أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ أحمد مبلِّغي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

قرائن الرجوع إلى التوافق حيث لا نصّ للشارع

هناك قرائن تثبت أن الناس كانوا يتعاملون مع النصوص الخاصّة بالعدالة بحيث كلّما كان هناك للشارع خطابٌ بشأن العدالة في إطار حكمٍ تقيَّدوا بذلك الحكم، وحيث لا يكون للشارع خطابٌ أو كلامٌ رجعوا في إقامة العدالة إلى أنفسهم.

مساحة الحكم

القرينة الأولى: التعزير بالجلد من قِبَل الحكومة. إن من بين القرائن في مجال إدارة الدولة أن الخلفاء بعد رسول الله| كانوا يستخدمون الجلد أحياناً. وهذا لا يقتصر على الخليفة الثاني فقط، فقد كان الإمام عليّ بن أبي طالب× في الكثير من المواقع يحمل معه السوط في الأسواق؛ ليعاقب المجرمين عند الضرورة. ومن ذلك أنهم عندما أرادوا إقامة صلاة التراويح جماعةً بعث إليهم بالإمام الحسن×، وأعطاه السوط؛ ليردعهم عن هذه البِدْعة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ألم تكن هناك حدودٌ وعقوبات محدّدة، فما هي الحاجة إلى استخدام السوط؟ إن السبب في ذلك أن هناك موارد لا يُعاقَب عليها بالحدّ فقط، بل يتمّ في بعض الموارد تعيين عددٍ من السياط طبقاً لتشخيص الحاكم، وكان الشارع يعتبر ذلك طريقةً لتحقيق العدالة، والحيلولة دون الظلم، من دون محاكمة العاصي. إذن فالرؤية التي كانت سائدةً آنذاك هي أنهم حيثما تكون هناك عقوبةٌ محدّدة تقيَّدوا بها، ولكنهم لم يكونوا يقتصرون في تطبيق قواعد العدالة على تلك الموارد فقط. ويمكن اعتبار هذه الموارد نوعاً من التعزير. إن التعزير علامةٌ على أنه يمكن تعيين بعض العقوبات بما يتناسب مع الأوضاع والشرائط والمقتضيات، والاتّجاه نحو تحقيق العدالة على أساس تلك الآليات.

_ إن هذه القرائن كانت بالنسبة إلى القسم الأوّل، حيث تكون الجريمةُ وحدُّها معلومين، من قبيل: الغلاء، والاحتكار، والغشّ أو التدليس. وعليه حيثما تحقَّق عنوان الجرم كان الإمام× يجري الحدّ أو التعزير؛ ولكنْ ليس من المعلوم أن الإمام كان يؤسِّس موضوع الجرم، أو أن هذا الأمر كان لغرض تفويض العدالة.

^ إن سؤالكم ينظر إلى هاجسٍ آخر، ولكنّه خارج موضع بحثنا حالياً. إن سؤالكم يقول: هل هذا الجلد كان بعد إثبات الجرم وتحقُّقه؟ إن هذا بحثٌ حقوقيّ جديرٌ بالدراسة.

_ الذي أريد قوله هو أن قرينتكم أعمّ من المدَّعى؛ لأنها تنسجم كذلك مع احتمال أن الشارع يكون قد بيَّن جميع الأحكام، وليس على الناس إلاّ تطبيقها.

تأكيد وصحّة قرينة التعزير

^ لقد ذكرتُ احتمالين: أحدهما: إن تطبيق العدالة لم يُلْقَ بالضرورة على عاتق الأحكام، وفي الحقيقة لا ينبغي الاكتفاء في تحقيق العدالة بتطبيق الأحكام فقط. إن الإسلام قد خصَّص جانباً من العدالة على الأحكام، وترك الجانب الآخر على حاله؛ لكي يتولّى المجتمع تطبيق العدالة فيه بنفسه. وعندها تتبلور قاعدة العدالة بطبيعة الحال، بمعنى أنه حيثما تكون هناك عدالةً يجب عليكم تحقيقها. إذن فالعدالة التي يتمّ رصدها في قاعدة العدالة هي العدالة التي تتمّ إحالتها وتفويضها إلى المجتمع؛ كي يعمل على تطبيقها حيثما وجدها. وهذا على خلاف العدالة التي يتمّ تعريفها وتفصيلها في ضوء الأحكام.

_ بمعنى أنه كما يذهب أهل السنّة إلى القول بأن المصالح المرسلة قد تمّ تفويضها إليهم فإننا بدَوْرنا نقول هنا: إن الله إذا قام بتعريف العدالة ضمن حكمٍ من الأحكام لا تكون هذه العدالة مفوّضةً إلينا، وأما إذا لم يتمّ تعريفها أو تشريعها ضمن أيّ حكمٍ من الأحكام، نفياً أو إيجاباً، عندها يجب علينا تحقيقها بأنفسنا.

 

مقارنة تفويض العدالة بالمصالح المرسلة

^ هناك في المصالح المرسلة نقطةٌ رُبَما تجعلها مختلفةً عن العدالة، وهي أن بعض علماء أهل السنّة قالوا في تعريف المصلحة المرسلة: «لم يَرِدْ في اعتبارها ولا في إلغائها نصٌّ»، بمعنى أن الشارع ساكتٌ في هذا الموضوع. ثمّ قال آخرون: إن هذا غير ممكنٍ أبداً؛ إذ إن جميع المصالح تندرج ضمن عنوانٍ كلّي عامّ، وعليه ليس هناك إرسالٌ، وإنما هناك اعتبارٌ، غاية ما هنالك أنه اعتبارٌ من طريق النصوص الكلّية. ولذلك فإن بعض علماء أهل السنّة يرَوْن عدم صوابية المصالح المرسلة.

_ ألا يَرِدُ الآن هذا الإشكال على كلامكم؟ ألا يوجد لدينا موضعٌ تركه الشارع؟

^ قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا﴾ (المائدة: 8).

_ هل لكُم أن تذكروا لنا آياتٍ، غير قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا، و﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (البقرة: 279)، ترك الشارع فيها حكماً؛ أو تذكروا موضعاً تعرَّضت فيه أدلّة الأصول العملية إلى حكمه في الحدّ الأدنى؟

 

قاعدة العدالة قبل الأصول العملية وبعد أدلّة الأحكام

^ لا يتحدَّث هذا الافتراض برمّته عن أصالة البراءة، وإنما هو يتضمَّن قاعدة العدالة أيضاً. هناك لدينا ثلاثة أمور في هذا الشأن، وهي أوّلاً: النصوص التي تعرِّف العدالة وتتحدَّث عنها في بعض المجالات بشكلٍ واضح. وثانياً: القاعدة العامّة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا﴾، التي تأمر بتحقيق العدالة، دون أن تتعرَّض إلى تسمية مصاديقها. وثالثاً: أدلّة الأصول العملية، من قبيل: البراءة، والاحتياط، والاستصحاب، والتخيير.

يجب أن تعملوا على حلّ التصادم والاحتكاك فيما بينها. ورُبَما عمد شخصٌ إلى حلّ هذا التصادم بالقول: حيثما يتصدّى الشارع للعدالة وجب علينا تطبيقها. وبطبيعة الحال فإن قاعدة العدالة إنما تكون في موارد عدم تدخُّل الشارع. وإننا إنما نعرِّف قاعدة العدالة في المجال الذي لم يَرِدْ فيه بيانٌ من قِبَل الشارع. وعليه يتمّ حلّ ارتباط قاعدة العدالة بتلك الأحكام المتضمِّنة للعدالة. تبقى قاعدة العدالة وأدلّة الأصول العملية، من قبيل: أصالة البراءة، حيث يجب ـ على حدّ تعبيركم ـ أن تتّضح العلاقة بين هذه الأدلة، وأيّها هو الحاكم؟ وأيّها هو الوارد؟ وهذا بحثٌ آخر. بَيْدَ أن الذي نفترضه هنا ـ على كلّ حالٍ ـ يكمن في الناحية التاريخية، وهو أن الناس كانوا يرَوْن أنفسهم أمام ثنائيتين، بمعنى أن الشارع في بعض الموارد يتصدّى بنفسه، وفي بعض الموارد يصدر أحكاماً، وفي بعض الموارد يختار السكوت أو يأتي بنصٍّ عامّ، من قبيل: قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا﴾. وبطبيعة الحال فإن الناس؛ حيث لم يصدر عن الشارع شيء أو يكون فهمهم قائماً على الرجوع إلى أنفسهم، فإنهم يرجعون إلى أنفسهم من الناحية العملية.

التأكيد مجدَّداً على صحّة قرينة التعزير

إن القرينة التي ذكرتُها في ما يتعلَّق بالتعامل مع المجرمين كذلك أيضاً، حيث نرى أن الشارع قد حدَّد بعض العقوبات، وأن الناس في ذلك العصر، ضمن علمهم الدقيق بحكم شارب الخمر على طبق النصّ، فإنهم حيث لا يكون هناك نصٌّ ولا تدخُّل من قبل الشارع، وحيث يرَوْن تفويض تحديد عدد السياط في الجلد إليهم، كانوا يتوجَّهون إلى تطبيق العدالة بأنفسهم. وعلى هذا الأساس فإن الفهم والرؤية التي كانت سائدةً في ذلك العصر هي أنهم لم يكونوا يعتبرون النصوص الصادرة والمحدّدة من قِبَل الشارع هي القناة الوحيدة لتحقيق العدالة، بل كانت هناك طرقٌ أخرى تنبثق من صلب التقاليد والأعراف الاجتماعية أيضاً.

صحّة قرينة التعزير حتّى مع عدم وجود القاعدة

لا فرق في إثبات هذا الأمر بين إدراج الجلد تحت قاعدةٍ كلّية وعامّة، بأن يقال: «يحقّ للحاكم أن يعمل على تطبيق العقوبات في بعض الموارد»، أم لا يتمّ إدراجها تحت قاعدةٍ كلّية. وعلى كلّ حال فإنه من الممكن إثبات أن الناس كانوا يرجعون إلى أنفسهم ومقتضيات عصرهم في إقامة العدالة، وكانوا يحدّدون لكلّ مجرمٍ عقوبةً بما يتناسب مع وضعه وحالته الجسدية. وهذه القرينة في مورد إدارة الحكم.

الظلم في بعض التعزيرات

وبطبيعة الحال لو أن الحاكم أو الأمير تمادى في رفع عدد السياط كانوا يعدّون ذلك ظلماً أيضاً، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن شخصاً جاء إلى عمر بن الخطّاب، وقال له: إن أبا موسى الأشعري قد جلده ظلماً، وأثبت مدَّعاه بالأدلة، فحكم الخليفة على أبي موسى الأشعري بالقصاص.

دائرة القضاء

القرينة الثانية: تعدُّد أساليب القضاء. إن قوانين القضاء تمثِّل جزءاً من العدالة. وإن قوانين العدالة يمكن أن تكون عادلةً، ويمكن أن تكون ظالمة. وفي السابق كنا نشهد ممارسة قوانين قضائية مختلفة كانت تنبثق من صلب المجتمع، وكان بإمكان الناس الرجوع إلى عدّة محاكم لإحقاق حقوقهم، ومن بينها: «دكّة القضاء»، و«تجميع القرائن». إن القصص المنقولة بشأن عجائب قضاء الإمام عليّ× تثبت أن الإمام كان يمتلك أساليب خاصّةً للكشف عن الجرائم، والتعرُّف على المجرمين، وإثبات الجريمة. وكان هؤلاء في جميع الموارد يعتبرون الإمام عادلاً. وعليه فإن هذا يثبت أن الأمور قد تمّ تفويضها، وهي تعتمد على كفاءة ودقّة وفطنة القاضي. وإن جميع هذه الموارد تندرج ضمن العدالة بنحوٍ من الأنحاء، ولا يمكن القول: إنها ليست جزءاً من العدالة، ولا ربط لها بها. يُقال أحياناً: إن القضاء في الدولة الفلانية أكثر عدلاً؛ لأنه يجيز للمتَّهم أن يدافع عن نفسه، ويعطيه الحقّ في الكلام. إن الأساليب بدَوْرها من مصاديق العدالة. وإن عدالة الأسلوب تعني أنه يستطيع تحقيق العدالة بشكلٍ أفضل. إن الأسلوب الظالم يمكن أن ينطوي على نتائج ظالمة.

الفصل بين الإمام عليّ× بوصفه شارعاً وبوصفه حاكماً

_ إن قضاء الإمام عليّ× بوصفه إماماً وشارعاً يختلف كثيراً عن كونه حاكماً اعتيادياً. لقد كان الناس يمنحون الإمام حقَّ التشريع بوصفه خليفة النبيّ الأكرم ويعتبرونه مشرِّعاً. كان من الأفضل أن تذكروا هنا مثالاً عن قضاء الحكّام الاعتياديين؛ كي يتمّ تنقيح البحث أكثر. ليس هناك كلامٌ في حجِّية فعل وقضاء الإمام عليّ×، ونحن إنما نستند إليه لأنه يمثِّل دائرة الشرع التي ترسم حدود العدل.

^ لقد تنبَّهتُ إلى هذا الإشكال. وجوابُه أن ذات السلوك الذي يقوم به الإمام بوصفه حاكماً ينطوي على واقعٍ يثبت أنه لا يشير إلى تدخُّلٍ خاصّ من قِبَل الشارع، ومن ذلك ـ مثلاً ـ أنه كان يكتفي في بعض الموارد بضرب المذنب جلدتين فقط، وتارةً أخرى أربع جلدات. ولم يكن الناس يفهمون من ذلك أن حكم الله في المورد الأول جلدتان، وفي المورد الثاني أربع جلدات، بل مهما بلغ عدد السياط التي يقرِّرها الإمام يمكن القول: إنها بحقٍّ، ولكنْ لا يمكن التعبير عن قراره بالنسبة إلى عدد السياط بأنه ثابتٌ في اللوح المحفوظ؛ فقد كان الإمام يمارس هذا السلوك بوصفه حاكماً.

_ لو كانت هناك قرينةٌ على أن ما قام به الإمام كان من جهة كونه حاكماً، أو كانت هناك قرينةٌ على أنه كان بصدد بيان الحكم من جهة كونه شارعاً، كان التكليف واضحاً. ولكنْ حيث لا تكون هناك أيُّ قرينةٍ في البين فإن الأصل الأوّلي في أفعال وأقوال أهل البيت^ هو أنها بيانٌ لأحكام الله سبحانه وتعالى.

المنازل المختلفة للأئمة (عليهم السلام)

^ أرى أن الأئمّة كانت لهم منازل ومواقع عديدة، وعليه يجب أوّلاً أن نتعرّف على تلك المنازل؛ لنرى بعد ذلك ما هو الأصل الأوّلي. فمن بين منازلهم بيان الأحكام؛ ومن منازلهم الأخرى أنهم بشرٌ مثل سائر الناس، فإنهم يأكلون ويشربون ويعيشون حياتهم. فلم يكن الأمر بحيث لو اكتفى أحدهم بتناول خمس لقيمات كان هذا هو حكم الله في اللوح المحفوظ، وأن الإمام في تناول هذه اللقيمات كان بصدد تطبيق حكم الله. إن الناحية البشرية من الإمام لا ربط لها بحكم الله. كما أن مشيه البطيء أو السريع يأتي بهذا المعنى أيضاً. وبطبيعة الحال يمكن ربط هذه الأمور بالأصول العامّة والكلّية. وما أن يتمّ ربطها بالأصول الكلّية حتّى يثبت ما ندَّعيه. إننا ندَّعي أن بعض الأمور قد تمّ تفويضها. كما أن لهم شأناً ومنزلاً ثالثاً. نحن ننظر إلى الرؤية العامّة التي كانت تنظر إلى الإمام بوصفه حاكماً يحمل على عاتقه تقويم الانحراف من خلال فرض بعض العقوبات، كما كان يفعل الخليفة الثاني والخليفة الثالث والخليفة الرابع. يمكن لنا أن نناقش ونقول: إن الخليفتين الثاني والثالث؛ حيث لم يكونا شرعيين، لم يكن لهما الحقّ في إقامة التعزير على الناس أصلاً، ولكنْ لا يمكن القول: إن هذا كان هو الفهم العامّ أيضاً. إن الكثير من الأشخاص الذين كانوا يحملون السياط يثبتون أن هذا الأمر كان خارجاً عن دائرة الحكم الشرعي، وإنما كان هذا الأمر مركوزاً في الفهم العامّ، وهو أن الحاكم يريد تطبيق العدالة، حتّى إذا رأى في مورد رجلاً يظلم زوجته عاقبه دون تشكيل محكمةٍ. في ذلك التقرير التاريخي نجد أن الإمام يرفع الرجل، فيدرك الرجل أنه أمير المؤمنين، فيعتذر. فهل يوجد في اللوح المحفوظ أن رفع الرجل من حدود الله؟! وبطبيعة الحال يمكن القول: حيث إن الشارع لم يكن يريد خروج شيء من مداره فإنه كان في بعض الموارد يبيِّن عدد السياط بشكلٍ محدّد، وفي بعض الموارد يعمد إلى تفويض ذلك إلى الحاكم؛ كي يعمل على تحديده طبقاً لمقتضيات العصر، فيبيِّن عدد السياط، ونوعها، وما إذا كان يجب أن تكون في الخفاء أو على مرأىً من الناس. وهذا جزءٌ من ادّعائنا؛ حيث نقول بتفويض جزءٍ من العدالة.

تفويض التعزير حتّى إذا كان تحت الضابطة

إذا كنتم تريدون تشريع هذا الموضوع يمكن القول: إنه داخلٌ تحت الأصول الكلّية. وإن الأمر لكذلك في الواقع. ونحن نعتقد أن تدخُّل الشارع يكون في بعض الموارد بشكلٍ مباشر؛ وفي بعض الموارد الأخرى بشكلٍ غير مباشر. ولدينا روايةٌ تقول: ليس هناك شيءٌ إلاّ وله أصلٌ في القرآن.

دائرة الاقتصاد

القرينة الثالثة: فهم الإنصاف من العدالة الاقتصادية. كما نرى أن فهم الناس في المسائل الاقتصادية يتّجه إلى وجوب رعاية الإنصاف أيضاً. كان هذا هو فهم الناس للعدالة في الفَيْء وبيت المال والغنائم، ولم يكونوا يحملون رؤيةً طبقية من هذه الناحية. وقال الإمام عليّ× في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90): «العدل الإنصاف، والإحسان التفضُّل»([1]). فكان الفهم العامّ ـ بالالتفات إلى التعاليم الشرعية والاتجاهات العريضة ـ يقوم على أن العدل عبارةٌ عن المساواة. وبطبيعة الحال فإن هذا المعنى يختلف عن العدالة الفلسفية؛ إذ لا معنى للمساواة في العدالة الفلسفية. وفي المجتمع الطبقي لا يتمّ توزيع الحصص بالتساوي؛ لأن التساوي لا يتطابق مع المقامات الطبيعية للأشخاص.

كيفية فهم الإنصاف بوصفه قرينةً

إن العدالة بمعنى الإنصاف إنما يمكن لها أن تكون قرينةً إذا قلنا: إن الشارع لم يتحدَّث عن الإنصاف بشكلٍ خاصّ، وإنما أمر بمراعاة العدالة فقط، وعندها حيث يتّجه الناس إلى تطبيق العدالة فإنهم يرجعون إلى فهمهم، وفهمهم للعدالة يدور حول محور الإنصاف والمساواة.

إنصاف الإمام عليّ (عليه السلام) على أساس العدالة التوافقية

إن النقطة التي يجب التذكير بها هنا هي أن بعض الأمراء وأفراد جيش الإمام عليٍّ قد تركوه والتحقوا بجيش معاوية في أصعب الظروف التي واجهها الإمام في فترة حكمه، فعمد بعض الشخصيات من نُخْبة ذلك المجتمع أو المؤمنين المحيطين بالإمام عليٍّ× ـ من أمثال: مالك الأشتر ـ إلى تقديم مقتَرَحٍ على الإمام يقضي بإعطاء المعارضين سهماً أكبر من العطاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان هذا الاقتراح منهم يعبِّر عن تحقيق للعدالة أم هو نوعٌ من الرضوخ للظلم؟ لا شَكَّ في أنهم ـ بطبيعة الحال ـ لم يكونوا ينشدون الظلم، وإنما كانوا يرَوْن أن الأحجى في حالة تأزُّم ظروف العدالة هو زيادة أسهم البعض، وإنقاص أسهم البعض. وكأنهم كانوا يرَوْن العدالة في بسط يد الحاكم. ولكنّنا مع ذلك نجد الإمام يرفض هذا المقتَرَح. قد يقول شخصٌ؛ بالالتفات إلى هذا الموقف: إن الإمام عليّاً× لم يكن يؤمن بالعدالة التوافقية؛ لأن توافق هذه الجماعة من أجل حلّ المشكلة كان يقوم على أساس رفع أسهم البعض، وكان يجب على الإمام أن يرضخ لهذا التوافق، ولكنّه لم يفعل.

وفي الجواب عن ذلك يجب القول: إن الإمام كان يؤمن بالعدالة التوافقية ـ إذا كان هناك من توافقٍ في البين ـ، ولكنّه إنما يؤمن بهذه العدالة التوافقية إذا انبثقت من صلب المجتمع، وليس تلك التي يتقدَّم بها عددٌ من الناصحين والمستشارين بتأثيرٍ من مواجهتهم لبعض مشاكل الدولة، في حين تتّجه أنظار عامّة الناس إلى الإنصاف والمساواة. فإذا كان هذا الجواب صحيحاً لا يكون الإمام قد رضخ إلى التوافق، بل كان هذا هو التوافق في تلك المرحلة القصيرة من الزمن. وبطبيعة الحال لو أن جميع أفراد المجتمع قد اتّفقوا على أن العدالة لا تعني المساواة دائماً، وكان هذا التوافق منبثقاً من صلب تقاليدهم وأعرافهم، أمكن القول: إن الإمام لم يكن يرى العدالة توافقيةً، ولكننا لا نعلم تحقُّق مثل هذا التوافق في تلك المرحلة.

القرينة الرابعة: عدالة الخليفة الثاني غير المنصفة في الاقتصاد. حدثت في عصر الخليفة الثاني مجاعةٌ في بلدةٍ، فقام الخليفة الثاني بإرسال مساعدات إلى تلك البلدة من بيت مال المسلمين، في حين أن بيت المال يجب أن يكون للجميع بالسويّة، وليس لتلك البلدة وحدها، ولكنّه قام بذلك، وتمكَّن من احتواء المجاعة. وبعد انتهاء الأزمة صرَّح الخليفة قائلاً: لو لم يتمّ القضاء على المجاعة لأخذت من الأشخاص أموالهم الخاصّة وقسَّمْتُها على ذوي الحاجة بالتنصيف. وهنا علينا أن نرى هل كانت رؤية المجتمع متطابقةً مع رؤية الخليفة؟ فإنْ كان الأمر كذلك كانت هذه العدالة توافقية، وأما إذا كانت هذه الرؤية مجرّد اجتهاد من الخليفة الثاني فلا تثبت العدالة التوافقية.

ظهور الخوارج

القرينة الخامسة: ظهور الخوارج قرينةٌ على تفويض العدالة. أذكر هنا قرينةً أخرى أيضاً، ورُبَما أمكن فتح باب البحث بشأنها لاحقاً. وتتمثَّل هذه القرينة بظهور تيّار الخوارج، وقد كان لهذا التيّار أفكاره وأداؤه الخاصّ. ولم يقتصر سلوك هذا التيار على الخروج على السلطة والنظام، بل كانت حتّى أفكارهم تمثِّل خروجاً عن أفكار المجتمع في عصرهم، وكان شعارُهم يقوم على قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ (الأنعام: 57)([2]). إن هذا الشعار يقوم على الافتراض الأوّل، وهو أن الشارع قد جعل في بعض الموارد حكماً عادلاً، وترك بعض الموارد الأخرى إلى الناس. ولم يكن مراد الخوارج من شعار ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ ما نراه نحن من الاعتقاد بإجراء حتى الحكم تحت أصلٍ عامّ في مسار تطبيق هذا الشعار، بل كانوا يرَوْن حتّى التدخُّل غير المباشر من قِبَل الله منافياً لهذا الشعار، ولذلك فإنهم وجدوا حتّى في التحكيم ما يخالف هذه الآية. وكانوا يقولون: إن الحكم إنما يكون لله إذا تمّ تطبيقه في كافّة الموارد. ومن هنا فقد تبنّوا سلوكيات فقهية خاصّة. فكانوا يقتلون الأبرياء والعُزَّل ويلحقون الأذى بالناس، ومع ذلك كانوا يرَوْن هذا كلّه حكم الله. وعلى كلّ حالٍ فإنهم على الرغم من تمسُّكهم بهذا المبنى الكلامي، إلا أن هذا المبنى قد فتح عليهم باباً إلى فقهٍ جديد يقول: إن لله حكماً في جميع الموارد، ويجب العمل على تطبيق الأحكام في جميع هذه الموارد. وأما كيف كانوا يعملون على تسرية هذا الحكم على جميع الموارد؟ فهو بحثٌ آخر، يجب التعرُّض له في محلِّه. في هذه الموارد كانوا يستندون من الناحية العملية إلى هذه القواعد العامّة، كما كان الأخباريون كذلك أيضاً. ومن هنا كانت دائرة القواعد لدى الأخباريين أوسع بكثيرٍ من قواعدنا، ومن ذلك مثلاً أن قاعدة التقيّة عند الأخباريين غير قاعدة التقيّة عندنا.

إنكار الخوارج لتفويض العدالة

وعلى كلّ حالٍ إن النقطة الرئيسة في البحث بشأن الخوارج هو أنهم كانوا يرفضون فكرة التفويض في جميع الأفعال. وكانوا يقولون: عندما يأتي الحاكم فإنه يأتي معه بتدخُّله. وتدخُّل الحاكم لم يكن شيئاً مفهوماً بالنسبة إلى الخوارج؛ لأنهم إنما كانوا يرَوْن حكومة عمر والإمام عليّ× والآخرين. ولذلك قام بعض الخوارج ـ من أجل تحقيق العدالة، وبعضهم لغاياتٍ أخرى ـ بنفي جميع أنواع التفويض، كما أبطلوا الإمارات والحكم والتحكيم أيضاً.

قضية الخوارج هي الخروج على الفهم العامّ

وعليه فإن الخوارج كانوا قد خرجوا على الفهم العامّ الذي كان سائداً في حينها. وإن الإمام عليّاً× لم يوافقهم على هذا الرأي، وقد دافع عن الفهم العامّ. غاية ما هنالك أن رؤية الإمام رُبَما كانت تختلف عن الفهم العامّ في أنه كان يقول: إن على كلٍّ من الحاكم والحَكَم أن يعملا ضمن أُطُر الأمر الإلهيّ والقواعد العامة والكلّية، وأن يعملا على مراعاة الموارد التي تدخَّل فيها الشارع، إلاّ أن الآخرين رُبَما لا يقولون ذلك، وإنما كانوا يرَوْن وجوب أن يكون هناك حاكمٌ، وأن يكون هناك حَكَمٌ أيضاً. وعلى كلّ حالٍ فإن الإمام عليّاً× قد دافع عن أصل هذا الفهم العامّ، ووقف في وجه الخوارج.

وعليه فإن قضية الخوارج تدلّ على وجود هذا الفهم، وإلاّ لم يكن هناك معنى لظهور تيّارٍ جديد باسم الخوارج، فنفسُ ظهور هذا التيار يُنبئ عن وجود مثل هذا الفهم.

خلاصةٌ واستنتاج

تعريف العدالة الفلسفية

طبقاً لما تقدَّم حتّى الآن يمكن تقسيم العدالة بلحاظ المعنى إلى عدّة أقسام. والقسم الأوّل منها: أن يكون للعدل وضعٌ ومعايير سابقة. وإن العادل هو الذي يراعي تلك المعايير بشكلٍ دقيق. إن هذا التعريف إنما هو في الحقيقة انعكاسٌ لذلك التعريف المعروف الذي يعرِّف العدل بأنه عبارةٌ عن وضع كلّ شيءٍ في موضعه. فإنْ تمّ تعريف العدل بهذا التعريف عندها لن يكون بمقدور عامّة الناس تشخيص مصاديق العدل، بل يجب الرجوع في ذلك إلى أهل العلم والفلاسفة؛ لأنهم هم الذين يستطيعون تحديد هذه المواضع بشكلٍ دقيق؛ ليضعوها بعد ذلك تحت تصرُّف الآخرين؛ كي يقيموا سلوكياتهم وقوانينهم على أساس تلك المعايير، وأن يضعوا كلّ شيء في موضعه الذي حدَّده الفيلسوف.

تعريف العدالة التوافقية

وأما في القسم الثاني من أقسام العدل فليس هناك حالةٌ سابقة محدَّدة، وإنما يتمّ تعيين العدل من خلال الوجدان العامّ. صحيحٌ أنه يمكن تعريف العدل هنا بأنه عبارةٌ عن وضع كلّ شيءٍ في موضعه، ولكنْ لا وجود هنا لموضعٍ ثابت ولا يتغيَّر. بل المواضع هنا في تغيُّرٍ دائم ومستمرّ؛ لأن أنواع الوجدان هي التي تعمل على تعريف المواضع بما يتناسب مع الأوضاع والأحوال والوقائع الحادثة. وهنا لا تعود عملية التشخيص من مهام الفيلسوف؛ إذ ليس هناك شيءٌ ثابت، وإنما الأمر متروكٌ إلى الوجدان العامّ. وكأنّ دَوْر عامّة الناس يبرز على نحوٍ أكبر. إن الأمر الذي يستطيع العالم أن يضطلع به هو أن يجعل ما يفهمه الوجدان العامّ قابلاً للتعريف ضمن إطار العلم والمعرفة. ورُبَما كان تقسيم العدل إلى: العدل الفلسفي؛ والعدل التوافقي، يأتي بالنظر إلى هذين التعريفين؛ حيث ينظر تارةً إلى المواضع الثابتة السابقة التي لا تتغيَّر، وعندها يمكن القول في تعريف العدل: «العدل وضع كلّ شيءٍ موضعه»([3])، ويكون هذا هو تعريف العدالة الفلسفية؛ وتارةً أخرى يتمّ النظر إلى التوافقات والمعطيات التي تنبثق من صُلْب هذه التوافقات، ويتمّ إطلاق عنوان العدل عليها، وهذا هو الذي عبَّرت عنه بالوجدان.

تناغم العدل التوافقي مع وضع الشيء في موضعه

وعليه عندما يُقال: في العدل التوافقي لا يتمّ تعريف العدل بوضع الشيء في موضعه يكون ذلك ناظراً إلى ذلك الموضع الفلسفي الثابت، وإلاّ ففي العدل التوافقي والعدل الوجداني هناك وضعٌ ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ للشيء في موضعه. بَيْدَ أن هذا الموضع هو الذي يحدِّده الوجدان، ولذلك لا يمكن ذكر هذا التعريف هنا. إن ما ذكرنا هو معنيين أو قسمين من أقسام العدل.

العدالة الشرعية

وهناك معنىً ثالثٌ للعدالة أيضاً، وذلك حيث يتدخَّل الشرع للإدلاء بدَلْوه في تعريف العدل، غاية ما هنالك أن تدخُّل الشرع في تعريف العدل إنما يكون مقبولاً إذا اقترب من التعريف الأوّل أو من التعريف الثاني، وهذا هو موضع الخلاف والنزاع. في الأبحاث السابقة لم أبيِّنْ هذه المسألة بشكلٍ دقيق. وفي الحقيقة إن هذا البحث يُعَدّ تتميماً للبحث السابق، فإذا أردتُم تقريب تدخُّل الشارع من العدل الفلسفي (التعريف الأوّل)، بمعنى أن يكون ثابتاً ولا يتغيَّر، غاية ما هنالك أن اختلافنا نحن المتشرِّعون والمؤمنون بتدخُّل الشرع في العدل يكمن في أن الفيلسوف ليس هو مَنْ يحدِّد تلك المواضع. ولو قبلنا بذلك في الجملة فإننا على كلّ حالٍ ننفي ـ في الحدّ الأدنى ـ أن يكون الفلاسفة أو الحقوقيون أو المفكِّرون هم الذين يحدِّدون تلك المواضع؛ كي يتمّ تنظيم الأفعال والسلوكيات والقوانين في ضوئها، بل الشرع هو الذي يتعيَّن عليه تحديدها؛ لأن الشارع هو العالم بجميع الحقائق والواقعيات، أو أن الشارع ـ في الحدّ الأدنى ـ هو الذي يحدِّد الكثير من الموارد، وإنه يجب رعاية تلك الحقائق الخافية في عملية التقنين والتشريع. ولذلك فإننا نرجع في بعض المجالات إلى الشارع، ونرجع إلى الفيلسوف أيضاً. وبطبيعة الحال يوجد هناك اختلافٌ في القراءات؛ فهناك مَنْ يقول: يجب الرجوع إلى الشارع بالكامل في تشخيص المواضع الواقعية في السلوكيات، وإلغاء دَوْر الفيلسوف بالمرّة، فليس من شأن الفيلسوف أن يُصدر أحكاماً في هذا الشأن؛ وقد يقول آخر بالتبعيض، ويرتضي تدخُّل الله للتشخيص في بعض المواضع. فلو رضخنا لشريعة العدل، واعتبرناه قريباً من المعنى الأوّل، سوف نكون أمام هذه الحالة.

نسبة العدالة الشرعية إلى العدالة الفلسفية والعدالة التوافقية

إن ما ذكرناه آنفاً لا ربط له باختلاف القراءات الداخلية، وإنما ذكرنا فيه مجرّد نقطة الاحتكاك. وأما إذا أرجعتُم المعنى الشرعي إلى المعنى الثاني، الذي يعتبر العدل أمراً وجدانيّاً، فالنتيجة هي تقييد الأحكام التي تنبثق من صلب الوجدان، بأن يُقال: إن العدل هو الذي يُحدِّده الوجدان العامّ. وبعبارةٍ أخرى: إن العدل يولد من رحم التوافقات، ولكنْ يجب على الدوام رعاية الحدود الشرعية، بمعنى أنه كلّما تعارض حكمٌ وجدانيّ عامّ مع حكمٍ شرعي عندها لا تجب مراعاة ذلك العدل. وبعبارةٍ أدقّ: إن الوجدان الشرعي ـ الذي نعبِّر عنه في بعض الأحيان بالارتكاز المتشرِّعي ـ يمكن له أن يكون مصدراً صالحاً لتعيين مفهوم العدل بمعناه العصري (التوافقي)؛ إذ إنهم عندما يقولون: إنه يُحال إلى الوجدان فهذا يعني أن وجدان المتشرِّع يحدِّد العدل، وإن المتشرِّع ينحاز عند التعارض إلى الشرع دائماً، ولكنْ حيث لا يكون هناك تعارضٌ فإن الينبوع المتدفِّق للوجدان العامّ سوف يكون مبيِّناً لذلك العدل، وسوف يُعِدّ الأرضية لتعريف وبيان مصاديق العدل.

وكما ذكرنا في الأبحاث السابقة: إن الوقائع التي كانت تحدث في صدر الإسلام تثبت أن التعريف الشرعي للعدل كان قريباً ومتوافقاً. وبعبارةٍ أدقّ: إن الافتراض يقوم على أن هذا التعريف الشرعي هو الذي يبلور التعريف الفلسفي أو إحالة العدل إلى الوجدان، وهذا أمرٌ هامّ بطبيعة الحال. وعلى هذا الأساس ألقَيْنا عندها نظرةً إلى ما قبل الإسلام، وقلنا: إن كلّ ما كان يحدث آنذاك ما هو إلاّ توافق؛ إذ لم يكن هناك من وجودٍ للفلسفة والعلم، وكلّ ما كان هو التوافقات التي كانت تتبلور. وإن هذه التوافقات هي التي كانت تحدِّد مسار العدل. ثمّ جاء الإسلام وخاطب هذا المجتمع ـ الذي كان يتَّصف بهذه الخصوصية ـ، قائلاً: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90). فيتَّضح من ذلك أن الملاك بالنسبة إلى الشارع في مورد العدل هو ذلك التوافق والوجدان، وليس شيئاً آخر، وإلاّ كان على الشارع أن يبذل المزيد من الجهد؛ كي ينقل إلى المجتمع مفهومه المنشود من العدل. وبعبارةٍ أخرى: كان عليه في ما وراء العدل أن يُبيِّن بعض المعايير والفرضيات الفلسفية لرعاية العدل. إن هذا الكلام العامّ دون بيان المعيار يشكِّل قرينةً هامّة على ما ندَّعيه.

_ يعمد القرآن الكريم في بعض الأحيان على بيان أمور عامّة وكلّية، وتكون مهمّة النبيّ أو الأئمّة بيان مصاديقها وجزئيّاتها. فإذا كان الأمر كذلك لا يكون ما افترضتموه في بحثكم تامّاً، حيث قلتُم: إن الشارع إنما يبيِّن الخطوط العريضة والعامّة، وإن العدل يتمّ طرحه وتحديده بواسطة الوجدان العامّ لدى الناس.

بيان الخطوط العريضة في القرآن بشأن العدالة

^ أجل، إن منهج القرآن على الدوام أو في الكثير من الموارد كان يقوم على بيان الأمور الكلّية، ويترك تفصيل الآيات والتعاليم القرآنية إلى النبيّ الأكرم. كما أن الواقعية التاريخية تثبت أن النبيّ كان يعمل على تفصيل وبسط الكلّيات وبيان الجزئيات بوصفه شارحاً ومفسِّراً للقرآن. وعليه لا يمكن لنا أن نستفيد من هذه الكلّيات القرآنية في مورد العدل، ولو بوصفها قرينةً على العدل الوجداني أو العدل التوافقي.

وأرى أن الجواب عن هذه المسألة يكمن أوّلاً في أن علينا أن نفصل مسألة العدل عن موارد الكلّيات الأخرى في القرآن؛ بلحاظ أن العدل أمرٌ مرتبط بجميع الأبعاد والزوايا الاجتماعية المرتبطة بالمجتمع وأبعاده وزواياه بشكلٍ عميق. ومن هنا فإن الإسلام والقرآن ـ من حيث الاهتمام الكبير الذي يبديانه تجاه الهداية ـ لا يمكنهما الاكتفاء هنا ببيان الأمور الكلّية والخطوط العريضة فقط. وإنما البيان الكلّي للقرآن الكريم هنا أمرٌ عظيم جداً. وثانياً: إننا عندما ننظر إلى القالب والإطار البياني للقرآن الكريم، حيث يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90)، فإن هذا لا يعني أنه يأمر بإجراء الأحكام الإسلامية. كما أن هناك لله سبحانه وتعالى ما يُشبه هذا الإطار في مورد الإحسان للوالدين، دون أن يفصِّل في مصاديق الإحسان. وقال الله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8). عندما يتمّ البحث عن الأقربية يكون هناك على الدوام عدّة خيارات، حيث يمكن للإنسان أن يذهب إلى خياراتٍ أخرى. وكأنّ الإنسان واقعٌ في مقام الاختيار والانتخاب. وعندها يقول: إذا كنتم تريدون الوصول إلى التقوى فعليكم أن تعدلوا؛ لأن أجواء العدل أقرب إلى التقوى. وكأنّ هناك نوعاً من التفويض في هذا الشأن.

_ هل مفهوم التقوى هو الأوسع أم العدالة؟ فعلى الرغم من أن للتقوى مفهوماً أوسع من العدالة نرى أن الروايات قد فسَّرت التقوى لنا.

^ كما أمَرَتْ الروايات بالتقوى أيضاً.

_ كما في توصيف التقوى بأنها «حصنٌ حصين»([4]).

الأمر بالعدالة من أجل الوصول إلى التقوى

^ إن هذا الكلام إرشاديٌّ. من الممكن أن يُقال: لا ترتكبوا المعاصي حتّى تحافظوا على التقوى، أو ما هي طرق الوصول إلى التقوى؟ بَيْدَ أن التقوى أمرٌ واضح من الناحية المفهومية والمعنوية، وهي تشتمل على حدودٍ دنيا. في ما يتعلَّق بقوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ كأنّ الإسلام يعتبر التقوى هي الملاك الأصليّ والأوّلي، ويسعى إلى بيان الآية أو الفضاء القريب منها، ولذلك يأمر بالعدل. كما أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين شبيهٌ بذلك أيضاً: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ (العنكبوت: 8).

تبويب روايات العدل

وأما في ما يتعلَّق باضطلاع الروايات ببيان الجزئيات فيجب القول: إن الروايات على عدّة أقسامٍ؛ فمنها: ما عمد إلى بيان معنى العدل، كما نجد الإشارة إلى ذلك في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب×؛ وفي ما يتعلَّق بالروايات المأثورة عن الإمام عليّ يجب أن نرى: هل المراد من العدل فيها هو العدل الفلسفي أم العدل غير الفلسفي؟ فقد رُوي عنه أنه قال: «العدل الإنصاف»([5]). والإنصاف أمرٌ وجداني، أي إن تحقُّق وتشخيص موارد الإنصاف يحصل بالوجدان. وبطبيعة الحال فإن أنواع الإنصاف تختلف باختلاف الظروف والشرائط.

خطوط القرآن العريضة في القرآن الكريم

يمكن للدين أن يتعاطى مع العدل الكلّي المذكور في القرآن بأحد شكلين: الشكل الأوّل: أن يعمل على تحديد مفهوم العدل. وليس لدينا في هذا الشأن شيءٌ سوى كلمة الإمام عليّ بن أبي طالب× الآنفة: «العدل الإنصاف». والشكل الثاني: أن يضع الدين يده على المصاديق، وأن يملأ الفضاءات المرتبطة بالعدل بالكثير من الأحكام، حتّى لا يبقى شيءٌ آخر. ومن الطبيعي أن يقوم افتراض الشارع في هذه الحالة على وجود معايير واقعيّة وحقيقيّة.

عدم إنكار الشارع للعدالة التوافقية

الذي أريد قوله: إنه بالالتفات إلى الدراسة التاريخية لما قبل وبعد الإسلام لا نعثر على دليلٍ واضح على أن الشارع لم يمنح هذا التفويض إلى الوجدان، أو أنه قد أنكر إمكانية إحالة العدل إلى الوجدان بشكلٍ قاطع، بل الأدلّةُ قائمةٌ على خلافه، ومن بينها: الأرضية التي ظهر الإسلام على أساسها؛ ومنها: اكتفاء القرآن الكريم بذكر الأمور العامّة والكلّية؛ ومن بينها: الروايات التي أخذَتْ على عاتقها مهمّة الشرح والتفسير. وعليه يبدو من خلال هذه القرائن والحقائق التاريخية أن علينا عدم نفي توافقيّة وإمكانيّة إحالة العدل إلى الوجدان.

الإشكالات المترتِّبة على إمضائية العدالة التوافقية

_ لو افترضنا رقعة العدل على شكل مستطيل يحتوي على 80% من أحكام الله، وترك الباقي (20%) إلى العُرْف والوجدان، عندها لا يحقّ للعُرْف والوجدان أن يعترض أو يخالف المساحة المملوءة من قِبَل الشارع. ويقوم افتراضكم على أن المساحة المتبقّية للعُرْف والوجدان لا تزال واسعة جداً، وأن الشارع قد أمضى هذه العدالة التوافقية. ولكننا في هذه الفرضية نجد أن 80% من رقعة العدالة قد تمّ ملؤها من قِبَل الشارع، وإنه لم يُرِدْ للناس أن يقعوا في مشقّةٍ بالنسبة إلى الموارد الأخرى. وكأنّ الله يقول: في ما يتعلَّق بالعدالة التي بيَّنتُ مصاديقها أنتم أحرار في الرجوع إلى توافقاتكم بالنسبة إلى ما تبقّى منها. وهذا ـ بطبيعة الحال ـ لا يعني أن توافقاتكم عادلةٌ، وإنما بمعنى أن ما نراه لازماً من أجل تحقيق العدالة هو هذا المقدار (80%)، وأنتم أحرار فيما تبقى. وعليه ليس من الواضح هنا أن الشارع قد أمضى توافق الناس في الباقي (20%) أيضاً؛ بل رُبَما حتّى إذا كان المقدار الباقي ظالماً إلاّ أنه لا يضرّ بمقاصد الشارع بعد تعيين مصاديق العدالة في مقدار الـ (80%).

اتساع منطقة العدالة التفويضية من قبل الشارع

^ طبقاً لهذا الكلام سنكون أمام منطقةٍ ضيّقة للغاية. ليس الكلام هنا فيما إذا كان المقدار الباقي يبلغ 20% أو 30%، وإنما الكلام في تعريف العدالة. والذي نريد الوصول إليه هو أن الشارع هل افترض التعريف الفلسفي أم التعريف الوجداني للعدالة؟ ورُبَما أمكن حتّى في هذا المقدار المتبقّي (20%) أن ينفتح بابٌ يشتمل على الكثير من المصاديق من الناحية العملية. كما أن البحث هنا لا يدور حول ماهية العدالة الإسلامية، ولكنْ رُبَما كان أحد المصاديق المعاصرة الكبرى من بين تلك الـ (20%)، ورُبَما أمكنها أن تفتح باباً واسعاً في هذا المجال.

_ تقولون: إن القرآن الكريم قد تحدَّث بشكلٍ كلّي، واعتبرتُم ذلك دليلاً على تفويض العدالة. ونحن نسأل بدَوْرنا: كيف تحدَّث القرآن بشكلٍ كلّي، مع أنه جاء بالكثير من هذه الأحكام، وملأ فضاء العدالة بالمصاديق؟

^ إن جميع هذه الأحكام التي ملأت فضاء المصاديق على قسمين، وأحد القسمين هو الذي ملأ جميع الفضاء ولم يترك شيئاً. عندها يكون كلامكم صحيحاً.

_ أو أنه ترك هامشاً صغيراً؟

^ لو أبقى هامشاً صغيراً لا يُعَدّ ذلك دليلاً.

_ لماذا لا يكون دليلاً؟ ففي الكثير من الموارد يكون الملء الغالب دليلاً، حتّى في القوانين التي يتمّ تشريعها في المجتمعات اللادينية، فليس الأمر بأن يملأ القانون جميع الوقائع. فعندما تكون الاستجابة غالبةً يُقال: إنه يفي بالحاجة.

العلاقة بين الكمّية والكيفية في العدالة التفويضية

^ لو حدث ملءٌ كامل، فحيث لا يبقى هناك شيءٌ سيحدث حينها تحدٍّ كبير، غاية ما هنالك أن الذي نريد قوله هو أنه لم يحدث ملءٌ كبير. يأتي بعد ذلك بحثٌ صغرويّ، وهو: هل تمّ ملء الفراغ أم لا؟ والمدَّعى في الوقت الراهن هو أنه لم يتمّ الملء بشكلٍ كامل، وإنما أبقى حيِّزاً صغيراً. وفي المقدار المتبقّي عليكم أن لا تنظروا إلى الكمّية، فالكمّية لا تُعَدّ هي الملاك، إنما الملاك هو الكيفية في أحكام هذا الحيِّز والهامش الصغير. وعلى كلّ حال فإن الشارع في هذا المعترك يقف بين الرؤية الفلسفية والرؤية الوجدانية. وقد اختار الرؤية الوجدانية. ولكنْ هل ملأ جميع الفضاء؟ هذا خارجٌ عن محلّ بحثنا، وهو ادّعاءٌ يجب إثباته.

شبهةٌ كلامية في مقابل العدالة التوافقية

_ يقول المتكلِّمون من المسلمين: إن سبب الحاجة إلى الأنبياء يعود إلى أن الإنسان لا يعرف مصاديق العدالة. وحيث لا يعرف الإنسان مصاديق العدالة فإننا سنكون بحاجةٍ إلى شارعٍ يبيِّن لنا مصاديق العدالة. فإذا قبلنا بهذا المبنى كيف يمكن الجمع بين هذا الأمر وما ذكرتموه؟

^ الجمع هنا يتمّ عبر القول: إن هناك ـ على كلّ حال ـ تعريفٌ شرعي، حيث إن الشارع قد عرَّف العدالة.

_ إن كلامهم يدور حول المصاديق. فقد قالوا: إن الإنسان حيث يعجز عن معرفة مصاديق العدالة فإنه يكون بحاجةٍ إلى الشارع.

^ نحن على كلّ حالٍ نرتضي التعريف الشرعي. إن التعريف الشرعي الوجداني يعني أن المقصود هو العدل الشرعي الوجداني. إن العدل الشرعي الوجداني قد قَبِلَ بشيئين، وهما: أوّلاً: قد قَبِلَ بالحدود. إذن يجب أن يكون هناك شارعٌ؛ كي يبيِّن الحدود. وهذا ما يحتاجه المجتمع. وثانياً: قد قَبِلَ بالمصاديق. فقد عمد الشارع إلى بيان الكثير من المصاديق، وليس من اللازم أن يبيِّن جميع المصاديق؛ كي يتبلور ما تقدَّم من بحث المتكلِّمين. وهذان العنوانان العريضان يمكن إبرازهما، ويمكن لغرض المتكلِّمين أن يتبلور.

وفي هذا البحث أرى ـ بطبيعة الحال ـ أن الإسلام قد ملأ الفراغ، بَيْدَ أن هناك نوعين من الملء؛ فإما أن يكون الإسلام قد ملأ الفراغ بالمصاديق؛ أو أنه قد ملأها بالكلّيات.

تعريف الإمام علي (عليه السلام) العدالة

في عهد الإمام عليّ× حدث تحوُّلٌ هامّ، وذلك أنه× قد وضع تعريفاً للعدل. إن للإمام عليّ في نهج البلاغة كلماتٍ يتّضح منها أنه في مقام التعريف، أو أنه في مقام بيان خصائص العدل، وأنه يقوم على عددٍ من الأركان. وفي الوقت نفسه كان الإمام يتَّخذ موقفاً من التيارات الظالمة. وفي حدود قراءتي يمكن مشاهدة تعريفين في كلمات الإمام.

تعريف العدالة بالإنصاف

أحدهما: تعريف العدل بالإنصاف، وهو في مقام تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90)، حيث قال: «العدل الإنصاف»([6]). وقد سبق أن ذكرتُ أن هذا الإنصاف أمرٌ بشري. فالإنصاف ليس في مورد الله، فإن الله عادلٌ، ونحن الذين يتعيَّن علينا أن نكون منصفين. وهذا يعني التفويض إلى الوجدان. وهذا التعريف ينسجم مع المدَّعى.

 

تعريف العدالة بوضع الشيء في موضعه

وأما التعريف الثاني فمضمونُه عبارةٌ عن وضع كلّ شيءٍ في موضعه؛ إذ يقول الإمام×: «العدل يضع الأمور مواضعها»([7]). ورُبَما قال شخصٌ: إن للإمام هنا نظرةً فلسفية إلى الأمر. والجواب عن ذلك هو أن لوضع الشيء في موضعه معنى فلسفياً، يقال اليوم: إن واقعيته كانت موجودةً آنذاك، ولكنّه لم يُطْرَح على شكل بحثٍ.

تناغم التعريف الثاني مع العدالة الطبيعية والتوافقية

الحقيقة أن هذا التقابل بين الرأيين من الناحية البحثية والعلمية قد حدث لاحقاً، حيث أخذ مصطلح «وضع الشيء في موضعه» يستعمل بوصفه علامةً واضحة للتعريف الفلسفي، هذا من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى فإن كلا التعريفين الفلسفي والتوافقي يشتمل على «وضع كلّ شيء في موضعه». إذن هناك في العدالة الطبيعية واقعيةٌ وبنيةٌ وترتيبٌ منظّم، وإن الفيلسوف هو الذي يتعيَّن عليه أن يتعرَّف ويُعرِّف. وأما في العدل التوافقي فإن وجدان الناس هو الذي يضع الأشياء في مواضعها. وإذا لم نقرّ بأن الإمام في هذا التعريف كان ناظراً إلى الوجدانيات فلا أقلّ من القول بأن الأمر مشتبهٌ ومضطرب.

موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من الظلم

في ما يتعلَّق بموقف الإمام ـ في سيرته العملية والسياسة ـ من الظلم يجب القول: إن الإمام كان يؤكِّد جدّاً على الأسوة والمساواة، وكأنّه كان هناك في حكم الإمام شاخصٌ ومعيار بارز ومؤثِّر لا يمكن اجتنابه وإنكاره ولا ينضب، وهو رعاية الأسوة. إن الكثير من الاختلافات والخطب التي ألقاها الإمام عليّ، بل وحتّى الحروب التي خاضها، تعود بأجمعها إلى هذه النقطة، وهي أن الإمام كان يصرّ على الأسوة، وكان يرى ذلك في تقسيم بيت المال هو العدل. وإن الذين كانوا يطالبون بالامتيازات والمزيد من الأسهم كانوا ينشدون المحاباة لمصلحتهم على حساب عامّة الناس.

_ ما هو معنى الأسوة هنا؟

 

السيرة العملية للإمام مراعاة المساواة في العدل

^ إن الأسوة الاقتصادية تعني المساواة، وليس المثال والنموذج الذي يُقْتَدى به. لقد كان الإمام عليّ× يؤكِّد على الأسوة والمساواة. ومن هنا كان يصرّ على أن يحصل طلحة والزبير على سهمٍ من بيت المال، يتساوى مع سهم العبد الذي يقبع في هامش المجتمع. لقد كان الإمام يسعى إلى تحقيق هذا المستوى من المساواة. ورُبَما اندلعت شرارةُ الكثير من الحروب بسبب هذا التأكيد والإصرار.

وعليه فالسؤال المطروح هنا: هل الأسوة أمرٌ ومفهوم قرآنيّ أم هو وجدانٌ عامّ؟ هذا ما يجب علينا بحثُه. إنْ قلتُم: إن الأسوة وجدانٌ عامّ رُبَما واجه هذا الادّعاء بعض الإشكالات، ومن بينها: إن عدداً من الناس توجَّهوا إلى الإمام وتنازلوا عن حقّهم؛ ليعطي سهمهم إلى أولئك الذين تركوا الإمام وذهبوا إلى معاوية، وطلبوا من الإمام أن يرجئ العمل بسياسة المساوة إلى إشعارٍ آخر. كما يتّضح من بعض الأحاديث أن الوجدان العامّ كان في الواقع يطالب بالتخلّي عن الأسوة، وهذا في حدّ ذاته يشكّل دليلاً وقرينة على أن اتّخاذ الموقف بشأن الأسوة لم ينبثق عن الوجدان العامّ.

قبول الوجدان العامّ بالمساواة

وبطبيعة الحال يجب أن نجيب عن هذا الإشكال، ونقول: إن الوجدان العامّ كان يُطالِب بالأسوة، وإن هذه الأسوة كانت تنبثق عن الوجدان العامّ. ولأن مجتمع ما قبل عهد الإمام عليّ بن أبي طالب كان مجتمعاً مصاباً بالمحاباة، بحيث لم يتمّ فيه رعاية حتّى المعنى التوافقي من العدل، كان كلّ شيء يقوم على الطبقية والارستقراطية. وقد أحدث الإمام عليّ في فضاء هذا المجتمع ثورةً من أجل تغيير هذه الوضعية. إن الوجدان العامّ كان يبحث عن الأسوة، ويرى العدل على هذه الشاكلة. وعلى هذا الأساس فإن كلام الذين كانوا يقترحون ويطالبون بإعطاء أسهم أكثر لم يكن منبثقاً من الوجدان العامّ، وإنما كانوا يلاحظون مصلحة الدولة. وعلى هذا الأساس فإن مواقف الإمام في مواجهة الظالمين، من أمثال: معاوية وغيره، كانت تتبلور في الغالب على أساس معيار الأسوة؛ لأنه كان يرى في التحرُّك على خلاف هذا المسار مخالفةً لحكم الله، وأن حكم الله هو العدل، والعدل هو ما يفهمه المجتمع ويريده ويطالب به. ورُبَما ذهب حتّى المجتمع المعاصر إلى اعتبار الأسوة هي العدل.

العدل لا يعني المساواة دائماً

إلاّ أن الإمام عليّاً× ـ رغم تأكيده الشديد على الأسوة ـ لم يكن يراعي المساواة في بعض الموارد؛ فكان على سبيل المثال يأمر بإعطاء القاضي من المال ما يغنيه عن قبول الرشوة. ومن هنا يتّضح أن الأسوة الكاملة ليست هي الملاك دائماً. وأرى أنه لا يمكن الحصول من أحداث عصر الإمام عليّ على أيّ شاهدٍ يثبت أنه× كان يريد بلورة العدالة الشرعية القائمة على المفهوم الفلسفي، بل الاحتمال الراجح هو أن الإمام عليّاً× كان ينشد تحقيق العدالة الشرعية القائمة على التوافق. والدليل على ذلك أننا نجد في عهد الإمام عليّ× إلى مالك الأشتر إشارةً إلى تعاقب حكام الجَوْر والعدل([8])، على الرغم من أنه كان يتحدَّث عن المصريين الذين لم يكونوا مسلمين بأجمعهم. وهذا بدَوْره يشكِّل قرينةً على وجدانية الإمام في تعيين معيار الظلم والعدل. وعليه فإن العدالة، بالإضافة إلى اشتمالها على الوجه الشرعي، كانت تشتمل كذلك على واقعيةٍ عُرْفية تحدث حتّى في المجتمعات غير المسلمة، غاية ما هنالك أن مشكلة العدالة هنا تكمن في أن وجدانهم كان منفلتاً، ولم يكن متقيِّداً بالحدود الشرعية.

الفرق بين العدالة العُرْفية المتشرِّعة وغير المتشرِّعة

وعلى هذا الأساس فإننا نمتلك في عهد الإمام عليّ× إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر وثيقةً دامغة، حيث إنها تثبت أوّلاً: أن فرضية الإمام في ما يتعلَّق بالمجتمع المصري ـ ذي الأغلبية غير المسلمة في حينها ـ أن العدالة كانت موجودةً؛ لأنه يتحدّث في هذا العهد عن مسألة الظلم والعدل؛ وثانياً: الإحالة إلى الوجدان أيضاً، حيث قال: إذا رأى الناس شيئاً ما حسناً فارجع إلى ذلك الشيء. وعليه فإن رؤية الإمام كانت رؤيةً توافقية، ولم تكن نظرةً إلى الملاكات والمعايير الفلسفية الأفلاطونية والأرسطية المحدّدة. إن القرينة الوحيدة المنسجمة مع العدالة الفلسفية هي تدخُّلات الشارع فقط.

منشأ تدخُّل الشارع في جميع المجالات

إن لمجال تدخُّلات الشارع أبحاثه الخاصّة به. ومن بين تلك الأبحاث: هل خيَّمت آراء ما بعد عصر المعصومين على التاريخ، حتّى أضحى الآن بإمكاننا فهم معنى ملء مساحات العدالة من قِبَل الشارع؟ هل حدث تحوُّل في عصر الإمامين الباقر والصادق’؟ وهذا التحوُّل يُشكِّل ـ من وجهة نظري ـ منشأً للكثير من الأخطاء في الأخبار ومسألة العدالة. وفي الحقيقة هناك نصوصٌ مأثورة عن الأئمّة الأطهار^ تثبت أن الأحكام الإسلامية تشمل حتّى أرش الخدش([9])، وأن الإمامين الباقر والصادق’ قد ملآ الفراغات في ذلك العصر.

معنى أن للشارع حكماً في كلّ شيء

هناك جملةٌ مأثورة عن أهل البيت^ يجب تحليلها بشكلٍ صحيح، ومفاد هذه الجملة هو أن القرآن الكريم يحتوي على بيان كلّ شيء. ويجب تقديم تعريفٍ دقيق لهذا الكلام؛ إذ ليس لدينا تعريفٌ دقيق في هذا الشأن. ويغدو تصوُّرنا شيئاً شبيهاً بالمسلك الأخباري، أو هو نوع من الأخبارية الأصولية. لقد كان هذان الإمامان في مقام المواجهة الحازمة والقاطعة في فترةٍ تاريخية حسّاسة ومؤثِّرة على مستقبل الإسلام، وفي مقام مواجهة نَمَطٍ من الاستنباط. وكان منهجهم الاستنباطي يقوم على مواجهة الرأي والقياس. إن الرأي والقياس في تلك المرحلة التاريخية كان يعني تجاهل عمومات القرآن الكريم وكلِّيات السنّة المطهَّرة، أو حتّى التدخُّل التفصيلي في السنّة، وبمعنى من المعاني نفي وإبطال جوانب كبيرة من السنّة القائمة عند أهل البيت؛ لأنهم كانوا يقولون: إن النبيّ لم يبيِّن لكم بعض جوانب السنّة، وأنه وضعها عند الأئمّة، ولذلك يجب علينا الرجوع إليهم. وكان أهل السنّة قد تركوا الرجوع إلى أهل البيت، وبذلك يكونون قد تنكَّروا للسنّة نفسها. ولذلك فقد لجأوا إلى الرأي والقياس كبديلٍ عن التنكُّر للسنّة.

كانت هذه الحقيقة في طريقها إلى التبلور. ومن هنا فقد بذل الأئمّة جهوداً كبيرة للحيلولة دون تحقُّق هذا الانحراف، الذي كان في طريقه إلى التبلور، ومنعوا من انعكاسه في تاريخ الإسلام، أو أن يكون انعكاسه محدوداً جدّاً. ونحن لا نستطيع تجاهل المنظور إليه في كلامهم، وحصر فهمنا على هذه الأدبيّات الخاصّة للأئمّة فقط، وأن نفسِّر كلامهم بعد مضيّ عشرة قرون، كما يصنع الأخباريون، ونقول: إن الإسلام قد جاء بالعدالة. يمكن تفسير كلام أهل البيت^ في أرش الخدش على نحوين: المعنى الأوّل: إن على الناس أن لا يتدخَّلوا في دائرة فهم العدل؛ لأن الإسلام قد ملأ كلّ شيء؛ والمعنى الثاني: إن الإسلام قد وضع جميع الأمور تحت غطاءٍ من القواعد الكلّية، فقد رُوي عن الأئمّة الأطهار^ أنهم قالوا: «علينا إلقاء الأصول»([10]). وإن هذه الأصول قد نشرت مظلّتها على كلّ شيء، بحيث لا يكون هناك شيءٌ إلا ولله حكمٌ بشأنه.

العدل واحدٌ من تلك الأصول

إن العدل بدَوْره واحدٌ من الكلِّيات والأصول، غاية ما هنالك أنه كلّي أشمل قد أمر الله به، وهو غير الكلّيات في نظام التشريع. إنه شيءٌ من قبيل: قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ (العنكبوت: 8)، الذي هو أمرٌ تكويني ووجداني. إن الإحسان أمرٌ وجدانيّ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90). إذن يمكن تفسير الكلام القائل بملء القرآن والسنّة لكلّ شيء على نحوين؛ فإنْ كان هذا الكلام بمعنى الملء على أساس الأصول والملاكات العامّة والكلّية عندها ستجدون أنفسكم أمام دائرةٍ واسعة من الكلّيات، غاية ما هناك يجب علينا أن نرى مكمن مصاديق العدل، والدائرة التي لا تتعرَّض فيها الحدود الشرعية للضَّرَر.

_ بالمناسبة لو اختَرْنا هذا المعنى الذي ذهبتُم إليه من الفضاء الذي أوجده الإمامين الباقر والصادق، حيث كانت رؤيتهما في مقابل القياس والاستحسان لدى أهل السنّة، فإنّ هذا يثبت النقطة المقابلة لكلامكم تماماً.

 

الفرق بين الرأي والوجدان

^ كلاّ، كان ذلك رأيٌ؛ وهذا وجدانٌ، وهذا عدلٌ فقط. إن أهل السنّة كانوا يرَوْن القياس والاستحسان من مصادر التشريع في الأحكام الشرعية، وهذا يختلف عن بحثنا.

_ لقد كان القياس والاستحسان والرأي عند أهل السنّة حيث لا يكون لديهم نصٌّ.

^ كلاّ، إن هذا الكلام تمّ طرحه في مرحلةٍ لاحقة ومتأخِّرة. إن القياس حقيقةٌ تاريخية كامنة. وهناك مَنْ قال: إن القياس الذي تبنّاه أبو حنيفة، أو ادّعى مساندته وإحياءه، كان من نوع القياس المفرط.

_ هل تعني أنهم كانوا يمارسون القياس حتّى في مواضع وجود النصّ أيضاً؟

^ إن القياس كان بحيث يؤدّي إلى تهميش النصوص. لقد كان للأئمّة هدفان: أحدهما: إن القياس يجب أن لا يؤدّي إلى تهميش السنن القائمة والمطروحة بينكم، وهو ما كان يحصل بالفعل؛ والآخر: ليست كل السنّة عندكم، بل هي موجودةٌ عندنا. وعليه فإن الاختلاف كان حول شيئين. إن الرجوع إلى وجدان العُرْف لتشخيص العدل لا يعني أن العُرْف يستعمل القياس أيضاً. إن الوجدانيات شيءٌ مغاير للقياس، ومختلفٌ عن الرأي. إنهم كانوا في مقام التشريع.

_ كما في دية الأصابع، في تلك الرواية التي أثارت جَدَلاً بين الإمام وأحد أصحابه.

^ كان هذا من موارد تدخُّل الشارع.

_ حتّى هناك كان وجدان ذلك الشخص يقول: إن هذا ظلمٌ؛ لأن الإمام جعل عشرة من الإبل دية للإصبع الواحد، وعشرين للإصبعين، وثلاثين لثلاثة أصابع، وفي ما يتعلَّق بأربعة أصابع عادت الدية إلى عشرين من الإبل، وهو ما لم يقبل به وجدان ذلك الشخص، واعتبره ظلماً.

^ حيث يكون هناك كلامٌ للشارع لا يمكن الرجوع إلى العُرْف والوجدان.

_ أي إن الإحالة إلى الوجدان منوطةٌ بعدم تدخُّل الشارع؟

^ أجل، إذا لم يكن للشارع حكمٌ عندها يكون قد ترك الأمر إلى الوجدان.

_ إلاّ أن الإمام× قال: «يا أبان، إن دين الله لا يُصاب بالعقول»، ولم يقُلْ: في هذا المورد الخاصّ فقط.

الفرق بين العقل والوجدان

^ إن العقل يختلف عن الوجدان؛ فإن العقل وإنْ كان جزءاً من الوجدانيات، إلاّ أن إعمال العقل ليست من قبيل: التوافق الوجداني الخالص بالضرورة. يضاف إلى ذلك أن الدية من الموارد التي تدخَّل فيها الشارع منذ البداية. ولكنْ هل حيث تدخَّل في الدية يجب أن يكون قد أراد بذلك جميع أبعاد العدل أيضاً؟ هذا وحده يمثِّل أوّل الكلام.

الأصول العملية لا تضمن العدالة

أجل، إن الأصول العملية تشمل جميع المجالات، ولكنّ ذلك إنما يأتي في سياق رفع الحَيْرة، وليس إقامة العدالة.

_ لو سمحتُم لنا فسوف نذكر لكم شاهداً من عصر الإمام عليّ× يخالف ما تدَّعونه. فقبل أن تحدث تلك الحالة من الارستقراطية والطبقية الاجتماعية في عهد عثمان بن عفان، وبعد وفاة عمر بن الخطاب، تمّ وضع معايير في تلك الشورى، وتمّ عرض تلك المعايير على الإمام عليّ×، فقالوا له: نبايعك على أن تعمل بالقرآن وسنّة النبيّ وسيرة الشيخين، وهذا ما رفضه الإمام، وقال: إنما أعمل بالقرآن وسنّة النبيّ واجتهاد رأيي، دون أن يذكر ذلك الطرف المقابل من وجدان العُرْف العامّ والعدالة التوافقية، ولا ما كان هو المعيار حتّى ذلك الحين في إدارة الحكم ـ والذي كان يُعَدّ في حينها من أهمّ مساحات العدالة ـ من الشرع والقرآن وسنّة النبيّ الأكرم| وسيرة الشيخين. وعليه نرى حتّى في أهمّ المواضيع المتمثِّلة في بيان المعايير لانتخاب إدارة الحكم والسلطة لا يؤتى على ذكرٍ لهذا الوجدان والعدالة التوافقية، وإنما المذكور هو الشرع فقط، ألا يمكن لذلك أن يشكِّل قرينةً على خلاف كلامكم؟

 

عدم ذكر العدالة التوافقية في شورى تعيين الخليفة الثالث

^ كلاّ؛ وذلك لأن المطروح علينا الآن هو وضع الوجدان في موازاة الشريعة، وأما في المجتمع الذي يكون فيه الرجوع إلى التوافق واضحاً وبديهياً فإنما لا يُؤتى على ذكره لبداهته. ومن هنا عندما كانوا يقولون: تمسك بالقرآن والسنّة فهذا يعني المطالبة بمراعاة الحدود في الحدّ الأدنى.

_ لقد ذكرتُم أن العدالة التي يقصدها الله في التشريع هي العدالة التوافقية، ومع التحفُّظ على مسألة أن الوجدان العُرْفي يجب أن لا يخالف النصوص؛ إذن لا يمكن للعدالة العُرْفية أن تنفي كلّ الرواية، ولا إطلاقها، بمعنى: إذا كانت الرواية مطلقةً، وكان العُرْف يرى بعض مصاديقها ظالماً، دون البعض الآخر، أفلا يعمل هذا الفهم من العُرْف ـ الذي يرى بعض مصاديق هذا المطلق ظالماً ـ على تقييد ذلك المطلق؟

العدالة التوافقية تمنع من انعقاد الاطلاق

^ إذا كان هناك إطلاقٌ فيجب الرضوخ له، وأما إذا قبلنا ببحث تدخُّل الوجدان على هذه الشاكلة ففي ما يتعلَّق بالأحكام الناظرة إلى دوائر العدالة يتعيَّن علينا التدقيق في تبلور الإطلاق بشكلٍ أدقّ، بمعنى أنه من الضروري دراسة العصر الذي وردت فيه تلك الإطلاقات، والتدقيق في ماهية الوجدانيات في ذلك العصر. وحيث إن النصوص قد تبلورت بالالتفات إلى الفهم والوجدان لا ينبغي بنا أن نجلس بعيداً عن عصر الصدور، ونكوِّن إطلاقاً من عندنا؛ فإن هذا يُعَدّ في الواقع تشريعاً وانحرافاً عن منهج الشرع، حيث لا نريد فهم الشريعة كما هي، ولا نريد إدراك الشرائط الاجتماعية التي ورد فيها اللفظ بشكلها الصحيح. ومن هنا إذا كان لدى الإطلاقات نظرٌ إلى مجال العدالة، وكانت تتعاطى مع مجال العدالة، وجب علينا فهم الوجدانيات في ذلك العصر حَتْماً.

_ لو أن وجدانيات ذلك العصر كانت ترى في بعض مصاديق هذا المطلق ظلماً هل يؤدّي ذلك إلى نقض هذا الإطلاق؟

 

إن لوجدانيات عصر النصّ تدخُّلاً في انعقاد الظهور

^ أجل، بل ليس من الضروري أن ترى بعض المصاديق ظلماً حَتْماً؛ فإن ذلك واحدٌ من الموارد الواضحة للقضية، بل إن الرؤية إلى الوجدان في ذلك العصر هي في الأساس من أجل بلورة الإطلاق.

_ هل الإطلاق تدخُّلٌ من قِبَل الشارع أم لا؟

تقدُّم قاعدة العدالة على الإطلاق

^ أجل، ولكنْ ما الذي تصنعونه مع التعارض بين إطلاق دليلٍ ودليل العدالة؟ فعندما يكون هناك إطلاقٌ في دليلٍ لفظيّ فإن إطلاقه يزيد أو ينقص بالنظر إلى التعارضات أو وجود الروايات.

تجنُّب الإفراط والتفريط في القبول بقاعدة العدالة

نتيجة هذا الكلام أن العدالة تُعَدّ قاعدةً فقهية، ولكنْ لا بمعنى ما قاله البعض من أن قاعدة العدالة سوف تغيِّر الفقه تماماً، وتقلبه رأساً على عقبٍ، حيث لن يبقى حينها شيءٌ من الشرع، ولا بمعنى أن لا تغدو العدالة قاعدة أصلاً.

المعيار في اعتبار العدالة قاعدة فقهية

_ وصلنا من هذا البحث التاريخي إلى نتيجةٍ مفادها أن الشارع لم يُبْطِلْ فهم الناس للعدالة التوافقية بشكلٍ مطلق، ولكنّه في بعض الموارد خالف عدالتهم التوافقية. لو أردنا الاستفادة من هذا البحث التاريخي في مقام الاستنباط وجب علينا تقعيدها، وإخراجها ضمن قاعدةٍ فقهية، فهل ترَوْن أن قاعدة العدالة معروفةٌ في فقه الشيعة بوصفها قاعدةً فقهية؟ فإذا كان الأمر كذلك فما هو التعريف الذي يمكن لكم تقديمه لهذه القاعدة؟

المعيار في الحكم بوصفه قاعدةً فقهية

^ إننا نواجه هنا مقولتين: المقولة الأولى: هل ذهب بعض الفقهاء ـ ولو النَّزْر القليل منهم ـ إلى اعتبار العدالة قاعدةً فقهية؟ والمقولة الثانية: هل تمتلك «العدالة» في حدّ ذاتها ـ وبغضّ النظر عن رؤية الفقهاء ـ ملاكَ ومعيارَ اعتبارها قاعدةً؛ كي نعدّها قاعدةً في نهاية المطاف؟ قبل كلّ شيء يجب أن نبدأ بالمقولة الثانية، وهي: هل العدل والعدالة تصلح أن تكون قاعدةً؟ وفي البداية يجب تحديد المعيار في اعتبار القاعدة بالنسبة إلى حكمٍ ما.

المعيار الأوّل: شمول جميع أصناف الحكم

من الواضح أن لكلّ قضيةٍ فقهية موضوعاً ومحمولاً. وإن المحمول في الفقه هو الحكم دائماً، والحكم ينقسم من زاوية إلى قسمين، وهما: الحكم الجزئي؛ والحكم الكلّي. وهي كلّية خاصّة، وليست كلّية كما اتّفق؛ إذ للكلّية في الفقه أنواع متعدّدة. وإن خصوصية هذه الكلّية تكمن في شموليتها لجميع أصناف الحكم. فإذا كان الحكم قابلاً لاستيعاب الأصناف كان صالحاً ليكون قاعدةً. وعليه فإن المعيار في كون الحكم قاعدةً هو اشتماله على عنصر الكلّية والتعميم. وبطبيعة الحال فإن التعميم والكلّية بمعنى الاشتمال على أكثر من سنخٍ.

المعيار الثاني: التعارض في دائرة أدلّة الأحكام

أما المعيار الآخر في القاعدة فهو التعارض مع أدلّة الأحكام الأخرى، سواء في ذلك أدلّة أحكام القواعد أو الأحكام الجزئية. وإن هذا التعارض إنما يكون ـ بطبيعة الحال ـ في دائرة تلك الأدلّة، وليس في القدر المتيقَّن للموضوع.

توضيح معيار التعارض

فإنْ حدث مثل هذا الوضع أمكن لنا اعتبار الحكم قاعدةً؛ لاشتماله على ملاك القاعدة. فمثلاً: لو أن أدلّة الوضوء تعارضَتْ مع أدلة لا ضَرَر لا يمكن لنا اعتبار دليل الوضوء قاعدةً؛ لمجرّد حصول هذا الاحتكاك والتعارض؛ وذلك لأن التعارض قد وقع في دائرة الوضوء نفسها. وأما دليل «لا ضَرَر» فحيث تجاوز مساحة الأدلّة الأخرى وتعارض معها يمكن اعتباره قاعدةً.

وعليه فإن مجرّد التعارض أو وجود نسبة التعارض مع الأدلّة الأخرى لا يمكنه أن يشكِّل دليلاً على قاعدة حكم تعرّض دليله إلى التعارض، إلاّ إذا حدث هذا التعارض في مساحات الأدلّة الأخرى.

لقد ذكرنا حتّى الآن معيارين لصيرورة الحكم قاعدةً. فإذا توفَّر هذان المعياران في مورد العدالة يمكن للعدالة أن تكون قاعدةً على مستوى الثبوت. إن هذين المعيارين معياران ثبوتيان، ويثبتان الإمكان الثبوتي للحكم.

توضيح معيار الشمول

لو افترضنا أنكم حكمتُم بشيءٍ على طبق قاعدة العدالة، وحكمتُم في موضعٍ آخر وظروف أخرى بالاستناد إلى ذات القاعدة، يتّضح أن لقاعدة العدالة شأنية أن تكون قاعدةً؛ في حين ليس للوضوء مثل هذه الظرفية الثبوتية، من قبيل: أن يتمّ سكب الماء في الوضوء على الوجه من منابت شعر مقدَّم الرأس إلى الأسفل، فإن هذا في الأساس ليس له معيارٌ ثبوتي وإمكان أن يكون قاعدةً؛ إذ لا يوجد هنا قابليةُ الشمول لمختلف الأصناف.

اشتمال العدالة على معايير القاعدة الفقهية

وأما العدالة فهي تشتمل على ملاك ومعيار التحوُّل إلى قاعدةٍ؛ لإمكانية تسرية العدالة إلى مختلف المجالات والأصناف، كأنْ تقول مثلاً: إن العدالة في موضعٍ ما تقتضي الحكم بالتساوي، وفي موضعٍ آخر تقتضي حكماً مغايراً.

أنواع الكلّية والتعميم في الحكم

_ هل يجب أن تكون تلك الأحكام ـ الواقعة ضمن مصاديق ذلك الحكم الذي نريد أن نعلم ما إذا كانت قاعدةً أم لا؟ ـ كلّية حَتْماً، أم يمكن إطلاق الاسم الكلّي لهذه الأفراد بوصفه قاعدةً حتّى إذا كانت الأحكام جزئيةً؟ من ذلك مثلاً أننا نعلم أن كلّ حكمٍ كلّي يمكن أن يشتمل على مصاديق، فعندما تجب صلاة الصبح فإنه سيكون لها أصنافٌ كثيرة، من قبيل: صلاة الصبح في المسجد، وصلاة الصبح في البيت، وصلاة الصبح فرادى أو جماعة، أو صلاة الصبح الواجبة على زيد، وصلاة الصبح الواجبة على عمرو. وحتّى بعض هذه الأحكام يمكن أن تكون بدَوْرها كلّية أيضاً، مثل: صلاة الصبح جماعةً أو صلاة الصبح فرادى هي كلّية أيضاً، وتشمل صلاة الجماعة من كلّ أحد. فهل يكفي هذا المقدار لتكون صلاة الصبح قاعدةً، أم يجب أن تكون هذه الأحكام تحت مجموعةٍ مجعولة من قِبَل الشارع؟

كلّية الحكم بلحاظ تعدُّد المكلَّفين

^ يمكن لنا أن نأخذ بنظر الاعتبار عدّة أنواع للكلّية في مورد الأحكام:

النوع الأوّل: بلحاظ تعدُّد المكلَّفين؛ بمعنى أن نقول: «هذا الحكم عامّ، ويجب على جميع المكلَّفين». وعليه يكون لهذا الحكم عمومٌ، وعموميته تكون بلحاظ تعدُّد المكلَّفين؛ وهناك في مقابله حكمٌ خاصّ. إن حكم النبيّ حكمٌ مختصّ به، بمعنى أن حكم النبيّ لا يشتمل على مثل هذا التعميم؛ لأنه خاصّ بالنبيّ الأكرم|. إن هذا النوع من التعميم لا يخلق قاعدةً، وبهذا التعميم لا يمكن للحكم أن يغدو قاعدةً مصطلحة، إلاّ إذا أردتُم أن تختلقوا قاعدةً، وحتّى في مثل هذه الحالة لن تكون هذه القاعدة هي تلك القاعدة المعروفة والسائدة.

كلّية الحكم بلحاظ المصداق

النوع الثاني هو التعدُّد أو التعميم بلحاظ المصداق. وهذا بدَوْره لا يؤسِّس لقاعدةٍ؛ وذلك لأنه «ما من حكمٍ إلاّ وله مصاديق». من ذلك أن الوضوء ـ على سبيل المثال ـ له العديد من المصاديق، من قبيل: الوضوء في البيت، والوضوء في المسجد، والوضوء في هذه المدينة، والوضوء في المدينة الأخرى، والوضوء في هذا اليوم، والوضوء في اليوم الآخر. وبطبيعة الحال فإن هذا النوع من التعدُّد موجودٌ حتّى في الحكم الخاصّ (مثل: حكم النبيّ) باللحاظ الأوّل أيضاً، من قبيل: صلاة الليل في هذه الليلة، وصلاة الليل في الليلة الثانية، وهكذا. وعليه تلاحظون أن التعدُّد هنا بلحاظ المصداق، وليس بلحاظ المكلَّف.

كلّية الحكم بلحاظ الحالات

أما النوع الثالث فهو التعدُّد بلحاظ الحالات، الذي هو الإطلاق. وهذا النوع أيضاً لا نستطيع اعتباره قاعدةً مصطلحة، وإنْ كان رُبَما أمكن في عصر الأئمّة بلحاظ قولهم: «علينا إلقاء الأصول»([11]) أن يكون شاملاً لهذا النوع أيضاً. إن الكثير من الروايات التي نَعُدُّها اليوم من أصول الأئمّة إنما تكمن عموميتها وأصالتها بلحاظ أننا نرجع إليها في مختلف الحالات. كما أن التعدُّد بلحاظ الحالات ليس قاعدةً فقهية مصطلحة، بمعنى أنه لا يمكن أن نعدّه مؤسّساً لقاعدة طبقاً للارتكاز الفقهي الذي وُجد بعد عصر الأئمّة^.

كلّية الحكم بلحاظ الأصناف (المعيار المختار)

يبقى هناك تعدُّدٌ آخر يمكن له أن يجعل من الحكم قاعدةً، وذلك بأن تكون عمومية الحكم بلحاظ تعدُّد الأصناف. وبطبيعة الحال فإن الأصناف تظهر وتتبلور في عددٍ من المواطن:

تعدُّد الأصناف في ناحية المصداق: فتارةً يظهر التعدُّد بلحاظ مصاديق الموضوع، وهذا إنما يكون في فرضية إمكان تقسيم المصاديق إلى أصنافٍ مختلفة.

تعدُّد الأصناف في ناحية الحكم: وتارةً يظهر التعدُّد الصنفي في ناحية الحكم. وهذه مقولةٌ نادرة بطبيعة الحال. وهذا الافتراض يأتي حيث يكون هناك تنزُّلٌ؛ كأنْ يُقال مثلاً: «تيمُّم الميّت بمنزلة تيمُّم الحيّ». حيث تكون هنا أصناف متعدّدة من الأحكام.

تعدُّد الأصناف في كلتا ناحيتي الحكم والمصداق: وتارةً أخرى يكون التعدُّد بلحاظ كلا الأمرين معاً، أي من المحتمل أن يكون بلحاظ الموضوع ويمكن أن يكون بلحاظ الحكم أيضاً. إلاّ أن المتيقَّن هو أنه يجب أن يتحقَّق تعدُّد صنفيّ بحيث يمكن القول: هذه قاعدةٌ كلّية. فإذا كان الأمر كذلك فإننا عندها لن نعتبر الكثير من العموميات والكلّيات المطروحة والمتصوَّرة في الحكم بوصفها قاعدةً. وعلى هذا الأساس هل يكون العامّ قاعدةً أم لا؟ إذا كان عموم العامّ هو من نوع العموم الصنفيّ فهو عامٌّ وقاعدةٌ أيضاً؛ وأما إذا كان بلحاظات وموارد أخرى فهو عامٌّ فقط، ولا يكون قاعدةً. وعلى هذا الأساس فإن المعيار واضحٌ وشفّاف جدّاً.

_ إن القواعد الفقهية تستعمل أحياناً في الشبهات الموضوعية فقط؛ وتارةً أخرى تستعمل في الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية أيضاً. إن ذلك القسم من القواعد التي تستعمل في الشبهات الموضوعية، والذي يرتبط بالتطبيق على المصاديق، فعلى أيّ أساس نطلق عنوان القاعدة على هذه المجموعة من القواعد؟

تعدُّد الأصناف في ناحية الموضوع

^ بلحاظ قبول الصنف لتلك الموضوعات؛ كأنْ تقول على فرضية قاعدة «أماريّة اليد»: «هذا الكتاب كان بيده، فهو له»، ثمّ تجري ذات هذه القاعدة في مورد آخر أيضاً.

_ بمعنى أن الكتاب والقلم صنفان؟

^ نعم، هما صنفان؛ لأنكم تستعملونهما صنفيّاً، وفي فسحةٍ من أمركم.

_ في المجموعات المندرجة تحت أيّ حكمٍ هناك العديد من المصاديق التي يمكن لحاظ الكلّيات الإضافية فيها.

^ كلاّ، من ذلك أنه ما هو الفرق بين الوضوء في البيت والوضوء في المسجد على سبيل المثال؟

_ إن الوضوء في البيت والوضوء في المسجد صنفان. والسؤال هو: ما هي الضابطة في هذه القابلية الصنفية؟

ضابطة قابلية الحكم للتصنيف

^ على الرغم من أن الوضوء في ظرف المكان أو الزمان أو الخصوصيات والحالات الأخرى يكون من الأصناف، ولكنّكم لا تريدون إثبات أن لهذه الأصناف المتنوِّعة حكماً من الناحية الشرعية؛ لأن هذه الأمور مفروغٌ عنها وبالغة الوضوح. وإن حكم الوضوء لا يُصبح قاعدةً باعتبار هذه الحالات. إذن فالمعيار في القاعدة يكمن في «الرجوع إليها»، بمعنى أن هناك في القاعدة ارتكازٌ يمكن التعبير عنه بالقول: «نرجع إليها لإزالة الشبهة أو لإثبات الحكم»، في حين لا يمكن لي في الوضوء أن أقول: «إني أشكّ في وجوب الوضوء في المسجد، وفي وجوب الوضوء في البيت، وفي مكانٍ آخر؛ لذلك فإني أرجع إلى دليل الوضوء». إن هذا لا يكون إلاّ بلحاظ الحالات. وقد ذكرتُ أن الحالات أمرٌ مريب ومشتبه؛ لأن الحالات عبارةٌ عن أصنافٍ متنوّعة، وإنكم ترجعون إليها حقيقةً. ومن خلال الرجوع إلى الأصل ترومون إثبات حكمٍ في عدّة حالات. وهذا هو التمسُّك بالإطلاق. وأما إذا لم يكن هناك مثل هذا الشكّ فلا يتمّ التأسيس لقاعدةٍ. فالقاعدة هي الشيء الذي «نرجع إليه». ولذلك إذا كان هناك صنفٌ في مثالكم فإن هذا الصنف لا يندرج ضمن الحالة المشكوكة ـ أي متعلّق الشكّ والشبهة ـ حتّى يكون مرتبطاً بالقاعدة.

_ أنتم تقولون: إذا كان في يد زيدٍ كتابٌ، وفي يد عمرو قلمٌ، يكون هناك فرقٌ؛ ولكنْ ليس هناك فرقٌ بين الوضوء في البيت والوضوء في المسجد؟

^ أجل، وذلك لحصول الشكّ هنا. ويمكنكم أن تمثِّلوا بما هو أفضل من مثال القلم.

_ ما هو الفرق بين مثال القلم والكتاب وبين سائر الأمور الأخرى؟

^ لأنكم تستعملون القاعدة كثيراً، وليس الأمر هنا وضع حالة كي نقول: إن هناك شيءٌ واحد ذا حالتين وعلى صنفين، بل هو يغطي أصنافاً وترجعون إليه وتثبتون به حكماً. ولذلك هناك مصاديق حقيقة، وإن لهذه المصاديق أوّلاً أصنافاً مختلفة ومتعدّدة. وثانياً: إن هذه الأصناف تندرج ضمن دائرة الشكّ أيضاً. أنت لا تقول في بعض الأحيان: «أنا أشكّ في وجوب الوضوء في هذا المكان أو في ذلك المكان». ولا فرق بين أن يكون الوضوء بهذا الماء أو ذاك الماء. وبطبيعة الحال قد تكون الأصناف في بعض الموارد حالاتٍ أحياناً، وهذا بحثٌ آخر، وعلينا أن نرى ما إذا كانت تدخل في القاعدة أم لا؟ فإنْ كان هناك شخصٌ يرى أن التاريخ هو الملاك والمعيار في تبلور العلم، واعتبر هذا الأمر ـ لا سيَّما في بداية تأسيس الفقه ـ قاعدةً، وقال: إن هذا الارتكاز الفقهي كان ناتجاً عن الجهل، حيث عمدوا إلى تحديد القاعدة، فإننا نقول له في الجواب: «علينا إلقاء الأصل». لنفترض مثلاً أن قاعدةً ما قد تبلورت في عصر الأئمّة^، وكان المبنى في إعطاء المساحة لتعريف ما هي تلك الوضعيات الأوّلية للعلم، وكانت الوضعية الأوّلية للعلم تعتبر هذا الأمر قاعدةً. وعليه صحيحٌ أن بإمكانكم أن تقترحوا هنا تحويل جميع المصاديق إلى أصناف، إلاّ أن هذه القابلية الصنفية لا رَبْطَ لها بشأن القاعدة؛ فإن شأن القاعدة هو مرجعيتها بلحاظ إزالة الشكّ في الأصناف، وإننا في هذه الأصناف المتعلِّقة بالوضوء وما إلى ذلك لا نعمل على إزالة الشكّ، إذن لا يدخل هذا ضمن دائرة الشكّ.

الفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية في الحاجة إلى الدليل الشرعي

وعليه فإننا في القاعدة الفقهية نشعر أنها تحتوي على شموليةٍ، إلاّ أن هذه الشمولية إنما تؤسِّس للإمكان الثبوتي للقاعدة فقط، ولكنْ بالالتفات إلى أن تطبيق القاعدة هو وحده الذي يكون بأيدينا، وأما أصل تشريعها فهو من قِبَل الله، يجب أن يكون لدينا دليلٌ إثباتي عليها أيضاً.

حاجة القاعدة الأصولية إلى الدليل الشرعي

هذا هو شأن القواعد الفقهية، خلافاً للقواعد الأصولية، حيث يمكن للإنسان أن يبدعها؛ لأن القاعدة الأصولية إنما ترتبط بشأننا. على الإنسان أن يجدّ ويسعى من أجل الكشف عن إمضاء الشارع. وعلى كلّ حالٍ فإن الحاكم ـ طبقاً لقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ﴾ (الأنعام: 57)([12]) ـ هو الله فقط. ولأن القاعدة الفقهية من سنخ الحكم إذن يجب على الله أن يبيِّن القاعدة الفقهية. كما أن معنى «علينا إلقاء الأصول»([13]) هو أن إلقاء الأصول من مختصّات الله سبحانه وتعالى أو أوليائه، وهؤلاء يجب أن يتمّ إلهامهم من قِبَل الله تعالى.

 

المعيار الثبوتي والمعيار الإثباتي للقاعدة الفقهية

ومن هنا إذا اعتبرنا القابلية الشمولية تمثِّل الناحية الثبوتية لصيرورة الحكم قاعدةً يجب في إحراز الناحية الإثباتية أن يكون هناك دليلٌ صادر من جهة الشارع يعمل على بيان القاعدة الفقهية، أو أن يتمّ تقديم دليلٍ على حجّيته؛ لأنه يمتلك شموليةً صنفية، ومع ضمّ اشتماله على دليل الحجّية نطلق عليه عنوان القاعدة. ولكنْ لا يمكن للشارع حتّى التصريح أبداً بالقول: إني جعلتُ الوضوء قاعدةً؛ لأن مثل هذه القاعدة تحتوي على مشكلةٍ في المرحلة الثبوتية، ولا يمكن لها أن تكون قاعدةً. فإذا كانت هناك قاعدةٌ تحتوي على شمولية صنفية، ودلّ الشارع بنحوٍ من الأنحاء على شمولها لجميع الأصناف، عندها لا حاجة إلى تصريحه بالقول: إني أجعلها قاعدةً، فما أن يقول الشارع: «هذه حجّة»، ورأينا فيها شمولاً صنفياً ـ بعد ضمّ تلك الوضعية الثبوتية ـ، سوف ندرك أنها قاعدة.

امتلاك العدالة للمعيار الثبوتي والإثباتي للقاعدة الفقهية

في ما يتعلَّق بقاعدة العدالة هناك وجودٌ للمعيار الأوّل ـ الذي هو معيارٌ ثبوتي ـ؛ وهناك معيارٌ ثانٍ أيضاً؛ لأن قاعدة العدالة إذا واجهت أدلّة الأحكام الأخرى سيؤدّي الأمر إلى التعارض؛ إذ يمكن لشخصٍ أن يقول: يوجد هنا تساوٍ، ويقول شخصٌ آخر: لا يوجد هناك تساوٍ؛ أو يقول شخصٌ: يجب فعل كذا، ويقول شخصٌ آخر: إن العدل يقتضي خلاف ذلك. وعليه يقع التعارض، ولا يشمل مجرّد الدائرة الضيِّقة المرتبطة به، بل إنه ينشر مظلّته ويغدو موضوعه في الحقيقة واسعاً. وهذا يعود في الواقع إلى تلك الخصوصية الأولى.

أنواع الأدلة الشرعية على القاعدة الفقهية

لقد ثبت حتّى الآن أن العدالة تشتمل على المعايير الثبوتية لتكون قاعدةً، ولكنْ حيث إننا آمنّا بأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يجعلها قاعدةً يَرِدُ هذا السؤال القائل: هل جاء الله هنا بدليلٍ على حجِّية قاعدة العدالة؟ يجب القول: هناك سنخان من الأدلة في الشرع ليكون الشيء معتبراً، وعليه يجب أن نرى أيّ هذين السنخين موجودٌ هناك كي نتمكَّن بواسطته من جعل ذلك الشيء قاعدةً؛ فتارةً يدلّ الدليل على حجّية أو جعل حكم، وهذا النوع من الدليل شائعٌ جداً، ولا يمكن إنكاره، وغالباً ما يكون هذا القسم هو المطروح بوصفه دليلاً على القاعدة، كما يقال: «هذه قاعدةٌ؛ لأنه تدلّ عليها هذه الآيات أو تلك الروايات». وهذا سنخٌ من الأدلة.

وفي السنخ الثاني من الأدلّة لا ينظر الدليل إلى تلك القاعدة بشكلٍ مباشر؛ ولكنْ بعد ضمّ أصلٍ وقاعدةٍ كلّية أخرى يشتمل عليها ذلك الدليل نحصل على هذه القاعدة، ونَعُدّ هذا الحكم معتبراً. لنفترض أن شخصاً تمكَّن من الحصول على حكمٍ في ضوء «أصالة الإباحة» أو «أصالة الحلِّية»، وهما من الأصول الكلّية، وكان لذلك الحكم أصنافٌ مختلفة، فتندرج هذه الأصناف ضمن ذلك الحكم؛ لأن مآلها إلى تلك الأصالة، وإن لتلك الأصالة دليلاً؛ وعليه يكون الدليل على تلك الأصالة دليلاً على هذا الصنف أيضاً. وهذا ما يجب القبول به أيضاً. وهذا هو شأن الكثير من القواعد. ولا يخطر الآن في ذهني موردٌ خاصّ من هذا القبيل، ولكنْ يجب القول في الجملة: إن الكثير من القواعد يتمّ الحصول عليها بالالتفات إلى قاعدةٍ أخرى، حيث لا يوجد أيّ ذكرٍ أو إشارة في الروايات إلى هذه القاعدة، بحيث يمكن الركون إلى اعتبارها؛ إلاّ أن تلك القاعدة تندرج ضمن قاعدةٍ كلّية تستند إلى دليلٍ. إن لهذا الأسلوب ـ على كلّ حالٍ ـ جدوائيةٌ في التأسيس للقواعد أو التعرُّف على القواعد بعبارةٍ أفضل.

اختلاف دليل القاعدة الفقهية عن دليل القاعدة الأصولية

الطريق الثالث لمعرفة القاعدة هو أن نعتبر دائرة الفقه منذ البداية دائرةً محدودة بإطارٍ خاصّ، ونَعُدّ ما هو أبعد منها خارجاً عن دائرة التشريع. وهذا ما تحقّق في مورد الأصول. ولذلك تُعَدّ القواعد الخارجية معتبرةً نوعاً ما. فمثلاً: في ما يتعلَّق بالقواعد الأصولية يتمّ طرح بعض الأبحاث، ولكنْ حيث نقول: إن الشارع لا يستطيع التدخُّل هنا فإن هذه القواعد تخرج عن تدخُّل الشارع. وعليه تكون هذه قواعد، ولكنها خارجةٌ عن الفقه. والكلام هنا يكمن في أن هذا الأمر إنما يكون بشأن القواعد المرتبطة بالاستنباط، وليس بشأن الحكم؛ لأن القاعدة الفقهية حكمٌ، وليس لأحدٍ أن يحكم سوى الشارع، إلاّ إذا قلتُم: إن الشارع قد ترك منطقة فراغٍ، وهذا هو الذي يقوله السيد الشهيد الصدر. إن منطقة الفراغ تعني أن الشارع على الرغم من تمكُّنه من التدخُّل آثر أن يترك منطقةً فارغة من الأحكام، ولم يتدخَّل. وهذا يعود بدَوْره إلى ذلك الشقّ الثاني أيضاً. ولدينا هنا قواعد كلّية تعود إلى جعل الشارع. إذن في مورد الحكم هناك سنخان من الأدلة.

_ من أيّ سنخٍ تكون قاعدة العدالة؟

^ علينا أن نحدِّد طرق إثبات قاعدة العدالة أوّلاً؛ حيث إنها على سنخين، لننتقل بعد ذلك كي نرى هل يمكن تطبيق هذين السنخين في مورد العدالة أم لا؟ فإذا كان أحد هذين السنخين قابلاً للاستدلال أمكن تأسيس قاعدة العدالة؛ وأما إذا لم يكن أيّ واحدٍ من هذين السنخين ممكناً فإن قاعدة العدالة سوف تواجه مشكلةً من الناحية الإثباتية؛ إذ ليس هناك دليلٌ يدلّ عليها، وإنْ كان يمكن أن تصبح قاعدةً من الناحية الثبوتية.

اختلاف قاعدة العدالة عن قاعدة العدل والإنصاف

قبل العمل على إيضاح قاعدة العدالة من الأفضل أن نقوم ـ من باب التعريف بالموضوع ـ ببيان الاختلاف بين قاعدة العدالة وقاعدة العدل والإنصاف([14]). إذن يجب علينا قبل الخوض في هذين السنخين من الأدلة أن ندرس الاختلاف والنسبة بينهما.

مورد قاعدة العدل والإنصاف

كما تمّ التعرُّض لذلك العدل والإنصاف ـ بطبيعة الحال ـ بالنقد والمناقشة أيضاً، ورُبَما لا يكونان من القواعد، ولكنْ لو افترضنا أنهما من القواعد فإن قاعدة العدل والإنصاف إنما تَرِدُ إذا كان هناك نزاعٌ ماليّ، ولا تكون هناك أيّ مزيّةٍ ترجّح أحد الطرفين على الآخر، وعليه يكون الطرفان متساويين؛ كأنْ يقع النزاع بين شخصين حول ملكيّةٍ ماليّة، ويقدِّم كلُّ واحدٍ منهما بيّنةً، أو حلف كلاهما اليمين، في مثل هذا المورد يتمّ تقسيم المال المتنازَع عليه بينهما مناصفةً.

ارتكازية قاعدة العدل والإنصاف

وفي مثل هذه الحالة يكون الحكم بتقسيم المال مناصفةً من باب الارتكاز العقلائي. وإن الارتكاز العقلائي يعود إلى نقطةٍ مركوزة في الأذهان، وذلك بأن نقول: من باب المقدّمة العلمية؛ كي نحصل على يقينٍ من أن صاحب المال الحقيقي قد وصل إلى نصف ماله في الحدّ الأدنى، فإننا نعمل على تقسيم المال إلى قسمين متساويين.

_ عندها سيكون هناك في المقابل يقينٌ بحصول الظلم في النصف الآخر.

^ ليس هناك من طريقٍ آخر.

_ ولكنْ يمكن لنا أن نتخلَّص من الظلم القطعي واليقيني من خلال القرعة.

^ ليبقى البحث الإثباتي. فلو افترضنا أننا نعتبر القرعة قاعدةً نقول: من الممكن لشخصٍ أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى قد جعل القرعة في مقابل هذه القاعدة؛ كي لا تكون موجودةً منذ البداية. يمكن لشخصٍ آخر أن يقول: إن هذه القاعدة إنما تكون في موارد محدودةٍ.

وفي الحقيقة إنكم في مواجهة هذا النزاع الماليّ أمام ثلاثة خيارات، وهي:

الخيار الأوّل: إعطاء جميع المال إلى أحد الطرفين. وفي هذا الخيار سيكون هناك احتمال عدم حصول صاحب الحقّ على شيءٍ من حقّه، وبذلك يكون هناك ظلمٌ واضح.

الخيار الثاني: عدم إعطاء المال لأيٍّ منهما. وهنا يكون تحقُّق الظلم بيِّناً وقطعيّاً.

الخيار الثالث: تقسيم المال بين الطرفين مناصفةً، وهنا نحصل على يقينٍ من حصول صاحب الحقّ على نصف ماله، وهذا أفضل الخيارات الثلاثة.

ومن هنا فإن الارتكاز العقلائي يعمل على بيان هذه المسألة. وبطبيعة الحال يجب عدم تجاهل قيد عدم ترجيح الطرفين.

المورد الآخر الذي يكون موضعاً لجريان قاعدة العدل والإنصاف هو أن يمتزج المالان ببعضهما، بحيث يستحيل الفصل بينهما، ولذلك يتنازع صاحبا المالين، ويدّعي كلٌّ منهما أن المال له. وعليه يُقال هنا بتقسيم المال مناصفةً أيضاً.

لنَعُدْ إلى قاعدة العدالة. لو واصلنا البحث طبقاً للتعريف السائد للعدالة، القائل بأن العدالة تعني: «وضع الشيء في مكانه»([15])، إلاّ أن قاعدة العدل والإنصاف إنما هي للتعاطي مع وضعٍ مشكل، بمعنى أنها على مستوى قاعدة القرعة، حيث هي مجعولةٌ لرفع الاشتباه.

مورد قاعدة القرعة

وبطبيعة الحال هناك في قاعدة القرعة واقعٌ، ولكنّه مجهولٌ، ويحتوي على مشكلٍ إثباتي، وليس إشكالاً ثبوتياً. ولو عمدنا إلى تحليل قاعدة القرعة سوف نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الوضعية الثبوتية لقاعدة القرعة واضحةٌ ومحدّدة، إلاّ أن الفقيه الذي يواجه هذه الحالة لا يستطيع من الناحية الإثباتية أن يدرك ما إذا كان الواقع هو هذا أو ذاك، من قبيل: الخنثى المُشْكِل، الذي لا نعرف ما إذا كان ذكراً في الواقع أو أنثىً، ولذلك يكون إلحاق الخنثى بالذكر أو الأنثى مجهولٌ ومُشْكِلٌ.

اتّحاد مورد قاعدة العدل والإنصاف وقاعدة القرعة

إن لقاعدة العدل والإنصاف ذات الشأن أيضاً، بمعنى أن أحد هذين الشخصين هو صاحب المال، وهو واحدٌ لا غير. والأمرُ واضحٌ من الناحية الثوبتية والواقع. وسبق أن ذكرنا أن بالإمكان تصوُّر شقّين هنا: أحدهما: أن يتنازع شخصان على ملكيّة مالٍ واحد، بأن يقول كلّ واحدٍ منهما: إن المال كلّه لي؛ والشق الثاني: أن يكون لكلا الشخصين حقٌّ، ويعترف كلّ واحدٍ منهما أن للآخر حقّاً في المال، غاية ما هنالك أن المال المتنازع عليه مختلطٌ. وعليه يكون الواقع واضحاً، ولكنّ الإشكال هنا يكمن في الناحية الإثباتية والظاهرية. وبذلك تكون قاعد العدل والإنصاف في الواقع ـ مثل قاعدة القرعة ـ موضوعةً لكلّ أمرٍ مشكل. وبطبيعة الحال لا بُدَّ من دراسة أدلّة القرعة. هناك مَنْ يقول بعدم وجود قاعدة العدل والإنصاف، وإن معنى «القرعة لكلّ أمرٍ مشكل»([16]) هو عدم الحاجة إلى اللجوء إلى هذه الارتكازات العقلائية، وإن الشارع لم يترك إمضاء هذه الارتكازات العقلائية بسكوته فحَسْب، بل قد ردع عنها أيضاً، إلاّ إذا رأى الشخص أن الارتكاز العقلائي في قاعدة العدل والإنصاف متّصلٌ بالدليل، وقال في إثبات هذه القاعدة: إن هناك دليلاً وارداً من قِبَل الشارع يثبت أن هذا الارتكاز العقلائي من قبيل: القرينة المتّصلة به، وعندها يستنتج أن القرعة إنما تجري في غير مورد قاعدة العدل والإنصاف. وبذلك يمكن إثبات مثل هذا الدليل، بَيْدَ أن بحثنا ليس في الإثبات.

_ أو أن يعمل على إلغاء الخصوصيّة من أجل إثبات قاعدة العدل والإنصاف بالأدلة الخاصّة المرتبطة بهذه القاعدة.

^ أجل، يمكنه إلغاء الخصوصية، ولكنْ يتعيَّن عليه حينها حلّ مشكلة القرعة، وأيُّهما هو الحاكم؟ وأيُّهما له لسان؟ وإنْ كان إلغاء الخصوصية ليس له لسانٌ أصلاً. كما يجب عدم الغفلة عن هذه النقطة، وهي أن الخصوصية المحتملة لا تقبل الإلغاء، ويجب الحفاظ عليها، وهذا البحث إثباتيٌّ بطبيعة الحال.

النسبة بين قاعدة العدالة وبين قاعدة العدل والإنصاف

وعلى كل حالٍ فإن شأن قاعدة العدل والإنصاف ـ لو اعتبرنا أنها قاعدةٌ ـ شأنٌ مرادف ومشابه لقاعدة القرعة. وإن هذه القاعدة ـ بطبيعة الحال ـ تختلف عن قاعدة العدالة؛ إذ إننا في قاعدة العدالة نرى أن العدالة تعني «وضع الشيء في موضعه»، إلاّ إذا كان هناك تسامحٌ في هذا المعنى، أي لو تمّ العمل في الموارد المشكلة بقاعدة العدالة نكون هنا قد وضعنا الشيء في موضعه أيضاً، وهذا في الواقع على خلاف ذلك التعريف والمفهوم الأوّلي لقاعدة العدالة، وفي هذه الحال تندرج قاعدة العدل والإنصاف ضمن قاعدة العدالة، وإلاّ ستكونان مختلفتين. وعليه يتمّ العمل بقاعدة العدل والإنصاف عند الاشتباه، وأما قاعدة العدالة فشيءٌ آخر. وهذا الأمر يقوم على أساس تعريف العدالة بـ «وضع الشيء في موضعه».

وأما إذا لم نأخذ قاعدة العدالة بمعناها الفلسفيّ هذا، وعمدنا إلى تعريفها في ضوء الأعراف والتقاليد الاجتماعية ـ لأن ما يقوله العقلاء هو الذي يصبح عدالةً في الواقع، وإن أسس وجذور العدالة في الواقع مرتبطةٌ بالأواصر الاجتماعية ـ عندها لن يكون بإمكانك إذا لم تكن هناك أعرافٌ عقلائية أن تعمل على تعريف العدالة بوصفك فيلسوفاً أو عالماً أو فقيهاً، أو لن يكون بإمكان الشارع أن يكشف عن الوضعية السابقة، وأن نعمد بعد ذلك إلى وضع هذا الشيء غير الموضوع في موضعه. وعلى هذا الأساس تكون النسبة بين قاعدة العدل والإنصاف وبين قاعدة العدالة ـ في ضوء هذا التعريف ـ نسبة العموم والخصوص المطلق. وعلى هذا الأساس إذا تمّ افتراض واقعٍ في التعريف الجديد فالمراد هو ذلك الذهن والارتكاز العقلائي في الأعراف والتقاليد.

_ يمكن القول في بيان الفرق بين هاتين القاعدتين: إن قاعدة العدل والإنصاف إنما تجري في الشبهات الموضوعية فقط، ولا مجال لجريانها في الشبهات الحكمية أبداً، وأما قاعدة العدالة فيمكن لها أن تجري في الشبهات الحكمية أيضاً؟

^ أجل، يوجد مثل هذا الاختلاف بين هاتين القاعدتين.

_ هناك بعض الأسئلة المطروحة حول مباني قاعدة العدالة، ومن بينها: هل مصاديق العدالة ثابتةٌ؟ وهل كان هناك على مدى التاريخ وفي مختلف المجتمعات مصاديق متغيِّرة أم أن بعض مصاديق العدالة ثابتةٌ وبعضها الآخر متغيِّرة؟

تأسيسيّة أو إمضائية نصوص العدالة

^ لو تطرَّقنا إلى البحث من مسارٍ آخر فإن هذه المباني سوف تعثر على أجوبتها بشكلٍ تلقائي، أو سوف يكون هناك متَّسع للإجابة عنها. فعلينا قبل كلّ شيء أن نرى: هل النصوص الموجودة في باب العدالة ـ ولا سيَّما النصوص القرآنية منها، من قبيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90) ـ لها شأنيّةُ إثبات وجوب العدالة أم لا؟

_ ما هو المراد من الشأنيّة هنا؟

دراسة احتمال تأسيسة نصوص العدالة

^ إن المراد من الشأنيّة هو المرجعية في إثبات الحكم، وما إذا كان قاعدةً أم لا؟ وفي هذا الباب هناك أمامنا احتمالان: الاحتمال الأوّل: تأسيسية النصوص الواردة في باب العدالة؛ والاحتمال الثاني: إمضائية وإرشادية هذه النصوص. فإذا كان قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ يوجب العدل في الواقع، وكان حكماً تأسيسياً، وليس له أيّ دعامةٍ وسند غير هذا النصّ والتأسيس من قِبَل الشارع، فعندها من الطبيعي أن يكون بإمكاننا التمسُّك بإطلاق وعموم هذا النصّ التأسيسي.

موقع العُرْف في تأسيسية نصوص العدالة

غاية ما هنالك أنه من الممكن أن يفتح لنا طريقاً للرجوع إلى العُرْف والعقلاء. إنه مفهوم العدل، ونحن إنما ندرك هذا المفهوم ونتعرَّف عليه من خلال الرجوع إلى العُرْف والعقلاء، إلاّ أن أصل الحكم يتمّ إيجاده والتأسيس له من قِبَل الشارع. وبطبيعة الحال لو اعتبرنا قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ تأسيسياً فإننا سنواجه الاحتمالات التالية:

الاحتمال الأوّل: أن يكون العدل ـ في الأساس ـ حقيقةً شرعية / متشرِّعية، بمعنى أنه يجب الرجوع إلى الشرع والمتشرِّع لنرى ما إذا كان هناك معنىً ومفهوم خاصّ للعدل. وهذا الاحتمال خاطئٌ بطبيعة الحال؛ لأن العدل ليس مفهوماً وحقيقة شرعيّة أو متشرِّعية.

الاحتمال الثاني: إن كلمة العدل التي جُعلت موضوعاً في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ مفهومٌ عُرْفي / شرعيّ، مثل: الكثير من الموضوعات الأخرى التي يعود أصلها إلى العُرْف، وقام الشارع بإجراء بعض التغييرات الطفيفة عليها، بمعنى أن مفهوم العدل لدى الشارع هو ذات ما يفهمه الناس، مع بعض الملاحظات من قِبَل الشارع بطبيعة الحال. وهذا الاحتمال الثاني بدَوْره غيرُ صحيحٍ أيضاً؛ لوجود القرائن الكثيرة على خلافه.

الاحتمال الثالث: أن يكون العدل مفهوماً عُرْفياً بَحْتاً، ويجب أخذ مفهومه من العُرْف أيضاً. وهذا هو الاحتمال الصحيح؛ ولكنْ إذا كان عُرْفياً بَحْتاً تَرِدُ هنا عدّةُ احتمالات أيضاً:

أوّلاً: أن يكون الشارع قد حدَّد إطاراً عامّاً، ولكنْ بلحاظ أن هذه المفردة تتّخذ على مرّ الزمان مصاديق متنوِّعة، فإننا نشهد في كلّ مرحلةٍ استبدال مصداقٍ بمصداقٍ آخر، كما هو الحال بالنسبة إلى مفهوم الفقر. وعليه فإن الشارع لم يُبْدِ من نفسه أيّ حساسيةٍ تجاه هذه المفردة، وإنما اكتفى ببيان الإطار والمفهوم الكلّي، وترك تشخيص مصداقها إلى العُرْف في كلّ زمان. ولا يمكن القول بأننا يجب أن نأخذ عصر الشارع بنظر الاعتبار، ولا نأخذ ما بعد ذلك العصر بنظر الاعتبار. وبطبيعة الحال من اللازم أخذ مفهوم الفقر في عصر الشارع بنظر الاعتبار أيضاً؛ لأن مفهوم الفقر مفهومٌ مَرِن وقابلٌ للتطويع، إلاّ أن هذه المصاديق تتجدَّد يوماً بعد يوم، وتتجلّى على مرّ الزمان. وعليه إنْ كان العدل من هذا السنخ أيضاً لزم من ذلك أنهم وإنْ كانوا في عصر الشارع يفهمون منه معنىً خاصاً، إلاّ أن هذا المفهوم ينطوي في ذاته على قابلية الانتقال والتحوُّل إلى مصاديق جديدة، ومن الطبيعي أن يكون الشيء عدلاً في زمانٍ ولا يكون عدلاً في زمانٍ آخر. وأن يكون مأموراً به في ذلك العصر وغير مأمورٍ به في هذا العصر.

دراسة احتمال تعيين المصداق الشرعي لمفهوم العدالة العرفي

في بعض الأحيان يقوم الشارع ـ مضافاً إلى بيان مفهوم العدل ـ ببعض التدخُّلات، حيث يعمد إلى استخدام بعض العلامات والرموز التي تشير إلى مصاديق خاصّة. وهذا غيرُ صحيحٍ أيضاً. يبدو أن العدل مثل مفهوم الفقر، فهو وإنْ تمّ لحاظه في عصر الشارع، إلاّ أن إطاره العامّ يثبت أنه يتقبَّل مصاديق جديدة أيضاً.

إذن لو اعتبرنا العدل تأسيسياً وجب علينا العمل بهذه الآية، ويكون العدل ـ في الواقع ـ واجبَ الاتّباع، لأن الله أمرنا به، وليس لدينا ما يفوق الأمر. فإنْ ورد الأمر في بعض المواطن الأخرى بصيغة الأمر، وكان الفعل مشتقّاً من مادّة الأمر، ولا يخفى أن هذا من أعلى مراتب الدلالة على الوجوب، فهذا يعني أنه يجب الرضوخ للعدل والالتزام به حَتْماً.

الثبات في مفهوم العدالة وإمكان التغيُّر في مصداقه

لا بُدَّ لنا من القول ـ بطبيعة الحال ـ: إن فهم العدل قد يكون مختلفاً، إلاّ أن المفهوم اللغوي للعدل لا يتغيَّر أبداً. فحتّى في الآراء المتنوّعة بشأن العدل يمكن ملاحظة نقطةٍ مشتركة. وعلى كلّ حال فإن مفهوم العدل هو الملحوظ في عصر الشارع، إلاّ أنه يقبل المصاديق الجديدة، وإن هذه المفردة مطواعةٌ وشديدة المرونة.

وهنا يتمّ طرحُ بحثٍ آخر، وهو أننا إذا اعتبرنا العدل تأسيسياً عندها كيف ستكون علاقة هذا الدليل ـ المستنبط من قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ ـ بالأحكام الأخرى؟ بمعنى أنه إذا كانت هناك أحكامٌ أخرى تعرَّضت إلى العدل في مختلف الأبعاد فما هو سنخ علاقة العدل بها؟

بحث العدل الواقعي في مقابل العدل العُرْفي

_ إنكم لم تعتبروا العدل شرعياً ولا عُرْفياً / شرعياً، وإنما قلتُم: إنه عُرْفي بَحْت. وعلى هذا الأساس فإن كل ما يراه العُرْف عدلاً يكون مأموراً به بحكم هذه الآية، ولو أن العُرْف اللاحق لم يعدَّه عدلاً لن يكون مأموراً به.

ولكنْ يوجد هنا احتمالٌ آخر أيضاً، وهو أن الله تعالى قد أمر بالعدل الواقعي، سواء فهمه العُرْف أو لم يفهمه، وسواء حدَّد العُرْف المصداق الصحيح للعدل أم أنه حدَّد المصداق الخاطئ. وفي مثل هذه الحالة فإن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني بما هو عدلٌ في الواقع، وليس العدل بما هو عند العُرْف. فهل هذا الاحتمال صحيحٌ من وجهة نظركم أم فيه إشكالٌ؟ وما هي نسبة هذا الاحتمال إلى الاحتمالات الأخرى؟

^ لقد سبق أن تحدَّثنا عن هذا الاحتمال، حيث قلنا: إن هناك فرضيتين: الفرضيّة الأولى: إن العدالة هي قاعدةٌ أصلاً؛ والفرضية الثانية: إن العدالة ليست قاعدةً. وأما عدم كونها قاعدةً فيعني أنه ليس المراد هنا أن تتمّ مراعاة العدل العُرْفي أو الشرعي، بل الشارع ناظرٌ إلى العدل الذي يتمّ تضمينه في الأحكام الأخرى، ويكون مرادُه في الواقع تطبيق الأحكام الأخرى، ولكنْ غاية ما هنالك أنه تحدَّث بهذا اللسان.

خلاصة احتمال تأسيسية العدالة

وأما على فرضية كون العدالة قاعدةً فإن ذلك ناظرٌ إلى العدالة التي تشتمل عليها الأحكام الأخرى، أو التي تحمل العدل في مضمونها. ولذلك حيث فرغنا من تلك المرحلة قبلنا في حينها أن هذه الآية نصٌّ يشتمل على عمومٍ وإطلاق، غاية ما هنالك أنه يوجد الآن في هذا البحث الجديد فرضيتان: إحداهما: أن يكون تأسيسياً؛ والأخرى: أن لا يكون تأسيسياً. وعلى فرضية تأسيسية معنى العدل تمّ ذكر عدّة احتمالات، ومن بينها: أن تكون هناك حقيقة شرعية / متشرِّعية، وهو احتمالٌ خاطئ؛ إذ يجب أن يكون هناك دليلٌ على الحقيقة الشرعية / المتشرِّعية. وإذا لم يكن هناك دليلٌ لا نستطيع القول بوجود حقيقة شرعية / متشرِّعية؛ الأمر الثاني: أن يكون العدل مفهوماً عُرْفياً / شرعياً، من قبيل: كلمة «الجماعة»، التي هي في حقيقتها وأصلها تعني الحالة العُرْفية، إلاّ أن الشارع قد ذكر لها حدوداً وقيوداً. وعليه إذا تمّ الأمر بالجماعة فهذا لا يعني الدعوة إلى مجرّد التجمُّع، بل تعني أن نقيم الصلاة جماعةً. وهذا الاحتمال بدَوْره يحتاج إلى دليلٍ، وما دام لم يتمّ إبراز دليلٍ على تدخُّل الشارع لا نستطيع حمله على العُرْفية / الشرعية. وعليه يثبت الاحتمال الثالث، والذي يعني منهج العلماء في إحالة المفاهيم إلى العُرْف. ولذلك يجب الرجوع هنا إلى العُرْف.

معنى العدالة في عدالة القاضي

لقد تحدّثنا في مجال العُرف وقلنا: إن مفهوم العدل من المفاهيم التي ينظر إليها الناس بنظرة جادّة ومحوريّة؛ من ذلك مثلاً أنه حينما يُقال في باب القضاء: «يجب على القاضي أن يكون عادلاً» فإن مرادهم من ذلك أن يكون القاضي قادراً على إصدار الحكم بالالتفات إلى الجزئيّات الشخصية المرتبطة بتلك الواقعة الشخصيّة. وعليه فإن الموجود في القضاء هي القضايا الشخصيّة التي تجتمع في واقعةٍ ما.

ارتباط العدالة بالجزئيات

وعلى هذا الأساس فإن العدالة ترتبط بالجزئيّات. ومن هنا نحصل على هذا الأصل القائل بأن العدالة إنما تتبلور في الأساس في ظلّ الأعراف والظروف والخلفيات والأرضيات المختلفة، وعليه يكون مفهوم ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ هو وجوب تنفيذ كلّ ما يُعَدّ عدلاً في ضوء تلك الظروف والأعراف.

عدم ثبوت مصاديق العدالة حتّى على فرض التأسيس

وعليه لو اعتبرنا العدل تأسيسياً لوجب علينا الرجوع إلى العُرْف من أجل التعرُّف على مفهومه، والعُرْف في كلّ ظرفٍ ومجالٍ يرى العدالة في شيءٍ. وعليه من الممكن أن يرى العدل في شيءٍ في زمنٍ، ولا يراه عدلاً في زمنٍ آخر، وأنه لا بُدَّ من إجراء بعض التعديلات عليه بالنقيصة والزيادة حتّى يمكن عدُّه من العدل. هذا على فرضية التأسيسة. وأنا ـ بطبيعة الحال ـ لا أراه صحيحاً.

خلاصة احتمال إمضائية العدالة

الافتراض الثاني أن يكون العدل إمضائياً. علينا في البداية أن نعرف كيف وفي أيّ ظرف يكون النصّ إمضائياً أو إرشادياً؟

الوجدان هو المعيار الأول لإمضائية النصّ

بشكلٍ عامّ يتمّ أخذ مصدرٍ واحد بنظر الاعتبار لإحراز إمضائية النصّ. وهذا المصدر الواحد هو وجداننا. إذن نحن ندرك بوجداننا أن لهذا الأمر حكماً عقلياً أو حكماً عقلائياً. وبعبارةٍ أخرى: هل هو مرتكزٌ عقلائيّ أو حكمٌ عقليّ؟ هذا ما نفهمه وندركه نحن بوجداننا. ولكي ندرك أن الأمر ارتكازٌ عقلائيّ يجب أن تتبلور في الوجدان وضعيّتان بشكلٍ متزامن، وهما: أوّلاً: أن يكون لديكم مثل هذا الحكم؛ وثانياً: أن تدركوا بوجدانكم أن الجميع يفكِّر على هذه الشاكلة. وكأنّ لدى وجدان الإنسان هذه المقدرة، وهي أنه بالإضافة إلى حكمه بشيءٍ، أو اعتباره شيئاً ما أمراً بديهياً، يدرك في الوقت نفسه وبالتزامن معه، من خلال الرجوع إلى ذاته، أن الآخرين كذلك أيضاً. ومن هنا فإن الوجدان يمثِّل محكّاً ومعياراً وأداةً صالحة للوقوف على عقلائية شيءٍ أو عدم عقلائيته. وفي حالة الشكّ هناك ـ بطبيعة الحال ـ طرقٌ للوقوف على الأمر الوجدانيّ، من قبيل: السؤال من الآخرين، وما إذا كانوا يقولون الشيء نفسه. ولكنْ يبدو أن وجدان كلّ شخصٍ كافٍ في تشخيص إمضائية النصّ. ولكنْ يمكن أن نضيف إلى هذا المعيار معياراً آخر، وهو سيرة وبناء العقلاء، والذي له ظهورٌ وتبلور عمليّ في المجتمع أيضاً. فإذا كان النصّ من هذا القبيل فهو إمضائيٌّ حَتْماً. لا يمكن أن يكون هناك شيءٌ ثمّ يقوم الشارع بتأسيسه؛ لأن التأسيس إنما يكون حيث يكون الأمر جديداً.

_ وعليه فإن المعيار في الواقع هو حكم العقل والعقلاء، وليس الوجدان؛ فإن الوجدان إنما هو وسيلتنا، وأما المعيار فهو الحكم العقلي أو حكم العقلاء.

مرآتية الوجدان لحكم العقل والعقلاء

^ إنما أعني الوجدان الذي هو بمثابة المرآة، حيث يظهر فيها حكم العقل والعقلاء؛ لأن الوجدان وسيلةٌ لكشف الكثير من الأمور؛ فتارةً يكون الوجدان للكشف عن الإنصاف، ومن هنا يُقال: إن الوجدان قاضٍ صالحٌ ومنصفٌ، إلاّ أن هذا ليس هو مفروض بحثنا، وإنما المراد هو أنكم تجدون في وجدانكم أن للعقل هذا الحكم.

_ إذن هناك على كلّ حالٍ شيئان: الأوّل: حكم العقل أو حكم العقلاء الذي هو المعيار؛ والثاني: هو الطريق الذي نكشف من خلاله حكم العقلاء.

^ إن مرادي هو أن الوجدان وسيلةٌ. وهناك مَنْ يقول: ارجعوا إلى الآخرين واسألوهم ـ على طريقة استطلاع الآراء بحَسَب المصطلح المعاصر ـ، فإنْ كان الجميع متّفقاً على ذلك فاقبلوه. ولكنّي أقول: يمكن لكم ـ دون الرجوع إلى أيّ شخصٍ ـ أن تراجعوا وجدانكم، لتجدوا أمرَيْن: أحدهما: هو أنكم تحكمون بشيءٍ، فإنْ شكَكْتُم في ما إذا كان لدى العقلاء مثل هذا الحكم أم لا عندها ستحكمون في قرارة أنفسكم بما إذا كان الآخرون كذلك أيضاً؛ وهذا ما يمكن تسميته حكم المرتكز العقلائي. إذن فالطريق إلى اكتشاف المرتكز العقلائي هو وجدان الفرد، وليس استطلاع الآراء في الخارج أو مراجعة الآخرين، حيث رُبَما كان البعضُ قائلاً بذلك.

ألفاظ الشارع هي المعيار الثاني لإمضائية النصّ

بالإضافة إلى هذا المصدر هناك مصدرٌ آخر، وهو الرجوع إلى ألفاظ الشارع. إن ألفاظ الشارع في بعض الأحيان ـ ولا سيَّما ألفاظ القرآن ـ يتمّ استعمالها لغايةٍ خاصّة، خلافاً للروايات، التي قد يستعمل الراوي فيها كلمةً أو يتحدَّث فيها الإمام مع مراعاة فهم المخاطب، بحيث يمكن من خلال الرجوع إلى القرائن والأمارات الموجودة في النصّ اكتشاف ما إذا كان الحكم إمضائياً أم إرشادياً، وهذا مصدرٌ. وعليه نقول: هل تُعَدّ هذه الآية: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90) تأسيسيةً أم إمضائية؟ عندما نرجع إلى العقل والعقلاء نجد أنهم يحكمون بالعدل أيضاً. وفي هذه الحالة لا يمكن لنا أن نَعُدّ هذه الآية تأسيسيةً.

مفردة «الأمر» ليست قرينةً على التأسيس

كما يمكن لنا أن نسلك طريقاً آخر ـ بالإضافة إلى العقلاء أو الوجدان ـ، وذلك بأن نعمل على تحليل ألفاظ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، ونقول: إن كلمة الأمر في ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ إلى التأسيس أقرب منها إلى الإمضاء؛ إذ لو كان هناك شيءٌ لما كان هناك معنىً للأمر به. وعليه نستنتج من ذلك أن الحكم هنا تأسيسيٌّ. والجواب عن ذلك أننا عندما نرجع إلى الآيات القرآنية نجد الكثير من الموارد التي يحكم بها العقل والعقلاء، ومع ذلك يَرِدُ الأمر بشأنها، كما في قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ﴾ (طه: 132)، حيث يتمّ تأسيس الصلاة من قِبَل الله، وكذلك بالنسبة إلى الأمر بالمعروف؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (التوبة: 71).

_ هل الأمر في قوله تعالى ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أمرٌ إرشاديّ، بمعنى أنه يجب عليك أن تأمرهم؟

^ إنه إرشادٌ، ولكنْ لا بمعنى الإرشاد المصطلح الذي يستعمله الشارع. فهل عندما تأمرون بالمعروف تقومون بالتأسيس والجَعْل؟!

_ إذا كان العقل والعقلاء قد حكموا بذلك، ثمّ كان للشارع نفس حكم العقل والعقلاء، كان الحكم إرشاديّاً، وإذا حكم الشارع فقط كان تأسيسيّاً؟

^ كلاّ، في ما يتعلَّق بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ كان الاستدلال يقوم على أنه كلما ورد استعمال الأمر دلّ ذلك على أنه لم يكن هناك شيءٌ في الواقع، وأنه في طريقه إلى الوجود. ليس لدينا هناك شأنٌ بالتأسيس المصطلح، بل مرادُنا هو أن الإنشاء قد تحقّق للمرّة الأولى. ولكنّنا نقول: إن هذا الاستدلال غيرُ تامٍّ؛ لأن الكثير من الأمور موجودةٌ بشكلٍ فطري، كما في أمر الشيطان بالفحشاء مثلاً، ليس لكلمة الأمر معنىً إنشائيّ، في حين يوجد لدى الإنسان ميلٌ إلى هذا الشيء قبل أمر الشيطان به. إذن يمكن أن تكون هناك حالةٌ سابقة بسبب المَيْل الفطري أو الجَعْل الشرعي. وعليه لا يمكن لنا أن نستنتج أن الأمر إنما يكون في موردٍ لا يشتمل على حكمٍ سابق، وأنه إنما يصدر للمرّة الأولى.

الأمر بالإحسان قرينةٌ على إمضائية الأمر بالعدل

والشاهد على هذا المدّعى أن الأمر بالعدل في هذه الآية قد ورد في سياق الأمر بالإحسان أيضاً. فإن الله يجعل الإحسان من خلال الأمر به. إن الإحسان شيءٌ يفهمه الإنسان، بل إن الإنسان هو المعيار في تشخيص حُسْن الشيء. فإذا قيل: «أحسن إلى والدَيْك» فهذا لا يعني وجود إطار محدّد للإحسان، وإن على الجميع مراعاة هذا الإطار، بل إن دائرة حُسْن السلوك متغيِّرة؛ فقد يكون الوالدان شديدي التأثُّر، بحيث تؤلمهما أدنى نبرةٍ في الكلام، وبذلك يخرج ولدهما عن دائرة السلوك الحَسَن، ومن الممكن أحياناً أن يكون رفع الصوت أمراً مألوفاً بين الأب وولده، وبذلك لا يخرج الولد عن حدود دائرة الإحسان حتّى إذا أشكل على والده وانتقده.

_ فعلى كلّ حالٍ إنكم ترَوْن الأمر هنا إرشاديّاً؟

^ أجل، لا يمكن القول في موردٍ: «إن الله يأمر بالإحسان» بأن الله يوجد الإحسان؛ إذ إن هذا الإحسان وملاك الحُسْن مودَعٌ في طبع وجِبِلَّة كلّ إنسان. فالنتيجة هي أنه من خلال التمسُّك بكلمة «الأمر» لا يمكن اعتبار الأمر بالعدالة تأسيسيّاً، وعليه يجب أن نعدّه إمضائيّاً.

آثار إمضائية آيات الأمر بالعدالة

وعليه لِنَرَ الآن ما الذي يترتّب على القول بإمضائية الأمر بالعدل. أرى أن البحث الأساسي يبدأ من هذه النقطة. فلكي ندرس نتائج وتداعيات القول بإمضائية قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ علينا أن نلتفت إلى وجود مرتبتين للحكم، وهما: أوّلاً: أن يتمّ الحكم بكلّي العدل؛ وثانياً: الحكم بمصاديق العدل. وبعبارةٍ أخرى: إنهم يحكمون مرّةً بأن العدل لازمٌ، ويجب إجراؤه؛ ومرّةً أخرى عندما يواجهون المصاديق المندرجة تحت عنوان العدل يحكمون بلزومها.

استقلالية وانتزاعية حُسْن العدل

يدور البحث حول ما إذا كان الحكم الارتكازي الكلّي باستحسان العدل أو حُسْنه، ولزوم رعايته، حكماً مستقلاًّ أم انتزاعياً؟ يبدو أن اتّضاح هذا البحث يساعدنا على بيان النتيجة المترتّبة على القول بالإمضاء.

فلو افترضنا أن العقلاء إنما يواجهون مفهوم العدالة للمرّة الأولى، وبعبارةٍ أخرى: إن هذه أوّل تجربة للبشر بشأن العدالة، وأنهم لم يُبرزوا حتّى الآن موارد عدلهم، عندها يكون الحكم الارتكازي للعدل الكلّي ثابتاً عند العقلاء؛ لأن هذا الحكم ليس انتزاعاً من تلك المصاديق، بل هو حكمٌ مرتكز ومستقلّ؛ لأن العقلاء يحكمون بهذا الحكم بغضّ النظر عن تلك الموارد. وحتّى في حالة المواجهة مع تلك الموارد يتبلور هذا الحكم من تلقائه أيضاً.

فلو اعتبرنا الحكم الارتكازي والكلّي بلزوم التبعية للعدل حكماً مستقلاًّ وجب ـ من وجهة نظري ـ حمل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ على ذلك الحكم الكلّي؛ لأنه يمثِّل المرحلة الأولى من ذلك الحكم الكلّي. وعليه يكون القدر المتيقَّن من قوله: ﴿يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ هو الكلّي لمرتكز العدل، وعندها سيكون حمله على آحاد موارد العدل أوّل الكلام.

معنى إمضائية آيات الأمر بالعدل

لو اعتبرنا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ إمضائياً (بمعنى أن حدود ذلك الحكم بمقدار الحكم الارتكازي) كان الأصل الأوّلي هو أن يكون الحكم ضمن ذلك الإطار حتّى إذا كان له عمومٌ وإطلاق، بمعنى أنه يجب حمل النصّ على ذلك المرتكز. فإنْ قلتُم: إن هذه الآية ناظرةٌ إلى ذلك الحكم الكلّي لا يعود بإمكانكم حملها على تلك الموارد.

_ ألا يكون ذلك لَغْواً؟ لأن هذا يعني أن الشارع إنما يحكم بالعدل دون النظر إلى مصاديقه؛ لأنه يقول: إن الحكم الأوّلي لدى العقلاء هو الحكم بكلّي العدل، وكلّي العدل لا يتحقّق إلاّ من خلال مصاديقه. وقد ذكرتُم أن كلّ واحدٍ من المصاديق مستقلّ.

العلاقة بين القانون والعدل

^ إن لهذا المطلب تتمّة، وبملاحظة هذه التتمّة لا يَرِدُ هذا الإشكال؛ وذلك أن هناك رأيين بشأن العلاقة بين القانون والعدل. يقول أحد هذين الرأيين: «إن العدل حكمٌ ارتكازي مستقلّ للعقلاء». إن التقنين في مجال المجتمع حكمٌ ارتكازي عقلائي مستقلّ. وطبقاً لهذا الرأي يجب حمل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ على ذلك الارتكاز الأوّلي، حيث يقول العقلاء بوجوب مراعاة العدل. وعليه لا يُستفاد من تشريع وتقنين الشارع ومصدريّته للتشريع عدم التعرُّف على العدل من غير طريق الشارع؛ لأن قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ ناظرٌ إلى ذلك العدل الذي يقول به العقلاء. إذن يجب عليك إمّا رفض ارتكاز العقلاء أو أن تقبله مع الالتفات إلى جميع المصاديق المنشودة لهم، غاية ما هنالك حيث يتدخّل الشارع ويعمل على وضع قانونٍ قبلنا ذلك منه. وبعد ذلك تبقى هناك دائرةٌ لقاعدة العدل.

_ ما هو الدليل على تقديم كلام الشارع المخالف للعقلاء؟

يحقّ للشارع مخالفة العُرْف حتّى مع القول بالإمضاء

^ لأننا نؤمن بحقّ الشارع في الوقوف بوجه الارتكازات؛ فإن الشارع كما يأخذ أصل الحكم من العقلاء، ويعمل على إمضائه، يمكن له أن يؤسِّس المصداق أيضاً؛ وهنا نسأل: لو أخذ الشارع الحكم الأوّلي من العقلاء، وقال: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، هل يستطيع القيام بالتأسيس؟ الجواب: نعم، يستطيع ذلك.

_ هل تأسيسه مخالفٌ لحكم العقلاء أيضاً؟

تأسيس المصداق الشرعي للعدل يعني تحديد الإمضاء

^ ليس مخالفاً. وإنما نقول: هل هذا تأسيسٌ للمصداق أم تحديدٌ لإمضائه؟ إن المصاديق تابعةٌ للمفاهيم دائماً. وفي الحقيقة لو أن الشارع عمل على إيجاد مصاديق جديدة غير المصاديق التي يفهمها العقلاء، على الرغم من قبوله كلّي العدل عند العقلاء، سوف تكون نتيجة ذلك أن الشارع قد أمضى ذلك الكلّي، ولكنْ ضمن إطارٍ خاصّ؛ لأن التغيير في المصداق يعود إلى التغيير في المفهوم. وإن الشارع كما يحقّ له رفض هذا المفهوم برمّته يستطيع رفض بعضه وقبول بعضه الآخر. وعليه لو أن الشارع عمد إلى تأسيس مصاديق جديدة فإن هذا يعني أن الشارع لم يقُمْ بالإمضاء بشكلٍ مطلق، وإنما كان إمضاؤه محدوداً.

_ وبعبارةٍ أخرى: هل تريدون القول: إن المصاديق التي حكم الشارع فيها بالعدالة ـ خلافاً للعدالة العُرْفية ـ تكون حاكمةً أو مخصِّصة لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ؟

^ عندما قلنا: إن الشارع لم يُمْضِ بشكلٍ مطلق فإن التعبير بالتخصيص لا يكون تعبيراً جيّداً؛ لأن التخصيص يعني أن الشارع قد أمضى بالمطلق، ثمّ قام بعد ذلك بالتقييد أو التخصيص. لستُ أدري ما إذا كان يمكن إطلاق التخصيص بشأن إمضاءٍ أم لا. يبدو من ناحية اللسان في ظاهره أنه تخصيصٌ أو ورودٌ أو حكومةٌ، ولكنْ من الناحية الإجمالية ـ سواء أكان إمضاء مقيّداً أو تخصيصاً أو حكومة ـ لن تختلف النتيجة. نحن ندرك أن الشارع وإنْ أمضى، ولكنْ حيث يكون العدل موجوداً منذ البداية، فإنه من خلال تعيين المصاديق الجديدة يتّضح أن إمضاء الشارع ليس مطلقاً، وإنما هو إمضاءٌ محدود. وعليه يكون شرعياً / عُرْفياً، ويكون بمعنى من المعاني إمضائياً / شرعياً أو إمضائياً / تأسيسياً. إذن يمكن لنا أن نفترض وضعيةً تكون تأسيسيةً وإمضائية في وقتٍ واحد.

أثر الرؤية الاستقلالية للقانون في مقابل العدل

لنعُدْ إلى بحث استقلالية القانون. لو اعتبرنا أن حكم العقلاء عبارةٌ عن حكمين مستقلّين عن بعضهما، وقلنا بأنهما عبارةٌ عن: حكمٍ ارتكازي واحد في حُسْن العدل؛ وحكمٍ ارتكازي آخر في وجوب التقنين ورعاية العمل بالقانون، ولم نربط هذين الحكمين ببعضهما، عندها سيكون القانون مع العدل حكمين مستقلّين عن بعضهما. غاية ما هنالك أن القانون يجب أن يكون على الدوام مظهراً للعدل وتجلّياً للعدل. وإذا كان القانون فاقداً للعدل، وكان منقوصاً في موضعٍ ما، يكون وجوب مراعاة العدل قائماً أيضاً. لذلك فإن العقلاء يقولون: إذا كان هناك من نقصٍ مع ذلك يجب العمل به، وإن لذلك في حدّ ذاته استقلالية وأهمّية خاصّة. فإذا كان الأمر كذلك عندها يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ ناظراً إلى العدل العقلائي بجميع مصاديقه.

فإنْ قلتُم: إن العقلاء يحكمون بالعدل، وأمرتُم به، وجب عليكم المضيّ بهذا الأمر مع مصاديقه حتّى النهاية، غاية ما هنالك أن الشارع إذا وضع قانوناً في بعض الموارد حيث يظهر العدل وجب العمل بذلك القانون. إلاّ أن الشارع من خلال تشريعه لا يدعي أنه المصدر الوحيد للعدل، ولا يمكن لنا أن نستفيد من قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ (الأنعام: 57)([17]) أنه يبيِّن جميع موارد العدل حَصْراً.

أثر الرؤية الآلية للقانون بالنسبة إلى العدل

أما الافتراض الآخر فأنْ نقول: إن القانون وسيلةٌ وأداةٌ لتحقيق العدل، وليس لدى العقلاء سوى حكمٍ واحد، وهو أن العدل واجبٌ، وأنه يجب تحقيقه من طريق القانون؛ كي لا تسود الفوضى والهرج والمرج. وعندها من خلال ضمّ هذا الأمر إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، الذي يعتبر الشارع مصدراً للتشريع، يتّضح أن الشارع يأمر بذات العدل المنشود للعقلاء، غاية ما هنالك أن العدل يشتمل دائماً على هذه التتمّة، وهي أنه يجب أن يتجلّى في القانون، وأن الشارع يبيِّن تلك الوسيلة. وعندها يسقط العدل عن كونه قاعدةً، ويكون معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ هو: اعملوا بقوانيني؛ إذ إن لحكم العدل ـ طبقاً لهذه الرؤية الثانية ـ لاحقةٌ وتتمّة، يُستفاد منها أن الشارع قد أمر من جهةٍ بمراعاة هذا العدل الذي ينادي به العقلاء، ومن جهةٍ أخرى، حيث قال الشارع: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾، يتّضح أنه في مقام التشريع، وأن دعوته إلى «مراعاة العدل» تنصرف إلى تطبيق قوانينه.

الرأي المختار في تفسير آية الأمر بالعدل

ولكنْ من وجهة نظري هناك حكمان. ولذلك فإن هذه الآية ترتبط بـ «العدل الكلّي». وفي ما يتعلَّق ببحث المصاديق قلنا في معرض الجواب عن السؤال القائل: «هل يمكن تأسيس المصاديق؟»: إذا لم يؤسِّس الشارع يتمّ الرجوع إلى المصاديق العقلائية، وإنْ أسَّس فيحقّ له تأسيس المصاديق. ولكنْ لا يوجد هنا تأسيسٌ للمصاديق، وإنما هو تأسيسٌ إلى جوار ذلك الإمضاء.

وعلى كلّ حال هناك حكمان، وأحدهما الحكم الارتكازي للعقل؛ إذ حتّى إذا لم يكن هناك قانونٌ فإن العقل يحكم بشكلٍ مستقلّ، غاية ما هنالك أن العقلاء قد يدركون ـ بفعل تغيُّر الزمن وتعاقب المسائل الاجتماعية ـ أن العدل إنما يتحقَّق بواسطة القانون في بعض الموارد.

_ إنكم تقولون بأن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هو أن الله يأمر بذلك العدل الكلّي الذي يأمر به العقلاء، ثمّ قلتُم بعد ذلك: إن العقلاء يدركون أن هذا العدل يجب أن يتجلّى ضمن القانون. بالالتفات إلى هذه الأمور لماذا لا تعتبرون القانون عُرْفياً؛ إذ إن العُرْف لو خُلِّي ونفسه فإنه سيعمل على تشريع القانون العادل؟

^ في ما يتعلَّق بالقانون هناك حالتان: الأولى: الحكم بلزوم القانون، وهذا حكمٌ عقلائي؛ والأخرى: ما هو القانون؟ وكيف يتمّ تدوينه؟ وما هو المرجع في القانون؟ نحن نقول: إنه الله، وأما هم فيقولون: هو العُرْف.

_ هل العقلاء في ما يتعلَّق بالحكم الكلّي بلزوم العدل إنما يحكمون بلزوم الوجود القانوني، دون أن يكون لديهم حكمٌ بشأن ماهية القانون؟

الفرق بين العقلاء والشرع في الحكم بالعدل

^ أجل، إنهم يحكمون بوجوب القانون، إلاّ أنه في ما يتعلَّق بالحصول على هذا القانون يتّجه البعض منهم إلى الله؛ بينما يتّجه البعض الآخر إلى العُرْف أو العقلاء.

وعلى هذا الأساس يبدو أن النظم في حدّ ذاته شيءٌ آخر. في بعض الأحيان يكون النظم في الحكم الاستبدادي مطلوباً من بعض الجهات، وإنْ لم يكن فيه عدلٌ. وعليه فإن ضرورة النظم حكمٌ مستقلّ وعقلائي.

خلاصة آثار مختلف الآراء بشأن العلاقة بين القانون والعدل

خلاصة الكلام: إننا نربط القانون بالعدل في بعض الأحيان، ونعتبره حكماً واحداً وتتمّة للعدل. فإذا كان الأمر كذلك فعندها مع ملاحظة الأمر بالعدل من قِبَل الشارع، وكذلك مع ملاحظة قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾، الذي هو في مقام التشريع، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الشارع يدعو إلى التوجُّه نحو العدل، بَيْدَ أن دائرته الفذّة تنحصر بي. وفي بعض الأحيان الأخرى نعتبر هذين الأمرين حكمين مستقلّين، وفي هذه الحالة لا يكون لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ صلة بالقانون، وإنما يرتبط بالعدل، وحيثما يقوم بالتأسيس لمصاديقه نقبل به، وحيث لا يعمد إلى التأسيس نكون قد وضعنا اليد على قاعدةٍ تُسمّى: (قاعدة العدل)، ونتمسَّك بها.

صلة بحث الثابت والمتغيِّر بالعدالة

إذا قلنا بأن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ قاعدةٌ، وإن الشارع قد تدخَّل في بعض الموارد، عندها يطرح هذا السؤال نفسه: إذا كان الشيء عدلاً عقلائياً، وكان الشارع قد تدخَّل فيه، فما هو تكليفنا؟ طبقاً للكلام الأوّل يجب التخلّي عن العدل هنا؛ لأن الشارع قد تدخَّل. وبطبيعة الحال يجب هنا ملاحظة بحث الثابت والمتغيِّر بشكلٍ أكبر؛ ويجب ملاحظة عصر الشارع لنرى كيف كان عليه العدل في ذلك الحين، فقد يكون هذا التأسيس بلحاظ ذلك الوضع المضطرب للعدل في ذلك الوقت، وأما الآن، فقد اكتسب المصداق العقلائي للعدل وضعاً جديداً، ولم يعُدْ لذلك التأسيس من قِبَل الشارع إمكانية التأسيس والتدخُّل والتخصيص.

مثالٌ على صلة بحث الثابت والمتغيِّر بالعدالة

لو افترضنا أن بعض الناس أو العقلاء في عصر الشارع ـ على سبيل المثال ـ كانوا يشجبون الاستعباد (وبطبيعة الحال فإن الأمر في الواقع لم يكن كذلك، حيث كانوا في ذلك الحين يتقبَّلون هذه الظاهرة)، ولكنّ الشارع قبل بالاستعباد، فهل يمكن القول، من خلال التمسُّك بالنصوص الناظرة إلى الاستعباد: إن الشارع قد أسَّس لهذا المصداق أو لا يمكن قول ذلك؟ لأن أمر عدالة الاستعباد في ذلك العصر كان يعاني واقعاً مضطرباً، وفي هذا المورد إمّا لم يكن هناك أيُّ ارتكازٍ في هذا الشأن؛ أو إذا كان هناك ارتكازٌ فهو ارتكازٌ في الجملة. أما الآن فقد اكتسب هذا الموضوع ارتكازاً قويّاً وصارخاً، حيث يُجمع العقلاء على القول بأن الاستعباد ظلمٌ، وأن العدل يقضي بأن لا يكون هناك استعبادٌ أصلاً. وعلى هذا الأساس لا يعود لنصوص الشارع تلك القدرة اللازمة على التأسيس.

_ هل هذا البحث مستقلٌّ بالكامل عن قاعدة العدالة؟

^ أجل، أجل، إن هذا البحث مستقلٌّ، ولا ربط له بتلك القاعدة.

عودةٌ إلى بحث تأسيسية أو إمضائية النصوص

_ لقد ذكرتُم أن هناك احتمالات، وأنه يستفاد من بعضها وجود قاعدة العدالة، ولا يستفاد من بعضها الآخر وجودها، فأيّ الاحتمالين ترجِّحون؟

الرأي المختار: إمضائية العدالة

^ لقد ذكرنا في بداية الأمر احتمالين، وهما: التأسيس؛ أو الإمضاء. وأرى أن التأسيسية مرجوحةٌ؛ لأن التأسيس إنما يكون حيث لا يكون لدى العقلاء حكمٌ. وهنا من الواضح جدّاً أن الجميع يحكم بالعدل. في بعض الموارد يحكم العقلاء، وفي بعض الأحيان يكون الحكم للعقل فقط، وأما هنا فيُجمع العقل والعقلاء معاً بشأن العدل؛ فيتّضح أن هذا من الموارد البديهية والفطرية جدّاً. ومن هنا إذا قال شخصٌ بتأسيسية قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ لن يكون كلامه مقبولاً. وبطبيعة الحال فإن الإحسان، مثل العدل، أمرٌ مرتبطٌ بطبع الإنسان. وإن الحُسْن والجمال من الأمور التي تقبلها طباعنا.

 

الرأي المختار في فروع إمضائية العدالة

وأما على افتراض الإمضائية فهناك احتمالان أيضاً؛ أحدهما: أن تكون الإمضائية بمعنى أن الشارع قد أمضى في الحقيقة ذلك الأمر الكلّي، وبطبيعة الحال تأتي المصاديق والأحكام المصداقية تَبَعاً لذلك، ويتعين على الشارع التناغم مع العقلاء الذين قبلوا بالحكم حتّى النهاية. غاية ما هنالك أن البحث يكمن في أنكم هل تعتبرون احتمال العدل والنظم حكمين مستقلّين، وتربطون بينهما ربطاً مفهومياً وحكمياً، أم لا؟ فإنْ ربطتم بينهما لن يعود بإمكانكم استنباط قاعدة العدالة من هذا النصّ؛ وأما إذا قلتم بأنهما حكمان مستقلاّن ـ كما هما كذلك من وجهة نظري ـ عندها يمكن القول: إن قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ ناظرٌ إلى ذلك الحكم المستقلّ، وعندها لا يعود بالإمكان الاستفادة من تصدّي وتولّي الشارع للتشريع والتقنين أنه المصدر الحَصْري لضمان العدالة، ويُستَنْتَج من ذلك إمكان الرجوع إلى الشارع حيث يتدخَّل، كما يمكن الرجوع إلى غيره.

_ إذن أنتم لا ترَوْن أيّ تعارضٍ بين الموارد التي يتدخَّل فيها الشارع والتي يحكم العُرْف على خلافها أبداً، وتعتبرون الدليل الشرعي مقدَّماً على رأي العُرْف صراحةً؛ إذ تقولون: إن ذلك الحكم لا يخلو ـ على كلّ حالٍ ـ؛ فإمّا أن يتمّ إمضاء ذلك الحكم بشكلٍ مقيّد؛ أو أن يكون مقدّماً من باب التخصيص والحكومة؟

يحقّ للشارع ردع العقلاء في مصداق العدالة

^ أجل، نحن نقول بحقّ المنع والردع للشارع؛ لأن الشارع إنما لا يمكنه التدخُّل في موردٍ واحد من الأحكام العقلائية فقط، وباستثناء هذا المورد يحقّ له التدخُّل في جميع الموارد الأخرى. وذلك المورد يخصّ الأمارات اللفظية، وموارد من قبيل: خبر الواحد ونظائره. وحتّى في هذه الموارد قد يمكن للشارع ـ بطبيعة الحال ـ أن يردع في بعض الأحيان أيضاً. وفي سائر الموارد الأخرى يمكن للشارع ـ حيث يكون الحكم ارتكازياً وعقلائياً ـ أن يضيِّق أو يوسِّع من دائرة هذا الحكم أو يردع عنه أو يعمل على إثباته. ومن الناحية الإثباتية ما لم نعثر على دليلٍ على المنع يجب العمل بحكم العقلاء. فإذا عمد الشارع من جهةٍ إلى إمضاء حكم العقلاء، وذهب من جهةٍ أخرى إلى قول شيءٍ آخر بشأن المصاديق المقبولة لدى نفس العقلاء، وقدَّم حكماً آخر مغايراً ومخالفاً لحكمهم، كان ذلك من الموارد التي يحقّ للشارع فيها أن يقوم بذلك، وهذا يعني أن إمضاء الشارع محدودٌ، وليس مطلقاً.

مورد قاعدة العدالة

_ إذن حصيلة الكلام هي: إن لدينا قاعدةً باسم قاعدة العدالة، غاية ما هنالك أننا إنما نرجع إلى العقلاء في ذلك حيث لا يكون هناك أيّ دليلٍ شرعي؛ إذ كلّما كان الدليل الشرعي موجوداً كان هذا الدليل مقدَّماً على حكم العقلاء.

^ نعم، هذا صحيح.

الفرق بين العُرْف والعقلاء

_ هل هناك فرق بين العُرْف والعقلاء؟

^ لا بُدَّ من الالتفات إلى أن الاختلاف يكمن في أن العقلاء لا يتبلور لديهم حكمٌ أبداً بوصفه ارتكازاً إلاّ إذا كان في غاية الوضوح والبداهة. فما لم تتبلور هذه الحالة من البداهة والوضوح بشكلٍ كامل لن يكون هناك أيُّ ارتكازٍ أصلاً.

خصائص الأمر الارتكازي

إن الارتكاز يعني الرسوخ في الأذهان. إن من أخلص أحكام الناس هي أحكامهم العقلائية، ومن هنا فإن الأحكام العقلائية تتجاوز قيود الزمان والمكان والقوميّات والتعاليم الدينية وجميع الأشياء، ولا تقبل التقييد أبداً. لا يمكن لنا أن نفترض ارتكازاً عقلائياً حَصْرياً لدى الإيرانيين أو في عصر النبيّ الأكرم، وحشره في ذلك المكان والزمان، والقول بعدم وجود مثل هذا الارتكاز في الأماكن والأزمنة الأخرى. وبطبيعة الحال يمكن القول بهذه النقطة من الناحية الزمانية والمكانية، وهي أن العقلاء قديماً؛ حيث لم يكونوا قد واجهوا شيئاً، فإن قدرتهم الارتكازية لم تكن فاعلةً، ولكنْ بمجرّد أن يواجهوا ظاهرةً ما سيحصل لديهم ارتكازٌ مع ملاحظة أبعاد الأمر، ولكنّ مادة هذا الارتكاز هي ذات الوضعية السابقة التي كانت لديهم. ومن هنا إذا اختلف الارتكاز يكون أحياناً في مصداق حكم كلّي عقلائي، من قبيل: الحيازة ـ كما يضع السيد الصدر قَيْداً على ذلك ـ، الذي هو في الواقع أصل لحكمٍ ارتكازي، إلاّ أن مصاديقه قد تختلف.

خصائص الأمر العُرْفي

بَيْدَ أن العُرْف ليس كذلك. قد يعمد العُرْف إلى جعل شيءٍ ما أمراً مرسوماً، وتكون له مناشئ عقلائية، ولذلك يكون عقلائياً وعُرْفياً في الوقت نفسه. ولكنْ ليس هناك ما يضمن عقلائية جميع الأحكام العُرْفية؛ لأن العُرْف غالباً ما يقبل أشياء غير عقلائية. ومن هنا يتمّ تقسيم العُرْف إلى قسمين: عُرْف عامّ؛ وعُرْف خاصّ. لا يمكنكم القول بأن حكم العُرْف العامّ مرتكزٌ عقلائي إلاّ إذا كنتم تقولون بأن العُرْف التاريخي يعني العُرْف العامّ في جميع التاريخ. عندها يكون مرتكزاً؛ إذ لا يمكن لشيءٍ أن يكون عُرْفاً بذلك المعنى إلاّ إذا كان قد ارتكز على منشأ ومصدر عقلائي. أما البحث الآخر فهو: هل يمكن أن يكون لدى العقلاء مرتكزاتٌ جديدة؟

_ هل يحصل ذلك بتبدُّل الموضوع أو إيجاد موضوعٍ جديد؟

منشأ ظهور الارتكاز العقلائي الجديد

^ أجل، في مواجهة الأوضاع الجديدة يتحقَّق ارتكازٌ جديد، وإلاّ إذا كان الشيء ارتكازياً فإنه لن يزول، فإذا زال اتّضح أننا كنّا مخطئين، وأنه لم يكن هناك ارتكازٌ أصلاً. إن الارتكازية أمرٌ يمكن اكتشافه سريعاً، كما هو الحال بشأن المعادلة الرياضية القائلة بأن الواحد إذا أُضيف إلى واحدٍ سوف يساوي اثنين. وإنما في موردٍ واحد فقط يمكن أن نخطئ في كشف الارتكاز، وذلك عندما نتعرَّف في المدرسة على المصطلحات، ونضيع في تضاعيف هذه الدهاليز ومنعطفاتها، حتّى نفقد الصلة بوجداننا العُرْفي والعقلائي.

_ لو علمنا بأن الحكم المستفاد من روايةٍ كان من وجهة نظر العُرْف وارتكاز العقلاء ظالماً، سواء في عصر صدور الرواية أو العصر الراهن، يجب أن يكون حكم الشارع بحَسَب القاعدة ـ من وجهة نظركم ـ مقدّماً على العُرْف؟

^ إن رؤية العُرْف ـ بطبيعة الحال ـ لا تُعَدّ ملاكاً؛ إذ يبدو الحكم في بعض الأحيان؛ بناءً على الوضعيات التي أنشأها العُرْف نفسه، حكماً ظالماً. أما العقلاء فإنهم إذا اعتبروا شيئاً ما ظالماً قطعاً، وكان ارتكازهم هذا يتمتَّع بمنتهى البداهة، ورأينا في الوقت نفسه نصّاً يدلّ على تطبيق ذلك الحكم، سوف يكون للدليل هنا حالتان: تارةً يكون الشيء نصٌّ على التطبيق؛ وتارة نريد الاستفادة من إطلاقه.

 

الاختلاف بين النصّ والظاهر في التقدُّم على ارتكاز الظلم

فإذا كان نصّاً فسوف ينطوي على المزيد من الإتقان، بحيث قلّما يمكن الصمود أمامه إلاّ بصعوبةٍ بالغة؛ خلافاً لحالة الإطلاق؛ إذ لا يمكن جعل الإطلاق شاملاً لحال المورد بسهولةٍ. إذن هو تقسيمٌ بين النصّ والإطلاق.

 

اختلاف عصر الصدور والعصر الجديد في تقدُّم النصّ على ارتكاز الظلم

التقسيم الآخر أن يكون ظلمُ ما يُعَدّ اليوم ظالماً ظاهرةٌ جديدة حدثت مؤخَّراً؛ وتارةً أخرى يُعَدّ هذا الحكم ظالماً في صدر الإسلام وفي يومنا هذا أيضاً. فإنْ كان العقلاء قديماً يرَوْنه ظالماً أيضاً فإن الشارع إذن كان يريد الوقوف بوجه هذا الوضع الظالم، ويرسم وضعاً جديداً، ليقول: إنهم كانوا على خطأ، وأنا أعلم منهم بواقع الأمر. فإنْ كان هذا الحكم ظالماً في ذلك العصر أيضاً فمن الطبيعي أننا لا نستطيع رفع اليد عن تلك الرواية. وأما إذا كان ارتكاز الظلم قد ظهر بعد عصر النصّ، وكان اعتبار كونه عادلاً أو غير عادل في ذلك الوضع أمراً غير محسوم، أو إذا كان من وجهة نظرنا ظالماً حتّى في ذلك العصر أيضاً، إنما يكون ظالماً طبقاً لرؤيتنا الراهنة، وأما في ذلك العصر فلم يكن ظلماً أصلاً، فعندها لا يمكن التمسُّك بذلك النصّ أبداً؛ لأن ذلك النصّ أو الإطلاق إنما كان ناظراً إلى الوضع في ذلك الحين.

طريقة الحلّ ورفع التعارض

ولكنْ ما هو الحلّ؟ هناك عدّة طرق؛ وأحدها: أن نستفيد من أسلوب ومنهج الشارع أنه كان ملتزماً بالآراء العقلائية. وهناك الكثير من الأمثلة في هذا الشأن. إن أكثر مضامين القواعد الفقهية مضامين عقلائية، وذلك بعد إجراء بعض التصرُّف والتدخُّل من قِبَل الشارع بطبيعة الحال. هناك في الفقه الكثير من الأبحاث في مجال التبادل التجاري تندرج ضمن المفاهيم العقلائية. صحيحٌ أن الشارع يحقّ له أن يردع العقلاء، ولكنّ هذا أسلوبٌ يورث الاطمئنان، ونحن لا نستطيع القبول بشيءٍ ـ يعدّه الجميع ظالماً ـ من خلال التمسُّك بإطلاق الدليل؛ إذ ليس للإطلاق مثل هذه الدلالة؛ لأن الدليل يجب أن يحظى بالدلالة حقّاً.

_ نستنتج من كلامكم أنه يجب الفصل بين الحكم الارتكازي الظالم الموجود في عصر الشارع وعصرنا وبين ما يحكم العقلاء اليوم ـ دون العُرْف ـ بأنه ظلمٌ. وفي الحالة الثانية قلتُم: يجب أن لا نعمل بالدليل اللفظي.

تقدُّم الظلم الارتكازي الجديد على الإطلاق

^ كان كلامي هو أنه إذا كان ينبغي أن يكون هناك من شَكٍّ فإنه لا يمكن التشكيك في النصّ، ولا يمكن الوقوف بوجهه؛ ولكنْ يمكن الوقوف بوجه الإطلاق. فلا يمكن للإطلاق أن يقف بوجه الظلم الارتكازي، حتّى إذا كان جديداً.

_ هل يشمل هذا الإطلاق الإطلاق الأفرادي والأحوالي والأزماني؟ إن الكثير من أحكام صدر الإسلام تجري في عصرنا أيضاً، وإنه يمكن إثباتها ـ في الحقيقة ـ بالإطلاق الأزماني. فإذا كان الأمر كذلك لن يبقى هناك نصٌّ.

^ نحن نرى للنصوص إطلاقاً أزمانياً، إلاّ في الموارد التي يوجد فيها دليلٌ خاصّ. وعليه لا يمكن لنا أن نثبت شيئاً عقلائياً مَحْضاً ـ وجاء عليه الدليل في ذلك العصر ـ بسبب إطلاقه الموردي؛ لنقول الآن بواسطة الاستناد إلى ذلك الإطلاق: إن الإسلام قد قَبِل بهذا الظلم. هذا مستبعدٌ جدّاً.

ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنه قد يحدث في بعض الأحيان أن يَرِدَ نصٌّ في حالةٍ تُعَدّ الآن ظالمة، لا أن يكون هناك إطلاقٌ (وحيث إن الإطلاق في حالة زيادة ونقصان مستمرّ هناك تدخُّل واهتمام وانصراف)؛ بَيْدَ أنه كان له آنذاك حكمٌ حيادي أو عادل، ومن ناحيةٍ أخرى وردت نصوصٌ أخرى في تلك الدائرة تتّصف بالأدبيات الغليظة والشديدة، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن رفع اليد عن ذلك النصّ. كما هو الحال في بحث الحدود، حيث يمكن حالياً أن يُعَدّ رجم المرأة بتلك الصورة الخاصّة عمليةً ظالمة، في حين أن حكم الرجم منصوصٌ، وليس من الإطلاق. كما تمّ التأكيد في روايات باب الحدود على إجراء الحدود بشكلٍ دقيق، وعدم التهاون فيها أو التسامح والتساهل بشأنها. قد تعتبرون هذا الحكم ظالماً حاليّاً، ولكنه لم يكن كذلك في الأزمنة القديمة؛ لأنهم كانوا يمارسونها. فهل يمكن القول هنا: إننا لا نستطيع التمسُّك بالنصّ؟ لا يمكن قول هذا الشيء؛ إذ لا يمكن لنا أن ندّعي الانصراف؛ لأنه نصٌّ، وليس إطلاقاً، والإنصراف إنما يَرِدُ حيث يكون هناك إطلاقٌ، ويتمّ المنع من الإطلاق.

_ إنكم لم تأتوا بهذا النصّ الزمني من ذات أدلّة الرجم، وإنما هو مستفادٌ من أدلّةٍ أخرى تقول بأن الحدود يجب عدم تعطيلها.

^ أجل، هناك رواياتٌ ونصوص سواء على أهمّية الحدود أو على تأبيدها، وبطبيعة الحال قد يكون لبعض الأشخاص طرقٌ أخرى، وهذا إنما يجب بحثه في علم الفقه.

_ هل يمكن لارتكاز حكمٍ ظالم في عصرنا أن يشكِّل قرينةً لُبِّية متّصلة؛ لتحول دون انعقاد الإطلاق؟

شرائط ردع الشارع عن الارتكاز الجديد للظلم

^ في ما يتعلق ببحث سيرة العقلاء يجب بيان المبنى. ومن بين المباني أن يكون الحكم المتعلِّق للإمضاء هو مجرّد البناء والسيرة؛ لأن البناء يعني ذلك الارتكاز الذي تحقَّق على المستوى العملي، أو بأن نقول: إذا كان هناك من ارتكازٍ فإنه حتّى إذا لم يتحقَّق على المستوى العملي، ولم يتَّخذ شكل البناء والسيرة، ولكنْ إذا توجّه له الإمضاء والتقرير يكون معتبراً أيضاً. وأما المبنى الآخر فهو أن جميع المرتكزات التي تستجدّ تعود إلى جَذْرٍ واحد يُعَدّ مصدراً لها، كأنْ يستجدّ مرتكز بعد الشارع، وكان بمقدور الشارع أن يخالفه، وأن يأتي بنصٍّ قويّ في الردع عنه (إذ تعود جذوره إلى هناك). وعليه لا نستطيع هنا التمسُّك بالإطلاق أيضاً؛ لأن الشارع إذا كان مخالفاً له لوجب عليه الردع عنه بنصٍّ قاطع؛ لأن الفرض يقوم على أن جذور هذا الارتكاز الجديد كانت موجودةً في عصر الشارع، وأن الشارع كان على علمٍ بأنه سيأتي زمنٌ تستحكم فيه جذور هذا الارتكاز وتقوى، فإذا لم يكن يقبل بهذا الارتكاز الجديد لوجب عليه أن يردع عنه بأدلّةٍ محكمة، لا أن يكتفي بمجرّد الإطلاق.

 

الهوامش

(*) عالمُ دينٍ في الحوزة العلمية في قم، وأستاذٌ على مستوى بحث خارج الفقه والأصول. شغل الكثير من المناصب، ومن بينها: مدير مركز التحقيقات في مجمع التقريب بين المذاهب. كما مارس التدريس في بعض الجامعات. وله من الأعمال: (موسوعة الإجماع في فقه الإمامية)، بالإضافة إلى الكثير من المقالات والدراسات.

وقد شارك في الحوار: إبراهيم شفيعي سروستاني، وعلي شفيعي، وسيف الله صرامي، ومحمد رضا ضميري، وسعيد ضيائي فر، وحسن علي علي أكبريان.

([1]) نهج البلاغة 4: 51، الحكمة رقم 231.

([2]) وانظر أيضاً: يوسف: 40، 67.

([3]) وقريبٌ منه قول الإمام عليّ×؛ إذ يقول: (العدل يضع الأمور مواضعها). نهج البلاغة، الحكمة رقم 437.

([4]) انظر: ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول: 223.

([5]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 231.

([6]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 231.

([7]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 437.

([8]) نهج البلاغة، الكتاب رقم 53، من عهده إلى مالك الأشتر النخعي حين ولاّه على مصر.

([9]) البحراني، الحدائق الناضرة 1: 45.

([10]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 62.

([11]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 62، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب عدم جواز القضاء، ح52.

([12]) وانظر أيضاً: يوسف: 40، 67.

([13]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 62، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب عدم جواز القضاء، ح52.

([14]) لدراسة قاعدة العدل والإنصاف انظر: السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 14: 249 ـ 259؛ السيد أبو القاسم الخوئي، كتاب الخمس: 149، 154؛ ومباني تكملة المنهاج 2: 418؛ لطف الله الصافي الكلبايكاني، ثلاث رسائل فقهية: 37، 43، 62؛ محمد صادق الروحاني، فقه الإمام الصادق× 7: 443؛ 18: 434؛ 20: 277، 189؛ 25: 234، 255؛ السيد كاظم الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 607 ـ 635؛ حسين كريمي، قاعدة القرعة: 27، 77.

([15]) (العدل يضع الأمور مواضعها). نهج البلاغة، الحكمة رقم 437.

([16]) انظر: الملاّ صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 12: 329؛ العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار 88: 234، حيث تمّ في كلا هذين المصدرين ادّعاء وجود الرواية في هذا الشأن.

([17]) وانظر أيضاً: يوسف: 40، 67.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً