أحدث المقالات

تقييمٌ نقديّ لموقع الفقيه المعرفي

د. علي پايا(*)

ترجمة: حسن علي مطر

1ـ المقدّمة

لقد قدّم الفارابي (260 ـ 339هـ) في كتاب (إحصاء العلوم) أول تبويب للعلوم في عصره، حيث قام بتبويب العلوم التي كانت معروفة في عصره ضمن خمسة فصول (وثمانية علوم). وهذه الفصول الخمسة (والعلوم الثمانية) عبارة عن:

علم اللسان

حيث يشتمل على علم الألفاظ، وقواعد الإملاء الصحيح، وقواعد القراءة الصحيحة، وقوانين تصحيح الشعر.

علم المنطق

العلوم التمهيدية، وهي تشتمل على: علم الحساب، وعلم الهندسة، وعلم المناظر (البصريات)، وعلم النجوم التعليمي (علم الأفلاك)، وعلم الأثقال، وعلم الحيل.

العلم الطبيعي والعلم الإلهي

العلوم المدنية، وهي تشتمل على: علم الأخلاق، والسياسة، والفقه، والكلام.

وقد استعمل الفارابي لعلم الفقه مصطلح «الصناعة». وقد أوضح بشكلٍ دقيق يستحقّ التقدير قائلاً: «صناعة الفقه هي التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرّح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صرّح بها بالتحديد والتقدير»([1]).

بَيْدَ أن الذين ترجموا هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية لم يلتفتوا إلى هذه النقطة الدقيقة التي أرادها الفارابي، حيث ترجموا مصطلح «الصناعة» إلى «العلم» أو «المعرفة». ومن بين هؤلاء، على سبيل المثال: (حسين خديو جم)، الذي ترجم النصّ الكامل لكتاب «إحصاء العلوم» إلى اللغة الفارسية، وقد ترجم العبارة المتقدّمة بالقول: «صناعت فقه دانشي است…»([2]).

وقام كاتبٌ آخر بتلخيص النصّ السابق قائلاً: «ثم تعرّض [الفارابي] إلى علم الفقه، واعتبر أنه يعني علم استنباط الأحكام الشرعية المجهولة من الأحكام المصرَّح بها، أو العلم الذي يمكن فيه الوصول إلى الأحكام الفرعية وغير المصرَّح بها من خلال الأحكام المعروفة والمصرَّح بها»([3]).

والملفت أكثر أن الشرّاح العرب لكتاب «إحصاء العلوم» قد فسّروا كلمة «الصناعة» بالعلم أيضاً. فإن الدكتور (عثمان أمين) ـ على سبيل المثال ـ، الذي أصدر طبعة منقحة لهذا الكتاب في القاهرة سنة 1948م، يقول في معرض شرحه لمفردة «الصناعة» ما معناه: «إن المتقدمين كانوا يستعملون لفظ (الصناعة) في معنىً أوسع من الذي نستعمله فيه حالياً»([4]). ثم ذكر التعريف التالي عن العالم الهنديّ في القرن الثاني عشر الهجري، وصاحب كتاب كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم (محمد علي التهانوي): «الصناعة في عرف العامّة هي العلم الحاصل بمزاولة العمل، كالخياطة والحياكة والحجامة ونحوها، ممّا يتوقّف حصولها على المزاولة والممارسة. ثم الصناعة في عرف الخاصة هي العلم المتعلّق بكيفية العمل، ويكون المقصود منه ذلك العمل سواء حصل بمزاولة العمل، كالخياطة ونحوها؛ أو لا، كعلم الفقه والمنطق والنحو والحكمة العملية ونحوها ممّا لا حاجة فيه لحصوله إلى مزاولة الأعمال. وقد يُقال: كلّ علم مارسه الرجل حتّى صار كالحرفة له يسمّى صناعةً له… وقال أبو القاسم في حاشية المطوّل: الصناعة اسمٌ للعلم الحاصل من التمرّن على العمل. وقد تفسّر بمَلَكة يقتدر بها على استعمال موضوعاتٍ ما لغرضٍ من الأغراض صادراً عن البصيرة بحَسَب الإمكان. والمراد بالموضوعات آلات يتصرَّف بها، سواء كانت خارجية، كما في الخياطة؛ أو ذهنية، كما في الاستدلال. وإطلاقها على هذا المعنى شائع وإطلاقها على مطلق مَلَكة الإدراك لا بأس به. وقيل: الصناعة مَلَكة نفسانية تصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير رويّة»([5]).

ثم قام عثمان أمين بنقل كلام ابن سينا في رسالة النجاة وأقسام العلوم العقلية، وقال: «إن العلم الطبيعي صناعة نظرية. ولكل صناعة نظرية هناك موضوع من الأمور الوجودية أو الوَهْمية ينظر هذا العلم فيه وفي لواحقه([6]). كما قال ابن سينا: إن الحكمة صناعة نظرية يستخدمها الإنسان في تحصيل ذلك الشيء… [الذي يؤدّي إلى] الكمال، ويتحوّل المرء من خلاله إلى عالم عقلي مشابه للعالم الموجود، ويصل في نهاية المطاف إلى السعادة المنشودة، كلّ ذلك بحَسَب وسع الإنسان»([7]).

كما أن الغزالي، في الجزء الأول من «إحياء علوم الدين» الخاصّ بالعلم، قام بعد تقسيم العلوم إلى: فرض أو واجب عيني؛ وفرض (أو واجب) كفائي، وبعد تقسيم العلوم بتقسيم آخر إلى: علوم شرعية؛ وعلوم غير شرعية، قام بتقسيم العلوم غير الشرعية إلى: علوم محمودة؛ وعلوم مذمومة؛ وعلوم مباحة. وقسّم العلوم الشرعية إلى قسمين: علوم محمودة؛ وعلوم مذمومة([8]). ثم قال إن العلوم الشرعية المحمودة تنقسم إلى أربعة أقسام، وهي: الأصول، والفروع، والمقدّمات، والمتمّمات. ثم استطرد في توضيح «الفروع» فقال: «الضرب الثاني: الفروع: وهو ما فُهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها، بل بمعانٍ تنبّه لها العقول، فاتّسع بسببها الفهم، حتّى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره… وهذا على ضربين: أحدهما: يتعلق بمصالح الدنيا، ويحويه كتب الفقه، والمتكفّل به الفقهاء، وهم علماء الدنيا؛ والثاني: ما يتعلق بمصالح الآخرة، وهو علم أحوال القلب، وأخلاقه المحمودة والمذمومة…»([9]).

ثم قال في توضيح دنيوية علم الفقه، في إطار سؤالٍ وجواب افتراضي على النحو التالي: «فإنْ قلتَ: لِمَ ألحقت الفقه بعلم الدنيا، وألحقت الفقهاء بعلماء الدنيا؟ فاعلم أن الله عزَّ وجلَّ… وخلق الدنيا زاداً للمعاد؛ ليتناول منها ما يصلح للتزوّد، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطّل الفقهاء… ولعمري إنه [الفقه] متعلّق أيضاً بالدين، ولكنْ لا بنفسه، بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتمّ الدين إلاّ بالدنيا»([10]).

إن الأمثلة المتقدّمة تثبت أن العلماء المسلمين كانوا على درايةٍ بأن علم الفقه لا ينتمي إلى العلوم النظرية. ومع ذلك يبدو أن أهمّية هذه المسألة ـ على الرغم من تأكيد الفلاسفة والمتكلِّمين والمفسِّرين والعرفاء المسلمين على دَوْر الاتجاهات غير الفقهية في فهم رسالة الإسلام الأصلية ـ لم تكن واضحةً بالنسبة إلى الكثير من الفقهاء (وغير الفقهاء أحياناً). ويبدو أن هذا الأمر (بوصفه عنصراً إلى جانب العناصر الأخرى التي هي بشكلٍ عام غير معرفية، خلافاً لهذا العنصر) قد أسهم ـ إلى حدٍّ ما ـ في منح الفقه دَوْراً محورياً في البيئة الحياتية للثقافة التقليدية لعالم الإسلام. وإن أحد نتائج تطوّر الفقه الشامل هو ضيق المساحة على النموّ المتناسق للفروع والمساحات المعرفية في الثقافة الإسلامية.

وحيث تمّ إلى حدٍّ ما تناول النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى تنامي الفقه الشامل في البيئة الحياتية للثقافة التقليدية في العالم الإسلامي([11])، فإننا في هذه المقالة نتناول مجرّد النواحي المرتبطة بالمعرفة الخاطئة التي تحقّقت في خصوص تحديد موقع الفقه فقط.

وفي ما يلي سوف نعمل أوّلاً على بيان الاختلاف بين العلم والتكنولوجيا باختصارٍ. وسوف نوضّح أن الفقه يرتبط بالتكنولوجيا، دون العلم. ثم سنعمل بعد ذلك على إيضاحٍ بشأن الخصائص الرئيسة للهندسة بوصفها واحدة من الفروع الرئيسة للتكنولوجيا. ثم نخوض باختصارٍ في بيان أن ما يُطلق عليه مصطلح «العلوم التطبيقية» لا يتعلّق بالعلم، وإنما هو يُمثّل نوعاً من التكنولوجيا.

وأما القسم الرابع من هذه المقالة فيختصّ ببيان خصائص الفقه، وإيضاح أن الفقه ليس «علماً»، كما يتصور أكثر الفقهاء؛ كما أنه ليس «علماً تطبيقياً»، كما يذكر أحياناً في بعض تبويبات العلوم، بل إن الفقه بين الفروع التكنولوجية أقرب إلى الهندسة.

وفي القسم الأخير من المقالة سوف نشير إلى بعض نتائج وتَبِعات تصحيح الموقع والمكانة المعرفية للفقه.

 

2ـ علم (المعرفة) والتكنولوجيا([12])

إن كلاًّ من العلم (المعرفة) والتكنولوجيا هما من صنع البشر، ولكنْ على الرغم من الارتباط الوثيق بينهما، هناك الكثير من الاختلافات الجوهرية بينهما. وإن عدم الالتفات إلى هذه الاختلافات من شأنه أن يؤدّي إلى الكثير من الأخطاء المعرفية والنظرية. إن العلم (المعرفة) يلبي الاحتياجات المعرفية للبشر؛ وأما التكنولوجيات فهي بجميع أنحائها تشتمل على آليتين رئيستين. وهناك من التكنولوجيات ما يلبي الاحتياجات غير المعرفية للبشر، ومن بين هذه التكنولوجيات: الأحذية، والسيارات، والطعام، ومباراة كرة القدم، وما إلى ذلك. وهناك عددٌ آخر من الأمور التي تمثِّل دَوْر الأدوات في الكفاح المعرفي، رغم أنها لا تُعَدّ من المعارف أبداً، ومن هذه الأمور: النظارات، والكتب، والتلسكوب، والحاسوب، وما إلى ذلك. وهناك من التكنولوجيات ما يقوم بكلا الوظيفتين معاً، من قبيل: الهواتف النقّالة ذات الوظائف المتعدّدة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى وسائل الإعلام، كالمذياع والتلفزيون أيضاً.

يتمّ عرض العلم (المعرفة) على الدوام في إطار القضايا الظنّية التي عملنا على بلورتها بشأن الواقعية. وإن الصفة الظنّية ستبقى مع الادّعاءات العلمية (المعرفية) على الدوام. إن الظنون تأتي لنا بالمعرفة على صورتين، وهما: الصورة السلبية؛ والصورة الإيجابية. والمعرفة السلبية تمثِّل جميع تلك الظنون الواردة بشأن الواقعية، والتي يتم إبطالها عند مواجهة الواقع. إن هذه المجموعة من القضايا ترشدنا إلى كيفية عدم الواقعية. فنحن الآن ـ على سبيل المثال ـ نعلم أن الأرض لا تقع في مركز المنظومة الشمسية، وأن الـ «آل» ليس هو السبب في شعور الحبلى بالمخاض، وأن الصواعق ـ خلافاً لتصور الإغريقيين ـ ليست ناجمةً عن غضب الآلهات المقيمة في جبل الألب. وأما المعرفة الإيجابية فهي جميع تلك الظنون بشأن الواقعية، والتي لم يتمّ إبطالها، رغم جميع الجهود المبذولة لإبطالها. إن هذه المجموعة من الظنون ما دام لم يتمّ إبطالها، أو لم تحلّ محلّها ظنون أكثر شمولاً وبياناً منها، فإنها تقدِّم لنا معرفة بشأن الواقعية على نحو مؤقّت. ومن ذلك مثلاً أننا نتصوّر طبقاً لأفضل الظنون العلمية الراهنة أن تواصل الزمان ـ المكان هو كما تقتضيه النظرية النسبية، وأن الجينات الوراثية هي العامل في نقل الصفات الوراثية عبر الأجيال، وهكذا.

إن الغاية النهائية لجميع الجهود المعرفية هي الوصول إلى صورة حقيقية عن الواقع. وإن الصدق أو الحقيقة عبارةٌ عن تطابق الدعاوى المعرفية مع الواقعية. وأما الغاية من الجهود التكنولوجية فهي تلبية حاجة المستخدمين، ومن هنا فإنها تكون ذات طبيعة عملية.

وإن الدعاوى المعرفية ذات شأنية كلّية وعامة؛ فالعلم لا يتعلَّق بالجزئيات، وإن كلية الادّعاءات العلمية تعني أنها تحتوي على اعتبارٍ واحد في الظروف والمناخات المتنوّعة؛ في حين أن التكنولوجيات تبدي حساسية تجاه الظروف والمناخات، فلا يمكن استخدام التكنولوجيات المصنوعة لظرفٍ وبيئة خاصة في ظروف وبيئات أخرى، دون العمل على إجراء بعض التغييرات عليها. فالثياب التي تقي الناس من حرارة الطقس في القارة الأفريقية لا يمكن أن تكون مناسبةً لوقايتهم من البرد في القطب الشمالي، أو أن تكون ملائمةً للأجواء على سطح القمر.

إن هذه الأمور هي من الادّعاءات المعرفية، بمعنى أن بالإمكان الحصول عليها وتقييمها ونقدها على المستوى العام([13]). ولا تعني عينية الادعاءات المعرفية شيئاً غير ذلك، رغم أن الأشخاص في أذهانهم وضمائرهم (والتي هي طبقاً للمصطلح الذي يبينه أصحاب النزعة العقلية جانبٌ من الواقعية، التي تسمى بـ «العالم 2») يمكنهم أن يحظَوْا بـ «المعرفة» بشأن الواقعية، ولكنْ حيث إن هذه المعرفة لا هي ممكنة الوصول أو النقد في البيئة العامة، ولا يمكن إبداء النظر بشأن صدقها أو كذبها، فإن بارقات البصيرة والشهود وسطوع الإلهام ونظائر ذلك تتعلّق كلها بـ «العالم 2»، ولا تُعَدّ من المعرفة (العلم). إن هذا النوع من الأمور يدخل ضمن التجارب الشخصية، وإن التجارب الشخصية بأجمعها من سنخ الأمور الوجودية، بمعنى أنها تنتمي إلى مقولة مختلفة عن مقولة المعرفة. ولا تدخل هذه التجارب في دائرة الادّعاءات المعرفية إلاّ إذا تمَّتْ إعادة صياغتها في إطار اللغة والمفاهيم. وهذه النقطة تصدق بعينها في مورد ما يُسمّى بـ «العلم الحضوري» أيضاً. إن «العلم الحضوري» في الأساس ليس علماً، وإنما هو تجربة وجودية. كما أن إعادة صياغته وإصلاحه في إطار اللغة والمفاهيم بطبيعة الحال لا يمثِّل «عين» التجربة في بيئتها الأصلية.

إن التجارب الشخصية، التي هي حصيلة مواجهة الشخص مع المسائل الأصيلة ـ كما يوضّح أصحاب النزعة العقلية ـ، ضرورية لتطوُّر المعرفة. إن هذا النوع من التجارب سوف يساعد على إثراء (العالم 2) للشخص، وإن هذا العالم 2 الذي تمّ إثراؤه سوف يقع في مظانّ تقديم الظنون الدقيقة بوصفها حلاًّ للمسائل المعنية، وإن هذه الحلول بعد دخولها في البيئة العامة (العالم 3) يمكن تخزينها في القَبْو المعرفي للبشر بوصفها معرفةً سلبية أو إيجابية([14]). وفي غياب التجربة أو التجارب الشخصية سوف تتوقَّف المعرفة عن التطوّر.

وعلى الرغم من أن جميع المفكِّرين يتمتّعون بجذورٍ لغوية وثقافية وأخلاقية خاصة، وينتمون إلى أعراف وتواريخ معيّنة، إلاّ أنهم في سعيهم إلى تقديم صورة حقيقية عن الواقعية يجهدون إلى التقليل من تأثير هذا النوع من الخلفيات الفكرية وغيرها من الأحكام المسبقة والعصبيات والاتجاهات الفكرية من الظنون، التي تحاول الإمساك بنواحٍ معيّنة من الواقعية التي يواجهون من خلالها عنوان «المسألة». وهذا الأمر إنما يغدو ممكناً من خلال الحوار النقدي مع الآخرين ضمن الدائرة العامة. والعلم بهذا الاعتبار يسعى إلى التجرُّد من تأثير القِيَم([15]).

وفي الوقت الذي يعتبر فيه التجرّد من تأثير القِيَم أمراً ضرورياً بالنسبة إلى العلم، فإن التكنولوجيات كلما كانت أكثر تناغماً مع الأذواق والأمزجة والقِيَم المنشودة للمستخدمين كان الإقبال عليها أكبر.

إن المساعي التكنولوجية تتذلّل بمساعدة ما يُسمّى بالمهارة الشخصية، و«المعرفة الضمنية»([16]). إن هذا النوع من المهارات إنما يقبل الانتقال إلى المساحة العامة إلى حدٍّ ما. فعلى سبيل المثال: يمكن عرض فنون الطبخ والسباحة والقيادة وما إلى ذلك ضمن كتب تعليمية للراغبين، ومع ذلك تبقى هناك آلاف الجزئيات الدقيقة الكامنة في هذه الفنون التي لا يمكن للأفراد أن يتوصّلوا إليها إلاّ من خلال الممارسة الطويلة. وحتّى في هذا الشأن نجد هناك اختلافاً بين الناس من شخصٍ لآخر؛ فهناك مَنْ هو أفضل من غيره في هذا المجال؛ حيث يظهر من نفسه كفاءةً تقدّمه على الآخرين في هذه الفنون.

إن العلم (المعرفة) ـ كما سبق أن أشرنا ـ تنتشر وتتطوّر على نحوٍ متراكم. إن التجارب والحلول والنظريات تبقى محفوظةً في العالم 3 (في حدود ما يمكن للبشر فعله)، وتقع مورداً لاستفادة الأجيال القادمة. وإن المهارات التكنولوجية، وكذلك المنعطفات التي يتمّ توظيفها في مجمل العمل وإبداع الأجهزة والأنظمة، لا تتمتَّع بمثل هذه الخصائص بشكلٍ عام. وبعد ظهور التكنولوجيات الحديثة، وخروج التكنولوجيات القديمة عن التداول والاستعمال، فإن المهارات المرتبطة بتوظيفها لا تنتقل إلى الأجيال اللاحقة. وحيث إن هذه المهارات إنما تكون في حوزة الأشخاص، ولا تقبل الانتقال إلى العالم 3، فإنها تموت بموت الأشخاص الذين يحملونها([17]).

إن معيار التطوّر في العلم (المعرفة) يكمن في الاقتراب أكثر من الواقع. وأما في التكنولوجيا فإن المعيار في التطوّر يكمن في النجاح في حلّ المسائل العملية، فكلما كان الإنتاج في هذا الشأن أكبر كانت التكنولوجيا المنشودة أكثر «تطوّراً». وبطبيعة الحال لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنه كما أن الحكم النهائي في العلم (المعرفة) للحكم بشأن الادّعاءات المعرفية هي الواقعية نفسها، كذلك الأمر في التكنولوجيا أيضاً، فإنه على الرغم من أن المطلوب في بادئ الأمر هو الملاحظات العملية، إلاّ أن النجاح في إحراز هذه الملاحظات يستند بدَوْره في نهاية المطاف إلى الرضوخ والانصياع إلى الضوابط التي تفرضها الواقعية. إن الجسر أو الطائرة أو الحاسوب الذي لا يتطابق مع الشرائط الواقعية لا يمكنه أن يقدِّم الخدمة المنشودة للمستخدم. وقد أوضح الفلاسفة الناقدين من أصحاب النزعة العقلية بأن المعيار النهائي للصدق التطابقي يُعَدّ معياراً أصلياً لمقبولية اتجاهات الصدق الأخرى (ومن بينها: الاتجاهات البراغماتية)([18]).

إن التكنولوجيات ـ خلافاً لمدّعى الفلاسفة، من أمثال: (هايدغر) ـ فاقدة للذات. وإن هذه الآليات هي التي تميِّز التكنولوجيات المختلفة من بعضها. إن الآليات متناسبةٌ مع حاجات المستخدمين، وتعمل على تلبية تلك الحاجات. إن آلية ماكينة غسل الثياب تختلف عن آلية جهاز التلفزيون. يمكن للمستخدمين بحَسَب حاجتهم (وفي حدود الظرفيات المتوفّرة في التكنولوجيات) أن يحدثوا تغييراً في آلياتها، وأن يعملوا على إلغاء بعضها، وإضافة بعض الآليات الأخرى إليها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن السيارات الحديثة بالقياس إلى السيارات القديمة تحتوي على آليات جديدة، من قبيل: كيس الهواء، وأنظمة فتح الزجاج تلقائياً، بالإضافة إلى حزام الأمان، وما إلى ذلك من الآليات الأخرى. كما يمكن للمستخدمين من خلال ابتكاراتهم الخاصة والشخصية أن يضيفوا آليات جديدة إلى التكنولوجيات، لم تكن مأخوذةً بنظر اعتبار المصمّمين الأوائل، أو كان يتمّ الإسناد إليها بشكلٍ متعارف. والمثالان الجديران بالملاحظة في هذا الشأن (وهما بطبيعة الحال غَيْضٌ من فَيْض؛ إذ في كلّ لحظةٍ نشهد في مختلف نقاط العالم مستخدمين يعملون باستمرارٍ على «تنظيم وإصلاح» في التكنولوجيات الموجودة لرفع حاجاتهم العاجلة)، هما:

أوّلاً: الإبداع الذي قام به جنديّان يمنيان في استخدام بندقية كلاشينكوف الرشاشة الروسية لنقل الكهرباء من بطارية حافلةٍ إلى بطارية حافلةٍ أخرى، وتشغيل الحافلة الثانية بهذه الطريقة.

وثانياً: الإبداع الذي قام به شخصٌ برازيلي يعمل ميكانيكياً، حيث قام بتحويل قنينة ماءٍ بلاستيكية إلى مصباحٍ بقوّة تبلغ حوالي 50 فولتاً، اعتماداً على الطاقة الشمسية.

إن آلية التكنولوجيات سوف لن تكون قابلةً للاستخدام إلاّ بالنسبة لأولئك الذين ينظرون في العالم المفهومي إلى تلك الآليات التي يساهم المبدعون في تصميمها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن جهاز الهاتف النقّال الذكي الذي يحتوي على إمكانات متنوّعة ومتعددة، من قبيل: إرسال الرسائل، وعرض المقاطع التصويرية، والحصول على المعلومات من شبكة الإنترنت، وتتبع المواقع والأماكن عبر تقنية الـ (G.B.S)، وما إلى ذلك من التقنيات الأخرى، أقلّ آلية بالنسبة إلى الشخص الهَمَجي الذي يستوطن في غابات الأمازون، والذي لم يشاهد مثل هذا الجهاز في حياته، حيث لا يتوفّر على تلك الظرفيات التي يمكن للمستخدم المتحضِّر أن يستفيد منها.

إن معرفة الواقعية رهنٌ بمعرفة القوانين الجَذْرية الحاكمة عليها. إن القوانين الحاكمة على الظواهر الجزئية (الأعمّ من الظواهر الطبيعية وتلك التي يصنعها الإنسان) تُسمّى بقوانين الظواهر، أو التكنولوجيا. إن هذا النوع من القوانين (مع بعض الملاحظات) يمكن استنتاجه من القوانين الأصولية([19]).

الهندسة([20])

إن الهندسة بجميع ما تشتمل عليه من الفروع المتنوّعة إنما تتعلَّق بدائرة التكنولوجيا الواسعة. بَيْدَ أن الهندسة تختلف عن سائر التكنولوجيات الأخرى، من قبيل: علم الحسابات، وإدارة الفنادق، وقيادة الحافلات، وإدارة المدن، والمخابز، والمتاجر، وما إلى ذلك.

كما لا يمكن اعتبار الهندسة و«العلم التطبيقي»([21]) شيئاً واحداً. ولا بُدَّ من توضيح نقطتين في هذا الشأن:

النقطة الأولى: إن «العلم التطبيقي» ـ خلافاً لما قد يُتوهَّم من عنوانه خطأً ـ ليس علماً، وإنما هو نوعٌ من التكنولوجيا؛ فإن العلم لا يتعاطى مع التطبيق، وإنما يتعامل مع المعرفة البَحْتة فقط. إن (كارل ماركس)، الذي كان يقول: «إن الفلاسفة قد فسَّروا العالم بأساليب متنوّعة، إلاّ أن المسألة تكمن في تغييره»، كان قد خلط بين الفلسفة والتكنولوجيا.

إن نظرةً عابرة على تاريخ الفكر تثبت لنا أن المعنى المرتبط بالمفردات الثلاثة، وهي: «التكنولوجيا»؛ و«الهندسة»؛ و«العلم التطبيقي»، قد تعرّض لتغييرات جوهرية على طول التاريخ. وعلى حدّ تعبير (إريك شاتزبرغ): إن «التكنولوجيا مأخوذة من الكلمة الإغريقية «تِخته»([22])، والتي تشتمل مع ما يعادلها في اللغة اللاتينية «آرس»([23]) على أنشطةٍ مختلفة من فنّ الخطابة والبيان إلى النجارة، ومن الطبّ إلى النَّحْت»([24]). إن مصطلح «العلم التطبيقي» ـ كما يبيِّن (روبرت باد) ـ قد وضعه (ساموئيل كالريتش) سنة 1817م كمعادلٍ للعبارة الألمانية المصطلحة من قِبَل (إيمانوئيل كانْت)، وهي: (angewandte Wissenchaft)»([25]). كما أن لمفردة «الهندسة» تاريخٌ حافل بالمنعطفات. إن المصطلح الإنجليزي لـ «علوم الهندسة»([26]) (بوصفه ـ على ما يبدو ـ معادلاً لمصطلح ألماني بهذا المضمون)([27]) قد شاع منذ منتصف القرن التاسع عشر للميلاد. بَيْدَ أنه قد طرأ عليه منذ ذلك الحين الكثير من التغيُّرات([28]).

يذهب (جوزيف آغاسي) إلى الاعتقاد بأن العلم التطبيقي هو ذلك النوع من النشاط العملي الذي يمكن بمساعدته التحقُّق والتقييم العملي لطرحٍ من خلال الاستفادة من الحسابات القائمة على المعلومات الحديثة، والذي يُقام بشأنه ما يُسمّى بـ «الدراسات العملية»([29]). وبعبارةٍ أخرى: إن المتخصّص في «العلم التطبيقي» يعمل على تحديد هذه النقطة عبر السؤال القائل: هل يمكن استنتاج مسألة خاصة بوصفها نتيجة قانونٍ من قوانين علم الظواهر أو التكنولوجيا، ومن خلال الاستفادة من الشرائط الأولية والحدّية، أم لا؟ إن هذا الاستنتاج يحدِّد ما إذا كان باستطاعتنا «بحَسَب القواعد» حلّ المسألة من خلال الاستفادة من القانون المطلوب أم لا. فإذا كانت المسألة «قابلة للحلّ» سيكون تحويل هذا الحلّ «بحَسَب القاعدة» إلى نتيجةٍ واقعية وخارجية من الوظائف والمهامّ التي تقع على عاتق المهندس.

ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن عالماً نظرياً اسمه (جان هيغز) قد تكهَّن في عقد الستينات من القرن العشرين ـ من خلال توظيفه لحساباتٍ نظرية وأمثلةٍ رياضية ـ بوجود ذرّةٍ جَذْرية (عُرفت باسمه؛ حيث أطلق عليها اسم ذرّة «بوزون هيغز»). وقام «العلماء التطبيقيون» ـ الذين هم في الواقع تكنولوجيون أو يُعَدّون من العلماء المتعارفين على حدّ تعبير (توماس كوهين) ـ من خلال إجراء بعض الحسابات بإثبات ما هو نوع المسرِّعات؟ وما هي المعايير المُجْدية لتتبُّع أثر هذه الذرّة على الأرض؟ ولم تتوفّر إمكانية صنع هذا الجهاز المسرّع إلاّ بعد جهود مجموعة من مختلف المهندسين والإلكترونيين، والعاملين في مجال كهرباء الضغط العالي، والكمبيوتر، والاتصالات، وما إلى ذلك، ولم يتحقَّق ذلك إلاّ بعد فترةٍ زمنية طويلة([30]).

إن نشاط المهندس (في الكثير من الموارد) لا يستند إلى اتّباع القواعد، بل هو رهنٌ بالقيام بإبداعاتٍ لرفع المشاكل التي يمكن أن تظهر في كلّ لحظةٍ. وقد تمّ عرض نموذج في هذا الشأن من قِبَل فيلسوفة العلم السيدة (نانسي كارترايت)، حيث أوضحت كيف يمكن لمراحل التخطيط لـ (آمبلي فاير) أن تختلف عن مرحلة الصناعة، بحيث يمكنه تلبية ما يتوقّع منه بنجاحٍ([31]). كان على المهندس أن يجري بعض التعديلات المبتكرة على النموذج المصنوع على أساس الحسابات المستندة إلى القوانين التكنولوجية؛ كي يمكن للجهاز أن يعمل على نحوٍ جيّد.

أما النموذج الآخر الذي يمكن ذكره فهو بناء نصب الأوبيرا في مدينة (سيدني) الأسترالية. عندما قام المصمِّم الدانماركي (يورن أوبرغ أوتزون)([32]) بوضع تصميمٍ لهذا الصرح سنة 1958م كان قد أتمّ حسابات الإمكان المعيارية على أساس قوانين التكنولوجية لهندسة الصروح والمجسّمات. ثم تمّ إنجاز بناء هذا الصرح من قِبَل شركة هندسية تُدعى (سيفل وسيفك)([33]). وقد استغرق بناء هذا الصرح خمسة عشر عاماً. وخلال هذه المدّة اضطرّ المهندسون إلى القيام بآلاف المحاولات الإبداعية لتحقيق هذا المشروع من الناحية العملية، دون أن يَرِدَ أيٌّ منها في الكاتالوج الرئيس لإقامة هذا الصرح([34]).

يتعرّف المهندسون في مرحلة الدراسة على بعض أنحاء العلم النظري المرتبطة بأنشطتهم. ثم يقومون باكتساب ذلك النوع من الكفاءة لحلّ المسألة التي ترتبط بمجالهم الهندسي الخاصّ. وحيث إن جميع المسائل التي يجب على المهندسين الاضطلاع بحلّها هي من النوع العملي فإن «علم ومعرفة» المهندس يختلف عن العلم النظري البَحْت. وإن بعض ما «يعلمه» المهندسون «يمكن استنتاجه» من المعرفة النظرية. إن هذا الاستنتاج ـ كما سبق أن أشَرْنا ـ ليس مباشراً. إن كتب الهندسة زاخرةٌ بهذا النوع من «الاستنتاجات» التي يمكن الاستفادة منها في طرح المنظومات التي تُعَدّ طرق حلٍّ خاصة للمسائل العملية الخاصّة. إن هذا القسم من «علم» الهندسة ينظر إلى المحتوى والمضمون الذي يمكن أن نخلع عليه عنوان «قوانين علم الظواهر أو التكنولوجيا». إن هذه القوانين التي يمكن استنتاجها من القوانين الجَذْرية للعلوم لا تكفي لوحدها في حلّ المسائل التي تواجه المهندسين. إن المهندس الجيِّد هو الذي يتمتَّع بذوقٍ يمكنه من توظيف العلم النظري والمعلومات المتعلِّقة بقوانين علم الظواهر أو التكنولوجيا، بما حصل عليه طوال الزمن من طريق التجربة العملية، بشكلٍ بديع؛ من أجل حلّ المسائل العلمية الناظرة إلى الظروف والخلفيات الخاصّة. وحيث إن عدد الظروف والخلفيات كثيرة ومتنوّعة فإن تطابق جميع المعلومات الهندسية مع الشرائط المتنوّعة ليس بالأمر الممكن على نحوٍ ميكانيكي، وعلى أساس اتّباع القواعد الخاصة.

لقد منح (جيلبرت رايل) هذا النوع من قابليات المهندسين مصطلح «معرفة كيفية القيام بالأعمال»([35])، وجعله في مقابل المعرفة النظرية للعلماء، وهي المعرفة الناظرة إلى «معرفة أسباب الأمور»([36]).  وقد بيَّن (هربرت سايمن) الاختلاف بين العلم النظري والنشاط الهندسي، قائلاً: «في الوقت الذي يتعاطى العلم النظري مع كيفية الأمور، تذهب الهندسة إلى الاهتمام بكيف يجب أن تكون عليه الأمور؟»([37]).

يمكن تعليم كيفية القيام ببعض الأمور (التي يجب عدم خلطها بالعلوم المرتبطة بها) من خلال الاستفادة من بعض الكتب الإرشادية، من قبيل: كتب تعليم الطبخ أو قيادة السيارات أو ما إلى ذلك. ويتمّ قسمٌ منه في إطار العلاقة المباشرة بين الأستاذ والتلميذ، حيث يقوم الأستاذ والمعلِّم بتعليم التلاميذ والطلاب. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: تعليم النغمات والمقامات، أو تعليم كيفية رفع وخفض الأصوات في الغناء، أو تعليم الطريقة الأفضل لصفّ الحجارة في أعمال البناء، ونظائر ذلك. إن جميع الأشخاص ـ سواء أكانوا مهندسين أم غير مهندسين ـ يمتلكون إلى حدٍّ ما هذا النوع من المهارات والقابليات للقيام بهذه الأمور العملية، وإنْ كانت قابليات الأفراد في هذا الشيء ليست على نَسَقْ واحد. إن هذا النوع من المهارات والقابليات على صلة مباشرة بحجم التوافق بين مخّ (ذهن) الفرد وعضلاته الجسدية، وإن هذه المهارات ـ في الوقت نفسه ـ تحصل إلى حدٍّ كبير عبر التعاطي مع المسائل الواقعية. ولكنْ ـ كما سبق أن ذكرنا ـ فإن الاستعدادات والقابليات الفعلية والكامنة بالقوّة (والموجودة في الجينات الوراثية للأفراد) لها تأثيرٌ كبير في هذا الشأن. وفي مجال الهندسة يمكن للمهندس الكفوء أن يعمل على المزاوجة بين استعداده الفطري والمهارة التي حصل عليها من خلال التجربة وما تعلَّمه من الأساتذة من العلوم النظرية؛ ليبسط قابلية لمشاهدة طرق حلّ المسائل العملية في المساحة التي سبق له أن اطّلع عليها ضمن إطارها، حتّى لو واجهها في ظلّ ظروف وخلفيات جديدة.

وقد ذهب مهندس إنجليزي اسمه (جي. إف. سي. روجرز) إلى تعريف الهندسة قائلاً: «إن الهندسة تشير إلى منهجٍ مشتمل على منظومةٍ من التخطيط والصناعة و[استخدام] كلّ نوعٍ مصنوع أو منشأ يعمل على تغيير العالم الفيزيقي المحيط بنا، بحيث يلبّي بعض حاجاتنا المعروفة»([38]).

طبقاً لهذا التعريف تكون المهمّة الرئيسة للمهندس عبارةً عن التنظيم، بمعنى إيجاد وإبداع المشاريع والخطط المنشودة في إطار تلبية مسائل معيّنة (مرحلة التخطيط والبرمجة)، ومسار تبديل الخطط التي تشير إلى المحاصيل والمصنوعات النهائية (مرحلة الصنع)، واستخدام هذه المنتجات في إطار تلبية حاجة الأفراد (مرحلة الاستخدام)([39]).

وهناك من الكتّاب مَنْ استند إلى الاختلاف والتمايز الذي أقامه (توماس كوهين) بين «العلم المتعارف» و«العلم الثوري»([40]) في التفريق بين «التكنولوجيا المتعارفة» و«التخطيط المتعارف» من جهةٍ، وبين «التكنولوجيا الثورية» و«التخطيط الجذري والراديكالي» من جهةٍ أخرى([41]). وكان (توماس كوهين) يرى العلم المتعارف بمنزلة «نشاط لحلّ اللغز»([42])، وكان مراده من ذلك أن العلم المتعارف هو نوعٌ من النشاط «الواقع على السكّة، والآخذ لمساره ومجراه»([43])، والذي يحتوي على حلول لمسائل محدّدة، بالاستناد إلى نماذج معيّنة، وفق منهجٍ مستند إلى قاعدة، وعلى أساس اتباع خطوات محدّدة قد تمّ تعريفها بأجمعها ضمن أمثلةٍ ونماذج معيّنة يتعلّق بها العلم المتعارف([44]). وفي مقابل ذلك «العلم الثوري»، الذي يعود إلى مراحل خاصّة تحدث فيها تحوّلات نظرية جوهرية، كما يحدث التغيير في النماذج الغالبة. يتبيّن من التوضيح المتقدِّم أن العلم ينخفض في اتجاه (توماس كوهين) إلى مستوى التكنولوجيا.

وأما (إدوارد كونستانت) فقد عرَّف «التكنولوجيا المتعارفة» بالقول: «إن التكنولوجيا المتعارفة بمنزلة ما تقوم به بعض المجتمعات التكنولوجية عادةً، بمعنى أنها تشتمل على تحسين العرف التكنولوجي المقبول، أو طرق الحلّ المقدّمة من قبلها، تحت ظروف جديدة أكثر تشدُّداً»([45]).

وقد ذهب (والتر فينسنتي) ـ مستلهماً هذا التعريف ـ إلى العمل على تعريف «التخطيط المتعارف» قائلاً: «إنه ذلك النوع من التخطيط الذي تكون فيه التكنولوجيا المتعارفة مرسومة. وإن المهندس الذي يتعاطى مع هذا النوع من التخطيط يعلم منذ البداية آلية عمل الأجهزة المنشودة، وخصائصها المتعارفة»([46]).

ومن ناحيةٍ أخرى فإن التخطيط والتصميم الجَذْري أو الثوري مختلفٌ تماماً؛ «في التخطيط الثوري تكون آلية عمل الجهاز أو المنظومة المنشودة أو كيف يجب أن تكون؟ مجهولةً إلى حدٍّ كبير؛ فإن المخطِّط لا يتعاطى أبداً مع هذا الجهاز، ولا يتعامل مع تلك المنظومة أبداً… فالمسألةُ بالنسبة إليه عبارة عن التخطيط لشيءٍ يعمل بشكلٍ يضمن التحوُّلات والمتغيِّرات المستقبلية بالمستوى الكافي»([47]).

إن التخطيط المتعارف عبارةٌ عن نشاطٍ تطوّري، حيث تظهر تحسينات على الخطط والحلول الموجودة بأسلوبٍ تدريجي. وإن التحوّلات والمتغيِّرات التدريجية في البيئة تعمل شيئاً فشيئاً على تمهيد الأرضية للمتغيِّرات الدقيقة اللاحقة في طرق الحلّ والأجهزة الموجودة. يجب التأكيد في مجال التخطيط المتعارف والتكنولوجيا المتعارفة، من قبيل: العلم المتعارف، على أن الجزء الأعظم ممّا يتحقّق يومياً يرتبط بدائرة «العلم التطبيقي» التكنولوجي والهندسي. وبعبارةٍ أخرى: «هناك بإزاء كل مهندس مخطط ومبدع هناك آلاف المهندسين المخططين العاديين الذين يعملون على تأليف التكنولوجيات الموجودة، ويخضعون هذه التكنولوجيات المؤلّفة للاختبار، ويعملون على تغييرها إلى حدٍّ ما، ويقومون بتحسين أدائها، حتّى الوصول في نهاية المطاف إلى حلولٍ مرضية ومقبولة في ما يتعلَّق بالمسائل المنشودة»([48]).

الفقه

إن الفقيه مهندسٌ. ويمكن إدراك هذه الحقيقة بشكلٍ أفضل من خلال المقارنة بين وظائف الفقيه والمهندس. وقد عمد السيد محمود الشهابي، في كتابه «قواعد الفقه»، إلى تعريف هذا المجال قائلاً: «لقد تمّ تأسيس وتدوين علم الفقه للبحث في الأحكام التكليفية الخمسة، وهي: الوجوب، والاستحباب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، والأحكام الوضعية، من قبيل: السببية، والشرطية، والمانعية، والصحة والفساد، وما إلى ذلك؛ بلحاظ أن هذه الأحكام من آثار وشؤون وأفعال المكلَّف. وعليه فإن موضوع علم الفقه هو (أفعال المكلَّفين)، حيث يُبْحَث في عوارضها الذاتية، والتي هي (الأحكام التكليفية والوضعية)»([49]).

يمكن من خلال هذا التعريف ـ بغضّ النظر عن مدى دقّته ـ أن ندرك أن المسائل التي يتعاطى الفقيه بشأنها شبيهة بالمسائل التي يتعامل المهندسون معها؛ إذ إنها بأجمعها من سنخ المسائل العملية. يُضاف إلى ذلك أن المقولات التي تحدِّد دائرة نشاط الفقيه، وهي الأحكام التكليفية والشرعية الخمسة، أي الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة) شبيهةٌ بالمقولات التي تحدِّد دائرة نشاط المهندس، وهي: ما الذي يجب عليه فعله؟ وما الذي يجب عليه عدم فعله؟ وما الذي يحسن به فعله؟ وما الذي يحسن به أن لا يفعله؟ وما الذي يكون المهندس فيه مخيَّراً بين فعله وعدم فعله؟ دون أن يُشْكَل عليه أيّاً كان اختياره. ولا بُدَّ من الالتفات إلى أن فتوى الفقيه تجري عليه أيضاً، وعلى هذا الأساس فإن المقولات الخمسة المتقدّمة لا تنظر إلى المقلِّدين فقط.

وإن ما ذكر من الشبه بين الفقيه والمهندس يمكن أن يذكر بالنسبة إلى الشبه بين عمل الطبيب (أو الجرّاح) أيضاً؛ فإن كلاًّ من الفقيه والمهندس والطبيب منشغلون بنشاطٍ عملي ناظرٍ إلى مسائل خاصة. فكل واحد من هؤلاء الثلاثة يمارس «التخطيط المتعارف»، و«البناء»، و«العمل / التطبيق».

وقد تنبَّه المفكِّرون المسلمون قديماً إلى هذه النقطة، وهي أن هناك شبهاً إلى حدٍّ ما بين الفقه والطبّ؛ فإن المقارنة بين الطب الجسماني والطب الروحاني من الأمور المألوفة في كتابات المفكِّرين المسلمين في المرحلة التقليدية. ومن بين هؤلاء ـ على سبيل المثال ـ أبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»؛ إذ قام ـ بعد تعريف علم الفقه بوصفه واحداً من أقسام العلوم الذي يُعَدّ تعلُّمه واجباً كفائياً، كما هو الحال بالنسبة إلى الطبّ ـ بدفع شبهة مقدَّرة بشأن الارتباط بين الفقه والطب، فقال: «فإنْ قلتَ: لِمَ سوّيت بين الفقه والطبّ؛ إذ الطبّ أيضاً يتعلق بالدنيا، وهو صحة الجسد، وذلك يتعلق به أيضاً صلاح الدين، وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين؟! فاعلَمْ أن التسوية غير لازمة، بل بينهما فرقٌ، وإن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه: أحدها: إنه علم شرعي؛ إذ هو مستفادٌ من النبوة، بخلاف الطبّ؛ فإنه ليس من علم الشرع. والثاني: إنه لا يستغني عنه أحدٌ من سالكي طريق الآخرة البتّة، لا الصحيح ولا المريض، وأما الطبّ فلا يحتاج إليه إلاّ المرضى، وهم الأقلّون. والثالث: إن علم الفقه مجاورٌ لعلم طريق الآخرة؛ لأنه نظر في أعمال الجوارح. ومصدرُ أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب، فالمحمودُ من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم. وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب. وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاءٌ في المزاج والأخلاط، وذلك من أوصاف البدن، لا من أوصاف القلب، فمهما أضيف الفقه إلى الطبّ ظهر شرفه، وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضاً شرف علم طريق الآخرة»([50]).

في الوقت الذي يحظى فيه استدلال الغزالي بأهمّية في خصوص تفضيل علم الفقه على علم الطبّ، من حيث تأثيره على ازدهار العلوم والتكنولوجيا في البيئة المعرفية في العالم الإسلامي([51])، فإنه يبين من ناحيةٍ أخرى النسبة القريبة الموجودة بين الفقه والطبّ من وجهة نظر المحقِّقين من المسلمين.

يجب بحث النواحي المعرفية لهيمنة الفقه في الحوزات العلمية بالقياس إلى الفروع الأخرى التي ازدهرت في البيئة المعرفية للعالم الإسلامي في فرصةٍ أخرى أكثر سعةً من هذا المقال. والذي يمكننا قوله هنا: إن المكانة الاجتماعية والسياسية للفقه هي التي حوّلته إلى أكثر المجالات جَذْباً لاهتمام الدارسين في مجال المعارف التقليدية. وكان من نتائج ذلك أن المجالات والفروع الأخرى في دائرة ما يصطلح عليه بـ «العلوم الإسلامية» لم تحصل على الاهتمام الذي يليق بها.

إن الفقهاء ـ شأنهم شأن المهندسين ـ إنما يهتمّون بالمسائل الخاصة التي تعود إلى الحاجات غير المعرفية للأفراد، أو الناظرة إلى تمهيد الأرضية الآلية لتسهيل السعي في مسار تلبية حاجاتهم المعرفية. فإن الفقيه ـ على سبيل المثال ـ يعلم المؤمنين كيفية الوضوء، أو كيفية الصلاة، أو كيفية إقامة شعائر الحجّ، أو كيفية قيامهم بأعمالهم التجارية والمكاسب بما يتطابق مع التعاليم والآداب الشرعية، والكثير من الأمور الأخرى من هذا القبيل. وكلّ هذه الأمور ترتبط بما يُسمّى بـ «المسائل الفقهية» و«القواعد الفقهية»([52]).

إن المسائل والقواعد ـ التي تحظى بالاهتمام في الفقه شبيهةٌ بالمسائل والقواعد التي تحظى بالاهتمام في الهندسة ـ ذات جنبة ظواهرية. إن القواعد الفقهية هي قواعد فينومينولوجية، مثل القواعد الهندسية. وكما أن القوانين الفينومينولوجية أو التكنولوجية في الهندسة يمكن استنتاجها من القوانين الجوهرية في العلوم، فإن القواعد الفقهية يمكن استنتاجها من المصادر الفقهية الأصلية، أي القرآن والسنّة والعقل والإجماع أيضاً.

يتمّ إعداد الفقهاء ـ كما يتمّ إعداد المهندسين ـ في مرحلة الدراسة من أجل اكتساب القدرة اللازمة على حلّ المسائل مورد البحث في مجالهم التربوي. إن الفقيه ـ الذي هو رجلٌ في الأعمّ الأغلب ـ لا يتابع تحقيقاته في مجال الوصول إلى المسائل النظرية ـ المعرفية الجوهرية. فالذي يشغل اهتمامه بالدرجة الأولى هي المسائل العملية. ومع ذلك يتعيَّن على الفقيه إذا أراد الاضطلاع بحلّ المسائل بشكلٍ جيّد أن يكون على إلمامٍ كافٍ بالعلوم النظرية المرتبطة بالموضوعات الخاضعة لاهتمامه.

إن العلوم النظرية في الفقه ـ من قبيل: العلوم ـ ليست لها صبغةٌ تسويغية، بل هي ذات شأن توصيفي. إن الادّعاءات العلمية ـ المعرفية لا تبيِّن شيئاً بشأن كيفية إمكان حلّ مسألة عملية، أو صناعة آلة، أو ترميم جهاز، أو اعتماد منهج وأسلوب، أو إحداث تغيير في الواقعية. بل أقصى ما يمكن استنتاجه هو نوعٌ من التجويز في الدلالة المفهومية لهذه المدّعيات التوصيفية. وإن هذا التجويز هو سلبيٌّ بَحْت، بمعنى أنه يبين حدود ما لا يمكن تجاوزه على أساس الفهم العلمي أو المعرفي القائم([53]).

إن حلّ المسائل العلمية يعني إيجاد التغيير في الحقيقة الخارجية. وإنما يمكن ذلك بواسطة ابتكار وإبداع وقريحة المهندس والفقيه. إن العلم النظري يساعد المهندس أو الفقيه ليقدّم طريقة حلٍّ متطابقة مع القوانين الفينومينولوجية المعروفة، وبذلك يعمل على خفض نسبة الخطأ المحتمل.

ولا بُدَّ من الالتفات إلى أنه في المسائل الهندسية ـ كما هو الحال في المسائل الفقهية ـ يتمّ توظيف المعايير البراغماتية في بادئ الأمر([54])، إلاّ أن هذه المعايير تستند في نهاية المطاف إلى الصدق المقارن، وتحصل على اعتبارها من خلال ذلك.

إن الفقهاء ـ كما هو حال المهندسين ـ يعملون على تطبيق طرق حلولهم على الشرائط التي يعبِّرون عنها بـ «موقعية المسألة»([55])، وتحدّد الظرف والأرضية التي تبرز فيها المسألة، ويتمّ توظيف طرق الحلّ فيها. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الحكم الديني في خصوص الأوقات الشرعية لإقامة الصلاة والصيام في الدول الإسكندنافية يختلف عن الأحكام المشابهة في المناطق القريبة من العرض الجغرافي لشبه الجزيرة العربية.

كما أن تعريف الفقهاء لـ «موقعية المسألة» يؤدّي بدَوْره إلى حدوث اختلافٍ في الحلول المقترحة من قِبَلهم. وإن فتوى (الشيخ بيات الزنجاني) حول جواز شرب الماء للصائم في شهر رمضان (في حالةٍ خاصّة)، ورأي (الشيخ ناصر مكارم الشيرازي) بشأن هذه الفتوى، يمثِّلان مصداقاً لهذا الاختلاف في الحلول المقترحة من قِبَل الفقهاء بشأن المسائل الخاصة؛ بسبب الاختلاف في فهمهم وتعريفهم لـ «موقعية المسألة».

فقد قال (بيات الزنجاني) في فتواه: «استناداً إلى موثَّقة عمار ورواية المفضَّل بن عمر عن الإمام الصادق×، الواردة في الباب 16 من أبواب (مَنْ يصحّ منه الصوم) في وسائل الشيعة، بشأن الذين يصومون ولا يطيقون العطش يمكنهم أن يشربوا من الماء بمقدار رفع العطش، دون أن يبطل صومهم، ولا قضاء عليهم»([56]).

وقال (مكارم الشيرازي) في الردّ على هذه الفتوى، نقلاً عن وكالة مهر، في درس تفسير القرآن الكريم الذي ينعقد في أيّام شهر رمضان المبارك في رواق الإمام الخميني& في حرم السيدة فاطمة المعصومة÷، في كلامٍ له بشأن الفتوى المثيرة للجَدَل بشأن شرب الماء للصائم: «قيل: إن البعض يفتي بأن الصائم إذا لم يكن يتحمّل العطش يمكنه أن يشرب من الماء بمقدار رفع العطش، ويصحّ صومه، دون حاجة إلى قضائه».

ثم علَّق على ذلك قائلاً: «يكفي في مثل هذه الحالة أن يحتضن الصائم كوز الماء، وكلّما أحسّ بالظمأ تناول جرعةً منه لرفع العطش! وعندها يجب أن نتساءل: كيف يمكن للشخص أن يكون صائماً، ومع ذلك يحقّ له أن يشرب الماء؟!…  ثم أضاف قائلاً: إن صاحب هذه الفتوى قد استند إلى روايةٍ هي موضع شكٍّ من ناحية السند والدلالة. وعلى فرض صحّة الحديث ليس هناك من الفقهاء مَنْ يفتي بمثل هذه الفتوى. وإن هذا الكلام مخالفٌ لإجماع فقهاء الإسلام، بل يحتمل أن يكون مخالفاً لضروريٍّ من ضروريات الدين»([57]).

وفي مثالٍ آخر بشأن حساسية فتاوى الفقهاء تجاه الظروف والأرضيات التي يتمّ فيها طرح المسائل يمكن الإشارة إلى الرسالة العملية التي خصّ بها (السيد علي السيستاني) المغتربين، أي الذين يعيشون في البلدان الغربية، وهي رسالة فقه المغتربين، التي تمَّتْ ترجمتها إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (فقه براي غرب نشينان)([58])، وهي تحتوي على إجابات عن الأسئلة المطروحة في ظروف وشرائط البلدان الغربية (وغير الإسلامية) بالنسبة إلى المسلمين.

وفي ما يلي نستعرض مسألتين من هذا الكتاب؛ لتوضيح الاختلاف بين «مسألة الموقعية»:

المسألة رقم (153): إذا كان نقل المسلم الميت إلى بلدان إسلامية يكلّف كثيراً فهل يجوز دفنه بمدافن غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى؟

الجواب: لا يجوز دفن الميت المسلم في مقابر الكفّار، إلاّ مع الانحصار والضرورة.

المسألة رقم (474): بالمدارس البريطانية الرسمية، وربما في غيرها من الدول الغربية، يدرس الطالب ـ فتى وفتاة ـ مادّةً تهتمّ بالتربية الجنسية، يصاحبها شروح مجسّمة للأعضاء التناسلية، فهل يجوز للطالب الشابّ حضور درسٍ كهذا؟ وهل يجب على الوالدين منع الشاب من حضوره إذا رغب الشاب بذلك، مدَّعياً أنه درسٌ نافع له مستقبلاً؟

الجواب: إذا لم يكن حضوره مصحوباً بشيءٍ من المحرَّمات، كالنظر بتلذُّذٍ شهوي، وكان بمنأى من الانحراف الخلقي جرّاء تعلّم هذه المادّة، فلا بأس به.

كما هو الشأن بالنسبة إلى المهندسين لا يتمتّع جميع الفقهاء بدرجةٍ واحدة ومستوى واحد من القدرة على حلّ المسائل العلمية، فهناك بعض الفقهاء يتمتّعون في هذا الشأن بقدرةٍ ذهنية أكبر. إن الاختلافات الدقيقة التي تبدو من خلال الحلول المقترحة من قِبَل الفقهاء تجاه المسائل الواحدة لا تعكس مجرّد القدرة الفردية لكل فقيه في حلّ المسائل فحَسْب، بل إن ذلك يعكس نوع الفهم والتفسير الذي يحمله كلّ فقيهٍ تجاه «مسألة الموقعية» أيضاً.

وقد أشار الشهيد الشيخ مرتضى مطهَّري إلى هذه المسألة قبل سنوات، في مقالةٍ له تحت عنوان: «تأثير جهان بيني فقيه بر فتاوايش»([59])، وذلك إذ يقول: «إن الذي يُجري مقارنة بين فتاوى الفقهاء، ويكون في الوقت نفسه مطَّلعاً على الخلفية الشخصية والثقافية لكلّ واحد من هؤلاء الفقهاء، وطرق تفكيرهم بشأن مسائل الحياة، يدرك كيف يمكن للسوابق الذهنية لهؤلاء الفقهاء، ومدى انفتاحهم على العالم الخارجي، أن تؤثِّر على فتاواهم، ومن هنا تجد فتوى الفقيه العربي ذات نكهة عربية، وفتوى الفقيه الأعجمي ذات نكهة أعجمية، وفتوى ساكن المدينة مدنية، وفتوى القروي قروية»([60]).

والمثال الذي من شأنه أن يوضِّح النقطة التي يرمي إليها الأستاذ مرتضى مطهَّري هو أن نجري مقارنةً بين فتوى العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله (المجتهد اللبناني) وفتوى السيد صادق الشيرازي (المجتهد العراقي) حول شعائر العزاء على الإمام الحسين×؛ فقد ذهب السيد فضل الله إلى الإفتاء بعدم جواز التطبير والضرب بالسلاسل، بينما أفتى السيد صادق الشيرازي بجواز التطبير واستحبابه([61]).

يفرِّق المهندسون بين الاتجاه التحسيني المعروف بطريقة الحلّ (optimisation) وبين مقولة أخرى يُطْلِقون عليه مصطلح (satisficing). والاتجاه الثاني يشير إلى حلول لا تُعَدّ هي الأفضل، ولكنّها مع ذلك مقبولةٌ ومُرْضيةٌ بشكلٍ وآخر([62]). ويمكن لنا أن نشاهد هاتين المقولتين في فتاوى الفقهاء بشكلٍ واضح. إن الفتاوى التي تؤكّد على ضرورة العمل بمضمونها على نحوٍ قاطع تمثِّل الموارد التي توصَّل فيها الفقيه إلى حكم المسألة على نحو القطع واليقين، ويعتبر الفتوى فيها هي المقترح المفضَّل. وأما الفتاوى التي يصدرها تحت عنوان: «الاحتياط الوجوبي» فهي ترمز إلى الموارد التي لا يرى الفقيه أنها الحلّ المثالي والأفضل، وإنما تعبِّر عن مجرَّد رضاه بها. ولهذا السبب نجد الفقاء في ما يتعلق بما يحتاطون فيه على نحو الوجوب يجيزون لمقلِّديهم العمل بفتاوى الفقهاء الآخرين إنْ أرادوا ذلك. إن هذه المرونة العملية تمثِّل عاملاً مساعداً إلى حدٍّ كبير. ومن بين الأمثلة الواقعية على ذلك: الشخص المتزوِّج من فتاةٍ مولودة من أبوين من أهل الكتاب، وقد حكمَتْ عليه الظروف بأن يعيش معهما تحت سقفٍ واحد، بَيْدَ أن المجتهد الذي كان يقلِّده كان في ما يتعلَّق بطهارة أهل الكتاب يفتي بـ «الاحتياط الوجوبي»، ففي مثل هذه الحالة يمكن لهذا الشخص الرجوع إلى مجتهدٍ يفتي بطهارة أهل الكتاب؛ كي يتخلَّص من المشكلة والحَرَج الذي يعاني منه.

إن الفقهاء يلجأون غالباً ـ كما هو شأن المهندسين ـ في حلّ المسائل العملية إلى إعادة صياغة الوضع والحالة الخاصة الحاكمة على المسألة؛ كي يتمكَّنوا من تحديد القيود العملية الحاكمة عليها بشكلٍ دقيق. ومن الأمثلة المعروفة في هذا الشأن: قصّة العلاّمة الحلي في فتواه الخاصّة بتطهير ماء البئر عند سقوط حيوان وموته فيه. وقد نقل الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري هذه القصة على النحو التالي: «لقد طُرحت على العلاّمة الحلي مسألة فقهية بشأن حكم ماء البئر إذا سقط فيه حيوان ومات هناك، ولم يكن إخراج الميتة منه ممكناً، فما هو حكم ذلك البئر؟ وقد صادف في الوقت نفسه أن سقط حيوان في بئرٍ كان موجوداً في بيت العلاّمة الحلي، فتحتَّم عليه أن يستنبط الحكم لا لمقلِّديه فحَسْب، وإنما لنفسه أيضاً. وقد كان هناك طريقان لإصدار الحكم في هذا الشأن: الأوّل: هدم البئر وإلغائه وبناء بئر جديد. والثاني: تطهير ماء البئر بنزحه بواسطة عددٍ من الدلاء، والاستفادة من الماء المتبقّي بلا إشكال. وقد عمد العلاّمة إلى هدم بئره الخاصّ قبل أن يبحث في حكم المسألة؛ كي لا تؤثِّر مصلحته الشخصية في إصدار الفتوى. وهكذا كان، حيث تمّ هدم البئر، وانصرف العلاّمة الحلّي إلى البحث في أدلة المسألة؛ ليستنبط حكمها، بعيداً عن الوساوس النفسية وإيثار المصالح الشخصية»([63]).

إن أكثر الفقهاء ـ كما هو الأمر تماماً بالنسبة إلى أكثر المهندسين ـ يخوضون بشكلٍ عامّ في أنشطةٍ ذات صلة بـ «الخطط المتعارفة»، بمعنى المسائل في دائرة الأمور المعروفة والمألوفة بشكلٍ وآخر. وفي هذه الموارد يعمل هؤلاء على الاستفادة من مهاراتهم وكفاءاتهم التخصّصية لتقديم الحلول القائمة ـ إلى حدٍّ ما ـ على الحلول السابقة بشأن المسائل المشابهة بشكلٍ وآخر. وعلى هذه الشاكلة فإن طرق حل المسائل الجديدة تتمّ ـ إلى حدٍّ كبير ـ ضمن ذلك الإطار (المعرفي ـ التكنولوجي) الذي كان يجيب عن المسائل السابقة ضمن إطاره أيضاً. والجديد في هذه الحلول هو في الغالب (وليس على نحوٍ تامّ) ناظرٌ إلى التحوُّلات التي أفرزتها التكنولوجيا. والفقيه بالالتفات إلى الإمكانات الجديدة يقدِّم طريقة حلّه من خلال الحاجة التي كان يجيب عنها سابقاً بالاستناد إلى التقنيات القديمة. ومن الأمثلة على ذلك: فتوى الشيخ يوسف الصانعي في خصوص نيّة الغسل بَدَل الوضوء عند الغسل تحت الدوش في الحمام؛ التماساً للنظافة، وإقامة الصلاة بهذا الغسل دون وضوءٍ بشكلٍ مستقلّ. ولا حاجة بنا إلى إيضاح أن هذا الغسل يختلف عن غسل الجنابة([64]).

لو ألقَيْنا نظرةً على تاريخ الفقه والفقاهة سوف ندرك أن عدد الفقهاء المؤسّسين بالقياس إلى مجموع الفقهاء والمجتهدين العاديين (بالمعنى الاصطلاحي الذي تقدَّم بيانه) قليلٌ جدّاً. إن الفقهاء المؤسِّسين هم أشخاصٌ مبدعون، يخوضون غمار المسائل المستحدثة، والتي تشتمل على أهمّية كبيرة، ويقدِّمون بشأنها حلولاً بديعة، تشكِّل أرضيةً لتحوُّلات مفهومية جوهرية. ومن الأمثلة على ذلك: نظرية السيد الخميني& بشأن ولاية الفقيه، حيث أصدر في إطار هذه النظرية فتواه الثورية حول حدود وصلاحيات الحكومة الإسلامية في تعطيل الأحكام الثانوية، ومن ذلك قوله: «يجب عليّ القول: إن الحكومة التي هي فرعٌ من الولاية المطلقة لرسول الله| تمثِّل واحداً من الأحكام الأولية للإسلام، بل هي مقدَّمة على جميع الأحكام الفرعية، ومقدّمة حتّى على الصلاة والصيام والحجّ. ويمكن للحاكم أن يعطِّل حتّى المساجد إذا دعَتْ الضرورة إلى ذلك، فالمسجد إذا كان مسجد ضرار، ولم يكن بالإمكان دفع ضرره دون هدمه، يجب على الحاكم الإسلامي هدمه. إن الحكومة يمكنها إلغاء العقود الشرعية التي أبرمَتْها مع الشعب من طرفٍ واحد إذا وجدَتْ في تلك العقود ما يخالف مصالح الدولة الإسلامية، ويمكنها المنع من كلّ أمرٍ ـ سواء أكان عبادياً أم غير عبادي ـ إذا كان على خلاف مصالح الإسلام. يمكن للحكومة أن تمنع الحجّ ـ الذي هو من أهمّ الفرائض الإلهية ـ في بعض الأحيان بشكلٍ مؤقَّت إذا كان مخالفاً لمصالح الدولة الإسلامية. وإنّ ما قيل أو يُقال حتّى الآن كان ناشئاً من الجهل بالولاية الإلهية المطلقة. وإنّ ما قيل ـ تعقيباً على هذا الكلام ـ من أن هذه الخيارات الواسعة والمطلقة ستؤدّي في نهاية المطاف إلى إلغاء أبواب فقهية، من قبيل: المزارعة والمضاربة وأمثالها، نجيب عنه صراحةً ونقول: لنفترض أن هذا الكلام صحيحٌ إلاّ أنه سيكون في مثل هذه الحالة من صلاحيات الحكومة الإسلامية»([65]).

إن نظرةً عابرة على الرسائل العملية التي كتبها الفقهاء والمجتهدون في القرون الأخيرة تثبت بوضوحٍ أن جميع هذه النصوص الدقيقة هي من قبيل: الكتب الإرشادية([66]) التي يكتبها المهندسون في إطار إيضاح كيفية عمل الأجهزة وطرق التعامل معها، حيث تبيِّن للمؤمنين كيفية الإتيان بتكاليفهم الشرعية. وإن هذه الرسائل العملية قد جرى عليها تغييرٌ كبير عبر تطوُّر التاريخ والزمان، كما حصل ذلك بالنسبة إلى الكتب الإرشادية (الكاتالوجات) التي ألَّفها المهندسون أيضاً؛ حيث تمّ حذف بعض مسائل التي لم تَعُدْ من الموارد الابتلائية للمؤمنين ـ كما هو شأن التقنيات المنقرضة ـ من الرسائل العملية، وحلَّت محلها فتاوى مستحدثة؛ تلبية للمتغيِّرات الجديدة. كما تمّ إجراء بعض التعديلات والتغييرات على بعض الفتاوى التي تمّ الإبقاء عليها إلى حين العثور على حلول أدقّ وتقديم مقترحات أكثر جدوائية. ومن ذلك أن السيد علي السيستاني ـ على سبيل المثال ـ في الطبعات الأخيرة لرسالته العملية، عند تعرّضه لمعرفة المجتهد الأعلم، قد ذكر شرطاً جديداً ـ بالإضافة إلى الأعلمية ـ هو شرط «الأورعية». كما أن الرسائل العملية الحديثة لا تأتي على ذكر لعتق الرقاب وتحرير العبيد بوصفه واحداً من وسائل التكفير عن المعاصي والذنوب. وبَدَلاً من ذلك أخذنا نشاهد فتاوى بشأن التلقيح الصناعي (IVF)، أو تغيير الجنس، وما إلى ذلك من المسائل التي لم يَرِدْ أيُّ ذكرٍ لها في الرسائل العملية القديمة.

والشَّبَه الآخر الملحوظ بين المهندسين والفقهاء هو أن هناك في كلا الجماعتين أعداداً كبيرة (إذا لم نقُلْ: كلّهم) تتصوّر خطأً أنها تعمل على توظيف الأساليب الاستقرائية في حلّ المسائل. ومن بين الفقهاء المعاصرين لم يلتفت إلى مسألة الاستقراء سوى الشهيد السيد محمد باقر الصدر&، حيث سعى إلى حلّ معضلة الاستقراء، ولكنّه ـ مثل سائر الفقهاء ـ كان يذهب إلى الاعتقاد بأن الاستقراء وسيلةٌ لا يمكن الاستغناء عنها في الاستنباطات الفقهية([67]).

أما الشَّبَه الآخر بين الفقه والهندسة فيكمن في أن المسائل الموجودة على مستوى أعلى من الانتزاع والتجرّد المفهومي في كلا التقنيتين قلَّما تمّ تدقيقها وترتيب بنيتها، في حين أن المسائل الأكثر وضوحاً تحظى ببنية مفهومية أوضح. إن تأثير الظروف والأرضيات على مسار التخطيط، والعثور على أجوبة عن المسائل الواقعة في مستوى أرفع من الانتزاع، هي أكثر بكثير من المسائل الواقعة في مستوىً أدنى من الانتزاع.

أما وجه الشَّبَه المهمّ الآخر بين الفقه والهندسة فيكمن في أن كلاًّ من الفقهاء والمهندسين يسعَوْن في مهامّهم إلى تحصيل اليقين. واليقين ـ بطبيعة الحال ـ ليس أمراً معرفياً، وإنما يتعلق بالناحية النفسية. فالمهندسون يعملون لتحصيل اليقين على زيادة الحاشية الأمنية لمحاصيلهم ومنتجاتهم، وهذا يؤدّي ـ بطبيعة الحال ـ إلى انخفاض مستوى الإنتاج، ولكنه في المقابل يرفع نسبة الأمان، ويقلِّل من نسبة الخطأ. والفقهاء بدَوْرهم يعملون على تخزين البينات المؤيِّدة التي تؤدّي إلى حصولهم على اليقين الشخصي.

والنقطة الأخرى التي يجب الالتفات إليها في خصوص الشَّبَه بين نشاط الفقهاء والمهندسين هو ما يُقال من أن مهمة الفقهاء تتلخّص في تحديد الموضوع، وليس تعيين المصداق. وإن تحديد المصداق يقع على عاتق المقلِّدين([68]). إن الصياغة العامة لفتاوى الفقهاء على النحو التالي: «في فرض السؤال هذا هو الحكم».

وبعد ملاحظة هذه النقطة قد يتصوَّر البعض هنا وجود اختلافٍ جوهريّ بين ما يقوم به الفقهاء وما يقوم به المهندسون؛ إذ إن المهندسين إنما يعملون على الجزئيات في معالجة المسائل. ولكننا لو تأملنا في حقيقة الأمر قليلاً سندرك أن هذه الشبهة ليست دقيقة، وأن ما يقوم به المهندسون هو عين ما يقوم به الفقهاء تماماً.

فأوّلاً لا بُدَّ من الالتفات إلى أن العبارة القائلة بأن «مهمة الفقيه تتلخّص في تحديد الموضوع، دون المصداق» قد تدفع الآخرين إلى الوقوع في الخطأ، ويمكن القول بأن هذه العبارة من الموارد التي تحدَّث عنها (فيتغنشتاين) عندما حذَّر من مغبّة الوقوع في شرك الألعاب اللغوية؛ فإن ما يقوم به الفقيه في الحقيقة يتلخَّص في بيان الحلول بأسلوب كلّي للمسائل الخاصة، وأما تطبيقات تلك الحلول فمتروكةٌ إلى المقلِّد.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى المهندسين أيضاً؛ فإنهم في ما يتعلَّق بصناعة الأجهزة والتقنيات وتقديم الحلول لتلبية حاجات المستهلكين يعملون على تنظيم الجوانب العامة، وأما استخدام الأجهزة وتطبيق الحلول في المواقع الخاصة وعلى نحوٍ محدّد فيقع بالكامل على عاتق المستخدمين، دون أن يكون للمهندسين أيّ دَوْرٍ في ذلك. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن المهندس الذي يعمل على صناعة ماكينة لغسل الثياب، ويرسلها إلى السوق لتباع هناك، إنما يكتفي بتزويد المستهلك بـ «كاتالوج» يبيِّن له الطرق العامة لاستخدام هذه الماكينة وتشغيلها، وأما الفترة الزمنية لاستعمال تلك الماكينة، أو المكان الذي يجب وضعها فيه من المنزل، ونوع الثياب التي يجب غسلها بتلك الماكينة، وما إلى ذلك من الأمور الجزئية الأخرى، فمتروكة بأجمعها إلى المستهلك، ولا يكون فيه أيّ تدخُّلٍ من قِبَل المهندس الذي صنعها. وينسحب هذا الكلام نفسه على بناء جسر على الطريق أو فوق النهر أيضاً، فإن تحديد ساعات الاستفادة من هذا الجسر في اليوم والليلة، ونوع الحافلات التي تسلكه للوصول إلى الضفة الأخرى، وعدد السيارات التي يجب أن تملأه في كلّ مرّةٍ، كلّ ذلك عائدٌ إلى المواطنين الذين يستخدمون ذلك الجسر.

كما يجب عدم تجاهل هذه النقطة، وهي أن المقلِّدين هم الذين يلفتون انتباه الفقهاء إلى المسائل الخاصة، بمعنى أن حاجة المقلِّد هي التي تدفع المجتهد إلى البحث والتحقيق للعثور على طرق حلّ المسائل وبيان أحكامها. وهذا الأمر بعينه يصدق في مورد الهندسة أيضاً. فعندما يواجه الفقيه أو المهندس مسألةً، ويخضعها لاهتمامه بوصفها حاجةً بالنسبة إلى الآخرين، فإنهما إنما يواجهون المسألة في واقع الأمر من زاوية المقلِّد. وبطبيعة الحال عليهم أن يغيِّروا من موقفهم عند معالجة الجهاز الذي يُراد منه رفع تلك الحاجة، والاستجابة لمطالب المقلِّدين والمستهلكين، ويتعاملوا مع تلك المسألة الخاصّة من منطلق كونهم فقهاء أو مهندسين.

إن كلاًّ من المهندسين والفقهاء يتعاطَوْن مع الحلول الهندسية، حيث يتمّ فيها تعيين حدود تطبيق الحلول على أساس الشرائط والظروف الخاصة التي تواجه المقلِّد أو المستهلك. وحيث إن دائرة المسائل المتنوّعة المتعلّقة بالظروف والخلفيات الخاصة لا يحصرها حدٌّ فإن للمقلِّدين أو المستهلكين دَوْراً كبيراً وهامّاً في تنويع الحلول المطروحة من قِبَل الفقهاء والمهندسين؛ فإن المقلِّدين والمستهلكين من خلال طرح حاجاتهم الخاصة على الفقهاء والمهندسين يدفعونهم إلى التفكير في المسائل الجديدة والمستحدثة، التي لم تكن تخطر ببالهم لولا إثارتها من قبل المقلِّدين أو المستهلكين.

ومن بين النكات الكثيرة التي يمكن لنا أن نرصدها في ما يرتبط بالعلاقة بين الفقه والهندسة والعلوم هي أنه من الممكن للفقيه أن يكون في الوقت نفسه فيلسوفاً ومتكلِّماً ومفسِّراً، وفي هذه الحالة يمكن لهذه المجالات المعرفية الأخرى أن تترك تأثيرها في خصوص الواقعية، سواء أكانت واقعية منعكسة على ذات النصّ أو كانت واقعية خارجية. وينعكس هذا التأثير من خلال نوعية الحلول العملية التي يفتي بها من منطلق كونه فقيهاً. وعليه ألا يمكن القول بأن عمل الفقيه لا ينحصر بنوعٍ من الأداء الهندسي، بل يرتبط بشكلٍ وثيق بالأنحاء النظرية أيضاً؟([69]).

ومن بين الأمثلة الواقعية للفقيه المشار إليها في السؤال المتقدِّم هو شخص (أبي حامد الغزالي)، فقد كان فيلسوفاً ومتكلِّماً، بالإضافة إلى كونه فقيهاً. وفي كتابه (تهافت الفلاسفة) قام الغزالي ـ بعد نقده لآراء الفلاسفة من منطلق كونه فيلسوفاً ـ بالمبادرة في الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب إلى نزع رداء الفيلسوف، ليرتدي فجأة ثياب الفقيه، ويطلقها فتوى غليظة بكفر الفلاسفة. والنقطة التي يجب الالتفات إليها في هذا الخصوص هي أن فقيهاً ـ مثل: الغزالي ـ إذا كان متخصِّصاً في علوم أخرى أيضاً فإنه عند الخوض في كلّ واحد من تلك العلوم سيخرج من تحت عباءة الفقيه بالضرورة، ويتَّخذ لنفسه شأناً متناسباً مع ذلك التخصُّص. ويتجلّى هذا المعنى بوضوحٍ في كتاب «تهافت الفلاسفة»؛ فإن الغزالي في جميع صفحات هذا الكتاب ـ إذا ما استثنينا منه الصفحة الأخيرة ـ منهمكٌ بوصفه فيلسوفاً بنقد وتقييم آراء الفلاسفة. وأما في الصفحة الأخيرة فإنه يتخلّى عن تخصُّصه الفلسفي؛ ليتَّخذ موقف الفقيه، ويبدأ في اتخاذ اتجاه مغاير لما عليه اتجاه الكتاب في جميع صفحاته السابقة. وبعبارةٍ أخرى: إن الفقيه بما هو فقيهٌ ـ كما أوضحنا في هذه المقالة ـ منهمكٌ في المسائل العملية وإيجاد الحلول المناسبة لها. بَيْدَ أن شخص الفقيه يمكن أن يكون فيلسوفاً أو متكلِّماً أو مفسِّراً أيضاً. وفي جميع هذه الموارد الأخيرة لا يعود «الفقيه» داخلاً في عداد الفقهاء، وإنما سيكون فيلسوفاً أو متكلِّماً أو مفسِّراً. بَيْدَ أن خلفيته المعرفية الثريّة يمكن لها ـ كما أشَرْنا ـ أن تساعده في تقديم حلول، وإصدار فتاوى أكثر فاعليةً وجدوائية.

نتيجة البحث والمقترحات المنهجية

إذا كانت الأدلة المذكورة هنا صائبة فعندها ستكون نتائجها ولوازمها غاية في الأهمّية بالنسبة إلى الفقيه.

إن النتيجة الأولى المترتِّبة على هذا البحث هي أن الفقهاء إذا أرادوا المضيّ في نشاطهم على نحوٍ فاعل يجب عليهم أن يعملوا ـ كما هو شأن المهندسين ـ على تطوير معرفتهم بشأن «مسألة ـ الظرف» والموقعيات الخاصة الدائمة الظهور والتجدُّد، والتي يصطلح عليها بـ «الأمور المستحدثة»، والتي ترتبط بمختلف الظروف والأرضيات. فإن المهندس إذا أراد إقامة سدٍّ على مصبّ نهر وجب عليه قبل كلّ شيء أن يحصل على أحدث المعلومات بشأن بناء ذلك السدّ طبقاً للأصول الصحيحة، ولا يمكنه الاكتفاء ـ مثل المنظِّرين ـ بمجرد دراسة النماذج والأمثلة الانتزاعية والنظرية. كما لا يمكنه، مثل: العالم التطبيقي ـ الذي هو كما ذكرنا يمثِّل صنفاً من التقنيين، ولا يمكن أن نطلق عليه مصطلح العالم بالمعنى الدقيق ـ أن يضع حساباته على أساس الأمثلة والنماذج التقريبية المستندة إلى الظروف والشرائط البدائية، أو أن يحشر حركته ضمن حدود وقيود خاصة، بل يجب عليه أن يحزم أمتعته ويسافر إلى تلك المنطقة التي يعتزم بناء السدّ فيها، ليدرس الظروف البيئية والتضاريس الجغرافية عن كَثَبٍ، ليعمل بعد ذلك على توظيف معرفته العلمية والنظرية في التخطيط، وتطبيق أنسب الحلول لتلك البيئة وذلك الظرف الخاصّ.

ونظير ذلك: الفقيه أو المجتهد الذي يعيش في قم المقدّسة أو النجف الأشرف، ويقلِّده أشخاص في مختلف بقاع العالم والمناطق التي تختلف في طبيعتها وظروفها عن المحيط الذي يعيش فيه الفقيه. إذا طرحوا عليه سؤالاً لن يمكنه الاستناد في الجواب عنه إلى مجرّد معلوماته المألوفة له، وإصدار الحكم بشأن تلك المسألة المطروحة، بل عليه السعي في حدود الإمكان للتعرُّف على الظرف الذي ظهر فيه ذلك السؤال، بمعنى أن يتعرّف على «مسألة ـ الموقعية» بشكلٍ صحيح، ويعمل على تنظيم فتواه بما يتناسب مع الظروف الخاصة لـ «مسألة ـ الموقعية».

لقد التقيتُ شخصياً بالمسلمين الذين ولدوا في البلدان غير الإسلامية، وترعرعوا فيها، وكانوا يَشْكُون من عدم اطّلاع مراجع تقليدهم ـ الذين يسكنون في بلدان بعيدة عنهم ـ على ظروفهم الخاصة. وقد بدأ بعض هؤلاء المسلمين يتحدثون مؤخَّراً عن ضرورة إعداد مجتهدين قد ترعرعوا في ذات البيئة التي يعيشون فيها، وتعرَّفوا على ظروف مشاكلهم عن كَثَبٍ.

إن النتيجة الأخرى التي تترتّب على الأبحاث المتقدمة هي أنه بالنظر إلى التعقيد المتزايد للمسائل المستحدثة، والمتأثّرة إلى حدٍّ كبير بالمتغيّرات المعرفية والعلمية والتكنولوجية، فقد أدرك جميع أولئك المهندسين الذين يفكِّرون في وضع الحلول الناجعة لهذه المسائل والتحديات أن الشرط الضروري للنجاح في الوصول إلى الغاية التي ينشدونها يكمن في العمل على تحديث معلوماتهم بشأن التحوّلات والمتغيّرات المعرفية والعلمية والتكنولوجية الجديدة. فإذا كان الفقه ـ كما تقدَّم توضيحه ـ فرعاً من الهندسة فإنه يجب على الفقهاء في مثل هذه الحالة ـ لكي يتمكّنوا من إصدار فتاوى ناجعة وكافية بشأن المسائل المستحدثة ـ أن يتعرَّفوا على المتغيِّرات المعرفية والتكنولوجية والعلمية الحديثة في مختلف أبعادها. فعلى سبيل المثال: إن الفقيه الذي يجهل أنواع الأنشطة المصرفية والعقود التجارية والمالية الجديدة، من قبيل: العقود الناظرة إلى الأمور التي ستتحقّق في المستقبل([70])، والأنحاء المتنوّعة والمختلفة للمبادلات المالية بين طرفي العقد([71])، والتعهّدات المتقابلة في خصوص الدين([72])، وما إلى ذلك من الأقسام الموسومة بـ «الأمور المشتقة»([73]) التي يتمّ فيها اشتقاق([74]) قيمة العقد من أسلوب عمل وجود معيّن([75])، والتي تقع في مستوى أدنى من مستوى المبادلات الواضحة، ويمكن لهذا المستوى الأدنى أن يكون نوعاً من الثروة أو شيئاً قيِّماً([76]) أو شاخصاً([77]) أو قيمة لفائدةٍ خاصة، وكذلك الفقيه الذي يجهل المتغيِّرات الحديثة في مجال الجينات والخلايا الحيّة والاستنساخ وعلم الأعصاب ونظائر ذلك، يستحيل عليه أن يصدر فتاوى ناجعة في خصوص عشرات المسائل المستحدثة المرتبطة بهذه الأمور والمتغيرات.

أما النتيجة الأخيرة التي نحصل عليها من الأبحاث المتقدّمة فهي أن الفقه إذا كان داخلاً ضمن دائرة الهندسة الواسعة، وإذا كان الفقه يسعى إلى مواكبة المتغيرات الحديثة، فإن اتجاه الفقه نحو التخصُّص ـ كما نشهد ذلك في سائر المساحات الهندسية ـ في مختلف أبواب الفقه سيكون أمراً حَتْمياً. فكما أن الشخص في العصر الجديد ـ خلافاً للعصور التقليدية ـ لا يمكنه الادّعاء بأنه مهندسٌ بالمعنى العامّ لهذا المصطلح، بل عليه أن يحدِّد مساحة اختصاصه، كذلك لا يمكن للفقيه أن يعرّف نفسه بأنه متخصِّص في الفقه بشكلٍ عامّ، مجرّداً عن ذكر مجال تخصُّصه في مجالٍ معيّن.

وبالنظر إلى الاتجاه المتسارع للمتغيّرات في المرحلة الحديثة، والتي هي إلى حدٍّ كبير تابعة للتحوُّلات التكنولوجية والعلمية، يبدو أن الفقه ـ الذي هو نوعٌ من التكنولوجيا ـ إذا لم يواكب هذا التطوّر فإنه سيتعرّض في هذه الحالة إلى خطرٍ جادّ تعرّضت له الكثير من التكنولوجيات المماثلة التي انتهَتْ صلاحيتها، وتحوّلت إلى نشاطٍ لم يَعُدْ هناك أحدٌ بحاجة إليه.

الهوامش

(*) أستاذٌ في كلِّية الدراسات الاجتماعيّة والعلوم الإنسانيّة واللغات في جامعة وستمنستر، والكلِّية الإسلاميّة في لندن.

([1]) أبو نصر الفارابي، إحصاء العلوم: 87، تحقيق: عثمان أمين، انتشارات دار بيبليون، باريس.

([2]) انظر: إحصاء العلوم: 113، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسين خديو جم، انتشارات علمي فرهنگي، ط2، 1364هـ.ش.

([3]) انظر: إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، بابك رشنور زاده، كتاب ماه علوم وفنون، العدد 132: 49، سنة 1389هـ.ش.

([4]) انظر: إحصاء العلوم: 139، تحقيق: عثمان أمين.

([5]) إحصاء العلوم: 139، تحقيق: عثمان أمين (نقلاً عن: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 2: 1097).

([6]) انظر: ابن سينا، رسالة النجاة: 158، طبعة مصر.

([7]) الفارابي، إحصاء العلوم: 140، تحقيق: عثمان أمين، نقلاً عن: ابن سينا، رسالة أقسام العلوم العقلية.

([8]) انظر: أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: 46 ـ 52، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مؤيد الدين الخوارزمي، إعداد: حسين خديو جم، انتشارات علمي فرهنگي.

([9]) المصدر السابق: 53.

([10]) المصدر السابق: 54.

([11]) انظر في هذا الشأن أيضاً:

Muhammad Qasim Zaman, “The Ulama and Contestations on Religious Authority”, in Islam and Modernity: Key Issues and Debates, Edinburgh University Press, 2009; Nikki R. Keddie, “The Roots of the Ulama’s Power in Modern Iran”, Studia Islamica, No. 29 (1969), 31-53, Said Amir Arjomand (ed.), Authority and Political Culture in Shi’ism, SUNY Press 1988; Linda S. Walbridge (ed.), The Most learned of the Shi’a: The Institution of Marga’ Taqlid, OUP 2001.

([12]) لقد قام كاتب السطور ببيان الاختلافات بين العلم والتكنولوجيا في الكثير من المقالات. للوقوف على الأبحاث التفصيلية في هذا الشأن انظر أيضاً:

ـ علي پايا، ملاحظاتي نقادانه در باره دو مفهوم علم ديني وعلم بومي، فصلية حكمت وفلسفه، العدد 3: 39 ـ 76، السنة التاسعة، خريف عام 1392هـ.ش (لقد تمّ رفع هذه المقالة من فهرسة موقع مجلات نور التخصصية؛ لأسباب لا نعرفها) (مصدر فارسي).

ـ علي پايا، تكنولوژي ديني: چيستي وإمكان تحقق، روش شناسي علوم إنساني، العدد 18: 7 ـ 52، السنة الثامنة عشرة، شتاء عام 1391هـ.ش (مصدر فارسي).

([13]) انظر:

Ali Paya, “The Misguided Conception of Objectivity in Humanities and Social Sciences”, in The Crisis of the Human Sciences False Objectivity and the Decline of Creativity, Edited by Thorsten BotzـBornstein, Gulf University for Science & Technology Publications, 2011.

لقد تمّت ترجمة هذه المقالة إلى اللغة الفارسية بجهودٍ من الدكتور علي رضا منصوري، وقد نشرت في المجلد الثاني من كتاب الفلسفة التحليلية: تحليل فلسفي، مسائل چشم أندازها وكاربردها، نشر طرح نو، طهران.

([14]) للوقوف على دَوْر الشهود في زيادة وتطوير المعرفة انظر: (نقش شهود در تكاپوهاي معرفتي)، المنشور في المجلد الأول من الفلسفة التحليلية والتحليل الفلسفي، (چشم أندازها وكاربردها)، نشر طرح نو، طهران (بانتظار الحصول على الإذن بنشره).

وللحصول على بيان وإيضاح أشمل بشأن المفاهيم الثلاثة، وهي: العالم 1 (الذي هو عبارة عن الواقعية بشكل عام)، والعالم 2 (الذي هو عالم التجارب الشخصية، والمدركات الذهنية، والمشاعر الفردية)، والعالم 3 (الذي يمثل العالم العيني والخارجي الناتج عن التعاطي بين العالم 2 والعالم 1، والذي يمثِّل ظرفاً لجميع المعطيات النظرية للناس، الأعمّ من الكتب والنظريات والموسيقى والمخططات التكنولوجية، والقصص والروايات، والأفلام، والرسوم وما إلى ذلك) انظر:

Karl Popper, Objective Knowledge, OUP, 1979.

([15]) valueـneutral.

([16]) tacit Knowledge.

([17]) إن تاريخ التكنولوجيا زاخرٌ بالأمثلة عن التكنولوجيات (البائدة)، والتي تمّ القضاء على المهارات الخاصة بها تماماً، أو حتّى إذا بذلت جهود كبيرة من أجل استعادتها فإن الذي سوف نحصل عليه لن يكون نسخة مطابقة للأصل. ومن بين نماذج التكنولوجيا التي لا يمكن استعادتها جميع أنواع اللغات القديمة ولغات الأقوام التي باد أهلها؛ فإن التحدّث بتلك اللغات كما كان يتحدّث بها أهلها غير ممكن.

([18]) انظر في هذا الشأن:

Karl Popper, Conjectures & Refutations, London: Routledge, 2002.

Gerald Vision, AntiـRealism and Other Manufactured Truth, Routledge, 1988.

Gerald Vision, Veritas, MIT Press, 2009.

([19]) انظر:

Le Belac, Michel, Patricia de ForcrandـMillard, Quantum Physics, Cambridge University Press, 2006.

Maxwell, Nicholas. “The Need for a Revolution in the Philosophy of Science”, Journal for General Philosophy of Science 33: 2003.

([20]) إن القسم الراهن يستند إلى حدٍّ ما إلى مقالة أكثر تفصيلاً سبق لكاتب السطور أن كتبها تحت عنوان: (در قوّت ها وضعف هاي مهندسي وتأثير آن در علوم إنساني واجتماعي)، للمؤتمر الوطني حول الثقافة والتكنولوجيا بعنوان: (درنگي در مسير پر شتاب صنعتي شدن)، طهران، جامعة شريف الصناعية، بتاريخ: 21 ـ 22 / أرديبهشت / 1393هـ.ش. وقد تمّ تقديم خلاصة لهذه المقالة في المؤتمر المذكور؛ ليتمّ طبع الصيغة الكاملة لها في سلسلة مقالات المؤتمر.

([21]) applied science.

([22]) techne.

([23]) ars.

([24]) Eric Schatzberg, “From Art to Applied Science,” Isis, Vol. 103, No. 3, 2012, p. 556.

([25]) Robert Bud, “‘Applied Science’: A Phrase in Search of a Meaning,” Isis, Vol. 103, No. 3, 2012, p. 537.

([26]) engineering sciences.

([27]) Ingenieurwissenschaft.

([28]) Ronald Kline, “Construing ‘Technology as ‘Applied Science’: Public Rhetoric of Scientists and Engineers in the United States, 1880-1945, (Isis, Vol. 86, No. 2, 1995), pp. 194-221.

([29]) Feasibility studies.

Joseph Agassi, “The Confusion Between Science and Technology in the Standard Philosophies of Science”, Technology and Culture, Vol. 7, No. 3, 1966, pp. 348-366.

([30]) يمكن الوصول إلى معلومات شاملة عن المسرِّعات التي تمكنت في سرن (CERN) من تتبّع أثر ذرة بوزون هيغز، على الموقع الإلكتروني التالي:

http://home.web.cern.ch/about

([31]) Nancy Cartwright in her How the Laws of Physics Lie, OUP 1983, pp. 101-112.

([32]) Jorn Oberg Utzon.

([33]) Civil& Civic.

([34]) يمكن قراءة رواية إقامة هذا الصرح الهامّ عبر الموقع الإلكتروني للأوبيرا في مدينة سيدني الأسترالية:

http://www.sydneyoperahouse.com/theـbuilding.aspx.

([35]) knowـhow or knowledgeـhow?

([36]) knowـwhy or knowledgeـwhy?

Gilbert Ryle wrote The Concept of Mind, 1949, p. 41.

([37]) Quoted in David Channell, “Special Kinds of Knowledge”, Science, Vol. 253, No. 5019, p. 573.

([38]) G. F. C, Rogers, The Nature of Engineering: A Philosophy of Technology, London, 1983, Ch. 3, quoted in, Walter Vincenti, What Engineer Know and How They Know It, The John Hopkins University Press, 1993, p. 6.

علماً أن النصّ المضاف بين معقوفتين يعود إلى (فينسنتي). وقد استفدنا من الكتاب الأخير كثيراً في إكمال هذا القسم.

([39]) Vincenti, 1993, p. 6.

([40]) Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, University of Chicago Press, 1971.

([41]) فينسنتي، مصدر سابق: 8.

([42]) a puzzleـsolving activity.

([43]) a routine activity.

([44]) لقد قام (توماس كوهين) بإيضاح الجوانب الرئيسة للأنشطة التي تمارس في مجال العلم المتعارف على النحو التالي:

ـ ارتفاع درجة التطابق بين المشاهدات والمحاسبات بالاستناد إلى تعاليم الأمثلة والنماذج.

ـ بسط مساحة النماذج لتوضيح الظواهر الجديدة.

ـ تعيين مقادير الثوابت الكونية (على أساس التعاليم النموذجية).

ـ تبويب القوانين الكيفية التي تقدّم مزيداً من التوضيحات بشأن الظرفيات النموذجية.

ـ أخذ القرار في هذا الخصوص بشأن الأسلوب البديل الأصلح في توظيف النموذج الأمثل في حلّ المسألة مورد البحث.

ـThomas Kuhn, op. cit. 1971, quoted in John Losee, A Historical Introduction to the Philosophy of Science, OUP, 2001, p. 198.

([45]) Edward Constant, The Origins of the Turbojet Revolution, The Johns Hopkins University Press (1 Nov 1980, quoted in Walter Vincenti, op. cit., p. 7.

([46]) Vincenti, op. cit., 1993, p. 7.

([47]) Vincenti, op. cit., p. 8.

([48]) see: Ibid.

([49]) محمود شهابي، قواعد فقه: 6، نشر فربد، بتاريخ: شهر فروردين / 1341هـ.ش (مصدر فارسي).

([50]) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين 1: 41، دار المعرفة، ط1، بيروت، 2004م.

([51]) إن هذه الناحية، وهي المكانة الاجتماعية للعلوم والفنون، وتأثير هذا الأمر على الازدهار المتّزن للعلوم والتكنولوجيات، موضوعٌ حظي باهتمام علماء الاجتماع العلمي في العقود الأخيرة.

([52]) لقد عمد السيد محمود الشهابي إلى تعريف المسائل الفقهية والقواعد الفقهية على النحو التالي: (إن المسألة الفقهية… عبارة عن القضية التي يكون محمولها هو الحكم الواقعي الأولي والمتعلق بفعل خاص أو ذاتي مخصوص. فالأول من قبيل: القضايا القائلة: الصلاة واجبة، والحج واجب، والغيبة حرام، مما يكون المحمول فيه حكماً واقعياً أولياً متعلقاً بفعلٍ خاص؛ والثاني من قبيل: القضية القائلة: إن الماء الجاري طاهر، حيث يكون المحمول فيها حكماً واقعياً أولياً ومتعلقاً بالذاتي الخاص. (انظر: محمود الشهابي، قواعد فقه: 8).

(إن القاعدة الفقهية قضية لا يكون الحكم المحمول فيها خاصاً بفعل أو ذات خاصة، بل يشمل الكثير من الأفعال والذوات المتفرّقة التي يصدق عليها عنوان الحكم المحمولي، سواء أكان ذلك الحكم المحمولي واقعياً أولياً، من قبيل: قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده)، وعكسها (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، ممّا هو شامل لأنواع المعاوضات المتفرّقة؛ أو الحكم الواقعي الثانوي، من قبيل: قاعدة (لا ضَرَر)، أو قاعدة (لا حَرَج) التي قد تجد لها مورداً وتطبيقاً في جميع أبواب الفقه؛ أو أن تكون حكماً ظاهرياً، من قبيل: قاعدة (التجاوز)، وقاعدة (الفراغ). (انظر: المصدر السابق: 9).

(إن قاعدة الفراغ عبارةٌ عن حكم ظاهري بصحة العمل الذي شكّ المكلَّف بالإتيان به بعد الفراغ منه، كأنْ يفرغ المكلَّف من صلاته ـ على سبيل المثال ـ ثم يشكّ في بعض أجزاء أو شرائط تلك الصلاة من حيث الصحة، فتأتي قاعدة الفراغ لتثبت له الحكم الظاهري بصحة صلاته. وأما قاعدة التجاوز فهي عبارة عن الحكم الظاهري بإتيان الجزء المشكوك بعد تجاوز محلّه، كما لو كان المكلَّف في سجود الصلاة ـ على سبيل المثال ـ وشكّ في أنه هل جاء بالركوع أم لا؟ فتأتي قاعدة التجاوز لتثبت له الحكم الظاهري بالإتيان بالركوع). نقلاً عن الموقع الإلكتروني التالي:

http://www.imamatjome.com/AArticles/AArticlesShow.Aspx?Id=5347&AId=222

([53]) للمزيد من التوضيح في هذا الشأن انظر: مقالتنا تحت عنوان: (در قوّت ها وضعف هاي مهندسي وتأثير آن در علوم إنساني واجتماعي) التي سبق التعريف بها (مصدر فارسي).

([54]) prima facie.

([55]) problem situations.

([56]) نقلاً عن:

http://www.asriran.com/fa/news/285143/%D9%D8%AA%D9%88%A8%A7%DB%C%dD8%AC%D8%8C%D8%AFـ%D8%A8%DB%8C%D8%A7%D8%AA%D8%B2%D9%86%D8%AC%D8%A7%D9%86%DB%8Cـ%D8%AF%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%AD%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%B2%D9%87ـ%D8%A8%D8%A7%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AFـ%D9%86%D9%88%B4%DB%8C%D8%AF%D9%86ـ%D8%A2%D8%A8

تاريخ الوصول إلى الخبر: 18 / 9 / 1392هـ.ش.

([57]) نقلاً عن:

http://fararu.com/fa/news/156313/%D9%88%D8%A7%DA%A9%86%D8%B4ـ%D8%A2%DB%8C%D8%AAـ%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87ـ%D9%85%DA%A9%D8%A7%D8%B1%D9%85ـ%D8%A8%D9%87ـ%D9%81%D8%AA%D9%88%A7%DB%8Cـ%D8%AC%D9%86%D8%AC%D8%A7%D9%84%DB%8C

تاريخ الوصول إلى الخبر: 18 / 9 / 1392هـ.ش.

([58]) السيد علي السيستاني، فقه براي غرب نشينان، ترجمه إلى اللغة الفارسية: السيد إبراهيم سيد علوي، 1378هـ.ش.

([59]) أي (تأثير رؤية الفقيه على فتاواه).

([60]) الأستاذ الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة 20: 182. يمكن الوصول إلى هذا الكتاب بلغته الفارسية عبر الرابط التالي:

http://www.mortezamotahari.com/fa/bookview.html?Bookld=395&BookArticaleID=129296

([61]) انظر:

http://www.jameehmodarresin.org/index.php?option=comـcontent&task=view&id=325&Itemid=39; http://www.bayynat.org.Ib/; http://www.english.shirazi.ir/.

([62]) Vincenti, op. cit, p. 220.

([63]) الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري، آثار شهيد مطهري (سلسلة مؤلفات الشهيد المطهري) 26: 67 (مصدر فارسي).

([64]) توجد هذه الفتوى في الموقع الإلكتروني الرسمي للشيخ يوسف الصانعي عبر الرابط التالي:

http://1saanei.org/?view=02,00,00,0

([65]) صحيفة رسالت، بتاريخ: 17 / شهر دي / 1366هـ.ش؛ صحيفه نور 20: 170 ـ 171.

([66]) handbooks ـ manuals.

([67]) لا بُدَّ من الالتفات إلى أن المراد هنا ليس هو القول بأن الفقهاء والمهندسين وحدهم هم الذين يستخدمون الأسلوب الاستقرائي. بل هناك الكثير، ومن بينهم: الفلاسفة والعلماء والمتألهين، وحتى الناس العاديين، يستخدمون هذه الوسيلة (بزعمهم). بَيْدَ أن النقطة الكامنة هنا هي أن جميع هؤلاء مخطئون في هذه الناحية؛ فإن الاستقراء بوصفه ـ أسلوباً للاستنتاج ـ غير معتبر؛ كما أنه بوصفه أسلوباً لكشف الفرضيات يُعَدّ مستحيلاً وغير ممكن؛ لأن جميع المشاهدات محفوفة بالنظريات.

كما أننا لا نريد بذلك القول بأن الفقهاء والمهندسين يستخدمون الأسلوب الاستقرائي فقط، بل إن كلا الجماعتين تستخدمان الأسلوب الاستنتاجي والقياسي أيضاً. ومن بين الأمثلة على استخدام الاستقراء هو أصل الاستصحاب في أصول الفقه، وقد عرَّف محمد الشهابي أصل الاستصحاب في كتابه (تقريرات الأصول: 123، مكتبة خيام، طهران، 1358هـ.ش) على النحو التالي: (كلما كان هناك يقينٌ بوجود شيءٍ في زمن، ثم شكّ بوجوده في زمنٍ لاحق، إذا لم يتمّ الاعتناء بهذا الشك، وافترض بقاء ذلك الشيء في الزمن اللاحق، بمعنى أنه تمّ ترتيب جميع الآثار الشرعية على وجوده الحقيقي على وجوده التنـزيلي، عندها نكون قد استصحبنا وجود ذلك الشيء. وعليه فإن الاستصحاب يقوم في الحقيقة على ثلاثة أركان، وهي:

1ـ اليقين بالحالة السابقة.

2ـ الشك في بقائها لاحقاً.

3ـ ترتيب آثار اليقين السابق على زمان الشك اللاحق).

([68]) لقد أشار عليّ السيد ياسر الميردامادي بهذه النقطة، وأرى من واجبي هنا أن أتقدَّم له بالشكر على ذلك.

([69]) لقد أشار علينا السيد ياسر الميردامادي بهذه النقطة فله منّي جزيل الشكر والتقدير.

([70]) futures.

([71]) swaps.

([72]) collateral debt obligations.

([73]) derivatives.

([74]) derive.

([75]) entity.

([76]) asset.

([77]) index.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً