أحدث المقالات
تمهيد

ثمّة اختلاف بين فئات المسلمين حول أوّل مدوّن في أصول الفقه؛ إذ تدّعي كل فئة لنفسها الأسبقية، وتذكر أسماء مدوّنات أسلافها، لكننا لا نستطيع الحكم من خلال الأسماء التي نقلت لنا؛ لأنّ أسماء الكتب ـ خاصّة في القرون الأولى ـ لا تعكس محتواها، وحتى إذا دلّ العنوان على الموضوع، لايدلّ على زاوية البحث. من ناحية أخرى، تؤدي مناقشة بعض المسائل في عدة علوم إلى إبهام في معرفة الموضوع المقصود من العنوان، نتيجة تشابه مسائلها، كما أنّ أسماء أبواب الكتاب الواحد، في كتب فهارس القدماء، كانت تذكر تحت عنوان كتاب. وبعض الكتّاب كان يعطي الكتاب الواحد أكثر من اسم، وكلها تذكر في التراجم. إضافة لكل ذلك، لفظ الأصول كان يستخدم لأصول العقائد، أكثر مما يستخدم لأصول الفقه، ومن الناحية العملية أيضاً، كانت الكتب التي حفظت هي صاحبة الأثر في الحركة العلمية.

أول مدوّن أصولي: الكتاب، الكاتب، أسباب الكتابة

الكاتب: ابن إدريس الشافعي

على عكس كثير من المواضيع، لا يوجد خلاف كبير حول أول مدوّن أصولي جامع وصل إلينا؛ فقد أجمع الكتّاب على أنّه كتاب <الرسالة> لمحمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي (150 ـ 204هـ)، ولد بغزة (فلسطين) وحمل منها إلى مكة وهو ابن السنتين([1]).

المراحل العلمية في حياة الشافعي

أ ـ المرحلة الحجازية: في هذه المرحلة كان الشافعي مالكيَّ المذهب والمنهج. التفّ حوله العلماء؛ لأنه استطاع أن يقدّم إليهم فقه الحديث مطعّماً بمنهج جديد مستفاد من منهج العراقيين.

ب ـ المرحلة العراقية: بدأت هذه المرحلة حين قدم للمرّة الثانية إلى بغداد (195هـ)؛ حيث ظهر الشافعي لأول مرة، بمظهر الفقيه الذي لا يلتزم بمذهب شيخه مالك. وخالفه في كثير من الفروع والأصول. والتفّ حوله علماء العراق؛ لأنه نقل إليهم فقه الرأي مدعّماً بالرواية؛ ولذلك سمّيَ بناصر السنّة، وأملى جميع كتبه المهمّة في هذه البرهة على تلاميذه كالرسالة والأم و..([2]).

أمّا أصحاب الشافعي و رواة مذهبه من العراقيين([3])، فكانوا عدّة: 1 ـ أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي. 2 ـ أحمد بن حنبل. 3 ـ الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي. 4 ـ أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي. 5 ـ أحمد بن يحيى بن عبدالعزيز البغدادي.

وممّن تفقه من أصحاب الشافعي العراقيين: 1 ـ داوود بن علي إمام أهل الظاهر. 2 ـ أبو عثمان بن سعيد الأنماطي. 3 ـ أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج. 4 ـ أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبراني المشهور بابن القاضي. 5 ـ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.

ج ـ المرحلة المصرية: بدأت هذه المرحلة عندما انتقل الشافعي إلى مصر سنة 199هـ، وقد التقى فيها بعدد من كبار الفقهاء، منهم تلامذة الإمام مالك، فرجع عن كثير
من آرائه، واضطرّ لإملاء بعض كتبه ثانية. كان الشافعي يقف موقفاً وسطاً من الاتجاهات التي كانت موجودةً آنذاك؛ ففي الوقت الذي كان يعتمد على الحديث، لم يترك الرأي ([4]).

أمّا أصحابه المصريون([5])، فهم: 1 ـ يوسف بن يحيى البويطي المصري (231هـ). 2 ـ حرملة بن يحيى بن عبدالله التجيبي (243هـ). 3 ـ أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري (264هـ). 4 ـ يونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري (264هـ).

وقد عرف عن الشافعي، إضافة إلى تلمّذه في مدارس مختلفة، ومعرفته بأسباب اختلاف مدرستي الحجاز والعراق، أنه كان طوّافاً في الأقاليم، عالماً بأعراف الناس؛ الأمر الذي مكّنه من الوقوف على مشكلة العلاقة بين الفقه وتنظيم الحياة الاجتماعية، التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وجمع عنده فقه مكة، والمدينة، والشام، ومصر، والعراق. كما أنه لم ير في الخلافات المذهبية <الكلامية> مانعاً من الوقوف على الآراء والاجتهادات الفقهية لأصحابها، والاستفادة منها، كذلك كان متمرّساً بأساليب الجدال والمناظرة على غرار ما هو معروف لدى علماء الكلام([6]).

 

تأليفات الشافعي الأصولية

كتاب الأم، وإن كان في الأصل كتاباً فقهياً، لكن وردت فيه مجموعة لا بأس بها من القواعد الأصولية، وذلك في ثنايا استدلاله على الأحكام، أو مناقشة الخصوم. وقد طبع كتاب إبطال الاستحسان كملحق له([7])، ومن تأليفاته الأصولية الأخرى، يمكننا ذكر: كتاب الرسالة، كتاب الإجماع، كتاب صفة نهي النبي 2، كتاب اختلاف الحديث([8]).

منهج الشافعي في الاجتهاد الفقهي

يعتبر مذهب الشافعي مذهباً منظماً؛ إذ ضبط الأحكام تحت قواعد عامة تحكمها، ويعدّ لدى كثير من الباحثين وسطاً بين المنصرفين عن الرأي والمغالين فيه، وإن كانت طريقته أقرب للمحدّثين([9])، وقد دوّن الشافعي قواعد مذهبه في كتابه الأصولي المعروف <الرسالة>، واحتجّ فيه بظواهر القرآن الكريم، حتى يقيم دليلاً على أنّ المراد بها غير ظاهرها([10])، ويقسّم الشافعي القرآن إلى عام ظاهر، يدلّ على ما يفيده السياق، وعام ظاهر يدخله الخاص فيستدل به على بعض ما يشمله العام، وعام ظاهر يراد به الخاص، وهو في الحقيقة لا يراد به ذلك العام الظاهر، وإنما يدلّ السياق على المراد منه. ويرى أنّ الحكم العام يبقى عاماً ما لم يدخله التخصيص، فإذا ثبت المخصّص، فعندئذ يعتبر خاصاً؛ لأن المخصّص يقصر العام على بعض أفراده، ويؤكّد أن المراد باللفظ العام ليس هو العموم وإنما هو الخصوص. ولهذا فإن دلالة اللفظ العام على معناه العام دلالة ظنية، وهذه الدلالة تقبل التخصيص بخبر الآحاد([11]).

رأى الشافعي في القرآن الكريم، بوصفه المصدر الأول، مغزى أعمق مما رأى السابقون؛ فهو ـ فضلاً عمّا بيّنه من أحكام الفروع ـ أشار إلى وسائل تفسير هذا القدر المحدود والبناء عليه؛ فقد أقيمت سنّة النبي 2 بالأمر المتكرر >وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ<، وأصبحت الأصل الثاني للفقه بعد كلام الله عزّ وجلّ مباشرة. وأكّد الشافعي أنّ أحكام النبي 2 الفقهية من وحي الله تعالى.

تصريح الشافعي بأنّ السنة مصدر مكمّل للقرآن في التعرف على الإرادة الإلهية أهم إسهام قدّمه هذا الفقيه للتشريع الإسلامي؛ فقد كانت السنّة تنصرف أساساً في المدارس الباكرة إلى المرويات الخاصة بمدرسة معينة. وبهذا العمل سعى إلى اقتلاع سبب الخلاف بين المراكز الفقهية، وبث الوحدة في النظر التشريعي([12])، وقد أولع الشافعي بالسنّة ووجّه الناس إليها، حتى قدّر خبر الواحد الثقة، وإن لم يكن مشهوراً ـ خلافاً للأحناف ـ وإن لم يوافق عمل أهل المدينة، خلافاً لمالك([13])؛ فعنده، إذا اتصل الحديث عن رسول الله 2، وصحّ الإسناد به، فهو المنتهى. والحديث على ظاهره. وإذا احتمل المعاني، فما أشبه منها ظاهره فأولاها به. وإذا تكافأت الأحاديث، فأصحّها إسناداً أولاها. وليس المنقطع بشيء ماعدا منقطع ابن المسيّب.

وضع الشافعي السنّة الصحيحة إلى جانب القرآن الكريم، واعتبر أنّ كليهما واجب الاتّباع، وتجاوز الشروط والقيود التي وضعها غيره على السنّة، ولم يلتزم بأكثر من شرط الصحّة والاتصال([14])، كما لم يشترط غير ذلك من عمل يؤيّد الحديث كما اشترط مالك، ولا شهرة كما اشترط أهل العراق. وقد نال بذلك الدفاع حظاً كبيراً عند أهل الحديث، حتى كان أهل بغداد يطلقون عليه لقب ناصر السنّة([15])، علماً بأنه اشترط العدالة والضبط والعلم بمعاني الحديث لرواة خبر الآحاد، وأن يكونوا قادرين على النقل الدقيق لكلّ ما يتعلّق به من أحكام، ولما يدلّ عليه من دلالات([16]).

ويربط الشافعي برابط محكم بين القرآن والسنّة، ويجعلهما في مرتبة واحدة من حيث القيمة التشريعية، في حال ثبوت السنّة؛ لأنّ السنّة عنده بيانٌ للقرآن، ولا يمكن للبيان أن تكون قيمته التشريعية أدنى من مرتبة النص الأصلي، فالسنّة مكملة للقرآن، غير أنه يقول بأنّ كلاً منهما لا ينسخ الآخر، وإذا جاء القرآن ناسخاً للسنّة، فلابد من وجود سنّة تؤكّد ذلك النسخ؛ لأنّ السنّة بيان للقرآن الكريم([17]).

ويعدّ الشافعي أول من عرّف السنّة بأنها السلوك المثالي للنبي 2، وفي هذا يختلف عن أسلافه الذين لا يرون ضرورة في ارتباطها بالنبي 2. ويكفي عندهم أن تمثل العرف السائد للأمة وإن كان مثالياً، وهم بذلك يجعلون العرف السائد في درجة مساوية للعمل المعتاد، أو الأمر الذي عليه العمل بشكل عام؛ ولذلك لا يرى الشافعي الحجّة إلا في أفعال النبي 2، ويعترف من حيث المبدأ بأحاديث النبي فقط، على الرغم من أنه لايزال ينحو منحى المذهب القديم في قبول أقوال الصحابة وآراء التابعين، وحتى المصادر المتأخرة بوصفها حججاً ثانوية([18]).

الإجماع، ثالث مصدر للفقه عند الشافعي، وهنا أيضاً يلتقط الشافعي المفهوم السائد ليعطيه مضموناً جديداً بهدف تحقيق الوحدة في الرؤى الفقهية؛ فيرى ـ بعد أن رفض أيّة حجية في اتفاق فقهاء مصر من الأمصار ـ أنّ الإجماع لا ينعقد صحيحاً، إلا في حال اتفاق كافّة علماء الأمة الإسلامية على حكم من الأحكام. ويبدو أنّ صياغته للإجماع بهذه الصورة، في الحقيقة رفض لحجية الإجماع الخاص بمصر من الأمصار، ورفع الخلاف الفقهي الناتج عنه([19])؛ والإجماع عنده عدم العلم بالخلاف؛ لأنّ العلم بالإجماع في نظره غير ممكن([20])، ولا يحصل عادةً اتّفاق جميع العلماء إلا إذا كان فيه نصّ، فيصبح الإجماع مؤيداً للحكم الثابت عن طريق النص. أما الإجماع الذي ينبثق عن الاجتهاد في القضايا المختلف فيها، فمن الصعب عنده إثباته. لكنّه يختلف ـ من الناحية النظرية ـ عن شيخه <مالك> من حيث القول بإجماع أهل المدينة؛ إذ لا يكتفي بإجماعهم؛ لأنه لابدّ من إجماع علماء الأمة في جميع الأمصار لتحقق ثبوته. لكنه على الرغم من ذلك، لا يرفض إجماع أهل المدينة؛ لأنه يعتبر أنهم لا يمكن أن يجمعوا على أمر، ما لم يكن قد أجمع عليه كافة العلماء([21]).

وقد أخذ الشافعي بقول الصحابة؛ لأنّ رأيهم لنا ـ كما يقول ـ خيرٌ من رأينا لأنفسنا، فهم أفضل منّا في الاجتهاد والعلم والتقى والورع؛ فما اتفقوا عليه فهو إجماع. ونأخذ بأقرب الأقوال إلى الكتاب والسنّة والإجماع فيما اختلفوا فيه، كما أخذ بأقوال الخلفاء الراشدين؛ لأنهم لا يأخذون ـ عادةً ـ برأي أو اجتهاد إلا بعد أن يسألوا عن الدليل من الكتاب والسنّة، ولا يؤخذ بغير رأيهم ما لم يكن عليه دليلٌ أقوى([22]).

رابع مصدر للفقه عند الشافعي هو القياس فيما إذا لم يكن هناك دليل منصوص، شريطة أن يكون له أصل معيّن([23])، وإذا لم تكن علّته منضبطة لم يعمل به([24]). وحتى بالنسبة للقياس الذي له أصل من الكتاب والسنّة، لم يتوسّع به توسع غيره ممّن أخذوا به([25]). وسبب عمله بالقياس أنه كان يعتقد أنّ أحكام الشريعة لا يمكن أن تكون قاصرة على ما ورد به النص، وإنما تشمل كل الحوادث المستجدّة التي تواجه الإنسان في حياته؛ ولهذا لابد من الاعتماد على قياس المسائل غير المنصوص عليها على المسائل المنصوص عليها، ويسمي القياس اجتهاداً([26])، كما يقسّم القياس إلى مراتب بحسب وضوح العلّة في الأصل وتوافرها في الفرع، فأحياناً تكون العلة في الفرع أقوى تأثيراً من الأصل، كتحريم القليل عن طريق النص، وتحريم الكثير عن طريق القياس من باب أولى، وأحياناً تكون العلّة في الفرع أقلّ وضوحاً من الأصل؛ وهنا تتضح للمجتهد صعوبة القياس. ويرى الشافعي القياس على الحكم العام المنصوص عليه، دون الأحكام الاستثنائية التي تدخل ضمن الرخص، فالحكم الاستثنائي لا يُقاس عليه أصلاً؛ لأنه مستثنى والمستثنى لا يصلح أن يكون حكماً عاماً صالحاً للقياس عليه([27]).

وقد أبطل الشافعي مبدأ الاستحسان، وألّف في ذلك كتاباً أسماه <إبطال الاستحسان>، وهو المبدأ الذي أخذ به أبو حنيفة ومالك؛ معلّلاً رأيه في ذلك بأنّ الفقيه يأخذ بهذا المبدأ بعد أن خاض بحثاً طويلاً في الكتاب والسنّة والأثر والإجماع والقياس؛ فيكون قد أخذ بما استحسنه هو، لا بما أعطاه الدليل من الكتاب والسنّة. والدليل الآخر عنده على إبطال الاستحسان هو أن الاجتهاد بطريق الاستحسان من غير الاعتماد على أصلٍ من الكتاب والسنّة يكون اجتهاداً باطلاً، ونتيجته تبعاً له تكون باطلة([28])، إنّه يقول: <من استحسن فقد شرّع>([29])؛ وكأنه بذلك يردّ على شيخه مالك الذي قال بأنّ الاستحسان تسعة أعشار العلم. ويرى الشافعي ـ في معرض إبطاله للاستحسان ـ أنّ القول بالاستحسان يستدعي الاعتراف بأنّ الشريعة لم تتعرّض لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وهذا غير صحيح؛ فالأمور التي لم تتعرّض لها النصوص بشكل مباشر، من السهل الاجتهاد فيها عن طريق القياس، ولمّا كان الاستحسان لا يقوم على القياس، فهو حكمٌ بالهوى([30]).

ولعلّ أهم ما دفع الشافعي لرفض الاستحسان بهذه الشدة، أنّ استخدام الفقهاء للرأي والاستحسان أدّى إلى كثير من الخلاف في الرأي الفقهي؛ وبإبطاله للآراء غير المنضبطة حسب رأيه وبإصراره على شرعية القياس دون غيره، كان يتابع سيره نحو هدفه المنشود، وهو تحقيق وحدة الفقه([31]).

كذلك رفض الشافعي ما سمّاه المالكيون بالاستصلاح([32])، وردَّ المصالح المرسلة([33])، ورفض الحديث المرسل في الجملة([34])، كما حرص دوماً على تأسيس اللاحق على السابق في ما يخصّ الأصول الأربعة التي بنى فقهه عليها: الكتاب، السنّة، الإجماع والقياس؛ فالسنّة مثلاً تتأسّس شرعيّتها على الكتاب، وبأدلّة منتزعة من منطوقه أو مفهومه([35]).

كان هاجس الشافعي الأساس في منظومته الفكرية، هو البحث عن مصدر لليقين والحجة([36])، وربط منهجه فيما يتعلق بالرأي والاستنباط بالقرآن والسنّة، واستطاع أن يقاوم الاتجاه نحو الرأي بأسلوب علمي مقنع، وبمنهج جدلي استفاده من فقهاء الرأي أنفسهم([37]).

دوافع الشافعي إلى تدوين أصول الفقه

إضافةً إلى ما ذكرناه في دراسة سابقة حول دوافع تدوين علم أصول الفقه([38])، نسلّط الضوء هنا على دوافع الشافعي بصورة خاصة؛ بصفته صاحب أول أثر مدوّن جامع بين أيدينا في علم أصول الفقه.

في عصر الشافعي اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، ونشطت حركة الإعمار، واختلط العرب بغيرهم، وكثرت النوازل والحوادث، واستمرّت في عصره حركة التدوين، وشملت أغلب العلوم الإسلامية كالحديث، واللغة، والفقه، والفلسفة، والكلام، وجمعت كافة الأحاديث في هذه الفترة؛ فأدى ظهور تلك الأحاديث إلى رفض كثير من الناس العمل بها، لتمسّكهم بالمأثور من الحديث في مناطقهم؛ فوقع نتيجة ذلك الاختلاف والتعارض؛ فكان رفع هذا الاختلاف وبيان ما يمكن الأخذ به وما لا يمكن أخذه من الأحاديث المروية عن الرسول 2، أحد محفزات الشافعي لتدوين علم أصول الفقه([39]).

المسألة المهمة الأخرى، كانت حدّة الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث؛ وقد تمنّى بعض العلماء وجود من يضع قانوناً كلياً، يرجع الجميع إليه، واتجهت الأنظار نحو عالم قريش، فكتب إليه عبدالرحمن مهدي (125 ـ 198هـ) يسأله وضع هذا القانون الكلّي، وضبط مناهج الاستنباط، وتقييدها بكتاب جامع لهذه القواعد، يعرّف دلائل الفقه، ويبيّن مراتبها، لعلّه يساعد على ردم الهوّة بين أهل الرأي وأهل الحديث، ويمهّد لظهور فقه جديد جامع لما في فقه كلّ من الفريقين من فضائل([40]).

لقد بدا أنّ المخرج الوحيد من تلك الأزمة، هو تقنين منهج لفهم معقول ومضبوط للنص، واستنباط معانيه ومقاصده، وضبط طريقة تأويله، وبذلك تتوحّد الرؤية لدى سائر <العلماء> مهما تعدّدت اجتهاداتهم، وتبعاً لذلك تتوحّد <السلطة> العلمية في الإسلام.

كان الشافعي مالكاً لأدوات ذلك التوحيد؛ فهو ـ على حدّ تعبير أحمد بن حنبل (241هـ) ـ : <فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة واختلاف الناس والمعاني والفقه>، ولا معنى لاختلاف الناس أو اختلاف العلماء في عصر الشافعي إلا حول ما يؤسّس السلوك، ويقنّن الاختيارات الأخلاقية، والمعاملات التجارية، والمواقف، والتصرفات السياسية. فهو إذاً اختلاف حول المواقف العملية التي تتطلب تقنيناً وتنظيماً في ضوء <النص> الذي يجب ضبط بيانه ومعانيه ودلالاته اللغوية وإنقاذها من عبث كل من يريد <توظيفها> ذاتياً باسم الاستحسان أو المصلحة([41]).

ويبدو أنّ طلب عبدالرحمن مهدي صادف هوى في نفس الإمام الشافعي؛ فكتب كتاباً وأرسله إلى الإمام عبدالرحمن بن مهدي، ولذلك سمّي بالرسالة؛ فأقبل عليه أهل الحديث والرأي سواء، وتحوّل الصراع الذي كان بين الفريقين إلى صراع من نوع جديد له مرجع من قواعد ثابتة، وأسس واضحة ساعدت على تنمية وتزكية الثروة الفقهية، وإضافة مذهب جديد وسط بين أهل العراق وأهل الحجاز([42])، ويصف ابن حنبل هذه الحالة بقوله: <مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا>([43]).

ومن أهم أهداف الشافعي في وضع الأصول، نزع الطابع الشخصي المحض عن مجال تقنين الأحكام، وإصدار الفتاوى والأوامر، مع إضفاء الشمولية عليها قدر الإمكان، ثم الاحتكام في عملية التقنين لما هو مشترك ومجمع عليه بين المختلفين، مما يعتبر مصدراً أصلياً في التشريع، كي لا يستغلّ الحاكم ظروف الاختلاف، وينصّب نفسه حَكَماً وصاحب الكلمة الفصل، حسب نصيحة ابن المقفع في رسالته <رسالة الصحابة> للحاكم([44])؛ لهذا نجده يتساءل في مستهلّ رسالته في مبحث فعل البيان عن <كيفية البيان> لا عن ماهيته؛ مما يعني أنّ التساؤل ينصبّ حول البيان كفعل لا كجوهر أو صفة مجرّدة ومطلقة؛ فإنّ لفعل البيان في رسالة الشافعي علاقة جدلية وثيقة بفعل الأمر وضروب السلطة والشرعية، ولا يمكننا إدراك أهمية محاولة الشافعي ضبط هذا <البيان>، وتلك المعرفة إلا إذا أدركنا خطورة توظيف واستغلال المفاهيم الشرعية في الإسلام، وخطورة إضفاء طابع ديني <مقدّس> على صورة ذلك التوظيف، وفي ذلك الطامّة الكبرى والتسلّط غير المشروع.

العديد من الكتّاب في عهد الشافعي تجرؤوا بالفعل على تبرير ذلك الاستغلال، وتغليفه بغلاف ديني مقصود، وأيّ خطر أعظم من التعامل مع المفاهيم السياسية بوصفها مفاهيم مطلقة غير مقيدة، ولا مضبوطة؟!([45])، يمكننا مراجعة فهرس <الرسالة> الذي وضعه محققها أحمد شاكر([46]) شاهداً على هذا الدافع؛ حيث يبدو نص <الرسالة> من خلاله كأنّه قاموس في المصطلحات السياسية، وفي المفاهيم الأكثر رواجاً عند رجل السلطة، علماً بأنّ هذا الكلام لا يدلّ على أولوية الهمّ السياسي عند الشافعي على باقي الهموم المعرفية والعلمية([47]).

لقد وعى الشافعي جيداً ـ من خلال تجاربه اليومية مع ممارسات رجل السلطة، أو بعدما قدّمه والي نجران للخليفة هارون الرشيد بتهمة أنه <يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه>، وكاد أن يضرب عنقه ـ مدى التناقض بين مفهوم الخلافة، وممارسات مصاديق الخلافة، وطبيعي أن يكون لتلك التجارب بصمات على ما سيؤسّسه الشافعي من علم لأصول الاستنباط؛ فإذا كان علم المنطق يمثل قانوناً لكل تفكير، فإنّ علم الأصول يمثل قانوناً لكل عمل، لا سيما العمل السياسي؛ وبذلك مهّد الشافعي الطريق أمام رجل العلم بعده، ليتساءل دوماً وليُقلق بتساؤله رجل السياسة عن ضرورة وجود منطق للعمل ومقاصد للسلوك وضوابط للتشريع والأمر([48]).

تعريف مختصر ﺒ <الرسالة>

تطرّق الشافعي في رسالته التي بلغت ستمائة صفحة، إلى عدة أمور([49]):

1 ـ القرآن الكريم وبيانه: ذكر في الفصل الأول كيفية البيان وجعله على أنواع، ثم ذكر أنّ القرآن عربي وليس فيه شيء إلا بلسان العرب، ونشأ من كونه عربيّاً أنّه يفهم كما تفهم العرب معانيها من كلامها.

2 ـ السنّة ومقامها بالنسبة للقرآن الكريم: بيّن أنّ السنّة مفروضة الاتّباع بأمر الله، وأنها الحكمة المذكورة في قوله تعالى: >وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ<.

3 ـ الناسخ والمنسوخ: بيّن أنّ الكتاب قد ينسخ رحمةً للخلق بالتوسعة عليهم زيادة فيما ابتدأهم الله به من النعم، وبيّن أنّ الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأنّ السنّة لا تكون ناسخةً للكتاب، وإنما هي تابعة له بمثل ما نزل به نصاً، ومفسّرة معنى ما أنزل الله به جملاً، وهكذا سنّة رسول الله 2 لا ينسخها إلا سنّةٌ له.

4 ـ علل الأحاديث: أفاض في بيان علل الأحاديث من جهة تلقيها عن رسول
الله 2، ثم تكلّم عن ناسخ السنّة ومنسوخها، وضرب على ذلك أمثلة كثيرة، وأتى بأحاديث عدّة تختلف في ظاهرها، فأبان وجه اختلافها، وكيف يكون عمل المجتهد في الجمع أو الترجيح بينها.

5 ـ العلم: تكلّم الشافعي عن تعريفه وأقسامه، وما يجب على الناس فيه و..

6 ـ خبر الواحد: تكلّم في تثبيت خبر الواحد، مستفيضاً فيه.

7 ـ الإجماع: استدلّ له بما ثبت لديه عن رسول الله 2، من الحث على لزوم جماعة المسلمين، وقال: إنه لا معنى له إلا لزوم ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.

8 ـ القياس والاجتهاد: قال: إنهما اسمان لمعنى واحد، واحتجّ للقياس وعدّه من الدين، وتوسّع في الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد، وبيّن أنواع القياس ووجوهه، ومن يحقّ له العمل به.

9 ـ الاستحسان: وهو القول بغير خبر ولا قياس، وردّه ورفضه.

10 ـ الاختلاف: وقد بيّن ما لا يجوز فيه الاختلاف، وهو ما أقام الله تعالى عليه الحجّة في كتابه أو على لسان نبيه 2، منصوصاً بيّناً، فلا يحلّ الاختلاف فيه لمن علمه. أمّا ما يجوز فيه الاختلاف فهو ما احتمل التأويل أو أدرك بالقياس، وجاء بأمثلة كثيرة على ذلك.

وممّا يمتاز به هذا الكتاب، أنه ينقل أقوال من يناظرهم بصورة وافية مستدلّة، ثم يناقشهم، كما نراه جليّاً في بحث الاحتجاج بالسنّة([50]).

نذكّر بأنّ هذا البحث لم يعدّ لمناقشة أفكار العلماء أو تقييم نتاجاتهم العلمية؛ وإلا لطال الوقوف مع الإمام الشافعي؛ فنترك هذا الجانب الأهم إلى فرصة أخرى إن شاء الله.

*    *     *

الهوامش



([1]) تذكرة الحفاظ 1: 329؛ تهذيب التهذيب 9: 25؛ الوفيات 1: 447؛ إرشاد الأريب 6: 367 ـ 398؛ غاية النهاية 2: 95 نقلاً عن خيرالدين الزركلي، الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين)، ط 14، بيروت: دارالعلم للملايين، 1999م، ج 6، صص 26و 27.

([2]) محمد فاروق النبهان، المدخل للتشريع الإسلامي، ط1. الكويت: وكالة المطبوعات، بيروت: دارالقلم، 1977م. ص274.

([3]) محمد الخضري بك، تاريخ التشريع الإسلامي. ط7. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1960م. صص 255 ـ 258.

([4]) النبهان، (م. س.)، صص 273، 275.

([5]) الخضري بك، (م. س.)، صص 258 و259.

([6]) عبدالمجيد الصغير، الفكرالأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام (قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة). ط1. بيروت: دارالمنتخب العربي، 1415هـ. ص 166.

([7]) محمد رواس قلعةجي، <تأسيس الشافعي علم أصول الفقه> في مجموعة مؤلفين، الإمام الشافعي فقيهاً ومجتهداً، مراجعة: محمد توفيق أبوعلي، روحي طعمة، ط1، بيروت: دار تقريب المذاهب الإسلامية، 1422هـ، صص 213 و214.

([8]) عبدالوهاب ابراهيم بن سليمان، <التنظير الأصولي وتطبيقاته عند الإمام الشافعي> في مجموعة مؤلفين، (م. س.)، ص 201.

([9]) محمد سلام مدكور، مدخل الفقه الإسلامي، ط1، القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، 1384هـ، ص43.

([10]) الخضري بك، (م. س.)، ص 254.

([11]) النبهان، (م. س.)، صص 267 و268.

([12]) ن. ج. كولسون، في تاريخ التشريع الإسلامي، ترجمة: محمد أحمد سراج، مراجعة: حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، ط 1، (الكويت: دارالعروبة. القاهرة: دارالفصحى، 1402هـ)، صص 122 ـ 125.

([13]) مدكور، مدخل الفقه الإسلامي، (م. س.)، ص 43.

([14]) طه جابر فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ1 ـ>، المسلم المعاصر، العدد 14، 1978م، صص48 و49.

([15]) الخضري بك، (م. س.)، ص 254.

([16]) النبهان، (م. س.)، ص 268.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) جوزيف شاخت، <أصول الفقه المحمدي>. ترجمة: الصديق بشير بن نصر. مجلة كلية الدعوة الإسلامية. العدد11، 1994م. ص650.

([19]) كولسون، (م. س.)، ص 128.

([20]) الخضري بك، (م. س.)، ص 254.

([21]) النبهان، (م. س.)، ص 269.

([22]) الرسالة، صص 158 و159. نقلا ً عن (ن. م.) ص 270.

([23]) الخضري بك، (م. س.)، ص 254.

([24]) فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ1ـ>، (م. س.)، ص 49.

([25]) مدكور، مدخل الفقه الإسلامي، (م. س.)، ص 43.

([26]) الرسالة، صص 128 و129. نقلاً عن النبهان، (م. س.)، ص270.

([27]) ن. م. ص 271.

([28]) مصطفى الشكعة، الأئمة الأربعة، ط 4، القاهرة: دار الكتاب المصري. بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1418هـ، ص 124.

([29]) فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ1ـ>، (م. س.)، ص 49.

([30]) الرسالة، ص 134، نقلاً عن النبهان، (م. س.)، ص 271.

([31]) كولسون، (م. س.)، ص 130.

([32]) الخضري بك، (م. س.)، ص 255.

([33]) فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ1ـ>، (م. س.)، ص 49.

([34]) مدكور، مدخل الفقه الإسلامي، (م. س.)، ص 43. ـ محمد محجوبي، مدخل لدراسة الفقه الإسلامي. ط1. الرباط: شركة بابل،1420هـ، صص 202 ـ 210.

([35]) نصر حامد أبوزيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، ط2، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996م، ص54.

([36]) ن. م. ص 125.

([37]) النبهان، (م. س.)، صص 272 و273.

([38]) انظر للكاتب مقال: أصول الفقه الإسلامي خلفيات النشوء وأوّل المدوّنات، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد الثاني: 220 ـ 260.

([39]) خليفة بابكر الحسن، دراسات في أصول الفقه الإسلامي، ط1، القاهرة: مكتبة الزهراء، 1422هـ، صص 39 و40.

([40]) فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ1 ـ>، ص 46.

([41]) الصغير، (م. س.)، صص 165 و166.

([42]) فياض العلواني، <علم أصول الفقه نشأته وتأريخه وتدوينه ـ 1 ـ>، ص 46 ـ 50.

([43]) القاضي عياض، المدارك، ج 1، نقلاً عن الصغير، (م. س.)، ص 166.

([44]) ن. م. ص 164.

([45]) ن. م. صص 168 ـ 171.

([46]) انظر: طبعة القاهرة، مكتبة دارالتراث، ط 2، 1399هـ، الصفحات: 663 ـ 670.

([47]) ن. م. ص 157.

([48]) ن. م. صص 161، 163.

([49]) الخضري بك، (م. س.)، صص 221 ـ 227.

([50]) ن. م. ص 226.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً