أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

 _إنها لفرصة ثمينة أن ألتقي بكم، وأزوركم؛ متذرّعاً بذريعة من الذرائع. وهذه المرة قدمت إليكم بذريعة الحوار حول الشخصية العلمية والعملية لسماحة الشيخ معرفت، وذلك بغية الاستفادة من رؤيتكم في هذا الشأن. لقد كان سماحة الأستاذ معرفت ـ طوال العقود التي قضاها في إيران، وكنا قريبين منه ـ للإنصاف شخصاً مؤثِّراً في مجال العلوم والتحقيقات القرآنية، وكان عنصراً فاعلاً في تدريس وإعداد الكوادر القرآنية. وقد مثّل رحيله خسارة كبيرة للمجتمع القرآني. بَيْدَ أن العقد الأخير شهد ـ ولله الحمد ـ اهتماماً خاصّاً بمجال القرآن والعلوم القرآنية. وحضرتكم غنيٌّ عن التعريف في هذا الشأن، حيث تعرفون بوصفكم من روّاد التفسير، إلى جانب كونكم من الطلائع والمبدعين في مجال الفقه. ونعلم بشكل وآخر أن لكم علاقة خاصة بالأستاذ معرفت. وعليه فمن الطبيعي أن تكون لديكم ـ بطبيعة الحال ـ إحاطة وعلمٌ بالآراء القرآنية والتفسيرية لسماحته، وربما تكون لديكم معرفةٌ بآرائه الفقهية أيضاً. وبمناسبة الذكرى السنوية الأولى على رحيل الشيخ معرفت أقام أصدقاؤنا في قسم الدراسات القرآنية في مؤسّسة الثقافة والفكر الإسلامي مؤتمراً بهذه المناسبة؛ من أجل تكريمه، وتخليداً لذكراه. وعلى هامش هذا المؤتمر، وفي معرض إعداد شرح مختصر لحياة وسيرة الفقيد، كتبت مقالات تتناول آراءه وأفكاره في ما يتعلّق بالتفسير والقرآن. وقد يتمّ طبعها على شكل سلسلة من المقالات القرآنية في مجلَّدين. وعلى هامش ذلك عقدنا العزم على اللقاء بعدد من كبار علماء الحوزة العلمية؛ للحوار حول تلك الشخصية العلميّة للأستاذ معرفت، والبحث في آرائه ونظرياته. وفي هذا الإطار نتقدَّم بالشكر الجزيل لكم على إتاحة هذه الفرصة لنا؛ ليكون لنا مثل هذا الحوار معكم.

إن الأمر الأول الذي أريد منكم بيانه، ضمن عبارة مختصرة، يتعلّق بالشخصية العلمية والعملية للشيخ معرفت. كما نرغب أن نستمع إلى آرائكم بشأن المؤلَّفات الشهيرة لسماحته، من قبيل: «التمهيد في علوم القرآن»، وكتابه الأخير، وهو «التفسير الأثري الجامع»، وسائر رسائله ومؤلَّفاته الأخرى. لقد كان سماحته يحرص على أن يكون مبدعاً ومجدِّداً في مجال التفسير، وفي مجال الفقه أيضاً، وقد حقَّق نجاحاً في هذين المجالين إلى حدٍّ ما.

عندما كان سماحته يواجه الآراء الشاذّة أو النادرة في أقوال المتقدِّمين، أو التي تُثار في العالم العربي، كان يعمل على استعراضها وبحثها. فإذا كان لديكم ما تقولونه بشأن إبداعاته في مجال التفسير والعلوم القرآنية، والفقهية أحياناً، يسرّنا سماع ذلك. لقد استحوذ مجال العلوم القرآنية على الحصّة الأكبر من اهتمام الأستاذ معرفت، وكان له الكثير من المؤلَّفات في هذا الشأن، وكان له بعض الآراء الخاصة أحياناً. فعلى سبيل المثال: كان له تفسيره الخاصّ بشأن مفهوم التأويل، وهو غير معروف بين الشيعة، رغم أن بعض كبار العلماء قد أشار إلى أن مراد سماحته من التأويل هو ما ذكره الآخوند الخراساني، على نحو الاحتمال، حيث يعني هذا المعنى المحتمل للتأويل تنقيح المناط، وحذف الخصوصيات التاريخية والمكانية. وبذلك يكون حذف خصائص الزمان والمكان من شأن نزول الآيات وتوظيف القواعد الأدبية المتعارفة هو مراد سماحته من التأويل. وبطبيعة الحال فإن الأقوال في هذا الشأن مختلفة إلى حدٍّ كبير، كما تعلمون، حتّى ذكر العلاّمة الطباطبائي ـ على ما أتذكّر ـ اثني عشر أو ستّة عشر معنى للتأويل.

 ^الشيخ مكارم الشيرازي: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين، لا سيَّما بقيّة الله المنتظر، أرواحنا فداه.

قبل كلّ شيء يجب أن أعبِّر عن غبطتي وسعادتي بما قمتم به من العمل على إقامة مؤتمر لتخليد ذكرى سماحة الشيخ معرفت، والإشادة بخدماته في مجال التفسير والعلوم القرآنية. وكلّي أملٌ في أن يكون ذلك باكورة نشاط أكثر سعة وشمولية، إنْ شاء الله.

إن إقامة هذا النوع من المؤتمرات في غاية الأهمّية؛ لما تنطوي عليه من الفوائد التي تتجلّى على شكل كتب ومقالات تحرّك الساحة العلمية، وتعمل على تشجيع العلماء الآخرين ممَّنْ لا يزالون على قيد الحياة.

وأما في ما يتعلق بسماحة الشيخ معرفت فيجب عليّ القول: إن علاقتي بسماحته كانت من بعيدٍ، ولم ألتقِ به كثيراً، ولكنّني تمكّنت من قراءة بعض مؤلَّفاته بشكل محدود. وفي المجموع يمكن القول بشأن سماحته، باختصار: إنه كان عالماً كبيراً من علماء الشيعة، وقدَّم الكثير من الدراسات القرآنية. وقد عمل بعضها على سدّ فراغ ملحوظ كانت تعاني منه المكتبة الشيعية، وكان بعضها تكميلاً وإتماماً لأعمال الآخرين.

وقد قام سماحته طوال حياته العلمية بتربية الكثير من الطلاب الذين أداروا فيما بعد المراكز العلمية والفكرية، ومن بينها: المركز التخصُّصي للتفسير، وقد كان سماحته واحداً من الأساتذة في هذا المركز لسنواتٍ طويلة، وقد تربّى على يده الكثير من الباحثين.

ولله الحمد فقد ترك سماحته الكثير من المؤلَّفات الخالدة. وحيث لا عصمة لأحدٍ فقد تكون له بعض الأفكار الشاذّة. يبدو لي أنه كان يُنقل عن سماحته بعض الآراء الشاذّة، بَيْدَ أن هذا لا يتنافى مع عظمته ومكانته المرموقة، حيث يتمّ في الوقت نفسه نقد بعض أفكاره أو مؤلَّفاته. ويبدو لي أن بعض الانتقادات التي ترد على سماحته إنما تعود إلى الأدبيّات الخاصة التي يستخدمها، وليس إلى أصل المسألة، بمعنى أننا إذا عملنا على إعادة صياغة تلك الأدبيات سوف نجد الموضوع تماماً وصحيحاً ولا غبار عليه. وعلى أيّ حال فإن الذي سمعتُه عنه من هنا وهناك لا يمسّ سماحته إلاّ بخير. وإنّ مؤلفاته على نحو الإجمال كثيرة البركة. وقد عمل على تربية وإعداد الكثير من الطلاب الفضلاء. أسأل الله أن يتغمَّده برحمته الواسعة على ما قدَّم من الخدمات الجليلة.

وأما فيما يتعلَّق بمؤلفات سماحته فيجب القول: لو أن بعض الأشخاص يحقِّقون في هذه الكتب، ويضيفون إليها آراءهم في الهامش، ستكون النتيجة بحسب تصوُّري أكثر نفعاً.

حول مقاصد الشريعة ــــــ

_ نرغب في التعرُّف على رأي سماحتكم في ما يتعلّق بمقاصد الشريعة. كما نريد استجلاء مواقفكم في خصوص الأفهام بشأن مقاصد الشريعة، ولا سيَّما الاهتمام الذي حظي به هذا المعنى في العالم العربي طوال العقود الثلاثة المنصرمة. فما هي آلية مقاصد الشريعة في علم الفقه؟ وهل يمكن توظيف مقاصد الشريعة على شكل قاعدة في استنباط الفروع؟ وبعبارةٍ أشدّ اختصاراً: ما هي وظيفة وآلية مقاصد الشريعة في استنباط الفروع الفقهية؟ وكيف ترَوْن طرقها ومستويات تحوُّلها في ما يتعلق بالتطوّر في علم الأصول وعلم الفقه؟

^ مكارم الشيرازي: في ما يتعلّق بمقاصد الشريعة يمكن لنا أن نختار موقفاً من بين ثلاثة مواقف:

الموقف الأول: أن نبالغ في الاعتماد على مقاصد الشريعة في الفقه، وأن نتخطى حدود الاستدلال الفقهي، حتّى نفتي بشأن المسائل دون أن نقيم عليها أدلّة فقهية كافية.

ويبدو أن هذا ما عليه المنهج العام لبعض علماء أهل السنّة؛ وذلك لأنهم كانوا يعتمدون على المسائل الظنّية دائماً. وسبب ذلك يكمن في نقص نصوصهم. فالمسائل كثيرة جدّاً، والنصوص التي بأيديهم ـ في المقابل ـ شحيحةٌ جدّاً. خلافاً لنا ـ نحن أتباع مدرسة أهل البيت^ ـ، حيث نمتلك الكثير من النصوص التي يمكن لها أن توفّر لنا مادة للإجابة عن جميع الأسئلة، إما بشكل عام أو على نحو جزئي. ولذلك فإن علماء أهل السنة يسلكون ـ من الناحية العملية ـ ما نصطلح عليه نحن بـ «دليل الانسداد»؛ إذ يعتبرون باب العلم والعلمي منسدّاً، ومن هنا يسقطون في ورطة الأمور الظنّية.

الموقف الثاني: موقف أولئك الذي يسيرون على النقيض من أصحاب الموقف الأول؛ إذ ينكرون كلّ شيء، ويقولون: يجب عدم سلوك هذه المسائل من الأساس؛ إذ لا يمكن الاعتماد عليها في مقاصد الشريعة أبداً.

وأرى أن أصحاب الموقف الأول إذا كانوا يسلكون طريق الإفراط فإن أصحاب هذا الموقف يسلكون طريق التفريط.

الموقف الثالث: حيث نذهب ـ بالالتفات إلى المباني المقرَّرة في أصولنا ـ إلى القول:

هناك تارة عللٌ منصوصة في الأحكام، وتنقسم هذه العلل المنصوصة إلى قسمين: الموارد التي تنطوي على جانب من الحكمة، وهي الغالبة؛ والموارد التي تنطوي على جانب العلّة، بمعنى التي تدور مدار العلة.

وهناك عللٌ مستنبطة؛ وتكون قطعية تارة؛ وظنية تارة أخرى.

وعليه لا بُدَّ من إخضاع العلل المنصوصة للبحث الدقيق؛ كي يتمّ الفصل بين الحكمة والعلة، طبقاً للمصطلح المبحوث عنه في علم الأصول. كما يجب فصل العلل القطعية عن العلل الظنية أيضاً.

فإذا سلكنا هذا الطريق نكون قد حافظنا على حدود الاعتدال، الأمر الذي يؤدّي إلى إثراء الفقه، وحلّ الكثير من المشاكل الفقهية. فعلى سبيل المثال: نحن لا نمتلك حتّى آية أو رواية واحدة بشأن المخدِّرات، ولكننا لو نظرنا إلى النصوص المرتبطة بالمسكرات على نحوٍ دقيق سوف نتوصّل من خلالها إلى النتيجة المطلوبة بشأن المخدِّرات. وعليه فإننا إذا راعينا حدود الاعتدال سوف نصل إلى أسس متينة ومنيعة، وإلاّ فإننا سوف نبتلى بالإفراط أو التفريط، وليس ذلك سوى الانحراف والبُعْد عن الأصالة.

_ هل يمكن القول: إن مصطلح مقاصد الشريعة يعادل مصطلح علل الشرائع؟

^ مكارم الشيرازي: إن علل الشرائع تارةً تكون منصوصة؛ وأخرى مستنبطة. وعلل الشرائع المستنبطة تنقسم بدورها إلى: قطعية؛ وظنية.

_ يتمّ التأكيد في روايات علل الشرائع غالباً على الجزئيات. كأنْ يُقال مثلاً: إن الاتجاه العام للفقه والنظام السلوكي في الإسلام يقوم على العدالة. فكيف يكون العمل إذا رأينا شيئاً لا ينسجم مع العدالة؟

^ مكارم الشيرازي: يمكن لإلغاء الخصوصية القطعية من الموارد الجزئية أن تكون قسماً آخر من مقاصد الشريعة، بمعنى التمسك بإلغاء الخصوصية. وإلغاء الخصوصية يكون تارة ظنياً؛ ويكون تارة أخرى قطعياً. ونحن نرفض إلغاء الخصوصية الظنية، وإنما الذي نؤمن به هو إلغاء الخصوصية القطعية. فعلى سبيل المثال: إن جوهر الصيام هو محاربة النفس، فإذا لم تتمّ مراعاة بعض جزئيّات تروك الصيام، ولكنْ تمّ في الوقت نفسه الحفاظ على روح الصيام المتمثِّل بمحاربة النفس، كان ذلك مطلوباً. من هنا يجب عدّ الموارد التي هي من هذا النوع ضمن دائرة علل الشرائع المنصوصة والمستنبطة، ويمكن للموارد الظنية والقطعية وإلغاء الخصوصيات أن تكون متمِّمة لهذين الموردين.

_ إن الموضوع الذي يتمّ طرحه في الآونة الأخيرة تحت عنوان الفلسفة ـ والذي حظي باهتمامكم بشكلٍ جيد، وتعرّضتم له في دائرة المعارف للمرة الأولى من بين الفقهاء، حيث اعتبرتم مبحث فلسفة الفقه بمثابة المدخل لهذه الموسوعة ـ في غاية الأهمِّية. رغم أن البعض قد نظر إلى موضوع فلسفة الفقه لأغراض أخرى؛ حيث ظنّ أن باستطاعته أن يُدخل في بعض المباني مسائل تعمل على تغيير بنية واتجاه الفقه، ولذلك عمد إلى طرح هذا النوع من المسائل. وعلى أيّ حال فإن الفقه يرتبط بالفلسفة، والعقيدة بعلم الكلام، تحت عنوان الرؤوس الثمانية والمبادئ التصورية والتصديقية. فهل تمسّ الحاجة حاليّاً في الأصول وفي منطق الاستنباط إلى التوسعة والتكامل والتغيير التصحيحي أم لا؟ فقد أشرتم في دائرة المعارف ـ إذ تحدّثتم عن مراحل الفقه ـ إلى أن بنية أبواب الفقه قد تعرَّضت إلى التغيير عبر المراحل المختلفة. كما يمكن إحداث التوسعة والتحوّل في المسائل والفروع، ولا سيَّما في المسائل المستحدثة منها. هل يمكن لكم أن تذكروا لنا هذه الطرق والأساليب ومراحل التحوّل في الفقه إنْ وُجدت؟

^ مكارم الشيرازي: في ما يتعلق بالتحوّل في الفقه يجب القول: في اعتقادي إن هذا التحوّل ينبغي حصوله في علم الأصول، قبل أن نعمل على إيجاده في الفقه؛ وذلك لأن علم الأصول عندنا يعاني من مجموعة من المسائل المتفرّقة وغير المترابطة فيما بينها. فمثلاً: نحن نقول: إن مصادر أحكامنا هي الأدلة الأربعة، ولكنّنا لا نعثر في علم الأصول على بحثٍ تفصيلي بشأن القرآن الكريم بوصفه واحداً من هذه الأدلّة الأربعة! حيث لا يُبحث في علم الأصول إلاّ عن حجِّية الظواهر فقط، والدليل الآخر هو السنّة، ولا يُبحَث فيه عادة إلاّ عن خبر الواحد. من هنا لا يُبحث عن دليل العقل بالتفصيل.

_ إن الحصّة الأكبر من البحث في علم الأصول هي من نصيب مباحث الألفاظ، وإن الأبحاث العقلية تكمن في الغالب في صُلب هذه المباحث.

^ مكارم الشيرازي: هذا، وإن مباحث الألفاظ قد اختلطت بالمباحث العقلية. وبطبيعة الحال نحن بصدد التأسيس لمنهج في مباحث الأصول، يبدأ بكتاب الله بوصفه المصدر الأول لاستنباط الأحكام الشرعية. وعلى هذا الأساس يجب أن يشتمل بحث الأصول على مقدّمات تتناول مباحث الألفاظ في هامشها؛ ليتمّ البحث بعد ذلك عن اللوازم العقلية في المباحث العقلية، والانتقال بعد ذلك إلى الاهتمام بالمسائل الجديدة التي كان يجب أن تذكر في علم الأصول، ولكنها لم تُذكر.

هناك الكثير من القواعد المستعملة في الفقه، دون أن يكون لها من أثر في علم الأصول، وفي المقابل هناك مسائل في الأصول لا نرى لها حضوراً في علم الفقه.

إذن لا بُدَّ من إضافة المسائل التي تمسّ الحاجة إليها في كلٍّ من علم الأصول والفقه، والعمل على فصل دائرة القواعد الفقهية عن دائرة المسائل الأصولية. وهذا ما نعمل عليه حالياً.

_ من المهمّ جدّاً أن يبادر شخص، ويضطلع بهذه العملية.

^ مكارم الشيرازي: قد لا يتأتّى لأحد أن يقوم بهذا العمل على نحوٍ كامل، ولكن الهامّ في البين هو التأسيس له، وبذلك سيكون بإمكان الآخرين البناء عليه وتكميله. لقد دلف السيد هبة الدين الشهرستاني ـ صاحب كتاب «الهيئة والإسلام» ـ ذات مرّة إلى قم المقدّسة، وحلّ ضيفاً على العتبة المقدّسة، فذهبت برفقة بعض الأشخاص لرؤيته. وبعد أن استقرّ بنا المقام أشكلت على كتابه قائلاً: لقد أقمتم كتابكم على أساس الفرضيات المعاصرة، وعليه فإنْ حدث تغيُّر في هذه الفرضيات ستنهار منظومة المسائل التي ذكرتموها في كتابكم برمّتها، فقام سماحته واقفاً، وقال: إن واجبنا في هذا العصر هو الإجابة عن الإشكالات الراهنة المثارة حول هذه الآيات، وقد تقول الأجيال القادمة: «إن هبة الدين قد أخطأ في كتابة هذه المسائل، ولكنّ هذا لن يمنعني من القيام بواجبي الذي تفرضه عليَّ اللحظة الراهنة». ولذلك علينا نحن أيضاً القيام بواجبنا الذي يمليه علينا واقعنا الراهن تجاه المسائل الإسلامية، وقد تقول الأجيال القادمة بأننا قد أخطأنا. إن فقهنا الراهن يشهد تحوُّلاً. وهناك ظاهرةٌ خطيرة نشهدها على بعض الأشخاص من المتأثِّرين بالغرب أو النظرة السطحية والعامّية للأمور وما إلى ذلك، حيث نجدهم يذهبون إلى الاعتقاد بأن الفقه الراهن يتعلَّق بفترةٍ خاصّة ـ تعود إلى صدر الإسلام ـ، ولذلك علينا أن نحدث تغييرات جذرية في هذا الفقه، ولكنهم حيث يخجلون من فعل ذلك، أو لأن البيئة التي يعيشون فيها لا ترتضي فكرة أن يرتبط هذا الفقه بحقبة زمنية خاصّة تجرِّده من صفة البقاء والخلود، فإنهم يذكرون هذا الأمر تحت غطاء القراءة والتحوُّل والأفكار والآراء الجديدة، ولكنّهم في واقع الأمر يؤمنون بأن هذا الفقه لا يصلح لهذا العصر، وإنما هو خاصّ بفترةٍ محدَّدة. إن التحوّل في الفقه بهذا الشكل خطيرٌ للغاية؛ حيث إنه يسوق الفقه نحو العُرْفية؛ لأن هذا يعني أنه يجب علينا التنصُّل والتخلي عن هذا الفقه، ويفرض علينا أن نتبع مجالس التقنين في البلاد، والتي يديرها علماء الاقتصاد والاجتماع، وتستهوي المفكِّرين في مجال حقوق الإنسان، ونجعل ما يخرجون به من قرارات وقوانين هي المبنى والأساس، ونعمل على تقديمها إلى الناس بوصفها هي الفقه الإسلامي. ولن تكون نتيجة ذلك غير تحوّل الفقه إلى منظومةٍ عرفية، وهذا يعني التخلّي عن الفقه بشكلٍ كامل. وهذا خطر يتحتّم علينا أن نلتفت إليه، ونحذِّر منه؛ لأن هذه القراءة الجديدة للدين هي ذات التفسير بالرأي. فهؤلاء قد أخذوا آراءهم بنظر الاعتبار، وبدأوا يمارسون عملية التحليل على أساسها، وبدلاً من أن يتتلمذوا على القرآن يُصبحون أساتذته، وبدلاً من أن يسيروا خلف القرآن يجعلون القرآن وراءهم، وبذلك يكونون مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ (الحجرات: 1). وعليه يجب الحذر من هذا النوع من التحوّل؛ لأنه يقضي في الحقيقة على أصالة الفقه تماماً؛ لأن هؤلاء يقولون: إن عصر الفقه الإسلامي قد انتهى.

الأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه هو أن علينا في هذا التحوّل الفقهي أن لا نستند إلى العناوين الثانوية أكثر من الحدّ المطلوب؛ لأن العناوين الثانوية ذات صفة استثنائية، وإذا تمّ التعويل عليها بشكل يفوق الحدّ فسيعني ذلك اعترافاً ضمنياً بأن الفقه الإسلامي لا صلة له بعالمنا المعاصر؛ وذلك لأننا سنكون على الدوام بحاجة إلى حالة الاضطرار والطوارئ.

ولتوضيح المسألة أكثر أذكر مثالاً سياسياً؛ وآخر طبيّاً.

إن الإنسان لا يحتاج إلى التغذية بواسطة حُقَن (السيروم) إلاّ لفترةٍ خاصة ومحدودة، فإذا قضى حياته كلّها يتغذى بواسطة هذه الحقن لا يكون في الحقيقة حيّاً، وإنما هو ميّت يتنفَّس.

والمثال الآخر هو حالة الطوارئ التي يتمّ الإعلان عنها من قبل الحكومات في بعض الحالات الخاصّة. وهو أمرٌ طبيعي عند حدوث الأزمات. ومن الممكن أن تستمرّ ليومٍ واحد أو يومين أو أسبوع أو شهر أو شهرين في الحدّ الأقصى، وأما إذا استمرّت إدارة البلد في ظلّ قانون الطوارئ على مدى سنوات طويلة فسوف يكون البلد بحكم ذلك الميت الذي يتنفَّس.

وهذا هو حال الأحكام والعناوين الثانوية في الشريعة، فهي بحكم قانون الطوارئ أو حُقَن السيروم. ولذلك علينا أن لا نعتمد على الأحكام والعناوين الثانوية دائماً. وإذا تمّ التدقيق بشكلٍ كامل سندرك أن بإمكاننا حلّ الكثير من المشاكل بالعناوين الأولية. وإننا نحتاج في ذلك ـ بطبيعة الحال ـ إلى الشجاعة في الفتوى. فقد شهدنا لسنوات طويلة حالات ذبح الأضاحي ـ في الحجّ ـ، ودفنها أو حرقها بعد ذلك، ولم يكن لأحدٍ أن يتجرّأ ويقول: عندنا دستورٌ قرآني في هذا الخصوص يقول: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (الحجّ: 36). وقد ورد هذا الحكم مقروناً بـ «فاء» التفريع، بمعنى أن هذا الذبح يجب ليتفرَّع عنه كذا وكذا، ولكنّنا لا نشهد سوى عملية الذبح، دون أن يكون هناك إطعامٌ للقانع والمعترّ، وإنما تكون الأضاحي بعد ذلك طعاماً للتراب، أو حطباً للنار! مع أن الآية ـ كما هو واضحٌ ـ لا تحتوي على إطلاق في هذا الشأن. وبطبيعة الحال علينا أن نكون حذرين؛ إذ قد تكون بعض الإطلاقات منصرفة إلى موارد خاصة. وعليه لا بُدَّ من العمل على اتخاذ إجراءات تضمن الحفاظ على هذه الكميات الهائلة من اللحوم، وإيصالها إلى أماكن الحاجة، أو العمل على ذبحها في أمكنةٍ أخرى، وعدم الإصرار على ذبحها في مكة المكرَّمة. ألا يقوم المحصور بذبح أضحيته حيثما كان؟ وذلك لأنه لا يستطيع. كذلك يمكن لنا أن نذبح الأضاحي في بلداننا؛ إذ لا يجب علينا أن نجعل من عالمنا عالماً موبوءاً أو ملعوناً. إن عدد الحجيج يزيد على المليون نسمة، وكلّ هذه الأعداد تضحّي، ليغدو مصير هذا العدد الكبير من الأضاحي ـ التي تشكِّل ثروة كبيرة ـ بعد ذبحها هو تلويث البيئة، ويُصار إلى دفنها أو حرقها.

مثالٌ آخر: كان الحديث يدور لسنوات متمادية على الإبقاء على المهر كما هو؛ وذلك لأن الدين يسدَّد على هذا الشكل أيضاً، حتّى واجهنا بعد ذلك مشكلة في هذا الشأن. ففي المرّة الأولى جاءنا شخصٌ وسألنا قائلاً: لقد استخدمنا عامل بناء قبل ثلاثين سنة، وعمل لنا شهراً كاملاً بأجرٍ يومي قدره 10 دنانير، فإذا ضربناها بثلاثين، كان مجموع ما يستحقّه علينا 300 دينار، فهل تبرأ ذمّتنا إذا سدَّدنا له اليوم هذا المقدار من النقود؟ أو السيدة التي كان مهرها قبل ستّين سنة 50 ديناراً، هل يكفي اليوم أن ندفع لها هذا المبلغ؟ هذا في حين أننا نخجل في الوقت الراهن من التصدُّق بهذا المبلغ على الفقير! ولذك كانت فتوانا بهذا الشأن تقوم على ضرورة أخذ التضخُّم المالي طوال هذا الفترة بنظر الاعتبار.

إن هذه الموارد تدخل في التحوّل الذي يجب أن نعمل عليه بالنسبة إلى الفقه، ولكنّه يحتاج إلى بعض الشجاعة من الفقيه، وأن لا يخشى التعرُّض للسخرية من قبل الآخرين، كما حصل ذلك بالنسبة إلى فتوانا بشأن الأضاحي، حيث أثار بعض الأشخاص صخباً لا أوّل له ولا تالي، لينتهي المطاف بهم بعد ذلك ـ عمليّاً ـ إلى ذات النتيجة التي توصَّلنا لها.

أو بشأن استحباب العمرة، حيث توصّلنا أخيراً إلى نتيجة مفادها أن هذه العمرة المستحبّة مقرونة بإذلال الشيعة. وهنا يتعين على الفقيه أن يتحلّى بالشجاعة، ويفتي بأنه إذا لم يتمّ إصلاح وضع هذه العمرة فإننا سوف نفتي بتحريمها. فما الذي يضطرنا إلى دفع المليارات؛ ليتمّ في المقابل إذلالنا؟! هناك إطلاقٌ في أدلة الاستحباب، ولكن هل تشمل الإطلاقات هذا المورد أيضاً أم لا؟ ولذلك علينا أن نتحلّى بالشجاعة في العمل بقواعدنا. لدينا قواعد، ولسنا بحاجةٍ إلى شيء جديد. والذي نحتاج إليه هو الشجاعة، لا غير.

إذن نحن نعتقد أن التحوُّل في الفقه يحتاج إلى إعادة نظر في الأدلّة؛ وشيء من الشجاعة في إبراز الفتوى، ولكنْ مع الحفاظ على الأطر وأصالة الفقه الجواهري. والأمر الهامّ الذي صادفته في الفقه، والذي يمثّل منفذاً تعبّدياً، هو أن الكثير من فتاوى كبار الفقهاء المتقدّمين تقوم على أساس الاحتياط؛ وذلك لأنهم يغلِّبون كفة الأحوط في فتاواهم. هذا في حين أن الأدلة ترمي إلى الناحية الأخرى؛ فإن أولئك العظام كانوا يعملون بالاحتياط، وكان الاحتياط مقبولاً في حينها، ولكنْ على كلّ حال ليست هذه هي موارد الفتوى، بل هي مجرَّد احتياطات. والمثال الكامل على ذلك نجده عند الشيخ الطوسي، حيث يعتبر الاحتياط في كتاب «الخلاف» جزءاً من المرجِّحات، ومن ذلك قوله أحياناً: «لأنه يوافق الاحتياط»، على ما يرى في الكثير من مواطن كتاب «الخلاف». ولذلك عندما التفتنا إلى هذا النوع من الموارد ـ في مقابل بعض الشهرات أو بعض الدعاوى المغلفة بصيغة الإجماع ـ يمكن أن نواجه الأمر بشجاعة أكبر، ولكنْ مع التزام جانب الدقّة والتحقيق. وعليه نعيد القول بأن الفقه يحتاج إلى تحوُّل، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأصول، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بالمسائل المستحدثة؛ إذ تحتاج إلى تدقيق وتفكير جديد، وهو ما نستطيع القيام به إلى حدٍّ ما، وتسليمه إلى الأجيال القادمة.

حول تطوير علم أصول الفقه ــــــ

_ في ما يتعلق بالتحوُّل أشرتم إلى ضرورة أن يكون لدينا تنسيق جديد للأصول، وأن نعمل على تنقيح بعض العناوين الرئيسة في مباحث الأصول. ولكن ألا يبدو أن هناك بعض الثغرات في الأصول؟ بمعنى أنه يجب التنقيح تارةً، والتخصيص تارةً أخرى، كما يجب النظر في بعض المباحث التي هي مجرّد مسائل علمية بحتة، ولا يوجد لها أيّ تطبيق في الفقه، فعلينا لذلك أن نعمل على إخراجها من الأصول، أو أن الكثير من المباحث المطروحة في الأصول هي في الحقيقة ليست من الأصول في شيء، من قبيل: المباحث الكلامية واللفظية والأدبية والفلسفية، التي تسلَّلت إلى الأصول مؤخَّراً. ولكنْ ألا يبدو في المقابل من وجهة نظركم أننا بحاجة إلى مباحث وقواعد يجب إضافتها إلى أصول الفقه؟ وبعبارةٍ أخرى: هل هناك ثغرات في الأصول أم لا؟

^ مكارم الشيرازي: أرى أننا نواجه هذه الثغرات في أصول الفقه، كما هو الحال بالنسبة إلى المباحث المتعلِّقة بالدليل العقلي، حيث شغلت حيِّزاً واسعاً، في حين أنه لا موقع للدليل العقلي في أصولنا، وعليه لا بُدَّ من ذكر دليل العقل وأقسامه.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى العناوين الثانوية؛ لأن العناوين الثانوية مسألة أصولية. ولا بُدَّ من بحث ما هي نسبة العناوين الثانوية إلى العناوين الأولية؟ وهل هي حاكمة عليها؟ وما هي الموارد التي تشملها هذه العناوين الثانوية؟ وهذه مسألة أصولية أيضاً. ولكنْ حيث يتم اليوم طرح المسائل المستحدثة فقد عمدنا إلى طرح العناوين الثانوية في المسائل المستحدثة، في حين أنها جزء من المسائل الأصولية، ولكنْ ما هي حدود دائرتها الشمولية؟

أو بحث مقاصد الشريعة، وما هو مقدار اعتباره؟

وكذلك الأمر بالنسبة إلى مباحث من قبيل: علل الشرائع، وتنقيح المناط، وإلغاء الخصوصية.

وعليه لا بُدَّ من ذكر أمثال هذه الأمور وبحثها في الأصول.

وعليه لا شَكَّ في وجود ثغرات في علم الأصول، كما هو الحال في رداءة تنسيقه. وإن رداءة هذا التنسيق ينعكس بدوره على فهم مسائله أيضاً. فلو أن الأصولي علم أن مسائل من قبيل: اجتماع الضدّين، واجتماع الأمر والنهي، أو مسألة الترتُّب، أو مسألة الضدّ، هي من المستلزمات العقلية، وليست من المسائل اللفظية، لما استدلّ بالأدلة اللفظية أبداً؛ إذ قد عمد البعض في هذه المسائل إلى الاستدلال بالأدلة اللفظية، في حين يجب بحث هذه الموارد في المسائل العقلية، لا في المسائل اللفظية.

_ كما تعلمون فإن صاحب كتاب «الوافية» هو أوّل مَنْ قسّم مباحث الأصول إلى قسمين: القسم العقلي؛ والقسم النقلي. ثمّ جاء الشيخ بعده ليضع مبنى آخر لتقسيم مباحث الأصول. وبعبارةٍ أوضح: لقد عمد الشيخ إلى تقسيم مباحث الأصول على أساس معرفي. بَيْدَ أن السؤال هنا: لماذا لم يتمّ قبول هذا المسار من قبل كبار العلماء؟ كيف حدث أن لم يتمّ القبول بالمسار الذي رسمه صاحب «الوافية» أيضاً؛ فإنه كان شخصية مرموقة في عصره، وكان الآخرون ينظرون إلى آرائه بإعجاب، على الرغم من قلّة مؤلَّفاته، وكتاب «الوافية» رغم صغره، إلاّ أنه للإنصاف دقيق وجامع؟ وبطبيعة الحال فإنّ أشخاصاً من أمثال: الشهيد الصدر والشيخ المظفَّر كان لهما رؤيةٌ جديدة في ما يتعلق بهذه الزاوية.

^ مكارم الشيرازي: لقد كان كبار علماء الأصول يولون الأهمِّية الأكبر للمفردات. فعلى سبيل المثال: إنهم كانوا يعملون على تنقيح الاستصحاب بشكلٍ جيد. ولكن أين تكمن مكانة هذا الاستصحاب؟

أو أنهم كانوا يبحثون بشأن خبر الواحد من جميع الزوايا. ولكنْ أين هو مكمن تطبيقات خبر الواحد ومكانته؟

وهذا الأمر لم يأخذ قسطه من الاهتمام.

_ كما يقول المعاصرون: إن للعلم خصيصة تنظيمية، وإن الترتيب يعتبر من خصائص العلم. وعليه عندما تنتظم مجموعة من المعلومات ستكوّن لنا علماً ومجالاً معرفياً.

^ مكارم الشيرازي: أجل؛ لأن المسائل الأصولية قد ظهرت واحدة بعد أخرى. وبعبارةٍ أخرى: لقد انتبه الأصوليون مرّة إلى خبر الواحد، وفي يوم آخر التفتوا إلى مسألة الضدّ، وهكذا تطوَّرت الأمور حتّى اجتمعت هذه المسائل لتنتظم في علم الأصول.

_ في المجموع كان المسار إيجابياً، ولكننا لا نعلم لماذا لم يتمّ تظهير هذا المسار؟ وكما تعلمون فقد كان الشيخ المفيد هو أوّل مَنْ طرح هذا الموضوع في الحدود التي يمكن للعقل فيها أن يفهم النقل. والمعروف من صاحب كتاب «السرائر» أنه منح العقل مكانةً مستقلة، ولكنه وضع تلك المكانة في طول النقل، وقال: لا يمكن الرجوع إلى العقل إلاّ بعد غياب الكتاب والسنّة. ثمّ تلاه أشخاصٌ مثل: الشهيد في القواعد، حيث أدخل في الأصول مسائل من قبيل: الاجتماع والضدّ وما إليهما؛ لتتّسع دائرة المباحث العقلية بالتدريج، ولكنها لم تكن منسجمة أو منضبطة أو مرتّبة. ولذلك لا نستطيح تحديد النسبة المئوية الدقيقة لمباحث أصولنا العقلية، وما هي النسبة المئوية لما هو غير عقلي منها؟

وفي الختام أتمنّى أن نستفيد من نصائحكم في ما يتعلّق بمجال العلوم القرآنية والتفسير، وتوسيع رقعة هذه الأبحاث في الحوزة العلمية؛ إذ نرى أن مبادرتكم إلى إقامة مركز تفسير وعلوم القرآن تستحقّ التقدير، حيث قدّم هذا المركز الكثير من الخدمات الجليلة للحوزة العلمية. فهل هناك ما تضيفونه من النصائح للحوزة العلمية والفضلاء والمؤسسات العلمية والدراسات القرآنية، فننتفع بها؟

^ مكارم الشيرازي: لقد عانى التفسير من التهميش في الحوزة العلمية لفترات طويلة، ولكننا لحُسْن الحظ بدأنا نشهد له مؤخَّراً عودة تدريجية؛ ليأخذ مكانته في صلب الحوزة العلمية. ولذلك لا بُدَّ من العمل بجدِّية على التفسير الموضوعي والترتيبي وأمثالهما.

ومن الأمور الملفتة والغريبة أنني عندما أقرأ القرآن أصادف آيات تصلح أن تكون دليلاً متيناً على بعض الأحكام الفقهية، بَيْدَ أنه لم يتمّ الاستدلال بها.

ففي ما يتعلّق بالمفسِد في الأرض لم يتمّ البحث في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً﴾ (المائدة: 33)، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآيات الأخيرة من سورة الأحزاب: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً﴾ (الأحزاب: 60 ـ 61)، حيث يمكن أن تشكِّل دليلاً جيداً لبيان حكم المفسِد، ودائرتها أوسع من دائرة الآية الأولى، وهناك الكثير من نظائر هذه الآيات.

_ هل تتّفق مع القول بتحديد آيات الأحكام بـ 500 آية، وأنه بحذف المتكرِّر منها لا يبقى عندنا منها سوى 150 آية؟

^ مكارم الشيرازي: كلا، هذا الكلام غير صحيح.

_ عندما كانوا يعملون على تدوين المعجم الفقهي، تحت إشراف السيد الكلبايكاني، ذهبتُ لتفقُّد مسار العمل هناك، فقيل لي: إن مجموع الآيات التي تمّ استخراجها من الكتب الفقهية التي اعتمد عليها الفقهاء في استدلالهم قد بلغت 1200 آية. ومع ذلك أرى أن هذا العدد لا يمكن أن يكون كاملاً. ولذلك أقترح أن يتمّ التصدّي لمشروعٍ يهدف إلى تحقيق هذه الغاية، ويتمّ تأليف موسوعة تشمل جميع آيات الأحكام، تحت إشرافكم.

^ مكارم الشيرازي: لقد تمّ البدء بهذا العمل بالفعل.

_ يجب في هذا المشروع تبويب وتصنيف جميع الآيات التي تدلّ بالدلالات الثلاثة، وبمختلف الأشكال، والقيام بمشروع جديد في هذا الشأن. ربما كان هذا التعبير ينطوي على شيءٍ من إساءة الأدب، ولكنْ علينا القول: إن الاجتهاد والأعمال العلمية عندنا أصبحت هي الأخرى تقليدية أيضاً، بمعنى أن المتقدِّمين قاموا ببحث بعض المسائل وصنَّفوا فيها، ثم أخذ المتأخِّرون باجترار ما قام به الأوّلون، وها نحن اليوم نشهد اجتراراً للأعمال السابقة، ولا تتعدّاها.

^ مكارم الشيرازي: يجب القول: إن البعض طلب منّا المساعدة في القيام بمثل هذا المشروع. وبطبيعة الحال فإن هؤلاء من الأفراد الذين يتمتّعون بالكفاءة في هذا المجال. وعلى الرغم من مشاغلي التي لا تسمح لي بالقيام بأيّ نشاط آخر فقد استجبتُ لطلبهم. وسوف يتمّ إصدار مجموعة آيات الأحكام المقارنة بشكلٍ كامل، إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الآخر الذي يجب عليَّ قوله هو أن ابتعادنا عن القرآن دفع بالبعض منا أحياناً إلى ذكر الآيات في كتبنا العلمية من باب الخطأ، حيث يتمّ الاستدلال بها للوصول إلى نتائج علميّة.

ومن ذلك ـ مثلاً ـ: قوله تعالى: ﴿…فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا...﴾ (النساء: 43)، حيث فهم منها البعض الشرطية، في حين أن الآية لا تقول: «فإنْ لم تجدوا ماءً؛ وإنما قالت: «فلم تجدوا ماءً»، ومع ذلك فهم البعض الشرطية منها، ونقل ذلك في المناهج الدراسية، مستفيداً من مفهومها. وبعبارةٍ أخرى: استفاد الشرطية من مفهوم «إنْ» الشرطية، مع أن الآية لا تشتمل على شيءٍ من ذلك أبداً. أسأل الله أن يوفِّقكم في أعمالكم.

_ لقد استفدنا كثيراً. وسوف ندعو لكم، ونرجو منكم الدعاء لنا في المقابل، ونسألكم عدم حرماننا من نصائحكم القيِّمة.

^ مكارم الشيرازي: أنتم موفَّقون بحمد الله، وأسأل الله أن يزيد من توفيقاتكم.

(*) أحد مراجع التقليد في إيران، ومفسِّرٌ بارز ومعروف. لديه كتاباتٌ ومساهمات ثقافيّة متنوِّعة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً