أحدث المقالات

ـ القسم الثاني ـ

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

«لا مال أعودُ من العقل»([1]). (النبيّ الأكرم‘).

5ـ تَبَعيّة الأخلاق النفسيّة للدين

إن تبعية الأخلاق النفسية للدين عبارةٌ عن دعوى أن الأحكام الأخلاقية في نفسها لا تشكل حافزاً ومحرِّكاً للإنسان، وإن الدافع نحو العمل بهذه الأحكام إنما يأتي من مجرّد الإيمان بالمتبنيات والتعاليم الدينية. وإن القائلين بهذا النوع من تبعية الأخلاق للدين قد يقولون باستقلالية الأخلاق عن الدين من سائر الجهات الأخرى، بمعنى أنه يمكن الجمع بين تبعية الأخلاق النفسية للدين مع استقلاليتها المفهومية والأنطولوجية والمعرفية والعقلانية عن الدين.

من جهةٍ أخرى فإن العلمانية الأخلاقية تعني علمنة الدوافع أيضاً. وإن للعلمانية في دائرة علم النفس الأخلاقي مفهومين: المفهوم الأول عبارةٌ عن دعوى أن الدافع الديني في الأساس ليس دافعاً أخلاقياً، وإن الفعل الذي يصدر عن الفاعل من خلال هذا الدافع لا يحتوي على قيمةٍ أخلاقية، بمعنى أن الدافع الديني لا ينسجم مع الدافع الأخلاقي، ولا يمكن الجمع بين الدافع الديني والدافع الأخلاقي. وأما المفهوم الثاني فهو عبارةٌ عن دعوى أن الدوافع الدينية والدوافع الأخلاقية متداخلتان، بمعنى أن الدوافع الدينية تنقسم إلى: دوافع أخلاقية؛ وغير أخلاقية، والدوافع الأخلاقية تنقسم إلى: دينية؛ وغير دينية. وعلى أيّ حال فإن الأخلاق من الناحية النفسية تعتبر مستقلّة عن الدين. وكما هو واضحٌ فإن العلمانية بالمفهوم الثاني إنما تنفي مجرّد حصر الدافع الأخلاقي بالدافع الديني فقط، وبذلك فإنها تنسجم مع دعوى أن الدافع الديني في ظل بعض الشرائط يمكن أن يكون دافعاً أخلاقياً، وأن الفعل الذي يصدر عن الفاعل من خلال بعض الدوافع الدينية يمكن أن يشتمل على بعض مراتب القيم الأخلاقية أيضاً.

ويمكن اعتبار البُعْد النفسي للأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية بوصفه نظرية «توصيفية»([2])، ويمكن اعتباره بوصفه نظرية «معيارية»([3]) أيضاً. وإن هذه النظرية في شكلها التوصيفي نظرية «علمية»، وإن الحكم بشأن صوابيتها أو خطئها رهنٌ بالتحقيقات العلمية ـ التجريبية. وفي هذه الفرضية يُعَدّ الركن النفسي للأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية في الحقيقة توصيفاً بديلاً عن الناحية النفسية للأخلاق القائمة. يذهب أنصار الأخلاق الدينية ـ خلافاً لأنصار الأخلاق العلمانية ـ إلى الادّعاء بأن الدافع الفعلي للأفراد في القيام بتكاليفهم الأخلاقية هو دافعٌ ديني.

إلاّ أن صدق ادعاء الأخلاق الدينية في هذا المورد لا يعني تبعية الأخلاق للدين. فربما أمكن من خلال التحقيقات التجريبية إظهار أن أكثر الأفراد في المجتمعات الدينية في الحدّ الأدنى ينطلقون في دوافعهم للقيام بتكاليفهم الأخلاقية من متبنياتهم الدينية، إلاّ أن هذه الحقيقة إنما تثبت عُمْق اللُّحْمة بين الدين والأخلاق في ما يتعلق بالمجتمعات الدينية، ولا ينطوي على أيّ دلالة تثبت تبعية الأخلاق النفسية للدين؛ وذلك أولاً: لأن ادعاء تبعية الأخلاق للدين إنما هو ادعاء في دائرة «الأخلاق المثالية»، وليس ادعاء في حقل «الأخلاق القائمة»، وثانياً: إن هذه الحقيقة لا تثبت أن الدافع الأخلاقي هو دافعٌ ديني حصراً، وأن القيام بفعل بدوافع غير دينية يُفْقِد ذلك الفعل قيمته الأخلاقية.

إن تبعية الأخلاق النفسية للدين بوصفها رؤية معيارية نظرية في باب الجهة النفسية من «الأخلاق المثالية». تقول هذه النظرية: إن الدافع الأخلاقي يجب أن يكون دافعاً دينياً. بينما يذهب الموقف العلماني للأخلاق إلى نفي الضرورة إلى ذلك، مدَّعياً أن الدافع الأخلاقي لا يجب أن يكون دافعاً دينياً، أو أن الدافع الأخلاقي ليس دافعاً دينياً بالضرورة، ويمكن أن لا يكون دينياً.

قبل البحث في العلاقة النفسية بين الدين والأخلاق يجب الالتفات إلى نقطة تمهيدية هامة. هناك في ما يتعلق بعلاقة المعتقدات أو الأحكام الأخلاقية والعمل آراء مختلفة في فلسفة الأخلاق. ويتمّ تصنيف هذه الآراء ضمن عنوانين كليّين، وهما: العلاقة «الباطنية»([4])؛ والعلاقة «الظاهرية»([5]). ربما أمكن القول: إن جميع فلاسفة الأخلاق متفقون في الرأي على أن الإنسان في سلوكياته وتصرّفاته الواعية والإرادية بحاجةٍ إلى دليل. والمراد من الدليل هنا هو ما يطرح في الجواب عن السؤال القائل: «لماذا يتعيَّن القيام بهذا الفعل؟». إن الذي يطرح هذا السؤال إنما يطالب في الحقيقة بنوعين مختلفين من الأدلة؛ فإنه تارةً يريد من خلال طرح هذا السؤال أن يقول: «ما الذي يجعل هذا العمل مبرّراً من الناحية العقلانية؟»، والأجوبة التي تقدَّم عن هذا السؤال تسمّى بـ «الأدلة التبريرية للعمل»([6]). إلاّ أن هذا السؤال قد يكون له معنىً آخر، بمعنى أن السائل قد يطالب ببيان الدافع إلى العمل، دون تبريره، وأن يكون مضمون سؤاله كالتالي: «ما هي الدوافع التي تضطرّني إلى القيام بذلك الفعل؟»، والأجوبة التي تقدّم عن هذا السؤال تسمّى بـ «الأدلة المحفِّزة نحو العمل»([7]). وعليه فإن السؤال عن أسباب العمل بالمعنى الأول هو سؤالٌ عن «تبرير»([8]) وتسويغ العمل، وأما بالمعنى الثاني فيمكن للسؤال أن يكون عن «تفسير»([9]) العمل؛ لأن دافع الفاعل يُعَدّ جزءاً من العلة الموجِدة للعمل، وإن تفسير العمل الاختياري يشتمل على بيان دافع الفاعل أيضاً.

وأما إمكان أن يلعب الدليل المبرّر للعمل دور المحرّك أيضاً أم لا فهو محطّ اختلاف. وهذا الاختلاف واحدٌ من فروع ذلك الاختلاف الذي عبَّرنا عنه آنفاً تحت عنوان الاختلاف بشأن علاقة المتبنيات والأحكام الأخلاقية بأدلة العمل، وكذلك علاقة الأدلة التبريرية والأدلة التحفيزية. إن الاختلاف في هذا المورد يقع حول أن هذين النوعين من الدليل هل هما في واقع الأمر شيءٌ واحد أم شيئان؟ وهل الأدلة التبريرية للعمل يمكن لها في حدّ ذاتها أن تكون محرِّكاً للفاعل أيضاً أم لا؟ وهل يمكن ـ في الأساس ـ للدليل المبرِّر للعمل أن يلعب دور العلّة للعمل أيضاً أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: إن الاختلاف يقع حول الموضوعين التاليين:

1ـ «هل المتبنيات أو الأحكام الأخلاقية في حدّ ذاتها أدلة مبرّرة للعمل؟».

2ـ «هل المتبنيات أو الأحكام الأخلاقية في حدّ ذاتها أدلة محفّزة للعمل؟».

يدّعي فلاسفة الأخلاق «الباطنية» أن علاقة المتبنيات والأحكام الأخلاقية بالعمل، وكذلك علاقة هذين النوعين من الدليل ببعضهما، علاقة «ضرورية»([10]) و«سابقة»([11]) أو «مفهومية»([12])؛ وأما فلاسفة الأخلاق «الظاهرية» فيدّعون أن هذه العلاقة «اتفاقية»([13]) و«لاحقة»([14]).

وبعبارةٍ أخرى: يدّعي الباطنيون أن الحكم أو الاعتقاد الأخلاقي في ذاته يعتبر دليلاً مبرّراً للعمل، ودليلاً محفّزاً نحو العمل أيضاً، وفي حال تطبيق الحكم الأخلاقي على عملٍ لا نحتاج إلى شيءٍ آخر يبرِّر لنا ذلك العمل، ويحفِّزنا نحو القيام به. وأما الظاهريّون فيدَّعون بأن الاعتقاد أو الحكم الأخلاقي في حدّ ذاته، وعلى نحوٍ ضروريّ، لا يتمتَّع بمثل هذه الخاصية، وهو في ذاته وفي حدّ نفسه وبالضرورة لا هو دليل على تبرير العمل، ولا هو دليل محرِّك ومحفّز نحو العمل، وإن تبرير ودافع العمل لا ينشأ بالضرورة عن الأخلاق نفسها([15]).

يدّعي الباطنيون لو أن شخصاً آمن بحكم أخلاقي صادقاً، ومن صميم قلبه، والتزم به، كان صرف إيمانه والتزامه به يعني أنه يمتلك إجابةً مقنعة عن السؤال بشأن كلا نوعي الدليل، وإنّ طرح هذا السؤال بشأنه أو من قبله سيكون فاقداً للمعنى، أي إن الالتزام والإيمان بالحكم الأخلاقي في موردٍ هو عين الاعتراف بوجود الدليل المبرّر والدليل المحفّز في ذاك المورد. وعليه فإن الإيمان بالحكم الأخلاقي إذا اقترن بالمطالبة بدليل العمل فهذا يعني أن الفرد إما أن لا يكون صادقاً في إيمانه بذلك الحكم حقيقةً، وإنما آمن به «تقليداً» للآخرين، أو يثبت أن هذا الفرد لا يعرف معنى الحكم الأخلاقي أساساً.

ومن جهةٍ أخرى يذهب الظاهريون إلى الاعتقاد بعدم وجود أيّ تهافت بين الإيمان الحقيقي والصادق بالحكم الأخلاقي والمطالبة بدليل العمل([16]).

في النقاش المحتدم بين الباطنيين والظاهريين لا يتمّ في العادة التفريق بين «الدليل التبريري» و«الدليل التحفيزي».

وفي حدود علمي ليس هناك مَنْ قال بالتفصيل في هذا الشأن، بمعنى أن الباطنيين هم باطنيون بشأن كلا نوعي الدليل، وإن الظاهريين هم ظاهريون بشأن كلا نوعي الدليل.

ولكنْ يبدو لي أن هذا التفصيل والتفكيك ضروريٌّ؛ إذ إن الدليل الذي يبرّر العمل لجميع الناس قد لا يكون محرِّكاً لبعضهم.

وفي ما يتعلق بالدليل التبريري يبدو أن الحق مع الباطنيين، بمعنى أن الأحكام الأخلاقية في حدّ ذاتها تبرِّر العمل، وفي حال تطبيق حكم أخلاقي على مورد خاص لا نحتاج إلى تبرير آخر لذلك العمل، وأساساً لا وجود لشيءٍ آخر فوق الأخلاق والقيم والضرورات والمحظورات الأخلاقية يسعى إلى تبرير العمل بالنسبة لنا. وبطبيعة الحال فإن الأدلة المبرّرة للعمل لا تنحصر بالأدلة الأخلاقية، إلاّ أن الأدلة الأخرى بأجمعها في طول الأدلة الأخلاقية، أو في عرضها على الأقلّ، بمعنى أنها إما أقلّ من الأدلة الأخلاقية ومحكومة لها، أو في الحدّ الأقصى في رتبةٍ واحدة مع هذه الأدلة. وعلى أيّ حال فإن القيم والضرورات والمحظورات الأخلاقية هي من مقتضيات العقلانية العملية، من هنا فإن الالتزام الأخلاقي هو من تلقائه التزامٌ عقلاني، وإن العقلانية الأخلاقية ليست رهناً بانسجام الأدلة الأخلاقية مع مقتضيات العقل المتمحور حول ذاته.

وأما في ما يتعلق بالأدلة التحفيزية فيبدو أن الحقّ ليس مع الباطنيين، وليس مع الظاهريين، بمعنى أن الأدلة التي تبرّر العمل من الناحية الأخلاقية (والعقلانية) إنما لها قابلية وقدرة تحريك وتحفيز بعض الأفراد، وليس لها القدرة على تحريكهم بأجمعهم، أي إن الفرد إذا كان عاقلاً تماماً، أو بالمقدار الكافي، فإنّ مجرد الحكم الأخلاقي يكون كافياً لتحريكه وتحفيزه، دون أن يكون بحاجةٍ إلى دافع آخر، ولذلك ففي خصوص هذا المورد يكون الحقّ مع الباطنيين. وأما إذا لم يكن الشخص عاقلاً بشكل كامل، أو بالمقدار الكافي، فإن الحكم الأخلاقي في حدّ ذاته لن يكون محرِّكاً له، والحقّ في هذا المورد مع الظاهريين. ولكي يقوم هذا الشخص بوظائفه الأخلاقية سيكون بحاجةٍ إلى دوافع ومحركات خارجية.

وإن الذي يرتبط بالمعرفة النفسية للأخلاق، وبحثنا الراهن في حقل تبعية الأخلاق النفسية للدين، هو السؤال القائل: هل الأحكام الأخلاقية، التي هي في حدّ ذاتها ـ بحَسَب الفرض ـ وبغضّ النظر عن الدين والتعاليم الدينية دليل تبرير العمل، هي أيضاً، بغضّ النظر عن الدين والتعاليم الدينية، الدليل المحرّك والمحفّز نحو العمل أيضاً أم لا؟

يجيب أنصار الأخلاق الدينية عن هذا السؤال على الشكل التالي: إن الأحكام الأخلاقية في حدّ ذاتها وبغضّ النظر عن المعتقدات الدينية ليست محرِّكاً نحو العمل، وإن التعاليم الدينية تلعب دوراً حصرياً في الدعم النفسي والضمانة التنفيذية للقيم الأخلاقية. وعلى هذا الأساس فإن ادّعاء تبعية الأخلاق النفسية للدين هو في الحقيقة نوعٌ من النزعة الظاهرية في ما يتعلَّق بالأدلة التحفيزية نحو العمل، وعلى أساسه لا تكون الأحكام الأخلاقية محرّكة من تلقاء نفسها. وإنه لولا الاعتقاد الديني لن تكون هناك من ضمانة لتطبيق القيم الأخلاقية، وإن الاعتقاد بوجود الله والنظم والنظام الأخلاقي في العالم والثواب والعقاب (الدنيوي) والأخروي هو الذي يفرض على الأفراد مراعاة القيم الأخلاقية، ولو تمّ إضعاف هذه المعتقدات أو القضاء عليها فإن الأخلاق ستفقد دعامتها النفسية وضمانتها التنفيذية.

نقد نظريّة تَبَعيّة الأخلاق النفسيّة للدين

إن ادّعاء تبعية الأخلاق النفسية للدين يحتوي على إشكالٍ من عدّة جهات:

فأولاً: إن الدين في ذاته يقسّم الدوافع الدينية إلى: دوافع أخلاقي؛ ودوافع غير أخلاقية. ومن وجهة نظر الدين يعتبر التمسّك بالقيم الأخلاقية؛ خوفاً من جهنم أو طمعاً بالجنة، خيراً من عدم التمسّك بتلك القيم أصلاً، بَيْدَ أنه لا شَكَّ في أن الذي يراعي القيم الأخلاقية؛ لمجرّد كونها قيماً أخلاقية، ويكون دافعه إلى مراعاة هذه القيم هو نفس وجودها، أفضل وأسمى منزلةً ومرتبة من الذي يراعيها خوفاً أو طمعاً. وفي الحقيقة فإن عمل هذا الشخص سيتّصف بالحسن الفعلي والفاعلي، بينما يتّصف عمل الشخص الأول بالحُسْن الفعلي فقط، دون الحُسْن الفاعلي.

وبطبيعة الحال فإن الناس ليسوا سواءً من الناحية الروحية والنفسية، وإن النظرة الواقعية في مقام التعليم والتربية الأخلاقية تقتضي منا أن نلحظ هذا الاختلاف النفسي بين الأفراد في مقام إصدار الأحكام الأخلاقية. ولكنْ على أيّ حال فإن الحكم بشأن الفعل يختلف عن الحكم بشأن الفاعل. فبعض الأمور، من قبيل: العدل أو الإحسان، تعتبر من الناحية الأخلاقية، وبغضّ النظر عن الفاعل ودوافعه، حسنةً وممدوحة، أي إنها تتّصف بـ «الحُسْن الفعلي»، في حين أن «حُسْنها الفاعلي» ينشأ من دافع الفاعل، ويُعَدّ تابعاً له. وبعبارةٍ أخرى: إن دافع الفاعل يكون مشمولاً لقِيَم الحكم الأخلاقي أيضاً، وينقسم إلى: حَسَن وقبيح، أو أخلاقي وغير أخلاقي، ويكشف عن الكمال أو الانحطاط الأخلاقي للشخص. إن الدافع الأخلاقي الحَسَن يُعَدّ واحداً من خصائص الإنسان الأخلاقية، بمعنى أن الدافع الحَسَن يُشكِّل أحد عناصر تعريف الإنسان الصالح من الناحية الأخلاقية، وأحد الخصائص «الصانعة للحسن».

وعلى أيّ حال يمكن الادّعاء بأن الدعامة الأخلاقية النفسية عبارة عن الشعور بـ «الكرامة»([17]) في ما يتعلق بنفس الشخص وما يتعلَّق بالآخرين.

فلو أن شخصاً أحسّ من نفسه بالكرامة فإن إحساسه هذا سيردعه عن ارتكاب الأعمال القبيحة، أو الاتصاف بالرذائل الأخلاقية، والعمل على طبق ما تقتضيه هذه الرذائل. وقد ورد في بعض النصوص الدينية: «مَنْ كرُمَتْ عليه نفسه هانت عليه شهواته»([18])، و«مَنْ هانت عليه نفسه فلا تأمنَنَّ شرَّه»([19]).

كما أنه إذا أحسّ شخصٌ بمثل هذه الكرامة في الآخرين فإن هذا الشعور سيردعه عن القيام بالأفعال القبيحة والخاطئة بحقّهم.

وأما إذا لم يشعر الشخص بالكرامة في نفسه والآخرين، وأحسّ بـ «الحقارة» والصغار في نفسه، أو في الآخرين، فإن هذا الشعور سيحمله على ارتكاب الأفعال القبيحة وغير الصحيحة أخلاقياً. وقد ورد في النصوص الدينية: «ما من رجلٍ تكبَّر أو تجبَّر إلاّ لذلّةٍ وجدها في نفسه»([20]).

وإن هذه المسألة تشتمل على أثرٍ هامّ في اختيار الأسلوب الصحيح للتعليم والتربية الأخلاقية؛ إذ من خلال القول بمثل هذا البيان والتحليل النفسي لمنشأ الفعل الحَسَن والفعل القبيح نضطرّ إلى القول بأن الهدف الرئيس من التعليم والتربية الأخلاقية يجب أن يكون رفع مستوى الشعور بكرامة النفس وكرامة الآخرين، وإن الاحتقار وتحقير الإنسان في نظره سيعطي نتائج معكوسة([21]). وإن أهمية هذه المسألة تتضاعف في المقياس الاجتماعي؛ لأن منشأ شيوع وتفشّي الاضطرابات الأخلاقية في المجتمع يكمن في تفشّي ظاهرة الشعور بالحقارة وانعدام الشخصية بين أفراد ذلك المجتمع. من هنا فإن إحدى التفسيرات الاجتماعية التي تذكر لشيوع الاضطرابات الأخلاقية تعرّف «الاستبداد السياسي» بوصفه عنصراً رئيساً من عناصر هذه الآفة([22]).

يذهب أنصار تبعية الدين النفسية للدين إلى القول بأن إطاعة أوامر وتعاليم الإله المشرِّع تمثِّل الدافع الأخلاقي الوحيد، أو أنها الدافع الأفضل في الحدّ الأدنى. في حين إن إطاعة أوامر الإله المشرِّع من الناحية الدينية في حدّ ذاتها لا تُعَدّ دافعاً أخلاقياً، وإن الذين يطيعون الله ينقسمون إلى المجموعات الثلاث التالية:

1ـ المجموعة الأولى: الذين يطيعون الله خوفاً من النار. فلو لم تكن هناك نار وعقاب لما أطاعوا الله. وهذه المجموعة في الحقيقة هي مجموعة العبيد، وعبادتهم هي عبادة العبيد.

2ـ المجموعة الثانية: الذين يطيعون الله طمعاً في الجنة. فلو لم تكن هناك جنةٌ وثواب لما أطاعوا الله. وهذه المجموعة في الحقيقة هي مجموعة التجّار، وعبادتهم هي عبادة التجّار.

3ـ المجموعة الثالثة: الذين يطيعون الله، لا لخوفٍ من نار، ولا لطمع في جنةٍ، وإنما لأنهم وجدوا الله من الناحية الأخلاقية أهلاً للطاعة، ولذلك أطاعوا أوامره وتعاليمه. وهؤلاء في الحقيقة هم الأحرار، وعبادتهم هي عبادة الأحرار.

إن عبادة المجموعة الأولى والثانية تشتمل على «حُسْنٍ فعلي» فقط، أي إنها بالمقارنة مع عدم العبادة تكون هي الأفضل، ولكنها تفتقر إلى الحُسْن الفاعلي والقيمة الأخلاقية. وبعبارةٍ أخرى: إن المجموعة الأولى والثانية في الحقيقة تعبد الذات والقوّة والمصلحة. وبالنسبة إلى هؤلاء لا يكون الله هو الهدف، وإنما يتخذونه وسيلة إلى مآربهم، أو التخلّص من مخاوفهم، وإن إطاعة أوامر الله بالنسبة إلى هؤلاء لا تحتوي على قيمةٍ ذاتية، ولا تعتبر مطلوبةً بالذات، وإنما تكمن مطلوبيته في مجرّد أنها تمثِّل وسيلةً لدفع الضرر أو الحصول على المنفعة.

أما الجماعة الثالثة فالحافز عندها يكمن في نفس إدراك القيمة الذاتية الموجودة في طاعة الله وعبادته، أي إن مجرّد إدراك حقيقة أن عبادة الله وإطاعته حسنة من الناحية الأخلاقية، وأن الله يستحق العبودية والطاعة، يدفعها ويحفِّزها للقيام بهذه الأعمال.

وعليه فإن المجموعة الثالثة هي المجموعة الوحيدة التي تتحلّى بالدافع الأخلاقي. ومن وجهة نظر الدين يُعَدّ إدراك القيمة الأخلاقية للعمل أو معرفة الدليل الأخلاقي المبرِّر لذلك العمل صالحاً في نفسه لتحريك وتحفيز الفاعل نحو القيام بالعمل، وإنْ كانت فعلية ذلك مشروطة بأن يكون الفاعل من الأحرار، الذين لا تكون عقولهم وأرواحهم وأنفسهم مغلولة بقيود الخوف والطمع، وأن لا يلعب عامل الربح والخسارة واللذة والألم والمنفعة والضرر الشخصي دوراً في حساباته الأخلاقية، ولا يكون لهذه الأمور دَخْل في إرادته وقراراته. وبذلك تكون إطاعة الأوامر الإلهية في طول سائر الدوافع الأخرى، وليس في عرضها. وعلى أيّ حال لا تكون بديلاً عن الدافع الأخلاقي، وإنما تكون في حدّ ذاتها مشمولة للتقييمات والأحكام الأخلاقية([23]).

وثانياً: على الرغم من أن المجتمع الديني قد تتجلّى فيه المتبنيات والتعاليم الدينية على شكل ضمانة تنفيذية للقيم الأخلاقية، إلاّ أن هذا لا يعني أن القيم الأخلاقية في حدّ ذاتها فاقدة للضمانة التنفيذية، وأنها لا تحتوي على ضمانة تنفيذية غير دينية أو ما وراء الدينية. يمكن للأفراد أن يراعوا القِيَم الأخلاقية انطلاقاً من دوافع مختلفة تماماً، وإن التعاليم الدينية إنما هي واحدةٌ من بين الكثير من الدوافع الأخرى.

ومضافاً إلى ذلك فإن تأثير التعاليم الدينية على مراعاة القِيَم الأخلاقية منوطٌ بالكثير من الشروط، وإن بعض هذه الشروط غير متحقّق في المجتمعات الإسلامية للأسف الشديد.

فأوّلاً: يجب على المتدينين أن يعتبروا الدين حامياً وداعماً للقِيَم الأخلاقية، وأن يكوِّنوا فهماً صحيحاً للعلاقة بين الدين والأخلاق، وإلاّ فإن فهمهم الخاطئ للتعاليم والأحكام الدينية قد يؤدّي بهم إلى اتخاذ القيام بالتكاليف الدينية ذريعةً لانتهاك أو تجاهل القِيَم الأخلاقية. إن تصوّر الله بوصفه موجوداً مستبداً، وإن القواعد والأصول السلوكية التي تستنبط من صُلْب هذا التصوّر، تميت الإنسانية في وجود الإنسان، وبعد موت الإنسانية تفقد القِيَم الأخلاقية مفهومها ومضمونها ودعامتها العقلانية والنفسية، وتتبلور علاقة جديدة بين الفرد وذاته، وبينه وبين الله، وبينه وبين الآخرين، وستقوم هذه العلاقة على أساس القوّة والسلطة، وتتحول عبادة الله إلى غطاء لعبادة القوّة. فلو تقدم الفقه على الأخلاق من وجهة نظر المتدينين، وحلّ إله الفقه محلّ إله الأخلاق، ففي هذه الحالة عندما يحصل التعارض والتنافي بين الأفهام الفقهية والقِيَم الأخلاقية فإن التعاليم الدينية سوف تؤدّي دوراً معكوساً، بمعنى أن هذه التعاليم لن تقتصر على عدم ضمان مراعاة القِيَم الأخلاقية فحَسْب، بل سوف تتحوّل إلى دافع لانتهاك وتجاهل هذه القِيَم أيضاً.

وثانياً: يجب أن يكون للتعاليم الدينية حضورٌ راسخ في وجدان المتدينين وأذهانهم؛ كي تتمكن هذه التعاليم من أن تؤدّي دورها كضمانة تنفيذية للقِيَم الأخلاقية، ولكننا نشاهد على المستوى العملي الكثير ممّا يُنافي القِيَم الأخلاقية، مثل: الكذب والغيبة والبهتان والنميمة والغشّ والرشوة والخداع وانتهاك حقوق الآخرين والرياء والنفاق وما إلى ذلك من الموبقات، متفشّية في المجتمعات الدينية على نحو أشدّ ممّا هي عليه في المجتمعات العلمانية([24]). وعلى أيّ حال فمن دون تحقُّق هذه الشروط لا يمكن للتعاليم الدينية أن تحرِّك المتدينين نحو السلوك الأخلاقي.

وثالثاً: كما سيأتي بالتفصيل فإن القول بالتعاليم والمتبنيات الدينية والتمسّك باللوازم والتداعيات العملية لهذه التعاليم هي في حدّ ذاتها تخضع لقِيَم الأحكام الأخلاقية، وتكون محكومةً لها. وإن من بين أنواع النزعة الإنسانية إلى الدين هي النزعة الأخلاقية، بمعنى أن الأخلاق والالتزام الأخلاقي يوفّر الضمانة التنفيذية للضرورات والمحظورات الدينية. وإن الدين من وجهة نظر البعض ـ في الحدّ الأدنى ـ يتوقَف من الناحية النفسية على الأخلاق. وفي هذا الشأن نجد المتبنيات والتعاليم الأخلاقية تدفع مَنْ يعتنقها نحو الدين، وتشكِّل دليلاً مناسباً للإيمان بالدين واتباع تعاليمه. وهذا الدليل يعمل على تبرير التديُّن من الناحية الأخلاقية، كما يحرّك الفرد نحو التديّن. وهذه المسألة وإنْ كانت لا تثبت تبعية الدين للأخلاق، إلاّ أنها في الحدّ الأدنى تثبت استقلالية الأخلاق عن الدين.

كما يمكن استعمال عبارة «تبعية الأخلاق النفسية للدين» بمعنىً آخر أيضاً؛ فقد يكون المراد من تبعية الأخلاق النفسية للدين أن التعاليم أو الأحكام الأخلاقية مدينةٌ في تبريراتها لعلم النفس الديني والكلامي.

ولكنْ كما هو واضحٌ فإن هذه النظرية تدّعي نوعاً من تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين. وطبقاً لهذه الرؤية تكون الأخلاق تابعةً للدين؛ لأن القيم والفضائل الأخلاقية إنما يمكن تبريرها بالاستناد إلى الإدراك والتصوّر الذي يقدّمه الدين عن التركيبة الروحية والنفسية للإنسان، وعلاقة ذلك بالجسد وكماله وانحطاطه، أو سعادته وشقائه.

سوف نناقش هذه الرؤية، ونعمل على نقدها في الفصول القادمة، بتفصيلٍ أكبر.

أما هنا فنكتفي بهذه النقطة، وهي أن هذه النظرية تفترض ادعاءات خاصة في ما يتعلق بماهية الأخلاق وغايتها وآليتها وحدود دائرتها، وبيان الضرورة إلى الحياة الأخلاقية.

بَيْدَ أن هذه الفرضيات لا تعدم البدائل والفرضيات المنافسة. وبعبارةٍ أوضح: إن هذا الادعاء إذا كان صادقاً فإنما يصدق في مورد نوعٍ ومصداق خاصّ من مصاديق «الأخلاق الفردية»، ولا يصدق في مورد «الأخلاق الاجتماعية»، ولا في مورد الأخلاق الفردية العلمانية. فالأخلاق الاجتماعية إذا كانت قائمةً على العلوم الإنسانية فإنها تغتذي على علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي، وليس على علم النفس الفردي. ومضافاً إلى ذلك فإن الادّعاء القائل: «إن القِيَم والفضائل الأخلاقية يتمّ تبريرها في ظل علم النفس الديني والكلامي» غير الادّعاء القائل: «إن هذه القِيَم والفضائل لا تقبل التبرير في ظلّ علم النفس العلماني». وكما هو واضحٌ فإن إثبات تبعية الأخلاق النفسية للدين بالمعنى المتقدِّم يتوقَّف على إثبات الادّعاء الثاني؛ لأن مجرّد إمكان تبرير القِيَم والفضائل الأخلاقية من خلال التمسّك بعلم النفس الديني لا يعني عدم قابلية وامتناع تبريرها من خلال التمسُّك بعلم النفس العلماني. كما يمكن الادّعاء بشكلٍ مبرّر بأن تبرير قيم وفضائل الأخلاق الفردية لا يتوقَّف على القول بعلم النفس الديني والكلامي أيضاً. وإن بالإمكان تبرير هذه القِيَم والفضائل من خلال الإشارة إلى آثارها الإيجابية على السعادة الدنيوية والطمأنينة الروحية والنفسية للفرد في هذه الحياة أيضاً.

وبالإضافة إلى جميع ذلك فإن تبرير التعاليم الدينية والكلامية، سواء في باب علم النفس أو في سائر الأبواب الأخرى، إنما يمكن من خلال افتراض بعض القِيَم الأخلاقية في مرحلةٍ سابقة، وأدنى ذلك هو القول بأن تبرير التعاليم الأخلاقية وتبرير التعاليم الدينية في ما يتعلَّق بروح ونفس الإنسان عملية تبادلية وذات طرفين.

6ـ تَبَعيّة الأخلاق العقلانيّة للدين

إن المراد من «تبعية الأخلاق العقلانية للدين» هو أن التعاليم والعقائد الدينية توفّر دعامة عقلانية للالتزام الأخلاقي([25]). يذهب القائلون بهذا النوع من تبعية الأخلاق للدين إلى الاعتقاد بأنه لولا الإيمان بالتعاليم والعقائد الدينية في ما يتعلق بالحياة بعد الموت والجزاء والعقاب الأخروي فإن الالتزام الأخلاقي ومراعاة الحقوق والوظائف الأخلاقية لا يكون معقولاً.

إن دعوى تبعية الأخلاق العقلانية للدين في الحقيقة هي نوع من «النزعة الظاهرية» في ما يتعلَّق بالأدلة التبريرية. تقول هذه النظرية: إن الأحكام الأخلاقية رغم أنها تبرِّر العمل من الناحية الأخلاقية، إلاّ أن التبرير الأخلاقي لعملٍ هو غير التبرير العقلاني له. وعليه فإن الأحكام الأخلاقية في حدّ ذاتها ليست أدلةً تبريرية للعمل؛ وذلك لأن المراد من الأدلة التبريرية هنا هي الأدلة التي تبرر العمل من الناحية العقلانية. وكما رأينا فإن فلاسفة الأخلاق الظاهريين يعتقدون بأن التبرير الأخلاقي هو غير التبرير العقلاني، ولا وجود لأيّ علقةٍ ضرورية بين هذين النوعين من التبرير.

يذهب أنصار تبعية الأخلاق العقلانية للدين إلى الاعتقاد بأن الأخلاق تستند إلى العقيدة الدينية، بمعنى أن الالتزام الأخلاقي لا يكون له معنىً معقول إلاّ في ظلّ المعتقدات الميتافيزيقية الخاصّة في حقل الكون والإنسان، من قبيل: المعتقدات في حقل الوجود، وإثبات الصانع، وخلق الإنسان، وأبعاده الوجودية، وبنيته الروحية والنفسية، والحياة بعد الموت، والهدف من خلق الإنسان، ومنزلته، وعلاقته بعالم الخلق والوجود. من هنا فإن التشكيك الديني يستتبع تشكيكاً أخلاقياً، ويكون التزام المشكِّكين في الدين بالقِيَم الأخلاقية مفارقة، ولا يمكن الدفاع عن التزامهم الأخلاقي من الناحية العقلانية. وقد تمّ تأييد هذا الادّعاء من خلال التحقيقات التجربية أحياناً، حيث يقول أصحاب هذا الادّعاء: يمكن لنا أن نثبت من خلال التحقيقات التجريبية أنّ تزعزع وانهيار الأنظمة الدينية الميتافيزيقية يؤدّي إلى الانحطاط والانهيار الأخلاقي للمجتمع، وإن التشكيك الديني أو ضعف العقائد الدينية سوف يستتبع أزمةً أخلاقية.

نقد نظرية تَبَعيّة الأخلاق العقلانيّة للدين

قبل الدخول في نقد ودراسة دعوى تبعية الأخلاق العقلانية للدين نرى من الضروريّ التذكير ببعض الأمور التمهيدية في باب العقلانية([26]).

الأمر الأول: إن العقلانية تنقسم إلى نوعين: عقلانية نظرية([27]) (ناظرة إلى الأفكار والمعتقدات)؛ وعقلانية عملية([28]) (ناظرة إلى القرارات والسلوكيات).

وتنقسم العقلانية العملية بدورها إلى نوعين أيضاً، وهما: العقلانية العملية غير الآلية([29]) (ناظرة إلى الغايات والأهداف)؛ والعقلانية العملية الآلية([30]) (ناظرة إلى الأدوات والوسائل).

إن العقلانية الآلية في الحقيقة استعمال العقلانية النظرية في حقل السلوك. ومن هذه الناحية فإن الفلاسفة الذين ينكرون العقلانية غير الآلية إنما ينكرون في واقع الأمر العقلانية العملية([31]).

ومضافاً إلى ذلك فإن العقلانية العملية تنقسم بدورها إلى قسمين: العقلانية العملية المحورية([32]) أو المصلحية والتدبّرية([33]) أو العقلانية العملية الاقتصادية([34])؛ والأخلاقية([35]). إن العقلانية الأنويّة عبارةٌ عن مجموعة من المعايير التي تنبثق عن العقل المصلحي الفردي. وإن عقل كل عاقل ـ طبقاً للتفسير الذي تقدّمه العقلانية الأنويّة عن طبيعة العقل العملي ـ يقول له ويطالبه بالسعي نحو مصالحه الشخصية، وأن يقدِّم مصلحته الشخصية أو كماله وسعادته الفردية على أيّ شيءٍ آخر، وأن يفكر في تعامله وسلوكه وتعاونه مع الآخرين بأرباحه وخسائره، وأن يبادر عند الضرورة إلى التضحية بمصالح الآخرين من أجل مصلحته، وأن يراعي حقوق الآخرين ما دامت مصالحه الشخصية تقتضي منه ذلك([36]). لا مكان لقِيَم الإنسان وكرامته الذاتية في حسابات العقل المحوري والمصلحي، ولذلك يسمح على أساس قواعد العقلانية الأنويّة والمصلحية بالاستفادة من الإنسان استفادة آلية بحتة([37]).

إن الذي يتَّبع معايير العقلانية الأنويّة إنما يتمسّك بالقِيَم الأخلاقية ما سمحت له بذلك مصالحه الشخصية. إن هذا الشخص إنما يمتنع عن السرقة والكذب، لا لأنه يعتبر السرقة والكذب قبيحين من الناحية الأخلاقية، بل لأنه إما يرى أن تفشّي ظاهرة السرقة والكذب في المجتمع بضرره، أو لأن مصالحه تدعوه إلى جذب ثقة الناس بشخصه، أو لأنه يخشى من القانون والعقوبة. وعلى أيّ حال فإنه إذا غضّ الطرف عن مصلحته فلأنه يرى في هذه التضحية مقدّمة للحصول على مصلحةٍ أكبر. من هنا فإن السرقة والكذب إذا لم يكن فيهما ضررٌ، أو كان نفعهما أكبر من ضررهما، فإنه لن يرى في اقترافهما ما ينافي العقلانية، بل سيرى أن الامتناع عنهما عملٌ في غاية الغباء واللاعقلانية.

إلاّ أن العقلانية الأخلاقية إيثارية([38]) وحيادية([39]). إن هذه العقلانية تدعو الفرد إلى العدالة والإنصاف أو التضحية والإيثار. وإن لمقتضيات هذه العقلانية قاعاً وسقفاً. فالعقلانية الأخلاقية في حدِّها الأدنى تطالب الفرد بالاهتمام بمصالح الآخرين وحقوقهم بنفس حجم اهتمامه بمصالحه وحقوقه الشخصية، وأن ينظر إلى الآخرين بوصفهم هدفاً وغاية، لا وسيلة.

إن العقلانية الأخلاقية في حدِّها الأدنى «تتمحور حول العدل»، وتؤدّي إلى «الأخلاق القائمة على العدالة»([40])، بمعنى أن العدل والإنصاف من زاوية هذه العقلانية يُعَدّ محوراً وأُسّاً لقيم الأخلاق الاجتماعية. إن هذه العقلانية تطلب من الفرد أن لا يظلم الآخرين عندما يسعى وراء مصالحه الشخصية، وأن لا يضحّي بحقوق الآخرين فداء لمنفعته الخاصة، وأن يريد لغيره ما يريده لنفسه، وأن يكره للآخرين ما يكرهه لنفسه، وأن لا يؤثر الحياة والراحة والرفاه والعيش الرغيد لنفسه على حساب معاناة ومحنة وآلام الآخرين، وأن يعترف لنظرائه في الخلق بالكرامة الإنسانية، وأن يحترمهم، وأن يلاحظ كرامة الآخرين في تنظيم سلوكه معهم، وأن يقيم لهم قيمة ذاتية، لا قيمة آلية.

وباختصارٍ: إن هذه الأخلاق والعقلانية التي تقوم هذه الأخلاق عليها ترسم حدّاً خاصاً للسعي وراء المصالح الشخصية وضمانها. وفي إطار هذه العقلانية لا يُسْمَح للشخص بتوفير وضمان مصالحه الشخصية إلاّ في إطار القِيَم الأخلاقية، وبشرط مراعاة حقوق الآخرين، ولا يحقّ للفرد أن يتجاهل أو ينتهك حقوق الآخرين من أجل مصلحته أو منفعته الخاصة. إن فرضية الأخلاق القائمة على العدالة تقضي بأن الإنسان ليس شيئاً جامداً، وإنما تنظر إلى جميع الأفراد بوصفهم يتمتَّعون بالكرامة الإنسانية والمنزلة الأخلاقية المتكافئة، وإن تفضيل النفس على الغير خطيئة أخلاقية؛ إذ تعتبر الخصائص الشخصية للفاعل من الناحية الأخلاقية من المقاييس الأخلاقية الغريبة وغير المتصلة بالواقع.

وأما سقف المطالب في حقل العقلانية الأخلاقية فهو عبارةٌ عن الإيثار والتضحية وتقديم مصالح الآخرين على المصلحة الشخصية، وتحمُّل العناء والألم والمشقة من أجل سعادة الآخرين وضمان الرفاه والعيش الرغيد لهم.

وعلى هذا الأساس فإن العقلانية في حدّها الأقصى «تتمحور حول العناية والاهتمام»، وتؤدّي إلى: «الأخلاق القائمة على الاهتمام والرعاية»([41])، أو «الأخلاق القائمة على المحبّة»([42])، أو «الأخلاق القائمة على الكرم»([43]).

هناك اختلاف بين فلاسفة الأخلاق حول وجود وماهية العقل والعقلانية العملية:

1ـ هناك من فلاسفة الأخلاق مَنْ يختزل العقل والعقلانية العملية في العقل والعقلانية الأنويّة والمصلحة الفردية، ويسعون إلى إثبات أن التمسُّك بالأخلاق لا ينسجم مع مقتضيات هذه العقلانية.

2ـ وذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن الملاحظات الأخلاقية لا تنسجم مع مقتضيات العقلانية الأنويّة، ولكنْ عند حصول التعارض يتمّ تقديم الملاحظات الأخلاقية؛ لأن ذات هذه الملاحظات من مقتضيات العقل والعقلانية الأخلاقية والإيثارية.

3ـ وهناك جماعةٌ ثالثة تقول بثنوية العقل العملي، وتكافؤ العقلانية الأنويّة والمصلحية والعقلانية الأخلاقية([44]).

تسعى الجماعة الأولى إلى تبرير عقلانية الالتزام الأخلاقي من خلال التمسُّك بمقتضيات العقلانية الأنويّة. ترى هذه الجماعة أن الالتزام بالقِيَم الأخلاقية ومراعاة حقوق الآخرين على المدى الطويل سوف يصبّ في مصلحة الفرد أيضاً، رغم أنه سيتحمّل على المدى القصير بعض الأضرار والآلام والمحن على المستوى الشخصي. ولكنْ حيث إن هذه الأمور تمثِّل في الواقع المقدمات والشروط الضرورية لضمان وتحصيل المصالح على المدى البعيد للفرد أيضاً يكون هذا الأمر منسجماً مع العقل والعقلانية.

إن العقل طبقاً لهذه الرؤية لا يطلب من الفرد أن يضحّي بمصالحه من أجل مصالح الآخرين، ولكنّه يطلب منه أن يتنازل عن مصالحه الصغيرة والعابرة على المدى القصير فداءً للمصالح الأكبر والأكثر دواماً على المدى البعيد.

ترى هذه المجموعة من الفلاسفة أن مراعاة القِيَم الأخلاقية وإنْ كانت غير منسجمة بحَسَب الظاهر مع المصالح الشخصية، ولكنّ الأمر ليس كذلك في الواقع، وإن التعارض بين الأخلاق والعقلانية الأنويّة والمصلحية تعارضٌ ظاهري قابل للرفع([45]).

وتذهب الجماعة الثانية إلى الادّعاء بأن المعايير والقِيَم الأخلاقية هي في الأساس من مقتضيات العقل والعقلانية العملية، وإن الالتزام الأخلاقي في حدّ ذاته معقولٌ، ولا يحتاج إلى تبرير عقلانيّ إضافي، بمعنى أن الشخص إذا راعى القِيَم الأخلاقية فإنما يتبع في الواقع أوامر العقل؛ إذ إن ذات العقل الذي يطلب من الإنسان أن يسعى وراء مصالحه الشخصية يطالبه أيضاً بعدم السعي وراء مصالحه الشخصية التي تقوم على معاناة الآخرين وتضييع حقوقهم.

يرى هؤلاء الفلاسفة أن اتّباع مقتضيات العقلانية الأنويّة مُقيَّد ومشروط بانسجامها مع القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، وعند حصول التعارض بين مقتضيات هذه العقلانية ومقتضيات العقلانية الأخلاقية يجب تقديم العقلانية الأخلاقية على العقلانية الأنويّة.

ومن بين المدارس الأخلاقية التي تمتدّ بجذورها في العقلانية الأخلاقية يمكن تسمية «المذهب النفعي» و«المذهب الوظيفي».

إن هاتين النظريتين الأخلاقيتين في الحقيقة شرحٌ وتفسير لمقتضيات العقلانية الأخلاقية، وليستا شرحاً وتفسيراً لمقتضيات العقلانية الأنويّة والمصلحية.

إن المذهب النفعي يقول إجمالاً: إن الوظيفة الأخلاقية الوحيدة عبارةٌ عن «السعي من أجل ضمان أكبر حجم من السعادة لأكثر الأفراد».

وفي حين يذهب النفعيون إلى الاعتقاد بأن سائر الأصول والقِيَم والوظائف الأخلاقية إنما تستنتج من هذا الأصل، ويأتي تبريرها في ظلّه، ترى هذه الجماعة أن صحّة وعدم صحّة العمل ووجوبه وحرمته الأخلاقية تابعةٌ لنتائج ذلك العمل، إلاّ أن النتائج المنشودة وذات الصلة الأخلاقية هي النتائج التي يشتمل عليها ذلك العمل بالنسبة إلى جميع الأفراد الذين يتأثَّرون بذلك العمل أو تركه بنحوٍ من الأنحاء، وليس خصوص النتائج التي يشتمل عليها ذلك العمل لشخص الفاعل فقط. وهذه هي نقطة افتراق «المذهب النفعي الأخلاقي» عن «المذهب الأنوي الأخلاقي»([46]).

يدَّعي الوظيفيون أنّ صوابية وخطأ العمل ليس تابعاً لنتائجه دائماً وبشكلٍ كامل، بل إن نتائج العمل تمثِّل مقياساً واحداً من بين عدّة مقاييس تلعب دوراً في صوابية ذلك العمل وعدم صوابيّته على المستوى الأخلاقي. ويذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأن بعض الصفات والخصائص الذاتية للأفعال، مثل: «الوفاء بالوعد»، و«شكر المنعم»، هامّةٌ من الناحية الأخلاقية، وأن الحكم الأخلاقي لهذه الأعمال ليس تابعاً لنتائجها.

وعلى الرغم من اختلاف النفعيين والوظيفيين حول الأوصاف والخصائص الصانعة للمسؤولية، إلاّ أنهم يتّفقون على أنّه في حالة التعارض بين الوظائف الأخلاقية والمصالح الشخصية يكون التقدُّم لصالح الوظائف الأخلاقية ليس شيئاً آخر غير تحديد المصالح الشخصية، وتضييق الدائرة التي يُسْمَح للفرد أن يبحث عن مصالحه ضمن نطاقها.

وهنا يمكن السؤال: ما هو المراد من تبعيّة الأخلاق العقلانية للدين؟

يمكن لنا أن نلاحظ بوضوحٍ أن ادّعاء مثل هذه التبعية تفترض إنكار العقلانية الأخلاقية، بمعنى أن الذي يدّعي تبعية الأخلاق العقلانية للدين إنما يدّعي في الحقيقة أن العقل والعقلانية العملية تختزل في العقل والعقلانية الأنويّة والمصلحة الفردية، وأن الالتزام والتمسُّك بالقِيَم الأخلاقية في حدّ ذاته غيرُ معقولٍ، وإنما هو معقولٌ بشرط انسجامه مع المصالح الشخصية للفاعل. وهذه إحدى مقدمات وفرضيات نظرية تبعية الأخلاق العقلانية للدين.

أما الفرضية الأخرى لهذه النظرية فهي عبارةٌ عن الادّعاء القائل بأن مراعاة القِيَم الأخلاقية يتضمّن الضَّرَر والحرمان والألم والمشاقّ التي لا يمكن تعويضها في هذه الدنيا. وطبقاً لهذه الفرضية يُعَدّ غضّ الطرف عن المصالح الشخصية ـ في الرؤية العلمانية ـ من أجل مراعاة القِيَم الأخلاقية عملاً غير معقول.

وإن الالتزام والمسؤولية الأخلاقية إنما تكون معقولة إذا آمن الفرد بالرؤية الدينية؛ لأن هذه الرؤية هي النظرية الدينية الوحيدة من بين النظريات الأخرى التي تعلِّم الفرد:

1ـ أن لعالم الوجود نظاماً أخلاقياً.

2ـ أن حياة الإنسان لا تقتصر على هذه الدنيا.

3ـ أن الأضرار والمشاقّ والعناء الذي يتحمّله الشخص بسبب قيامه بالمسؤوليات الأخلاقية إمّا أن يستوفيها في هذه الدنيا أو في الآخرة بأحسن منها.

وعلى هذا الأساس يمكن للمتديِّنين ـ ويحقّ لهم عقلاً ـ أن يضحّوا بمصالحهم قصيرة الأمد والدنيوية من أجل مصالحهم طويلة الأمد أو الأخروية؛ لأنهم يؤمنون بالنظام الأخلاقي لهذا العالم، كما يؤمنون بالحياة بعد الموت، والأجر والمكافأة الإلهية. إلاّ أن الالتزام والتمسّك الأخلاقي من قبل غير المتديِّنين مخالفٌ للعقل، وغيرُ قابلٍ للتبرير من الناحية العقلية.

وكما هو واضحٌ فإن هذه الفرضيات مخدوشةٌ وباطلة.

ولكنْ قبل الخوض في نقدها يجب علينا التذكير بمسألة، وهي أن المراد من الرؤية العلمانية هنا ليست هي الرؤية الإلحادية، وإنما هي نوعٌ من الرؤية ما وراء الدينية، التي تقف على الحياد بين الرؤية الدينية والإلحادية، أو بعبارةٍ أخرى: إنها تشكِّل القدر المشترك بين هاتين الرؤيتين. إن هذه الرؤية رؤيةٌ إلى الكون في الحدّ الأدنى، حيث تطرح فرضيات خاصّة في ما يتعلَّق بالهوية الإنسانية. وإن هذه الفرضيات عبارةٌ عن الفرضيات التي لا مندوحة لأيّ إنسان مهما كانت عقيدته أو مذهبه من التسليم بها؛ لأنها تُعَدّ من بديهيات العالم المعاصر.

أما نقد مقدّمات هذا الاستدلال فهو كما يلي:

أوّلاً: من وجهة نظر الكثير من الأديان تنبثق الأخلاق والحياة الأخلاقية من الفطرة والهوية الإنسانية. وإن الإنسان؛ حيث يتمتّع بالوجدان الأخلاقي، لا يحتاج إلى أيّ دليلٍ مستقلّ لتبرير الأخلاق والتعهُّد الأخلاقي. جاء في القرآن قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7 ـ 8).

وثانياً: إن العقل والعقلانية العملية لا تختزل في العقل والعقلانية الأنوية، وإن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية هي من مقتضيات العقل والعقلانية العملية أيضاً. وأساساً إن التمسّك بالقِيَم الأخلاقية من أجل المصالح الشخصية ـ الأعمّ من المصالح الأخروية والدنيوية ـ إذا لم نقُلْ بأنها مذمومةٌ من الناحية الأخلاقية، فهي في الحدّ الأدنى بعيدةٌ كلّ البُعْد عن الكمال الأخلاقي، وتفرغ عمل الفرد من «الحُسْن الفاعلي» تماماً. وكما تقدَّم ـ بطبيعة الحال ـ فإنّ هذا الأمر لا يُلحق الضرر بالأخلاق الاجتماعية، ولكنْ إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية الأخلاق الفردية يبدو أن الالتزام الأخلاقي القائم على المصالح الشخصية ينطوي على مفارقةٍ. إن هذا الالتزام أيّاً كانت طبيعته لا يمكن أن يكون التزاماً أخلاقياً؛ لأن الأخلاقية لا تنسجم مع الأنانية والنفعية، وإن التبرير الآلي للقِيَم الأخلاقية سيقلِّل من قيمة وأهمّية الأخلاق بشدّة.

وثالثاً: يمكن النقاش في الادّعاء القائل بأن المعاناة والمشقّات وأنواع الحرمان والصعاب التي يكابدها الإنسان في هذه الدنيا؛ بسبب نزعته الأخلاقية، إنما يتمّ التعويض عنها في الآخرة، أو لا تكون معقولةً إلاّ من خلال الإيمان بالنظم والنظام الأخلاقي للعالم. وحتّى إذا نظرنا من زاوية المصالح الفردية فإن العيش في مجتمعٍ يتمّ فيه تنظيم العلاقات بين الأفراد والمؤسَّسات الاجتماعية على أساس الضوابط الأخلاقية والإنسانية لا شَكَّ أفضل من العيش في مجتمعٍ تقوم فيه العلاقات الاجتماعية على أساس القوّة والبطش والمعايير اللاأخلاقية و(قانون الغاب).

وعلى هذا الأساس، حتّى لو اختزلنا العقلانية العملية في العقلانية الأنويّة مع ذلك لا نستطيع اختزال سعادة الإنسان الدنيوية في امتلاكه للثروة الطائلة أو الرفاه الاقتصادي والمادي؛ فإن الرضا الباطني والطمأنينة الروحية والنفسية والأمنية والشعور بالأمن والفرح والهدوء والأمل والعلاقات الإنسانية السليمة مع الآخرين تُعَدّ بدورها من العناصر التي لا تنفكّ عن السعادة الدنيوية، وإن هذه العناصر لا تتحقَّق إلاّ في ظلّ الحياة في مجتمعٍ أخلاقي.

وعلى هذا الأساس، لا مندوحة للعقل المحوري من أن يأخذ بالحسبان هذه العناصر المعنوية في مقام حساب الربح والخسارة الشخصية أيضاً، وخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن «حبّ الآخرين» من العواطف والمشاعر الإنسانية الأصيلة والمتجذِّرة والتي لا تقلّ في قوّتها عن حبّ الذات والأنانية وحبّ النفس. ولوجود هذه العاطفة والمشاعر يتألم الإنسان لألم الآخرين، ويحزن لحزنهم، وتقضّ مضجعه البلايا والمصائب التي تحلّ بالآخرين من أبناء جلدته وإخوته في الإنسانية، وتؤرِّقه معاناة الآخرين. كما أن إشباع الشعور بحبّ الآخرين والتعاطف معهم هو من قبيل: إشباع سائر الاحتياجات الأخرى، حيث يشكِّل هذا الإشباع جزءاً من المصالح الشخصية التي يجب أن تلعب دوراً في حسابات العقل المحوري. ولذلك فإن بعض فلاسفة الأخلاق الذين ينكرون وجود العقل والعقلانية الأخلاقية يؤمنون بأن الأفعال الأخلاقية للإنسان تنشأ عن تعاطفه ومحبّته لإخوته في الإنسانية وتعاونه معهم، وإن إشباع هذا الشعور، واتّباع مقتضياته، لا ينسجم مع العقلانية الأنويّة فحَسْب، بل هو في الأساس واحدٌ من مقتضيات هذه العقلانية([47]).

ومضافاً إلى ذلك حتّى إذا ارتضينا مقدّمات الاستدلال المذكور لصالح تبعية الأخلاق العقلانية للدين يمكن لنا أن ندّعي أن هذا الاستدلال لا يتضمّن النتيجة المطلوبة؛ فأوّلاً: يمكن القول إن هذا الاستدلال قبل أن يُثبت تبعية الأخلاق العقلانية للدين يُثبت تبعية الدين العقلانية للأخلاق.

وفي الحقيقة يمكن بيان هذا الاستدلال لصالح عقلانية المتبنّيات الدينية. فمثلاً: يمكن القول: حيث إن المعتقدات الدينية تشكِّل مبنى لمعقولية الالتزام الأخلاقي فإن هذه المعتقدات، حتّى إذا كانت مفتقرةً إلى التبرير النظري، تتمتَّع بتبريرٍ عملي وبراغماتي، بمعنى أن الإيمان بهذه المعتقدات إنما يكون معقولاً ومبرّراً لاشتماله على الفائدة العملية.

إن هذا الادّعاء في الحقيقة يشكِّل جوهر بعض الأدلة الأخلاقية لصالح وجود الله والحياة بعد الموت. يذهب (كانْت) إلى الاعتقاد بعدم إمكان إثبات وجود الله وعالم الآخرة من طريق العقل النظري، ويرى عدم تمامية الأدلة القائمة على العقل النظري في إثبات وجود الله والحياة بعد الموت. ولكنْ في الوقت نفسه يذهب إلى إمكان تبرير الإيمان بوجود الله والحياة بعد الموت من خلال العقل العملي([48]).

وثانياً: على فرض التسليم بفرضيات الاستدلال المتقدم يمكن القول: إن عقلانية الالتزام الأخلاقي لا تتوقَّف على الاعتقاد بوجود الله والحياة بعد الموت، ويكفي في هذا الشأن مجرّد احتمال وجود الله والحياة بعد الموت؛ لأن العقل المصلحي والأنوي في حساب الربح والخسارة الشخصية لا يكتفي بالربح والخسارة اليقينية أو التي يعتقد بها الفرد، بل يحسب حساب الربح والخسارة الاحتمالية أيضاً([49]). وعلى هذا الأساس فإن الاستدلال المتقدِّم لصالح تبعية الأخلاق العقلانية للدين ـ إذا سلَّمنا بمبادئه ومقدّماته ـ يثبت أن الالتزام الأخلاقي إنما لا يكون معقولاً بالنسبة إلى الذين ينكرون وجود الله والحياة بعد الموت فقط. إن هذا الاستدلال لا يُثبت أن مثل هذا الالتزام غير معقول حتّى بالنسبة إلى الذين يشكِّكون في وجود الله والحياة بعد الموت أيضاً([50]).

وعلى هذا الأساس يمكن استنتاج عدم وجود أيّ تلازم بين التشكيك الديني والتشكيك الأخلاقي. وإن تزعزع المتبنّيات الدينية إنما يؤدّي إلى أزمةٍ في خصوص الأخلاق الدينية أو الأخلاق القائمة على الدين فقط. وإن التشكيك الديني إنما يؤثِّر في الالتزام الأخلاقي لأولئك الذين يعتقدون مسبقاً بدينيّة الأخلاق. ولذلك لا يمكن من هذا الطريق إثبات أو تأييد تبعية الأخلاق العقلانية للدين.

7ـ الكلمة الأخيرة

لقد تحدَّثنا في هذا الفصل بشأن مختلف النظريات في حقل تبعية الأخلاق للدين. واتّضح أن نقطة اشتراك هذه النظريات تكمن في ادّعاء نوعٍ من الحصر، بمعنى أن هذه النظريات في إثبات تبعية الأخلاق للدين كانت مرغمةً على إثبات أن بعض الفرضيات اللغوية أو الوجودية أو النفسية أو العقلانية التي تقوم عليها الأخلاق إنما تأتي من خلال الرجوع إلى الدين، وإن تعريف أو وجود أو معرفة أو معقولية القِيَم الأخلاقية تتوقَّف على الاعتقاد بالأحكام الشرعية، أو الإيمان بالمتبنّيات الدينية. وقد سعينا في هذ الفصل إلى:

1ـ تقديم تقسيمٍ وتبويب واضح وجامع لهذه النظريات.

2ـ أن نقدِّم تنسيقاً واضحاً ومبسطاً لكلّ واحد من هذه النظريات.

3ـ أن نقيم أدلّةً لصالح كلّ واحد من هذه النظريات.

4ـ وأن ننتقد ـ في نهاية المطاف ـ هذه النظريات، والأدلة المؤيِّدة لها.

وقد تركَّز سعينا بشكلٍ رئيس على إبطال ادّعاء الحصرية؛ لأن استقلال الأخلاق عن الدين يعني بالدقّة ما يلي:

1ـ إمكان تعريف الألفاظ والمفاهيم الأخلاقية دون إرجاعها إلى الألفاظ والمفاهيم الدينية.

2ـ إن الصفات والخصائص الأخلاقية من الناحية الوجودية والمعيارية تابعة بشكلٍ تامّ ودائم للأوصاف والخصائص الدينية (أمر ونهي الإله المشرِّع).

3ـ إن الدافع الأخلاقي ليس بالضرورة دافعاً دينيّاً بالمعنى الخاصّ للكلمة.

4ـ إن عقلانية الالتزام الأخلاقي ليست رَهْناً بقبول المتبنيات والعقائد الدينية.

بَيْدَ أن استقلال الأخلاق عن الدين لا يعني استغناء الأخلاق عن الدين، ولا يعني تبعية الدين للأخلاق، ولا يعني تقدُّم الأخلاق على الدين. في الفصل القادم سنخوض في الحديث عن دعوى تبعية الدين للأخلاق، أو تقدُّم الأخلاق على الدين. إن من بين أنواع تبعية الأخلاق للدين نوعاً خاصّاً من التبعية ـ وربما أهمّ أنواعها ـ، وهو عبارةٌ عن التبعية المنطقية والمعرفية، ويتمّ على أساسها تبرير جميع المتبنيات والأحكام الأخلاقية القائمة على الوحي والنصوص الدينية أو الجزء الأكبر منها على المستوى المنطقي والمعرفي. وسوف نتناول هذا الادّعاء في كتابنا (أخلاق دين شناسي)([51]). وسوف نتعرَّض في الفصل القادم إلى ادّعاء تبعية الدين للأخلاق.

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) الكليني، الكافي 1: 26، دار الكتب الإسلامية، طهران.

([2]) descriptive.

([3]) normative.

([4]) internalist.

([5]) externalist.

([6]) justifying reasons for action.

([7]) motivating reasons for action.

([8]) justification.

([9]) explanation.

([10]) necessary.

([11]) a priori.

([12]) conceptual.

([13]) accidental.

([14]) a posteriori.

([15]) لا بُدَّ من التذكير هنا بأن الاختلاف بين الظاهريين والباطنيين حول ما إذا كانت الأحكام الأخلاقية في ذاتها أدلة مبرّرة للعمل أم لا؟ إنما يقع في مورد التبرير العقلاني للعمل، وليس في مورد تبريره الأخلاقي. لا شَكَّ في أن كلا المجموعتين تعتقد بأن الحكم الأخلاقي الإيجابي بشأن عملٍ يبرِّر ذلك العمل من الناحية الأخلاقية. والبحث يدور حول ما إذا كان التبرير الأخلاقي هو عين التبرير العقلاني أو هو نوعٌ منه أو غيره؟ يذهب الباطنيون إلى الادّعاء بأن التبرير الأخلاقي لعمل هو عين التبرير العقلاني، أو هو في الحدّ الأدنى نوعٌ منه، في حين يذهب الظاهريّون إلى الادّعاء بأن التبرير الأخلاقي لعملٍ هو غير تبريره العقلاني، وإن مجرّد التبرير الأخلاقي لعملٍ قد لا يكفي لتبريره العقلاني.

([16]) ومن بين فلاسفة الأخلاق البارزين المعاصرين يعتبر مايكل سميث (Michael Smith) من أنصار الباطنية الأخلاقية، وديفد برينك (David Brink) من أنصار الظاهرية الأخلاقية. انظر في هذا الشأن إلى المصدرين التاليين:

– Smith, M. (1997) The Moral Problem, (Oxford: Blackwell Publishers).

– Brink, D. (1989) Moral Realism and the Foundations of Ethics (Cambridge University Press).

([17]) dignity.

([18]) بحار الأنوار 75: 14.

([19]) المصدر السابق 72: 300.

([20]) المصدر السابق 70: 225.

([21]) لا حاجة إلى التذكير بأن (كرامة النفس) تختلف عن (التكبُّر) و(الشعور بالعظمة)؛ فإن كرامة النفس من مقتضيات النظرة الواقعية، وحيث يشترك جميع الناس في الإنسانية، ويتمتّعون بمستوىً واحد من الكرامة الإنسانية، فإن الالتفات إلى هذه الحقيقة لن يبقي للتكبُّر والشعور بالعظمة (والشعور بالضعة والحقارة والدونية) موضعاً من الإعراب.

([22]) انظر في هذا الشأن: (عبد الكريم سروش، آئين شهرياري ودينداري: 382 ـ 384، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران، 1379هـ.ش).

([23]) إن أهلية الله لأن يعبد تتوقَّف على أن يكون (شاهداً مثالياً). وعليه فإن دافع الأحرار إلى عبادة الله ينشأ من اعتقادهم بأن الله شاهدٌ مثالي، وإن العقلانية الأخلاقية تطلب منهم إطاعة أوامر الشاهد المثالي. إلاّ أن دافع العبيد والتجار في إطاعة أوامر الله ينشأ من الاعتقاد القائل بأن إطاعة الأوامر الإلهية توجب دفع الضرر والخطر، أو تجلب المنفعة الشخصية، بمعنى أن الذي يحرِّكهم نحو إطاعة الله ليس هو العقلانية الأخلاقية، وإنما هي العقلانية المصلحية، ولذلك يكون إلههم إلهاً مستبدّاً أو مصلحياً.

([24]) إن القِيَم الأخلاقية لا تنحصر في الحجاب والامتناع عن شرب المسكرات؛ فهناك قِيَم أهمّ بكثير منها، وإنّ نقضها يُعَدّ أقبح وأشنع من السفور وشرب الخمور، وكما يقول الخيام في إحدى رباعياته: (لا تتبجَّح بعدم شرب الخمر، وأنت تخضم عشرات اللقم المحرَّمة التي لا يُعَدّ الخمر معها شيئاً).

هذا، ويمكن القول: إن المجتمعات الإسلامية حتّى في أمثال هذه الموبقات الأخلاقية لا يقلّ سوءاً عن سائر المجتمعات الأخرى. إن القيمة الأخلاقية تقتصر على العمل الصادر عن إرادةٍ واختيارٍ حُرّ ناشئ عن رغبةٍ ودافع داخلي.

([25]) إن الدعامة (العقلانية) على المستوى المفهومي غير الدعامة (النفسية) وإنْ كان من الممكن أن يكون مصداقهما واحداً. ليس جميع الناس يتمتَّعون بمستوىً كاملٍ أو بالمقدار الكافي من العقل. من هنا فإن الدليل الذي يبرِّر أمراً من الناحية العقلانية ويُعَدّ دعامة عقلانية لذلك العمل لا يُعَدّ بالضرورة دعامة معرفية لذلك العمل، بمعنى أن تأثيره النفسي في تحريك الفاعل نحو العمل يتوقف على أن يكون هذا الفاعل عاقلاً بشكل كامل أو بالمقدار الكافي.

([26]) rationality.

([27]) theoretical.

([28]) practical.

([29]) non instrumental.

([30]) instrumental.

([31]) والمثال البارز على هذا النوع من الفلاسفة هو (ديفيد هْيوم)؛ إذ يرى أن العقل في مقام العمل أسير العواطف والمشاعر، وهذا ما يجب عليه أن يكون، وإنّ اختيار الهدف والغاية ليس تابعاً لحكم العقل، وإن دور العقل في مقام العمل يقتصر على تعيين أفضل الوسائل والأدوات وأقصر الطرق وأقلّها كلفة. وقد أطلق على هذه الرؤية تسمية (التشكيك في باب العقل العملي). وقد خالف (كانْت) وأنصاره من فلاسفة الأخلاق نظرية (ديفيد هْيوم)، وسعوا إلى إثبات أن العقلانية الآلية غير ممكنةٍ إلاّ من خلال العقلانية غير الآلية، وسوف تكون مفهوماً بلا مصداقٍ. يمكن العثور على الدراسة الجامعة بشأن مختلف النظريات في حقل العلاقة بين العقل والأخلاق في الكتاب التالي:

– Cullity G. & Gaut B. eds. (1997) Ethics and Practical Reason (Ox-ford: Clarendon Press).

وقد استدل كورسيغارد على عدم إمكان العقلانية الآلية دون العقلانية غير الآلية:

Korsgaard, C. M. (1997) “The Normativity of Instrumental Reason,” in Cullity G. & Gaut B. (eds.), Ethics and Practical Reason (Oxford: Clarendon Press).

([32]) ego centric.

([33]) prudential.

([34]) economic.

([35]) تعرّضنا لتفصيل البحث في أنواع العقلانية في الفصل الثالث من كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية). وقد نشرت مقاطع من هذا الفصل مؤخَّراً في فصلية (مدرسة)، انظر: فنائي، عقلانيت عرفي وعقلانيت فقهي، مدرسه، 2، (تحت الطبع).

([36]) نضيف هنا أن نقد العقل من قِبَل العرفاء الكبار، من أمثال: المولوي وحافظ الشيرازي، وتأكيدهم على أفضلية العشق على العقل، إنما هو ناظرٌ إلى هذا العقل المحوري والمصلحي؛ إذ يُعَدّ العشق من وجهة نظر هذا العقل ـ على أساس المعايير التي يتبنّاها ـ عين الجنون. وأساساً يمكن الادّعاء بأن الأنواع الأخرى من العقل والعقلانية، ومن بينها: العقل والعقلانية الأخلاقية، لم تكن معروفةً في الثقافة الإسلامية بالمقدار الكافي. إن العشق هو عين الإيثار والتضحية بالنفس، حيث تدور الحياة على مدار المعشوق، ويطلب من العاشق أن يقدّم مطالب وإرادة ورغبة وخير ومصلحة المعشوق على نفسه. وهذا لا يتعارض مع أحكام العقل المحوري والمصلحي فحَسْب، بل يعرِّض أصل وجوده للتساؤل؛ إذ العشق ليس سوى فناء العاشق في المعشوق، وبعد فناء العاشق لن تكون هناك ذاتٌ، فضلاً عن أن يتمّ الحديث عن نفعها وضررها. يرى المولوي أن العشق هو الطريق الوحيد لعلاج الآفات الأخلاقية، ويراه الأسلوب الوحيد المؤثِّر في القضاء على الرذائل الأخلاقية، واكتساب الفضائل الأخلاقية، إلاّ أن تقدُّم العشق على العقل إنما يعني مجرَّد تقدُّمه على تصوير خاصّ عن العقل والعقلانية. أما العقل والعقلانية الأخلاقية فلا تنافي العشق، بل لا فرق بين أحكامه وأحكام العقل أبداً. وإن هذا العقل في دعوته إلى الفضائل الأخلاقية والإيثار والتضحية ونفي الأنا يتناغم مع العشق، وإن الأخلاق القائمة على هذا العقل في إحدى تفسيراتها عين الأخلاق القائمة على العشق. وهناك مزيدٌ من التوضيح بشأن هذا الموضوع أوردناه في كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية).

([37]) ربما أمكن الادّعاء بأن الذين يختزلون العقلانية العملية في العقلانية الاقتصادية لا يعترفون بقيمتهم وكرامتهم الإنسانية أيضاً؛ حيث يستفيدون من أنفسهم استفادةً آلية، وينظرون إلى أنفسهم كوسائل وأدوات، لا أكثر.

([38]) altruistic.

([39]) impartial.

([40]) the ethics of justice.

([41]) the ethics of care.

([42]) the ethics of love.

([43]) the ethics of generosity.

([44]) لتحقيقٍ شامل حول الآراء المتنوّعة بشأن العلاقة بين العقل والأخلاق انظر: سلسلة المقالات التالية:

– Cullity G. & Gaut B. eds. (1997) Ethics and Practical Reason (Ox-ford: Clarendon Press).

يذهب فيسلوف الأخلاق الشهير (هنري سيتشويك) إلى الاعتقاد بثنوية العقل العملي، انظر:

-Sidgwick, H. (1907) The Methods of Ethics, (Cambridge: Hackett Publishing Company).

([45]) يبدو أن هذه العقلانية تذهب إلى القول بفرضية نفسية في حقل البنية الروحية للإنسان، والتي على أساسها تمتدّ جذور سلوكه الاختياري في الحسّ أو الغريزة (الأنانية) لهم، وأن في جوهر كلّ إيثار هناك استئثارٌ كامن. من هنا تسعى هذه الجماعة من فلاسفة الأخلاق التي تؤمن بالعقلانية الأخلاقية إلى إثبات أن هناك لدى الإنسان مشاعر وغرائز تجاه الآخرين تعرف بالشعور والغريزة (الإيثارية)، ولها نصيبها من العمق والأصالة في بلورة سلوكه. انظر في هذا الشأن الكتاب الرائع الذي يحمل عنوان: (إمكان ديگر گروی (إمكان النـزعة الإيثارية)، لمؤلِّفه توم نيجل:

– Nagel, T. (1978) The Possibility of Altruism, (Princeton: Princeton University Press).

([46]) وعلى هذا الأساس فإن القول بتساوي (النـزعة النفعية) و(النـزعة الأنوية) من قبل بعض المفكِّرين خطأٌ محض، فصحيح أن كلاًّ من النفعيين والأنويين مصلحيّون في تفكيرهم، إلاّ أن بين اختلاف المصلحة المنشودة لكلّ واحد منهما بوناً شاسعاً.

([47]) على سبيل المثال: إن ديفيد هْيوم تشكيكيٌّ في دائرة العقل العملي، وهو يختزل العقل العملي في العقل الآلي، ولكنّه في الوقت نفسه يذهب إلى الاعتقاد بأن القِيَم الأخلاقية تنشأ عن الشعور بالتعاطف ومحبّة الآخرين، ويرى أن هذا الشعور موجودٌ عند جميع الناس. وبطبيعة الحال فإن دائرة الأخلاق من وجهة نظر هْيوم خارجةٌ عن مقسم العقلانية، فهي بمعنى من المعاني مقولة ما فوق عقلانية تمتدّ بجذورها في العواطف والمشاعر، وليس في العقل والقِيَم والفضائل الأخلاقية، وليست بحاجةٍ إلى تبرير مصلحي شخصي. يصرِّح هْيوم بأن العقل أسير العواطف والمشاعر، ويجب أن يكون كذلك. ولتقرير جديد ومنسجم لفلسفة هيوم انظر:

– Harrison, J. (1976) Hume’s Epistemology (Oxford: Clarendon Press).

– Mackie, J. L. (1980) Hume’s Moral Theory, (London: Routledge and Kegan Paul).

ولنقد الآراء التشكيكية لديفيد هْيوم في حقل العقل العملي انظر:

– Korsgaard, C. M. (1986) “Skepticism about Practical about Practical Reason”, Journal of philosophy 83, 5 – 25.

– Korsgaard, C. M. (1997) “The Normativity of Instrumental Reason”, in Cullity G. & Gaut B. (eds.), Ethics and Practical Reason (Oxford: Clarendon Press).

([48]) سنرى في دراسة أخرى إمكان المناقشة في هذا الاستدلال لصالح تبعية الدين للأخلاق؛ لأن هذا الاستدلال يقوم على رؤية تجعل التبرير النظري للمعتقدات الدينية غير ممكن، ويختزل العقل والعقلانية العملية في العقل والعقلانية الأخلاقية. وأما إذا رأى شخصٌ إمكان تبرير المعتقدات الدينية نظرياً، أو قبل بوجود العقل والعقلانية الأنوية، يمكنه الادّعاء بأنه ليس مديناً للأخلاق في متبنياته الدينية العقلانية، وأن الدين ليس تابعاً للأخلاق من الناحية العقلانية. ولكنْ يبدو من الأفضل أن نفصل بين العقلانية في حدِّها الأدنى عن العقلانية في حدِّها الأقصى.

([49]) وهذا في الحقيقة مضمون قاعدةٍ يتمسَّك بها المتكلِّمون التقليديون في العالم الإسلامي لإثبات ضرورة الالتزام الديني؛ إذ يقولون: (دفع الضرر المحتمل واجبٌ بحكم العقل)، وإن هذا الحكم العقلي من الأمور التي تلزم الفرد بالاستماع إلى رسالة الدين، والتحقيق في صحّة وسقم ادّعاءات الأنبياء.

([50]) جديرٌ بالذكر أن العلمانية الأخلاقية تنسجم مع الإيمان بوجود الله والاعتقاد بعالم الآخرة.

([51]) أخلاق المعرفة الدينية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً