أحدث المقالات

حيدر حبّ الله(*)

تحرير وتنظيم بقلم: الشيخ سعيد نورا

تمهيد

لطالما كان هذا الموضوع ذي الطبيعة التخصّصيّة الشائكة، واحداً من الملفّات التي أقلقت الكثير من العلماء والفلاسفة والباحثين عبر التاريخ، ولطالما أيضاً انقسم الفكر الديني انقساماً مهولاً إزاء العلاقة بين العقل والوحي، والتي بتنا نسمّيها اليوم بالعلاقة بين العلم والدين، أو فلنقل: باتت تتبلور ضمن ثنائيّة العلم والدين بما للعلم من مفهوم معاصر محدّد.

سأحاول في هذه الفرصة الوجيزة أن أسلّط الضوء على بعض النقاط المتصلة بهذه الفكرة؛ علَّها تكون مفتاحاً أو نافذة لمزيدٍ من التأمّل لدينا جميعاً، ولتحفيزنا للاشتغال على هذا النوع من القضايا المعاصرة التي لم يتوقّف تدفّق أسئلتها وتحدّياتها منذ قرونٍ بعيدة.

 

مستويان في مقاربة موضوع البحث

ثمّة أنواع من مقاربة هذا الموضوع، من بينها:

أ ـ المقاربة على مستوى فلسفة الدين: وهي مقاربة تشتغل على هذه القضيّة من زاوية دينيّة عامّة متعالية حتى عن حصر ذاتها بدينٍ سماوي خاصّ، وسؤالها المركزي: ما هي العلاقة بين الدين السماوي عامّة وبين العقل أو العلم؟

ب ـ المقاربة على مستوى فلسفة الفقه: وهي مقاربة محدودة في مساحتها بزاوية من الدين، وهي الزاوية المعنيّة بالتنظيم القانوني، سواء على صعيد دين خاصّ كالإسلام أم على صعيد مختلف الديانات السماويّة التي تستوعب شكلاً من أشكال التنظيم القانوني لحياة أبنائها أو شطراً من حياتهم. والهدف هو أن نرى ما هو الموقف إزاء التعارض بين العقل والوحي أو بين العقل ونوع من الإلهام القدسي في القضايا الفقهيّة والشرعيّة والتنظيميّة.

بدورنا، سوف نكتفي برصد الموضوع من زاوية فلسفة الدين عامّة، تاركين سائر الزوايا لفرصة أخرى.

 

اتجاهات الفكر الديني في قضيّة العلاقة بين العقل والوحي

هناك اتجاهات متعدّدة في التراث الديني عامّة لتقديم علاقة ذات معالمَ واضحة بين هذين العنصرين الأساسيّين في حياتنا، عنيتُ العقلَ والدين. ويمكن بنظرة إجماليّة عامّة فرض أربعة اتجاهات عمدة هي:

الاتجاه الأوّل: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأعلى.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الوحياني بالحدّ المتوسّط.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأدنى.

الاتجاه الرابع: الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني.

 

الاتجاه الأوّل: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأعلى

ينتصر هذا الاتجاه للوحي انتصاراً كبيراً، ويقلِّص إلى أبعد الحدود من قدرة العقل على أن يبِتَّ في موقفٍ بتَّ فيه الوحي.

وتتلخَّص معالم هذا الاتجاه الفكري في أربع نقاط:

1 ـ الوحي مصدرٌ معرفيٌّ حاكٍ عن الوجود والحياة، وهذا يعني أنّه يمكننا من خلاله أن نتعرّف على مبدأ العالم ونهايته، وفلسفة الحياة والإنسان وجوهره و..؛ لأنّ الوحي يمثل مصدراً معرفيّاً أساسيّاً، فلا يمكن أن نعتبره بعيداً عن الإخبار بحقائق الوجود، سواء كانت حقائق التاريخ أم حقائق الحاضر أم المستقبل.

2 ـ في المقابل، العقل كيان كثير الخطأ؛ لأنّ العقل يستمدّ معلوماته من الحواسّ، وهي كثيرة الخطأ، ولهذا نجده دائماً في حالة انكشاف لعثراته وعوراته، ومن ثمّ لا نستطيع أن نثق بهذا العقل، فكيف بنا نريد أن نجعله مقابل الوحي الآتي من السماء، والنازل من المطلق المتعالي العالمِ بحقائق الأشياء علماً لا شكّ فيه على الإطلاق.

من هنا، نجد أنّ فيلسوفين كبيرين من فلاسفة الدين أعني: أوغسطين (430م) وتوما الأكويني (1274م)، لا يقبلان أبداً في أن يكون للعقل موطئ قدمٍ فيما يتكلّم عنه الوحي، بمستوى يمكّن العقلَ من مناهضة الوحي أو إخضاعه؛ لأنّ العقلَ يعتمد على عكّاز مهتزّ أو أنّه محدود في تطلّعاته ومديات رؤيته لحقائق العالم، فلا نستطيع أن نجعله حكَماً نقدّمُه على الوحي ونتاجاته المتمثلة بالنصوص الدينيّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك فارقاً كبيراً من أوغسطين والأكويني، فالأوّل كان ينزع كلّما طال به العمر نحو تقليص رؤيته التفاؤليّة تجاه العقل عامّة، بينما الثاني كان ينتصر للعقل كثيراً وبنى لاهوته الطبيعي عليه، لكنّ نقطة اقترابه الجزئي من الاتجاه الأوّل الذي نحن بصدده تكمن في اعتقاده بعجز العقل عن إدراك بعض الحقائق، ومن ثم فهناك مساحة متعالية لا ينبغي للعقل أن يخوضها لأنّها فوقه وأكبر منه، وهي المساحة التي جاء الوحي والانكشاف الإلهي لكي يخبرنا عنها دون أن تقدر عقولنا على فهمها مثل: التثليث، ولهذا لا نعتبر الأكويني من أنصار الاتجاه الأوّل بشكل تام أبداً.

3 ـ الاختلافات الطارئة في نتائج العقل، فإذا لاحظنا نتائج العقول على صعيد الأفراد ـ بعيداً عن عنصر الزمان ـ فسنجدهم يختلفون كثيراً فيها. إنّ هذه المليارات من العقول على امتداد البسيطة تختلف فيما بينها في كثيرٍ من القضايا، فكيف يمكن أن نثق بهذا العقل الذي يختلف ويتصارع، إذ نحن لا نحاكي أو نتكلّم عن العقل المعلّق في الفضاء، بل نتحدّث عن العقل الذي يستخدمه الإنسان عمليّاً كلّ يوم في إطار رصدنا لتجاربه وما أنجزه حتى الآن.

من هنا، نلاحظ أنّ الإمام أبا حامد الغزالي (505هـ) (في بعض مراحل فكره) ومعه المولى محمد أمين الأسترآبادي (1036هـ) ـ والأخير من كبار مؤسّسي الإخبارية الحديثة في الوسط الإمامي ـ اعتبرا أنّه لا يمكن أن نقبل بجعل العقل حَكَماً في محاكمة الوحي والنصوص الدينيّة، إذ علينا أن لا نغترّ باليقين الآتي منه؛ لأنّه ليس إلا يقيناً آنيّاً صوريّاً سرعان ما تكشف أعمال التنقيب في التجربة التاريخيّة عن وهمه.

4 ـ ليس العقل هو المعبر للإيمان، بل الإيمان هو معبر العقل، فخلافاً لما هو الشائع من أنّ العقل هو المعبر للإيمان، يرى هذا الاتجاه أنّ الإيمان هو المعبر للعقل، فالإنسان بقلبه وفطرته يحصل على المعرفة الحقيقيّة، وهذا الإيمان هو الذي يُنتج العقلَ الصحيح، أمّا العقل بلا إيمان فلا ينتج معرفةً على الإطلاق، بل وهم المعرفة.

إذا أردنا أن نختصر هذا الاتجاه، يمكن أن نسمّيه باتجاه سوء الظنّ بالعقل وعدم الاعتماد على نتائجه، فكيف يمكن أن نجعله حَكَماً على الوحي والنصوص الدينيّة، ولهذا ينبغي أن نسدّ باب العقل لنجعل الوحي ينطلق لوحده مصدراً أساسيّاً غالباً أو وحيداً في الوصول إلى حقائق هذا العالم.

إنّ هناك أنصاراً كثُر في الساحة الدينيّة لهذا الاتجاه، سواء الإسلامية بجميع مذاهبها أم عامّة الديانات السماويّة على اختلافها، وقد عزّز هذا الفريق موقعه بالنقد الفلسفي على المذاهب التجريبيّة، خاصّة مثل انتقادات ديفيد هيوم (1776م) ـ وهو فيلسوف تجريبي ـ على إمكانية الوصول إلى اليقين، وكذلك شطراً من انتقادات الفلسفة الكانطيّة، وما نتج في القرن العشرين عبر فلسفة العلوم من نزعة شكوكيّة أو غير متفائلة تجاه العقل الصارم الذي عرفه عصر التنوير.

وخلاصة القول لو أردنا تحليل طريقة تفكير هذا الاتجاه: إنّ هذا الاتجاه استهدف العقل ذاته في نقده؛ كي يجعل الوحيَ قوّةً لا منازع لها، ويُعجز أقوى خصومها ـ وهو العقل ـ عن أن ينافسها أو يقترب منها، ومن ثمّ فتمرّد عقولنا على معطيات الوحي يصبح تمرّداً غير مبرهنٍ موضوعيّاً ولا مبرّراً أخلاقيّاً.

 

الاتجاه الثاني: الاتجاه الوحياني بالحدّ المتوسّط

حاول هذا الاتجاه أن يتراجع قليلاً، فيعتبر العقلَ حجّةً ومصدراً موثوقاً لمعرفة الأشياء أو حتى حقائقها، وذلك من حيث إنّه نعمةٌ من نعم الله تعالى على الإنسان، لكنّ هذه القيمة المعطاة للعقل في هذا الاتجاه يمكنها أن تحافظ على نفسها وصولاً إلى إثبات النبوّة؛ إذ بعد ذلك تُسَلَّم القيادة إلى النبيّ (السّمع) كما كان يقول الشيخ أبو حامد الغزالي في بعض مراحل حياته الفكريّة، أو أنّ العقل حجّة إلى أن تثبُت النبوّةُ والإمامة دون ما بعد ذلك، كما يرى ذلك العلامة محمّد باقر المجلسي (1111هـ)، وفقَ ما جاء في الجزء الثاني من كتابه بحار الأنوار.

وبهذا يكون دور العقل ومجال اعتباره مفتوحاً حتى يصل الإنسانُ للنبيّ أو الإمام، فكأنّ له دوراً مقدَّميّاً ليضع يدَ الإنسان في يد الإمام أو النبيّ، لتستمرّ عبر الوحي مسيرة المعرفة الإنسانيّة. وليس للعقل أن يقول شيئاً أعلى من قول النبيّ أو الإمام أو القرآن (النصّ الديني)، وبهذا تكوّنت صورة أكثر اعتدالاً بالنسبة إلى العقل، حيث تُرك له المجال أن يتحرّك بدرجةٍ من الدرجات، لكنّه ظلّ محكوماً في حركته لنهايةٍ محدّدة، وخاضعاً في نتائجه لها، وهي الوحيُ والنصوص الدينيّة.

فإذا تعارَض العقلُ في معطياته مع الوحي، فإنّ علينا أن نخطِّيء بِنيتنا الفكريّة ونعيد النظر في معطيات العقل؛ لأنّ المفروض أنّنا قد سلّمنا أيدينا إلى الوحي (المتمثل في النبيّ أو الإمام)، ليوصلنا إلى شاطئ الأمان، فإذا اختلف العقلُ مع الوحي فإنّ هذا يعني أنّنا اكتشفنا خطأ العقل، ومن ثمّ يجب أن نعيد النظر في تلك المنظومة الفكريّة التي أوصلتنا إلى هذه النتيجة المناقضة لما جاء به الوحي.

ونقطة اختلاف هذا الاتجاه عن الاتجاه الأوّل أنّه لا يُفقدنا الثقة بأصل العقل، بل قد يقوّي ثقتنا به ويجعل الإيمان مبنيّاً على براهين العقول، لكنّه لا يواصل مسيرة الاعتماد على العقل، معتبراً أنّ ما بعد النبوّة طورٌ لا يملك العقل الموادَّ الخام التي تخوّله إنتاج شيء فيه.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الوحياني بالحدّ الأدنى

يقع هذا الاتجاه في مقابل الاتجاه الأوّل تماماً، حيث يعتبر العقلَ هو المعيار والمصدر الوحيد للمعرفة، أمّا الوحي فليس مصدراً معرفيّاً يمكن من خلاله الوصول إلى حقيقة موضوعيّة، انطلاقاً من رؤية وضعيّة للعلم.

ثمّة ـ كما نعرف ـ فلسفة كبيرة في الغرب تُسمّى بالفلسفة الوضعيّة (Positivism)، وهي التي تعتبر أنّ معيار القضية العلميّة كونها قابلةً للاختبار والتجربة والمحاسبة، فإذا لم نستطع أن نتأكّد من صحّة قضيّةٍ ما من خلال التجربة فهذه ليست قضيّة علميّة أساساً، وحتى العلوم الإنسانيّة لم تسلم من نقد هذه النزعة، إذ سُلبت عنها صفة العلم إن لم تخضع لهذا المعيار، لتعتبر مجرّد كلمات تطلق في الهواء الطلق، وما عُرف بحلقة فيينا كانت تنتصر لهذه الفكرة، ولذلك شاع اليوم اطلاق مصطلح العلوم (Science) على العلوم الطبيعيّة، أي العلوم التي تستند إلى التجربة تأثراً بهذه المدرسة، في مقابل المعارف الإنسانية التي قد يُرغب في إطلاق تعبير (Knowledge) عليها، وقد بدأت هذه المدرسة منذ سنة 1967م بالتراجع، وكتبت كتبٌ كثيرة تحت عنوان «ضدّ المنهج» في نقدها.

ليست قيمة الدين ـ عند أنصار هذا الاتجاه ـ في إعطاء معلومات جديدة للإنسان، وإنّما قيمته ـ لو كانت له قيمة ـ في تحريك وتشجيع البشريّة نحو الخيرات، تماماً كما هي الحال فيما يقوم به مشجّعو كرة القدم في الملعب، حيث لا يراد منهم إعطاء معلومات جديدة للاعبين، وإنّما خلق دافع داخلي وطاقة إيجابيّة دافعة عبر التصفيق أو الضرب على الطبول والنواقيس أو غير ذلك، وكأنهم يقدّمون بفعلهم هذا طاقة هائلة للاعبين نحو النجاح والتقدّم، بل وبحسب تعبير بعضهم: إنّ الدين ليس سوى (طبل) للحماس، فعندما يأتي الوحي فكأنّه يشحن الإنسان بطاقةٍ هائلة تجعله يمارس الصدق ويترك الكذب ويتحرّك نحو فعل الخير ويترك مساوئ الأخلاق وهكذا، فقيمة الوحي في أنّه يحرّك الإنسان نحو الخير ويُبعده عن الشرّ، وليست قيمته في إعطاء معلومات ومراكمة علوم لديه، وإنّما الذي يعطي العلم للإنسان ليس سوى العقل، ولهذا يجب أن نرجع إلىه فقط لاكتساب المعلومات، وبهذا لن يكون هناك أيّ تعارض بين العقل والوحي؛ لأنّ لكلّ منهما مساحته المباينة لمساحة عمل الآخر، فلا يتدخّل العقل في مجال الوحي وبالعكس، ومن هنا يعتبر هذا الاتجاه أنّ جميع الكتب الدينيّة الموجودة بين أيدينا اليوم، لا ينبغي أن تكون مرجعاً في التاريخ أو المستقبل أو في أيّ حقيقة أخرى.

 

الاتجاه الرابع: الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني

وسط هذه المعمعة، ظهر اتجاهٌ يمكن أن نعتبره وسطياً دون أن نقصد بهذا التوصيف منحه قيمة واعتباراً، وهو الاتجاه الذي مال إليه الكثير من علماء المسلمين، وقدّموا فيه قراءات مختلفة.

لقد حاول هذا الاتجاه الوسطي الداخل ـ ديني أن يفكّر بطريقة أخرى، فاعتبر أنّ العقل مصدرٌ معرفي كما الوحي مصدر معرفي آتٍ من السماء ومن لدن حكيم عليم، فكلاهما مصدر للوصول إلى المعرفة والحقيقة، وهذا هو الركن الركين عندهم، دون فرض حدود لهذه المصدريّة لا على العقل ولا على الوحي. فإذا تعارض العقل والوحي فما الذي يجب علينا أن نفعله؟

يجيب هذا الاتجاه، بأنّ الذي اعتبرتموه تعارضاً بين العقل والوحي، ليس تعارضاً بينهما، وإنّما هو تعارضٌ بين العقل وفهم النصوص الدينيّة؛ لأنّ الوحي في الحقيقة علاقة بين النبيّ وعالم الغيب، الأمر الذي لا طريق لنا للوصول إليه إلا عبر الكتاب الكريم والنصوص التاريخيّة والروايات الحديثيّة، فنحن نتعامل مع نتيجة الوحي لا مع الوحي نفسه، ومن ثمّ فالتعارض القائم ليس بين الوحي والعقل، وإنّما بين النصوص والعقل، وبما أنّ النصوصَ في أغلبها غير يقينيّةٍ ـ إن في صدورها، أو في دلالتها أو كليهما معاً ـ فيقدَّمُ حكمُ العقل القاطع على النصّ؛ لأنّه يقيني، وإذا كان التعارض بين دلالة النصوص والعقل فيجب أن نفسّر النص بطريقة تنسجم مع العقل، وبهذا نوقع التوفيق بينهما، ليُصبح العقلُ والنص منسجمين مع بعضهما بعضاً، فليس هذا تقديماً للعقل على النص أو الوحي، وإنّما هو تفسيرٌ للنصّ بالعقل. هذا هو التخريج أو التكييف الذي قدّموه لفضّ الاشتباك بين العقل والوحي.

 

من أدوات فضّ الاشتباك مع النصّ

لكنّ السؤال المهمّ هنا هو أنّه كيف يمكن الجمع بين الفهم العرفي واللغوي للنصوص وهذا التخريج؟ أليس هذا تلاعباً بالنص وليَّاً لعنقه؟

هذا السؤال لم يمرّ مرور الكرام على الفكر الديني، لهذا أثيرت حول قضيّته أفكار عديدة، وأكتفي هنا بذكر اثنين أساسيّين منها:

1 ـ نظريّة المجاز

وهي ما ذهب إليه أمثال المعتزلة والإماميّة في التاريخ الإسلامي، من أنّ اللغة في حدّ نفسها تبتني على المجاز، فاستخدام الكلمات والجمل المجازية والاستعاريّة والكنائية في اللغة متناسبٌ مع النظام اللغوي وليس مخالفاً له كي نعتبره تلاعباً بالنصوص، فإذا قال تعالى: ﴿..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ (الفتح: 10) فهو يشبِّه قدرة الله باليد، فيقول: يد الله، ولكنّه يقصد قدرته سبحانه، إذاً لم يعد يُوجد تنافٍ بين العقل الذي يقول باستحالة التجسيم على الله وبين النصّ؛ لأنّ بنية اللغة هي بنية قائمة على المجاز؛ ومن ثمّ يمكن التعامل بأريحيّة معها.

وبهذا تكون هذه الفكرة قد حاولت أن توفّق بين العقل والنصّ، بجعل العقل دليلاً على تفسير النصّ وهادياً، اعتماداً على نظام اللغة القائم على المجاز.

2 ـ نظريّة روح المعاني

ذهب بعض العرفاء ـ مع اعتقادهم بأصل المجاز ـ إلى شيءٍ أعمق منه يُلامس البنية التحتيّة للغة، وهو ما سُمّي فيما بعد بنظريّة روح المعاني، وقد شرحناها بالتفصيل في دروسنا التفسيريّة.

يعتقد العديد من أنصار المنهج العرفاني ـ خاصّة مع ابن عربي (638هـ) ـ أنّ الألفاظ لا توضع للمعاني الظاهريّة، وإنّما توضع لروح المعاني، فما نعتبره معنىً للألفاظ ليس إلا مصداقاً ظاهريّاً من المصاديق الكثيرة للمعنى، وبهذه الطريقة يمكن التوسّع في فهم النصوص.

ومن الأمثلة الشائعة لهذه النظريّة مفردة «الميزان»، في مثل قوله تعالى: ﴿ونَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء: 47)، فالميزان هنا ليس بمعنى الآلة التي نستخدمها في الأسواق لوزن بعض السلع أو البضائع أو المأكولات، بل المقصود منها في روحها اللغويّة: مطلق ما تقدَّر به الأشياء، وبهذا يصبح المراد من الآية الكريمة أنّ الله تبارك وتعالى سوف يقدِّر أعمال العباد يوم القيامة، لا أنّه سوف يقوم بوضع موازين تشبه الموازين الموجودة في الأسواق.

وسبب انصراف أذهاننا إلى تلك الآلة المستخدمة في الأسواق، ليس إلا كثرة تعاملنا معها، وإلا فنفس كلمة الميزان في روحها اللغويّة لا تعني تلك الآلة، وإنما الآلة بعينها مصداق من مصاديق المعنى.

وكذلك الحال في مثل قوله تعالى: ﴿..يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ (الفتح: 10)، إذ ليس المقصود تلك اليد العضويّة، بل إنّ «اليد» في روحها اللغويّة وُضعت لتعني الشيء الذي يُقتدر به، فيد الإنسان تعني ما يقتدر الإنسان به، وعندما نقول: يد الله، فهذا يعني الشيء الذي يمارس الله من خلاله قدرة إدارة شؤون العالم، وإنّما انصرف ذهننا إلى اليد العضويّة لكونها المصداق الأبرز الذي نحتكّ به، لا لكونها المعنى الموضوع لكلمة اليد في اللغة، وهذا يعني أنّه يمكننا ـ بهذه النظرية ـ استيعاب النتائج العقليّة في فهم النصوص، وفضّ الاشتباكات بينها وبين المعطيات العقليّة والعلميّة.

لقد فسّر العديدُ من العرفاء الكثيرَ من الآيات القرآنية بهذه الطريقة، فخلقوا لها معاني متعدّدة، وقد اختار هذه النظريّة ـ بعد ابن عربي ـ الملا صدرا الشيرازي (1050هـ)، ثم انتصر لها وطبّقها العلامة الطباطبايي (1981م) في تفسيره «الميزان في تفسير القرآن»، وكذلك الإمام الخميني (1989م) في غير موضع.

 

النتيجة

إنّ العلاقة بين العقل والوحي مسألةٌ لطالما أقلقت الكثير من العلماء عبر التاريخ، فذهبوا فيها مذاهب متنوّعة، مستهدفين فضّ الاشتباك:

أ ـ ففيما أنكر بعضٌ قدرة العقل على فهم الحقائق التي يقدّمها الوحي بل مطلقاً.

ب ـ اختار فريقٌ آخر منح العقل دوراً تمهيديّاً سابقاً على ثبوت الوحي، ليغلق الباب أمامه عقب ذلك، ولتحلّ النبوّة والإمامة مكان العقل في كشف الحقيقة.

ج ـ وانتهج فريقٌ ثالث نهج إنكار الوحي مصدراً معرفيّاً ليحصره في كونه فاعلاً تربويّاً وإنسانيّاً.

د ـ أمّا الفريق الرابع هنا، فقد غيّر وجهة التنازع ليجعلها بين النصوص والعقل، لا بين الوحي والعقل، ومن ثم صار العقلُ مفسِّراً للنصّ، عبر أنظمة لغويّة أو غيرها تذلّل من العقبات أمام عمليّة التوفيق.

هذا عرض تمهيدي موجز يدفعنا للتفكير وبذل المزيد من الجهود لدراسة موضوع العلاقة بين الدين والعقل أو الدين والعلم، وأنصح أخيراً بمطالعة كتاب العلم والدين، للباحث والمفكّر الأميركي إيان بربور (2013م)، ففيه عرض معمّق لرحلة معرفيّة واسعة في علاقة العلم والدين، تطلّ من زوايا أخرى على هذا الموضوع.

 

الهوامش

(*) نصّ المحاضرة التي اُلقيت في قاعة المحاضرات في جامع القدس، بالكويت، بتاريخ: 6 ـ 3 ـ 2017م، وقد راجعها الشيخ حبّ الله مجرياً عليها بعض التعديلات.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً