد عدّة سنوات أخرى يُصار إلى نقد آرائه وإثباتها، وتُعرض آراء صاحب (الكفاية)، ومن ثم يعودون إلى نقض أقوال صاحب (الكفاية) مرّة أخرى في مرحلة دروس البحث الخارج، ويذكرون آراء الفقهاء المتأخِّرين، فأيّ أسلوب هذا؟». لقد كان الشهيد الصدر يعتقد أنه يجب أن يُصار إلى إعداد وكتابة آخر الآراء في كل فترة، ولمختلف المراحل الدراسيّة: المقدّمات؛ والمتوسِّطة؛ والعالية، وتوضع في متناول أيدي الطلبة. وعندما تتغيَّر النظريّات بعد عشرين أو ثلاثين سنة يجب أن يتمّ تأليف كتب جديدة مرة أخرى. ولذلك باشر بنفسه بتأليف الحلقات الثلاثة. وكان يقول دائماً: ليس من اللائق أن تكون المباحث الفقهيّة والأصوليّة مستثناةً من هذه القاعدة»([9]).

واستناداً إلى هذا الأمر كان الشهيد الصدر يؤكِّد على ضرورة استبدال الكتب الدراسيّة للأصول، ويعتقد أن هذا الأمر إذا كان يستلزم إجراء تغيير جوهريّ في الحوزة العلميّة فيجب أن يحصل ذلك، ويُصار إلى تغيير الكتب الدراسيّة للأصول([10]).

إن قضية الكتب الدراسيّة ووجوب القيام بإعادة النظر فيها دائماً، على أن تتضمن الطرق والآراء الجديدة، هو كلام منطقيٌّ ومطابقٌ للمعايير العلميّة. وهذه المسألة تحظى في الوقت الحاضر بالأهمّية اللازمة في جميع المراكز العلميّة في العالم تقريباً، وفي مختلف المراحل الدراسيّة؛ إذ توجد لديهم لجنة مشكَّلة من أصحاب الرأي والخبراء الكبار في كلّ علم من العلوم تقوم بشكلٍ مستمرٍّ بإعادة فحص الكتب الدراسيّة العائدة لها، وتقوم باستبدالها بشكلٍ كاملٍ مرّة واحدة كلّ عدّة أعوام([11]).

ولا شكّ في أن الحوزات العلميّة ليس في وسعها أن تكون مستثناةً من هذه القاعدة، ولا ينبغي أن يحصل ذلك. فمثل هذه الإجراءات الدقيقة وأعمال الفحص الدوريّة لابدّ أن تحصل في النظام الدراسيّ للحوزات العلميّة أيضاً، ولها تأثيرٌ كبير في عطاء الحوزة العلميّة.

إنّه لمن دواعي الدهشة أن نجد كتباً، مثل: (كفاية الأصول)، و(فرائد الأصول)، وبعد مرور حوالي قرنٍ كاملٍ على تأليفها، تستخدم من قبل الطلبة على صورتها الأولى، وقد كانت ـ حتّى من وجهة نظر مؤلِّفيها في ذلك الوقت ـ بحاجة إلى تهذيب ومراجعة؛ لغرض استخدامها كمناهج دراسيّة.

وعندما رأى الشيخ الأنصاري أن كتابه (الرسائل) من المقرَّر أن يطرح ككتابٍ دراسيّ في الحوزة العلميّة، وأن رجال الحوزة العلميّة أقبلوا عليه، طلب من الميرزا الشيرازي أن يقوم بدراسته ومراجعته وفقاً لهذه الرؤية، ويجعله خليقاً بالتدريس، من خلال تشذيبه ومراجعته.

وينقل الشيخ آغا بزرگ الطهراني عن السيد صدر الدين الصدر أنّ الميرزا الشيرازي أطلعني على آرائه وحواشيه على تحقيقات الشيخ الأنصاري، والتي ذكرت إجابات الشيخ أيضاً تحتها، وقال: «طلب منّي سماحة الشيخ مرتضى في أواخر أيام حياته أن أراجع كتابه (الرسائل)، وأنقِّحه. وبالرغم من أنّه كرَّر عليّ ذلك عدّة مرات لكنّي امتنعت عن قبول ذلك؛ احتراماً للأستاذ»([12]).

وللسيد محسن الأمين ما يشبه هذا الكلام أيضاً؛ إذ يقول: «…أمّا مؤلَّفاته فمحتاجةٌ إلى التهذيب والتنقيح كثيراً، خصوصاً (رسائله)، التي عليها مدار تدريس الأصول؛ ففيها من الإيجاز في مكانٍ مع لزوم التطويل، ومن التطويل في آخر ـ كمثل دليل الانسداد ـ مع لزوم الإيجاز. وما قيل: إنه كان لا يجب إخراج شيءٍ إلا بعد إعادة النظر والتنقيح فهو كذلك، ولكن متى يتَّسع الوقت لهذا المحبوب مع أن مطالبه أكثرها مبتكرات…»([13]).

ويؤكِّد السيد محسن الأمين أن التهذيب وتشذيب النواقص وإعداد الكتب الدراسيّة، مثل: (الرسائل)، أكبر من مسؤوليّة شخص واحد، وتتطلب عملاً جماعياً وفرقياً. والمؤسف أن العلماء المتأخِّرين بعد فترة الشيخ، القادرين على القيام بتهذيب وتنقيح ذلك الكتاب وإعداده بقليل من الوقت، لم يفعلوا ذلك، وفضَّلوا تأليف الكتب التي تحمل أسماءهم([14]).

وأصرّ البعض على إبقاء الكتب الدراسيّة على حالها؛ ظنّاً منهم أن الفهم الاجتهادي للأصول لا يمكن بلوغه إلاّ عن طريق دراسة (الكفاية) و(الرسائل) فحسب، حتّى أنهم يقومون بالتوسُّع والإطالة في تدريس بعض المواضيع قليلة الأهمّية، وغير الضرورية أحياناً، والتي تمّ التطرُّق إليها أكثر ممّا تستحقّه في بعض الكتب، مثل: (الكفاية) و(الرسائل)، في حين إنْ لم نقل أن تلك المواضيع زائدة فالإكثار من التطويل والإسهاب لن يعود علينا إلاّ بإتلاف العمر وضياعه على أقلّ تقدير([15]).

يقول السيد الخامنئيّ، قائد الثورة الإسلاميّة في إيران، في بداية درس البحث الخارج، مشيراً إلى هذه النقطة: «ليس من الصحيح القول: إنّ «ثلاثة ليس لها نهاية: (الرسائل)، و(المكاسب)، و(الكفاية)»، فذات يوم لم يكن (الرسائل) موجوداً، ولم يكن (المكاسب) موجوداً، ولكن ظهر لنا عالمٌ مثل الشيخ. وذات يوم لم يكن (الكفاية) موجوداً، ولكن ظهر لنا عالمٌ مثل الآخوند. فلا تظنّوا أنه لا سبيل للتطوُّر إلا عن طريق هذه الكتب، بل يجب أن نكتشف عيوب هذا الكتاب، ونضع بين أيدي الطلبة كتاباً لا عيب فيه»([16]).

وهناك فريقٌ جعل من الكتب الدراسيّة للحوزة العلميّة وكأنّها خِزانات نحاسيّة قديمة محكمة، لا يفهمون إجراء أيّ تغيير في هذه الكتب سوى استبدال الخزانات المعدنيّة المحكمة بحاويات بلاستيكيّة. ولكن يجب أن يكون معلوماً أنّه ليس المراد بإصلاح الكتب الدراسيّة للحوزة العلميّة استبدالها بكتب ضعيفة مؤقَّتة، بل المراد بذلك أن يُصار اليوم إلى صنع أوراق رقيقة وناعمة من ذلك النحاس والفولاذ بنفس نعومة صفحة الورق، ويصنع منها أواني وأدوات جميلة الصنع رقيقة، وفي نفس الوقت محكمة وقويّة أيضاً. ونقوم بتأليف الكتب الدراسيّة المناسبة من خلال الاستفادة من الأفكار المرموقة للشيخ الأنصاريّ في (الرسائل)، والآخوند في (الكفاية)، وكذلك أفكار العشرات من العلماء والأصوليّين البارزين الذي جاؤوا من بعدهم، والأخذ بنظر الاعتبار مختلف الزوايا الأخرى.

وانتبه الشهيد الصدر إلى هذا الأمر منذ بداية المراحل الأولى لتدريس (الرسائل) و(الكفاية)، بل منذ مرحلة دراسته لها، وينبّه في مختلف المناسبات إلى ضعف الكتب الدراسيّة الأصوليّة في الحوزة العلميّة وعدم كفايتها، وبيَّن لتلامذته المواضيع الزائدة وغير الضرورية التي تسببت في تضخُّم علم الأصول. وعلى أساس هذه الرؤى والخبرات والتجارب التي اكتسبها من خلال التدريس قام فيما بعد بتأليف (المعالم الجديدة)، و(دروس في علم الأصول)؛ للتدريس في الحوزة العلميّة.

وأشار في مقدّمة الكتاب الأخير إلى الكثير من الصعوبات والتعقيدات الموجودة في الكتب الدراسيّة لعلم الأصول. وقرَّر سماحة السيد عبد الغني الأردبيلي، وهو من فضلاء الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، ومن تلامذة الشهيد الصدر البارزين، قرَّر القيام بإخراج آراء الأستاذ إلى حيِّز التطبيق بأسلوب دراسيّ لتدريس علم الأصول، ويؤسِّس حوزة علميّة نموذجيّة بناءً على آرائه. ومن هنا عاد إلى مسقط رأسه في مدينة أردبيل، بعد أن أمضى حوالي عشرين سنة من التلمُّذ والدراسة عند الشهيد الصدر، والتحقيق والتدريس في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، وهيّأ المقدّمات اللازمة لتأسيس مدرسة علميّة على غرار ذلك.

ويطلب السيد الأردبيلي من الشهيد الصدر أن يكتب له مواضيع الأصول بالأسلوب الذي يراه هو، في مجموعة دراسيّة؛ ليضمّها إلى المدرسة الجديدة التي أسَّسها في أردبيل، بعنوان: كتاب دراسيّ. وكانت متابعته لهذا الموضوع، وما يحظى به من مكانة ومنزلة لدى الشهيد الصدر، السبب في أن يوافق الشهيد الصدر على طلبه، ويبادر إلى تأليف كتاب شامل ومنقَّح من كافّة عيوب الكتب السابقة في علم الأصول، وأكمل تأليفه خلال مدّة قصيرة.

وفي هذا الصدد كتب الشهيد الصدر في مقدّمة كتاب (دروس في علم الأصول)، لدى ذكره هذا الأمر، وإهداء الكتاب لهذا الطالب الفذّ الوفيّ، الذي كان في ذلك الوقت قد انتقل إلى جوار ربه: «فلقد كان له [أي السيد عبد الغنيّ الأردبيلي] قدّس اللّه روحه الطاهرة الدور البليغ في حثّي على كتابتها وإخراجها في أسرع وقتٍ، وكانت نفسه الكبيرة وشبابه الطاهر، الذي لم يعرف مللاً ولا كللاً في خدمة اللّه والحقّ، الطاقة التي أمدّتني ـ وأنا في شبه شيخوخة متهدّمة الجوانب ـ بالعزيمة على أن أنجز جُلّ هذه الحلقات في شهرين من الزمن، وكان يحثّني باستمرار على الأسرع؛ لكي يدشِّن تدريسها في حوزته الفتية، التي أنشأها بنفسه، وغذّاها من روحه، في مواطن آبائه الكرام، وخطَّط لكي تكون حوزة نموذجيّة في دراستها وكلّ جوانبها الخلقيّة والروحيّة…»([17]).

ولكنّ الوفاة المبكِرة للسيد عبد الغنيّ الأردبيلي حالت دون تحقيقه للأهداف السامية النبيلة التي كان يحملها. فلم يجد مجالاً لإخراج آماله وأمنياته إلى حيِّز التطبيق العمليّ، ويدرّس علم الأصول للطلاب مستفيداً من كتاب (دروس في علم الأصول)، للشهيد الصدر.

إلاّ أنّ جهود الشهيد الصدر لم تذهب سدىً، وآتت أكلها، ولاقى كتابه ترحيباً في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، ومن ثم في حوزة قم والمدن الأخرى، واستخدم فيها ككتاب دراسيّ، وأشيد به مراراً من قبل كبار أساتذة الحوزة العلميّة؛ لما عليه من حسن التنظيم والتهذيب البديع، رغم الأوضاع المهيمنة على الحوزات العلميّة آنذاك، ووجود بعض الأفراد الذين ما انفكّوا يصرّون على تدريس نفس الكتب القديمة، وبنفس الأساليب السابقة، والذين لم يَدَعُوا هذا المصنَّف القيِّم يأخذ مكانه الطبيعيّ، وينشر ظلاله على الحوزات العلميّة بشكلٍ جادٍّ وشامل.

 

ب ـ تدريس الفقه، المشاكل والمعوقات ــــــ

للشهيد الصدر بعض الآراء في مجال تدريس الفقه، تشبه إلى حدٍّ ما آراءه في علم الأصول. فقد تحدَّث مراراً عن مواطن الضعف الموجودة في الكتب الدراسيّة للفقه. أضِفْ إلى ذلك ففي مجال كتابة الرسائل العمليّة وتعليم الأحكام الفقهيّة للناس لم يكن يرى الأسلوب الشائع والمتداول أسلوباً نموذجيّاً بعيداً عن النقص. ولهذا أصدر آراءه وفتاواه الفقهيّة في رسالة باسم (الفتاوى الواضحة)، بأسلوبٍ جديد، ونمطٍ حديث ومبتكَر. وحظي صدور هذا المصنَّف القيِّم في الحوزة العلميّة في النجف بترحيبٍ واسع من قبل الخبراء وأهل الرأي، ومثَّل لديهم خطوةً هامّة في هذا الاتجاه؛ إذ إنّهم كانوا بانتظار حدوث التغيير في النظام التعليميّ للحوزة العلميّة.

وبالإضافة إلى التغييرات الهامّة في التبويب الفقهيّ وترتيبها وتنظيمها بشكل إبداعيّ([18]) قام الشهيد الصدر بعمليّتي إصلاح هامّتين في هذا الكتاب:

1ـ ما عرضه من الأصول العقائديّة، تحت عناوين من قبيل: (المرسل) و(الرسالة) و(الرسول)، وبعبارات سهلة، وبراهين عميقة ورصينة وبسيطة، وتناسب مستوى الفهم لدى المقلِّدين([19]).

2ـ قبل الانتقال إلى توضيح الأحكام قدَّم شرحاً قيِّماً ومفيداً عن الاجتهاد والتقليد، وواجب المكلَّفين، والمواضيع التي يحتاجها المقلِّدون.

ويرى الشهيد الصدر أنّ دراسة الفقه، وبخاصّة أبواب العقود والإيقاعات والمواضيع الحقوقية، بدون الاطّلاع على المواضيع الحقوقية في المدارس الفكريّة المعاصرة في الغرب ليس مفيداً كما ينبغي. وعلى هذا الأساس فقد كان يعتقد أن (فقه العقود) و(فقه المعاملات) بحاجةٍ إلى دراسة فقهيّة مقارنة؛ لتتضح لنا بشكلٍ سليم مواطن تفوُّق الفقه الإسلاميّ على قوانين الغرب من جهة، ويصار إلى وضع الإجابات عن التساؤلات المعاصِرة من جهة أخرى. ونقلاً عن بعض تلامذة الشهيد الصدر فقد كان& بدرجةٍ من الإصرار على وجوب إنجاز هذه المهمة، بحيث عندما رأى أنه لا يوجد في الحوزة العلميّة للنجف الأشرف أيّ تحرُّك في هذا الاتّجاه قرَّر أن يقوم شخصيّاً بتأليف كتاب في فقه المعاملات([20]).

وفضلاً عن ذلك فقد قام بشرح الكثير من المصطلحات الفقهيّة، التي تستخدم اضطراراً في الرسائل العمليّة، ولربما يكون فهمها من قبل الكثير من المقلِّدين صعباً. وقام في بداية كلّ بابٍ بتوضيح المراد بتلك المصطلحات في جملٍ قصيرة، ساعياً إلى أن يكون ذلك بأسلوبٍ أدبيٍّ بسيطٍ وجميل ورصين([21]).

 

ج ـ اللغة والمنطق وغيرهما ــــــ

إن الفقه والأصول يمثِّلان عماد النظام الدراسيّ في الحوزة العلميّة وأساسها، إلاّ أنّ هناك علوماً أخرى تدرّس إلى جانبهما، بعنوان علوم المقدّمات، من قبيل: الأدب، والمنطق، أو الدروس الجانبيّة، مثل: التفسير، والحديث، والرجال، والدراية، وغيرها.

ومن الواضح أنّ معايير وجوب إصلاح الكتب الدراسيّة، واستخدام الأساليب الجديدة في التدريس، تشاهد هي الأخرى في هذه العلوم أيضاً. وإذا كان الشهيد الصدر لم يتطرَّق إلى كلّ هذه العلوم، وجوانبها الدراسيّة، كلٌّ على حدة، إلاّ أنه يستفاد من آرائه العامّة في خصوص إصلاح البرامج الدراسيّة في الحوزة العلميّة، والنواقص التي بيّنها في المناهج الدراسيّة للأصول، أنه يرى وجوب إجراء قراءة جديدة في المناهج الدراسيّة لجميع العلوم المتداولة في الحوزة العلميّة. فكتب الصرف والنحو والمنطق ومعاني البيان التي تدرَّس الآن في الحوزات العلميّة هي نفس الكتب القديمة، في حين أن الرسائل المجتمعة في (جامع المقدّمات) و(البهجة المرضية) و(مغني اللبيب) و(مختصر الحاشية) وغيرها، فضلاً عن صعوبة العبارات، هي لا تمتلك الخصائص والمؤهِّلات التي يجب أن يتوفَّر عليها المنهج الدراسيّ.

علوم التفسير والحديث والرجال والدراية والفلسفة والنجوم والهيئة والرياضيّات، التي لا تحظى بذلك الاهتمام في الحوزات العلميّة في الوقت الحاضر، مشمولةٌ كلّها بهذه القاعدة. فلو أجرينا مراجعة حقيقيّة وجادّة للمناهج الدراسيّة للعلوم المذكورة سيتَّضح لنا أنّ الكثير من مواضيعها اليوم زائدةٌ ومتأخِّرةٌ بعدّة فراسخ عن التطوُّر الحاصل في كلّ واحد من تلك العلوم.

والأهمّ من كلّ ذلك في النظام التعليميّ الموجود في الحوزات العلميّة الدينيّة أن مكانة دراسة كلّ واحد من علوم المقدّمات والعلوم الجانبيّة، وتصنيفها من حيث الأولوية، وكذلك المقدار الذي يجب أن يُصار إلى دراسته منها، وهل يجب دراستها كلّها أو دراسة قسم منها؟، كلُّ ذلك ليس واضحاً كما ينبغي بالنسبة إلى جميع الطلبة. وإنّ النظام الدقيق والمبرمج هو الوحيد القادر على إعطاء الاهتمام الكافي لكلّ واحد من هذه العلوم.

وهناك من العلوم اليوم ما إذا لم تبادر الحوزة العلميّة إلى الاهتمام بها فإنّ ذلك سيؤدي إلى انعزالها عن الركب العلميّ في العالم، ولا يفهم لغتها الناس في عصرنا هذا، وبخاصة أولئك الذين درسوا هذه المواد العلميّة، أو أن لا يتمكَّن المبلِّغون والمرشدون من إيصال رسالتهم بالشكل المطلوب، مثل: علم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، واللغات الأجنبيّة، والمدارس الفكريّة المختلفة، وغيرها.

وقد ألّف الشهيد الصدر (الأسس المنطقيّة للاستقراء) في المنطق، و(فلسفتنا) في الفلسفة، و(اقتصادنا) في الاقتصاد، وغيرها، مستفيداً في ذلك من العلوم الجديدة، وبأسلوبٍ جديد، وكذلك من خلال المقارنة مع الآراء الجديدة للعلماء الغربيّين. ورغم أن هذه الكتب لم يتمّ تأليفها كمناهج دراسيّة فإنّه يمكن أن نفهم منها بشكل جيّد طبيعة آراء هذا العالم الجليل في خصوص المناهج الدراسيّة لهذه العلوم في الحوزة العلميّة، وما هي المسافة الفاصلة بين الوضع الموجود والوضع الذي نطمح إليه.

 

أسلوب الدراسات الجماعيّة ــــــ

إجراء الدراسات في مختلف العلوم الإسلاميّة كان متداوَلاً في الحوزات العلميّة منذ القدم، ولكن بسبب صعوبة الوصول إلى المكتبات العامّة، وكذلك عدم امتلاك الوسائل والأدوات اللازمة لإجراء الأبحاث والدراسات، لم تكن أكثر هذه الأبحاث جماعية، بل كانت في الغالب فرديّة، وأجريت بالاستفادة من القدرات والإمكانات الشخصيّة المحدودة. ومن هنا ففي الفترات التي كان فيها مجموعة من علماء الدين قريبين من مراكز السلطة والحكم أقبلوا على الأعمال الجماعية الفرقيّة، كالعلامة المجلسيّ، الذي قام بإكمال عمليّة تأليف وتدوين موسوعة (بحار الأنوار) في عهد الصفويّين.

كما أن هناك أفراداً آخرين، غير العلامة المجلسيّ، أنجزوا أيضاً أعمالاً جماعية.

من هنا نجد أن الأبحاث والدراسات الجماعية في الحوزات العلميّة السابقة لم تكن أمراً شائعاً ومتداوَلاً على نطاق واسع. وإن قطب الرحى فيها كان يدور على تلك المحاولات والدراسات الفرديّة. لا شكّ في أن نتائج الدراسات الفرديّة ـ وإنْ كان محقِّقها من النخبة والمتمرِّسين ـ لا يمكن أن ترقى أبداً إلى مستوى الدراسات الجماعية، ولا يمكن أن تُقارن بالأعمال الجماعية من حيث الإتقان والنضج.

ومن هنا كان الشهيد الصدر يرى أن هذا الجانب من النظام الدراسيّ التعليميّ في الحوزة العلميّة بحاجةٍ هو الآخر إلى الإصلاح، ولم يكن يرى كفاية الأساليب المتَّبعة في الدراسات والتحقيقات؛ للوصول إلى الأهداف المتوخّاة.

وكان يعتقد أنّ الأبحاث في الحوزات العلميّة يجب أن تجرى بأسلوبٍ جماعيّ. ويتحقَّق هذا الأمر عندما تؤسِّس إدارة الحوزة العلميّة لنظامٍ دراسيّ جامع وفاعل. وكذلك من خلال خطّة منسجمة ودقيقة تنتقي الأفراد الأكفاء من بين طلبة الحوزة العلميّة، وتقوم باتّخاذ الإجراءات التنسيقيّة اللازمة بين الباحثين والمحقِّقين، وتوفِّر الأدوات والمستلزمات اللازمة لهذا العمل، وتهيّئ المكتبات العامّة من كلّ حيث، وتضع الكتب والإصدارات والمعلومات العلميّة الجديدة في متناول المحقِّقين، وتضع تلك المراكز العلميّة تحت إشرافها وتوجيهاتها بشكلٍ كامل([22]).

وبادر الشهيد الصدر في البداية بنفسه في هذا المجال أيضاً، كما هو شأنه في مجال تدريس الأصول، وانتدب مجموعة من تلامذته ليشكلوا اللجان، ويقوموا بدراسة المواضيع المطلوبة، وبخاصّة المواضيع الفلسفيّة والاقتصاديّة والمسائل الفقهيّة والكلاميّة المستحدَثة، من خلال الحوار والنقاش المشترك؛ ليتمكَّنوا من التصدّي بكلّ ثقةٍ، وبأدلة رصينة وقويّة، لموجة الأفكار الإلحاديّة القادمة من الشرق والغرب، التي استحوذت على أذهان وأفكار الكثير من الحوزويّين.

وفي هذا الصدد يقول أحد تلامذة هذا العالم الجليل: «…أذكر أنه أمر تلامذته ذات يوم بأن يجتمعوا ويناقشوا هذه المواضيع. وبناءً على أوامره بدأنا بدورنا بأحد المواضيع، ولم نكن نتجاوز بضعة أشخاص. وفي أحد الأيّام، وبينما كنّا نناقش بعضنا، إذا به ينضمّ إلينا في وقت الاجتماع، ونحن في غاية التعجُّب، وقال: «كلّما فكرتُ بأقرب مكانٍ إليّ على وجه الأرض لم أجِدْ أفضل من هذا المكان، لذلك قررتُ أن أنضمَّ إليكم وأشارككم». وهكذا كان يشجِّعنا ويرغّبنا بهذه المواضيع»([23]).

إنّ تواجد الشهيد الصدر مع الفضلاء، وكذلك استخدامه لجملة: «أقرب مكان على وجه الأرض» في تبجيله لعملهم، إنّما يعبِّر بشكلٍ جليٍّ عن مدى اهتمام هذا الرجل الجليل ورغبته بوجوب اتّساع رقعة الدراسات الجماعيّة في الحوزة العلميّة.

والأهمّ من ذلك أن الشهيد الصدر كان يطلب أحياناً من تلامذته أن يعطوا رأيهم في خصوص أعماله وأبحاثه. كما جاء في طلب الشهيد الصدر عند تأليفه لكتابَيْه الثمينين: (اقتصادنا)؛ و(فلسفتنا)؛ إذ نراه يطلب من تلميذه السيد محمد باقر الحكيم مراجعة هذَيْن الكتابَيْن، ومساعدته في تهذيب وتقييم الموضوع([24]).

قال الحكيم: «…من الأمور التي أفتخر بها مساهمتي في تأليف كتابَيْ: (فلسفتنا)؛ و(اقتصادنا). فمشاركتي كانت بصفة تلميذ من تلامذته، لطالما ينظر إليه باعتباره تلميذاً ذكيّاً ولديه القابليّة. فقد كنّا نقرأ هذَيْن الكتابَيْن معاً، ونتناقش في شأن الأفكار المطروحة، وأسلوب التأليف، فيهما، حيث استفدتُ كثيراً من هذه المسألة، سواء من الجانب العلميّ أو من الجانب الأخلاقيّ والسلوكيّ…»([25]).

وفي سياق التأكيد على أهمّية الدراسات والأبحاث الجماعيّة، وكيفيّة تعلّم دروس الأستاذ، وتقريرها، كان الشهيد الصدر يرى أن الأسلوب المتداوَل في الحوزات العلميّة، والذي يقوم الطالب بموجبه بتقرير دروس الأستاذ بمفرده ليس كافياً. ولهذا كان يطلب من تلامذته أن لا يكتفوا بالملاحظات الفرديّة، بل عليهم قدر المستطاع أن يعقدوا الحلقات الدراسيّة، ويشكِّلوا فريقاً لهذا الغرض، وفي كلّ يوم يقوم أحدهم بتقرير درس الأستاذ وشرحه لهم، ويقوم البقيّة بنقده ودراسته، ومن ثم يصار إلى تقرير نتيجة البحث بالتشاور وإبداء الرأي من قبل الجميع([26]).

إن تربية وإعداد العشرات من العلماء الكبار والمجتهدين البارزين في الحوزة العلميّة للشهيد الصدر أثبت عمليّاً مدى صحّة وأهمّية التقريرات الجماعيّة.

وحسب رأي الشهيد الصدر يجب على الحوزات العلميّة استخدام أفضل الطرق وأساليب التعليم في مسألة الأبحاث والدراسات. وإذا استلزم الأمر فعليها أن تطلب المساعدة والعون من المراكز العلميّة الأخرى في هذا المجال. ومن هذا المنطلق عندما رأى كتاباً للكاتب والمحقِّق المصري المعروف عبد الفتاح عبد المقصود حول السيدة فاطمة الزهراء÷ وجد أن أسلوبه في التحقيق ودقّته في تنظيم المواضيع وتقييمها جديدٌ. ولكي يجد هذا الأسلوبُ طريقَه إلى الحوزة العلميّة في النجف بادر مباشرةً إلى طبعه ونشره دون تأخير.

أضِفْ إلى ذلك وضع المصادر والمراجع اللازمة تحت تصرُّف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود؛ لكي يبادر إلى هكذا أبحاثٍ نافعةٍ بحرّيّة أكبر([27]).

 

3ـ التغيير في الثقافة العامّة للحوزة العلميّة ــــــ

إن أيّ برنامج في المجتمع بحاجةٍ قبل كلّ شيء إلى الأرضيّة الثقافيّة المساعدة لإنجازه. ومهما كانت عمليّة التخطيط والبرمجة جيّدة وفاعلة فإنها لن تُجْدي نفعاً ما لم تكن الثقافة العامّة للمجتمع مستعدّة لتفهُّمها وتقبُّلها. والبرامج والمشاريع الإصلاحية في الحوزة العلميّة غير مستثناة هي الأخرى من هذه القاعدة. إن تطوُّر البنية الإداريّة للحوزة العلميّة، وكذلك تغيير أسلوب التعليم: التحقيق والتدريس والامتحانات الدراسيّة والعلميّة، ونجاح أيّ برنامج إصلاحيّ آخر، مرهونٌ قبل أيّ شيء بوجود ثقافة عامّة في الحوزة العلميّة ترقى إلى مستوى تلك الإصلاحات.

وانطلاقاً من أن هذه الخطط والمشاريع قائمةٌ على أساس تحقيق الأهداف السامية للدين الإسلاميّ، وتحكيم دين الله تعالى، وإقامة الحكم الإسلاميّ المقدَّس في المجتمع، فإنّ وعي المنتسبين إلى الحوزات العلميّة بالمسائل السياسيّة والأحداث الجارية في العالم الإسلاميّ، وأنظمة الحكم غير الدينيّة، بل خوضهم فيها بشكلٍ مستمرّ، أمرٌ لابدّ منه، ولا يمكن الحياد عنه. كما أن الوعي والنشاطات السياسيّة والاجتماعيّة لا يمكن تحقيقها بدون التواجد في ميدان النضال السياسيّ والاجتماعيّ، وتسخير الكمّ الهائل من الوسائل الإعلاميّة، والدراية بالخِدَع المختلفة لأعداء الإسلام من الداخل والخارج.

وقد أدرك الشهيد الصدر جيّداً أن أفكاره المبدئيّة في خصوص إصلاح الحوزة العلميّة على مختلف الأصعدة يُعَدّ أمراً في غاية الصعوبة دون التمهيد وتهيئة الأرضيّة الاجتماعيّة والسياسيّة المناسبة، التي تُخْتَصَر كلُّها في إصلاح الثقافة المهيمنة على الحوزة العلميّة ومنتسبيها.

ومن هنا فإنّ أكثر البرامج والجهود والنشاطات السياسيّة والاجتماعيّة للشهيد الصدر في النجف الأشرف إنّما جاءت في إطار هذا السياق.

وكان يبذل ما في وسعه من أجل نبذ الأفكار الخاطئة التي كانت سبباً في حرمان الكثير من المعنيّين في الحوزة العلميّة، وابتعادهم عن الوسائل الإعلاميّة والصحف والمجلات، للتعريف بالدين الإسلاميّ، ونشر المعارف القرآنيّة، وإبعاد تلك الأفكار عن أوساط الحوزة العلميّة. لقد أراد الشهيد الصدر أن يعمل على أقلمة هذا النمط من التفكير في ثقافة الحوزة العلميّة، وهو أن العزوف عن المجتمع والسياسة، ومجافاة عالم الإعلام المقروء، ووسائل الإعلام الأخرى، سيكون مكلِفاً، وأنّه من أجل التصدّي للأفكار ومواجهة الأحداث السياسيّة المختلفة لا سبيل أمامنا إلاّ رفع المستوى الثقافيّ والعلميّ، والتواجد في الميدان الاجتماعيّ والسياسيّ. وفي هذا الجزء من المقالة سنشير إلى جوانب من جهود الشهيد الصدر التي جاءت في هذا السياق، وكذلك آراؤه في هذا الخصوص:

 

أـ مبدأ عدم انفصال الدين عن السياسة ــــــ

تداخل الساحة التي يتحرّك فيها العالم الدينيّ مع السياسة والسلطة، وبعبارة أخرى: عدم إمكانية فصل الدين عن السياسة، أمرٌ واضح؛ لأن علماء الدين هم حماة الإرث الثقافيّ لأهل البيت والمواصلون لطريق الأئمة^ في عصر الغيبة. فهم المتصدّون لنشر المعارف الدينيّة وتعليمها للناس، والحضور في الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة هي رسالتهم. وعلى هذا الأساس كان الشهيد الصدر يؤمن بأن مدارس العلوم الدينيّة يجب أن تكون موجودة في قلب الحدث السياسيّ، وأن انفصال الحوزات الدينيّة عن السياسة لا ينسجم مع المبادئ الإسلاميّة.

«يرى الشهيد الصدر أنه يجب على الحوزة العلميّة أن تباشر نضالها السياسيّ، وهذا هو منهج الإسلام الأصيل، ومنهج الأئمّة^، ويجب علينا أن ننهض للدفاع عن الإسلام وعن كيانه»([28]).

لا يقتصر تكليف العالم الدينيّ على سحب بساطه من الماء، ويحافظ على نفسه من التلوُّث، بل يتحتَّم عليه أن يسحب بساط الآخرين من الماء أيضاً. وليس في وسع الحوزة العلميّة أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء الإيجابيّات والسلبيّات في المجتمع، وسيادة القيم أو أضدادها، وتطبيق الأحكام الإسلاميّة من عدم تطبيقها، في المجتمع، وصلاح الحكومات أو عدم صلاحها. فرسالة الحوزة العلميّة هي رسالة الأنبياء، وليس من نبيٍّ عاش بعيداً عن الناس، ومنقطعاً عن الاهتمام بهذه المسائل.

ولكن من الواضح طبعاً أن التدخُّل في السياسة في جميع الأوقات والأحوال الاجتماعيّة المختلفة ليس له شكلٌ ثابتٌ، وله مدٌّ وجزر، وقوّةٌ وضعف، بحسب ما يقتضيه الظرف الزمانيّ والمكانيّ. ولا يمكن أن نكتب وصفة واحدة لكلّ الأزمنة والأماكن. المهم أن الحوزات العلميّة وعلماء الدين؛ وبمقتضى الرسالة التي يحملونها، لا ينبغي لهم أن يكونوا بعيدين عن الأحداث والقضايا السياسيّة، وغير مبالين بمصيرهم ومصير المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا شأن لهم بالحكومة التي تحكمهم، وببقيّة الحكومات والدول الإسلاميّة. وخلال قرنٍ كامل مضى، وحتّى ثورة الإمام الخميني العارمة على نظام الظلم والإمبرياليّة العالميّة، كان الوعي السياسيّ في الحوزات العلميّة ضعيفاً خاملاً، ولا وجود لنشاطٍ سياسيّ ملفت للنظر. فقد تمكَّنوا من حقن الضعف والخمول في روح الحوزة العلميّة. هذا الخمول والابتعاد عن الأحداث والقضايا السياسيّة كانت له الكثير من الدوافع، لا يسع المجال هنا للتطرُّق إليها، ولكن باختصارٍ هذا اليأس والإحباط أصبح بعد فشل الثورة الدستوريّة في إيران وباءً ألمَّ بالحوزات العلميّة.

هذه الثورة التي انتصرت بتضحيات المرجعيّة الدينيّة والحوزات العلميّة، وبخاصّة الحوزة العلميّة المقدَّسة في النجف الأشرف، وبقيادتها المباشرة الشاملة لها، سقطت فيما بعد بأيدي العناصر المتأثِّرة بالغرب ومرتزقتهم. فقد تمكَّنوا؛ باستغلالهم الماكر الخادع لهذه الفرصة المؤاتية، وللإمكانيات الهائلة التي توفَّرت بفضل حركة المرجعيّة الدينيّة وتواجدها الميداني في الساحة، من تسخيرها باتّجاه تقوية مرتكزات سلطتهم، ومحاربة الإسلام والمؤسَّسة الدينيّة، وفتح ثغرة لدخول المستعمرين.

ولكي تتمكَّن العناصر المتأثِّرة بالغرب من إخراج المؤسَّسة الدينيّة من الساحة، وتهيئة الأرضيّة المناسبة لغلبة أسيادهم، شنّوا موجةً من الهجمات الإعلاميّة المعادية للدين في الصحف والمجلات والإصدارات التي كانت تحت تصرُّفهم، وأقدموا على اغتيال الكثير من الشخصيات بتُهَمْ وافتراءاتٍ واهية، فانكفأ علماء الحوزة العلميّة النجباء إلى بيوتهم؛ خوفاً من هذه الأمور الدنيئة. فالمجتهد الكبير للمدينة الشيخ الشهيد فضل الله النوري أُعْدِم شنقاً، بعنوان أنه المؤيِّد والمساند للاستبداد، وأَلْقَوْا بالكثيرين في السجون والنفي، أو لقوا حتفهم فاستشهدوا.

وفي ظلّ تلك الظروف كانت الحوزات العلميّة تشاهد بأمّ عينها أن السماط الذي افترشوه جلس عليه أعداء الإسلام، وأن الاستبداد والاستعمار الذي أخرجوه من الباب؛ بتضحياتهم بالغالي والنفيس، دخل من الشبّاك، وها هم يحكمون هذه المرّة برداءٍ خادعٍ للناس، وتحت عنوان :(الحرّيّة)، و(سلطة الدستور). هذه المجموعة من الأحداث المرّة تسبَّبت في ظهور حالة الانزعاج والاشمئزاز من السياسة والنشاطات السياسيّة، والتشاؤم الشديد من مقولة السياسة في الحوزات العلميّة، وعلى وجه الخصوص في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف.

الجهود المتواصلة والدؤوبة للاستعمار الإنجليزي؛ من أجل أقلمة فكرة فصل الدين عن السياسة، وتقديم الأنظمة العلمانية على اعتبار أنها أفضل أنواع أنظمة الحكم في البلدان الإسلاميّة، زادت هي الأخرى من نسبة عدم المبالاة، واليأس من السياسة. إنّ الابتعاد عن المسائل السياسيّة أدّى تدريجيّاً إلى الابتعاد عن الإنجازات الغربيّة، وحتى عن الوسائل وأدوات التواصل الاجتماعيّة والوسائل الإعلاميّة، كالراديو والتلفزيون والصحف والمجلاّت وغيرها، بحيث أخذوا ينظرون إلى مقولة السياسة والأعمال السياسيّة في الحوزة العلميّة في النجف على أنها أمرٌ سلبيٌّ، ومخالف للقِيَم([29]).

وتزامنت المرحلة الدراسيّة الأولى للشهيد الصدر في الحوزة العلميّة في النجف بما يشبه هذه الأحداث بشكلٍ وآخر. ففي السنوات الأولى لدراسته شعر بابتعاد الحوزة العلميّة في النجف وعدم مبالاتها بقضايا العالم الإسلاميّ، وأدرك جيِّداً ما آل إليه ابتعاد الحوزة العلميّة والمؤسَّسة الدينيّة عن السياسة، وغيابها عن الميادين السياسيّة، من نتائج مؤلمة على المجتمع الإسلاميّ، وكانت السبب في أن يُصار إلى التأكيد بشدّة على الإبقاء على الأساليب التقليديّة المتداوَلة في كافّة المجالات التعليميّة والإداريّة والإعلاميّة وغيرها، والقضاء تماماً على أيّ حركة إصلاحيّة ممكنة في الحوزة العلميّة([30]).

ومن هذا المنطلق كان الشهيد الصدر يرى ضرورة إصلاح الثقافة العامّة السائدة في الحوزة العلميّة قبل أيّ شيء آخر، والقيام بإزالة الفكرة الخاطئة القائلة بفصل الدين عن السياسة من أوساط الحوزة العلميّة، تلك النظريّة التي أفضَتْ بشكلٍ طبيعيٍّ إلى انفصال المؤسَّسة الدينيّة عن المجتمع والناس، ونمو الأفكار الاعتكافيّة والانعزاليّة والرهبانيّة، وتذكيرهم برسالة الحوزة العلميّة والمؤسَّسة الدينيّة أمام المجتمع، وبضرورة تدخُّلهم في السياسة، وإظهار وعيهم بالأحداث السياسيّة الجارية في العالم الإسلاميّ.

وبالإضافة إلى محاربته الفكريّة لنظريّة فصل الدين عن السياسة فقد وقف ضدّ هذه الخدعة المشؤومة من خلال تواجده في الميادين السياسيّة والثقافيّة، ومنها: تشكيل (جماعة العلماء) في الحوزة العلميّة في النجف، وإصدار مجلة (الأضواء)، وتأسيس (حزب الدعوة الإسلاميّة)، وإخراج الحوزة العلميّة في النجف من حالة السكون والركود. وانطلاقاً من أن الابتعاد عن السياسة والمجتمع، والانكفاء إلى البيت والحوزة، كان يُنظر إليه على أنه أسلوبٌ ينمّ عن الزهد والتقوى والطهارة فقد كان الشهيد الصدر يرى أنّ أيّ نجاح وتوفيق في هذا المجال مرهونٌ بالاتّصال القريب مع المراجع وعلماء الحوزة العلميّة الكبار. ومن هنا فقد كان على اتّصال دائم بالسيد محسن الحكيم، المرجع الأعلى للشيعة، وكتب عدّة مقالات في مجلة (الأضواء)، مستفيداّ في ذلك من توجيهاته وإرشاداته، مبيِّناً فيها رسالة الحوزة العلميّة ومتطلَّبات الإسلام.

ب ـ مشروع الحكومة الإسلاميّة ــــــ

طبقاً لمبدأ ولاية الفقيه فإنّ إدارة شؤون المجتمع وإقامة الحكومة الإسلاميّة في عصر الغيبة يُعَدّ من أهمّ واجبات علماء الدين. ومن الواضح أنه لا يمكن إنجاز هذه المهمّة دون إجراء التغييرات الجوهريّة، وامتلاك الرؤية السياسيّة والاجتماعيّة الصحيحة، والمعلومات الواسعة. ومن هنا فالإصلاح في البنية الفكريّة للحوزة العلميّة، ورفع المستوى الثقافيّ والوعي السياسيّ ـ في رأي الشهيد الصدر، الذي يُعَدّ من المنظِّرين والمؤيِّدين الأقوياء لولاية الفقيه ـ هو أمرٌ في غاية الأهمّية.

وكان الشهيد الصدر يرى أنّه يجب على الحوزات العلميّة تهيئة نفسها بما أوتيت من سرعة لترجمة هذا الأمر على أرض الواقع؛ لأنّ الحكومات الطاغوتيّة الظالمة، وتحت أيّ مسمى كانت، باطلةٌ ومرفوضةٌ وفقاً للرؤية الإسلاميّة، وعلى الناس التصدّي لها ومحاربتها، وتطبيق قانون الله وحكومة الحقّ والعدل على جميع جوانب الحياة. وهذا الأمر يجب أن ينفَّذ على أيدي المرجعيّة الدينيّة والحوزات العلميّة في زمن الغيبة.

ويقول أحد تلامذة الشهيد العزيز في هذا الصدد: «أما روحه الجهاديّة الثورية فقد كانت تطلع على الحوزة بشيءٍ جديد، هو إعدادها للثورة على الباطل، والوثبة على الطاغوت ـ بعد نشر الإسلام وبثّ الوعي وتعبئة الجماهير ـ، فهو شأنها الذي خُلقت له، وفرضها الذي يلزمها أن تؤدّيه. وكان هذا هو أكبر هدفه من تغيير منهج الحوزة وتجديد مسيرها وإعادة بنائها بروح جديدة…»([31]).

وتجدر الإشارة إلى أن النقطة الأهمّ، التي لطالما أكَّد عليها الشهيد الصدر في كلّ زاوية من زوايا كتاباته ومؤلَّفاته، هو النظر إلى الدين باعتباره النظام الكامل للحياة، والبرنامج الصحيح لإدارة شؤون المجتمع.

والواقع أن إصراره على إصلاح الكثير من إخفاقات الحوزة العلميّة إنّما جاء في إطار هذا السياق؛ لأنّه كان يرى أن علماء المسلمين والحوزات العلميّة الكبيرة في النجف وكربلاء يهتمّون بدراسة الفقه والأصول فقط، ويعتقدون أن الفقه والأصول معنيّان بالأفعال الفرديّة، وتنظيم علاقة الفرد بالله تعالى، ولا يعيرون أهمّية للزوايا الاجتماعيّة للدين الإسلاميّ، وتنظيم علاقة الأفراد بين بعضهم البعض، ومع السلطة، ومع المجتمعات الأخرى، وغير ذلك، فكان يتألَّم لذلك. ولهذا شرع في أعمالٍ واسعة؛ من أجل القضاء على هذا التصوُّر الخاطئ، واقتلاعه من محيط الحوزات العلميّة، وتنبيه علماء الدين إلى البعد الاجتماعيّ للفقه، ورسالة الحوزة العلميّة في إقامة الحكومة الإسلاميّة، وتطبيق أحكام الله، وطرح موضوعة ولاية الفقيه في الحوزة العلميّة في النجف بشكل جادّ. يقول أحد تلامذته: «لعلّه من أوائل العلماء في الحوزة العلميّة في النجف الذين اعتبروا أنّ نظريّة ولاية الفقيه تقوم على قاعدة فقهيّة صحيحة، كما كان إمام الأمّة أيضاً يرى ذلك، ويعتقد بأنّ المنهج الصحيح للثورة والمنهج الثوري للثورة الإسلاميّة يجب أن يكون قائماً على هذه القاعدة، وعلى هذا الأصل»([32]).

ومن هذا المنطلق عندما طرح الإمام الخميني موضوع ولاية الفقيه في الحوزة العلميّة في النجف رحَّب الشهيد الصدر بذلك، وأصدر تعليماته لتلامذته وأصدقائه بالحضور في دروسه، وأن يقرؤوا البحوث الفقهيّة للإمام الخميني حول ولاية الفقيه، التي كانت تنشر آنذاك في كتيِّبات صغيرة، بدقّة، وأن يسخِّروا طاقاتهم باتّجاه تحقيق أهدافه.

وفي الحقيقة مثَّلت التنظيمات السياسيّة (حزب الدعوة)، التي وضعت لبناتها من قبل الشهيد الصدر، خطوةً مهمّة باتّجاه تطبيق ولاية الفقيه.

فقد كان الشهيد الصدر يهدف إلى أن يُنَظَّم الشباب والمثقّفون المسلمون في العراق في تنظيم سياسيّ، ويشكِّلوا الذراع السياسيّة والاجتماعيّة القويّة لخطّ ولاية الفقيه.

 

التوعية والتثقيف ــــــ

ابتعاد الحوزة العلميّة عن تعاطي المسائل المتعلِّقة بالحكومة في السنوات التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، والذي أشرنا إليه في الفقرات السابقة، تسبَّب بدوره في أن يعمّ نوعٌ من النظرة الضيِّقة على أجواء الحوزة العلميّة العامّة، والدروس الفقهيّة، وتتَّجه إلى تناول المواضيع الفقهيّة والاجتماعيّة من زاوية التكاليف الفرديّة في الغالب الأعمّ، وتبتعد بالتالي عن الكثير من الوعي اللازم في الجوانب الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها. وفي رأي الشهيد الصدر يُعَدّ ذلك نقصاً كبيراً، وإن استمراره ليس في صالح الحوزة العلميّة. وعلى هذا الأساس قام بسلسلة من النشاطات الثقافيّة في إطار إصلاح البنية الثقافيّة للحوزة العلميّة، ورفع مستوى الوعي والثقافة المعاصرة لدى الحوزويين، وسعى إلى إبراز البعد الاجتماعيّ للإسلام، وشموليّة الفقه الشيعي الثرّ.

وقد ألَّف الشهيد الصدر كتبه القيِّمة: (فلسفتنا)؛ و(اقتصادنا)؛ وغيرها، ضمن هذا الإطار؛ ولكي يعكس ذهنيّة صحيحة وشاملة عن جميع أبعاد الدين الإسلاميّ، والنظريّات الفلسفيّة والاقتصاديّة الحديثة.

وضمن التأكيد على شمولية الإسلام، ووجوب تناول البعد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والحكومة في الفقه، يقول في مقدمة كتاب (اقتصادنا): «…لتكتمل لنا في نهاية المطاف ذهنيّة كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة حيّة في الأعماق، ونظاماً كاملاً للحياة، ومنهجاً خاصّاً في التربية والتفكُّر»([33]).

اقتصرت الأبحاث الفقهيّة في العقود الأخيرة على الجوانب الفرديّة؛ بسبب تأثُّرها بالتغيُّرات السياسيّة المرّة؛ إذ إن أكثر الجهود كانت تُبذَل من أجل أن يُصار إلى دراسة المعارف الدينيّة من زاوية علاقة الإنسان بالله تعالى، ولم تكن المفاهيم الاجتماعيّة والسياسيّة معنيّة بالبحث في هذه الدراسات. ومن الواضح ما كان يمكن أن تسبِّبه هيمنة هذا النمط من التفكير من نتائج مؤلمة على الحوزات العلميّة.

ويقول الشهيد الصدر، لدى تطرُّقه لذكر بعض الحالات الفقهيّة والأصوليّة من هذه النظرة المحدودة الضيقة ونمط التفكير الفرديّ: «الأهداف المحدودة وتناول الجوانب الفرديّة ناجمٌ عن الضنك الذي كان الفقه يعاني منه في الواقع الخارجيّ. ومن هنا أخذ الفقه يعتمد تدريجيّاً على الجوانب الشخصيّة، وتُركت المواضيع الاجتماعيّة»([34]).

وبناءً على ذلك فالتوعية، والسعي باتّجاه رسم المسار الفكريّ والثقافيّ الصحيح في الحوزات العلميّة، ورفع مستوى الوعي لدى الحوزويين، هي من مستلزمات القيام بحركة إصلاحية في الحوزة العلميّة، بحيث إنّه بدون توفُّر هذه المقدّمات لا يمكن تحقيق التغيير المنشود.

الهوامش:

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلمية، متخصِّص بالدراسات الفقهيّة المعاصرة.

([1]) السيد محمد باقر الصدر، همراه با تحوّل اجتهاد: 26، ترجمة: أكبر ثبوت، المطبوع في (مجموعة من مؤلَّفات الشهيد الصدر).

([2]) السيد محمد باقر الصدر، سر چشمهاي قدرت در حکومت إسلامي: 3، ترجمة: أكبر ثبوت، المطبوع في (مجموعة من مؤلَّفات الشهيد الصدر).

([3]) السيد كاظم الحسيني الحائريّ، مباحث الأصول 1: 19، مكتب الإعلام الإسلاميّ، قم.

([4]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 19/1/1363، الرسالة الخاصّة للشهيد الصدر إلى السيد محمد باقر الحكيم.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) مباحث الأصول 1: 94 ـ 99.

([7]) فاضل نوري، الشهيد الصدر: شمائله وفضائله: 92.

([8]) السيد محمد الموسوي، زندگی نامه شهيد صدر: 10 ـ 15، بشير، قم.

([9]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 20/8/1370، السيد كاظم الحائري.

([10]) السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 1: 114 ـ 118، دار الكتاب اللبناني.

([11]) زندگی نامه شهيد صدر: 29.

([12]) آغا بزرگ الطهراني، الميرزا الشيرازي، وزارة الإرشاد الإسلامي.

([13]) السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة 45: 48، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

([14]) المصدر نفسه.

([15]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 20/8/1370.

([16]) مجلة (آيينه پژوهش)، العدد 4: 85.

([17]) دروس في علم الأصول 1: 5.

([18]) رتّب الشهيد الصدر رسالته العملية في أربعة محاور أساسية: العبادات؛ الأموال؛ السلوك العامّ؛ السلوك الخاص. وقسَّم كلّ محور من هذه المحاور إلى ما يناسبه من أبواب، ونظّم جميع المواضيع الفقهيّة في هذه المحاور (راجع: (الفتاوى الواضحة: 123 ـ 125، دار التعارف للمطبوعات، بيروت).

([19]) ملاحظة: هذا الأسلوب كان شائعاً إلى حدٍّ ما بين الفقهاء القدامى، كما كان يفعل الشيخ المفيد في (المقنعة)، والشيخ الصدوق في (الهداية)، والشيخ علاء الدين أبو المجد الحلبيّ في (إشارة السبق)، وغيرهم؛ إذ ذكروا في طليعة موضوع الأحكام فصلاً مختصراً عن الأصول العقائدية، ومن ثم ذكروا أبواب الأحكام الفقهيّة بشكلٍ متسلسلٍ، إلاّ أن هذه السنّة الحسنة تُركت رويداً رويداً، ولم يَعُدْ هذا الأسلوب يلاحَظ ـ للأسف ـ بين المتأخِّرين والمعاصرين. وبناءً على ذلك يمكن القول: إنّ الشهيد الصدر أحيا هذه السنّة.

([20]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 20/8/1370.

([21]) الفتاوى الواضحة: 83.

([22]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 20/8/1370.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، المطبوع ضمن (مجموعة مؤلَّفات الشهيد الصدر) 10: 26.

([25]) زندگی نامه شهيد صدر: 33.

([26]) المصدر السابق: 15.

([27]) مجلة (الحوار)، العدد 30 ـ 31: 117 ـ 118.

([28]) زندگی نامه شهيد صدر: 30.

([29]) مجلة (الحوزة)، العدد 41 ـ 42، مقابلة مع واعظ زاده الخراساني.

([30]) الشهيد الصدر: فضائله وشمائله: 94.

([31]) المصدر نفسه.

([32]) صحيفة (جمهوري إسلامي)، بتاريخ: 19/1/1361، الرسالة الخاصّة بلقاء السيد محمود الهاشمي.

([33]) اقتصادنا، المطبوع ضمن (مجموعة مؤلفات الشهيد الصدر) 10: 25.

([34]) مجلة (فقه أهل البيت^)، العدد 1: 38.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً