أحدث المقالات

مقدمة

التاريخ هو علم صيرورة الإنسان الذي يكون في حالة حركة وتكوين دائميين.فهو يعني بمعرفة الكيفية التي تكون وصار فيها الإنسان ومعرفة العلل والعوامل والقوانين التي كانت سببا وراء ذلك التغير والتحول والرشد والتكامل والمرض والصحة والعنف والقدرة التي جعلت للإنسان أو المجتمع الإنساني.

تكمن أهمية التاريخ في معرفة التالي :

١- التجارب البشرية واستخلاص السنن التاريخية منها والتي هي بمثابة قوانين اجتماعية تكشف لنا كيف يمكننا قيادة محيطنا بأقل الأخطاء والنهوض به وفق تلك القوانين فهي ترسم لنا المسارات ونهاية كل مسار ونتائجه ليحقق الإنسان باختياره المسار الأكثر فائدة للإنسان والمجتمع .

٢- تكشف لنا بعدين :

بعد متحرك تتعلق ملابساته بالزمان والمكان نستطيع الاستفادة معرفيا منه غالبا كون هذا البعد ليس ثابتا ولكنه تحرك تحت مظلة الثوابت وشكل تجربة بشرية فتحت بابا للمعرفة.

البعد الثاني هو البعد الثابت الذي يشكل القانون والمسار الذي يتحكم بالمجتمعات عبر التاريخ .

٣- العبرة التي تعني الاستفادة من التجربة ومراكمتها وليس فقط الاتعاظ

فالعبرة تكون على مستويين :

الأول فردي وهو المستوى الذي يشكل حركة الاتعاظ والمراجعة الفردية في علاقته مع الله وعلاقته مع المحيط .

الثاني : اجتماعي متعلق بالاتستفادة من التجارب البشرية في كافة الأصعدة ومراكمتها كون طبيعة المجتمعات متحركة وحراكها يكون بالعقل

٤- تكشف قراءة التاريخ آليات تفاعل العقل مع النص ومساحات التطبيقات العملانية له وكيفية التعامل مع النصوص عبر الزمن لتتكشف لنا قوانين تصب في صالح قراءة واعية للدين ومراكمة له ومطورة لفهمه وليس له .

ويطالعنا التاريخ بحكايات تعكس التجارب البشرية في كل علائقها المرتبطة بوجودها الاجتماعي وما يترتب عليه من بناءات سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية ودينية .

تشكل هذه التجارب ركيزة مهمة في المعرفة البشرية كمصدر ملهم من جهة يراكم الخبرة والتجربة وكمعين زمني يختصر الوقت والجهد ويوفر كثير من الطاقات .

فالتاريخ تحكمه سنن تحدد من خلال اختيار منتسبيه من البشر مساراتهم وأحداثهم وتبين آلامهم وآمالهم ولحظات انتصاراتهم وهزائمهم وغيرها . وهو من يمدنا بطاقة معرفية توضح لنا آليات صناعة مستقبل أقل أخطاء وأكثر إشراقا وخدمة للإنسان .

التاريخ والتجربة البشرية:

ولو ركزنا تاريخيا على التجرية الدينية وعلاقتها بالآراء والآخر قد نستخرج باطلالة سريعة تجاربا مهمة بهذا الصدد تساعدنا في معالجة إشكاليات مشابهة في عصرنا متعلقة بأهمية العقل وآليات التعاطي مع الآخر والآراء البشرية خاصة تلك التي تستند لقراءة خاصة للنص .

ومن جهة أخرى لو استقرأنا التجربة الغربية في التطور العلمي سنجد شبها بشريا في منهجية التعاطي مع الآراء المتعددة ، سواء تلك التي خرجت عن المشهور العلمي أو الإجماع العلمي .

لا يمكننا إلا أن نعترف بأن التجربة البشرية هي أحد مصادر المعرفة البشرية، وهي ضمن منظومة المعرفة في طول الوحي لا في عرضه، وكون استلهام وادراك التجربة من وظيفة العقل، وتنضيج فهم النص وفق التجارب البشرية أيضا عقلي، بالتالي هذا الاقرار النظري لا يمكنه أن يحقق غاياته إلا إذا تم تطبيقه، كون النظريات الشمولية عادة يتوافق تنظيرها مع تطبيقها وإلا كان هناك خللا في البين.

كل التجارب البشرية هي محل استفادة ونقد، وهي مصدر معرفي هام في مواكبة النص للزمان والمكان عن طريق العقل .

ونهج الشهيد مطهري هو تجربة دينية بشرية تعتبر مصدرا من مصادر المعرفة كون المدرسة الاسلامية في نظرية المعرفة تعتبر مصادر التشريع هي : الحس والتجربة والوحي والعقل والوجدان

وكون الشخصية هنا هي شخصية تاريخية إسلامية علمائية فتصبح تجربتها خلاصة لتاريخ مزج به العقل بالوحي بالوجدان بالحس وخلص عملانيا لتجربة ميدانية تطبيقية لكل ما اعتقده واستلهمه من كتاب الله وسنة نبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

إن دراسة شخصية الشهيد مطهري من زاوية مشروع النهضة تتطلب منا المام بظروفه التاريخية في ابعاديها السياسية والثقافية والدينية والفكرية وقراءة أهم التحديات التي شكلت في ذلك الوقت إشكاليات معرفية طرحت تساؤلات كبرى على الاسلام وأحدثت زلزال في بنية العقل في ذلك الزمان، ومن ثم معرفة موقع المؤسسة الدينية وأجوائها الفكرية والمعرفية وهل واجهت وواكبت تلك المرحلة وما هي آليات مواجهتها، لندرك أهمية تجربة الشهيد مطهري في مشروع النهضة ومحوريتها وأثرها التاريخي.

مشروع النهضة :

النهضة فكرة قرآنية أسسها الله تعالى لترسم معالم الإنسان في أبعاد كثيرة،  تبدأ في معراجها نحو النهوض من دائرة الذات وتتسع هذه الدائرة إلى الأسرة، ومن ثم تأخذ اتساعاتها أبعادا تشمل الممجتمع ومن ثم الدولة بحدودها الجغرافية الخاصة والخارج جغرافية أي دولة الإنسان.

والنهضة متصلة اتصال عضوي وظيفي بالتغيير ببعده الإيجابي ، كونها كفكرة تكتنز في عمقها الحركة وليس الركود، والحركة باتجاه تصاعدي ، وهي من مقومات التغيير – أي الحركة – ومن مصاديق الحركة التصاعدية المقاومة التي تعني رفض ومواجهة كل ما من شأنه سلب مقومات إنسانية  الإنسان ، وهي الحرية والإرادة والاختيار ، سواء بالاستبداد أو الفساد الذي يعيق نهضة الإنسان والمجتمعات والدول ، أو بالاحتلال الذي يسلب المقدرات والثروات والمقومات ويهدر الطاقات فيمنع النهضة كونها مقوضة لوجوده ومانعة لهيمنته.

” إن الإحياء الشامل لمفاهيم الإسلام هو الشرط الأساس عند دعاة النهوض والإصلاح لكل تغيير في الواقع، ولكل عملية بناء وتشييد، والمدخل للخروج من نفق التبعية والتخلف”

الشيخ مرتضى مطهري – الإشكالية الإصلاحية وتجديد الفكر الديني ص ١٣٥ / د.خنجر حمية – سلسلة أعلام الفكر والاصلاح في العالم الإسلامي – مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي

 قد يكون للحضارات الإنسانية  دور في تجديد ثقافتها الاسلامية،  لما للحضارة من دور وظيفي في النهوض بالثقافة ، وكون الثقافة تدخل في تشكيل الهوية، بالتالي تأتي خطوات النهضة والثبات – رغم التأرجح في البين – من هذا التلاقح الايجابي وكيفية استنطاق تاريخ الحضارات ومخزونها في الوجدان والذاكرة استنطاقا معرفيا، قادرا على فتح أفق عقلية راكمت خبراتها وتجاربها لتنهض في قراءة النص وتستطيع أن تستفيد من التجربة الإنسانية في النهوض بالتجربة الدينية،  وتطوير بنية الفهم والعقل في سبيل اتساع دائرة هذا الفهم للنص .

كان منهج الشهيد مطهري  النهضوي الفكري يسير في خطين متوازيين :

الأول : البناء الداخلي للاسلام وسبر أغوار الإشكاليات التي أعاقت إبرازه كحضارة نهضوية مستديمة في سيرورتها التاريخية، فحاول اكتشاف أهم نقاط الضعف وقام بعملية نقد للذات موضوعية صريحة من موقع المتمكن ، والمعتز بهويته الاسلامية لا موقع التابع المنهزم نفسيا، ومستفيدا من الحضارات الأخرى وتجاربها البشرية في موضوع النهضة والإحياء.وتطلب ذلك من الشهيد مرتضى مطهري تفكيك بنيوي داخل ديني ابستمولوجي، شخص من خلاله اهم مكامن الخلل المعرفية في إبراز معالم النهضة الاسلامية معتمدا هو بذلك على قراءة تجارب مصلحين سابقين كمحمد إقبال كونه نموذج معاصر له قدم رؤية نهضوية أحدثت ارباكات وانزياحات معرفية في فهم الاسلام وإدراك أبعاده النهضوية.

ففي كتابه الإسلام ومتطلبات العصر ص ١٤يقول بعد ان شخص متطلبات الانسان العصرية نتيجة الثورة الصناعية حيث قال : “على المسلم في خضم هذا العالم أن يعرف ليس فقط الإسلام معرفة صحيحة في فلسفته الاجتماعية وعقيدته الالهية ونظامه الفكري والحقوقي ليكون على بينة من أمره، وليتجنب الأخطار، وليرسم طريقه بثبات واستقامة، إنما عليه كذلك أن يعرف بصورة  جيدة وواضحة إشكاليات العصو وتطوراته وأوضاعه ونتاجاته المعرفية وحراكه وتحولاته وتعقد أسئلته.”

وهنا كان يعني عملية الاجتهاد والضرورات المستحدثة لتطوير هذه العملية وضرورة الأخذ في الحسبان كل هذه الاشكاليات والتحديات التي تواجه المجتمع البشري وخاصة المسلم، كي تُعاد قراءة النصوص على ضوئها.

ويقول الدكتور خنجر حمية في مصدر سابق ص ١٦١ عما ذكره الشهيد مطهري في الاسلام ومتطلبات العصر : لقد كان مطهري يدرك أن فكرة استجابة الاسلام لتغيرات الحياة لا تحتاج إلى كثير تأكيد، لوضوح معالمها في طبيعة تشريعات الإسلام عند من قرأه بعينه وتدبر تعاليمه، ولأن التجربة التاريخية أكدتها بما لا يقبل الشك أو التردد، ولأن الفقه في تطوره وتعاظمه كان خير تجسيد لها في العمل والمممارسة. لكنه يدرك من جانب آخر أن التمييز في مظاهر التقدم والمدنية، وفي أشكال الحراك التاريخي للإنسان والمجتمع بين نافع وضار، وبين أصيل وعارض، ليس بهذا الوضوح،وهو لا يكاد يتبدَّى إلا بالانعطاف نحو دراسة معمقة لطبيعة الإنسان، ولقوانين التطور التاريخي وسننه. ولمقتضيات فطرته الأولية الثابته وغريزته، ولقوانين التطور التاريخي وسننه. ليتبدى الواقعي من مظاهر التغير، وليتميز الزبد عن الجوهر ومظاهر الانحلال عن مظاهر التغير”.

وهنا أوضح الشهيد مطهري الثوابت التي لا تتعرض لأي تغيير عبر الزمن نافيا النسبية المطلقة التي طرحها الغرب، لكنه في ذات الوقت وضح أن الاسلام يتعاطى مع الواقع بمرونة عالية متحركة ضمن المتغيرات التي تتحرك على ضوء تلك الثوابت والكليات .

وفي قبال الجو النصي الذي كان طاغيا على تلك الحقبة من عمر المؤسسة الدينية ، وضمن التحديات الثقافية الغربية التي أطلت برأسها على المجتمع الاسلامي ، أعاد مطهري الاعتبار للعقل في الاجابة على سؤال ما هو معيار التمييز بين الصالح والطالح في التجربة الانسانية والدينية التاريخية:

ويجيب مطهري في الاسلام ومتطلبات العصر ص ٣٥ : العقل هو الوسيلة التي ينبغي أن يستثمرها الإنسان لتمييز ذلك، لأن بواسطته يستطيع تأمل تجاربه فيدرك بذلك انحرافه، وجذور تراجعه. ولقد يدلنا العقل بسهولة وبساطة ويسر ويرشدنا إلى أن الإنسان استثمر على مدى الزمن قدراته وما أبدعه في سبيل خدمة أهداف تنافي طبيعته، وتتجاوز مقتضيات فطرته ، ومن أجل غايات وهمية وآمال زائفة وطموحات متهورة، وإشباها لغرائز متفلته ومندفعة وطاغية لم تجد في طريق انطلاقها عائقا يحد منها، أو وازعل يخفف من غلوائها، فكانت نتيجة لذلك الانهيار الشامل لتجارب والدمار الكلي لأمم، والفناء المحقق لشعوب، والقهر المقيت لمجتمعات.”

وضمن هذه العجالة نستطيع القول أن الشهيد مرتضى مطهري قام بفترحات نهضوية منطلقا من رصيده الفلسفي في النظر لبنية الاسلام المفاهيمية وجوهره وإعادة فهم كثير من مدياته على ضوء الإسكاليات والتحديات التي واجهت عصر الشهيد معرفيا وثقافيا.

الثاني : البناء الخارجي والمتعلق بالحضارة الغربية والاطلاع على كل إسهاماتها وأفكارها وثمارها اطلاعا علميا لا تابعا ، ناقدا لا مسلما، مستفيدا لا مستنكفا، مدركا الفروق الجوهرية ومكامن خلل الاسقاطات والمقايسات بينه وبين حضارات أخرى. واستطاع بمبضعه كفيلسوف توضيح إرهاصات كثير من الأفكار الغربية التي أحدثت ضجيج في أوساط المثقفين والمفكرين، وبين البنى المعرفية والفلسفية التي تعتبر القاعدة التي تنظلق منها كل هذه الأفكار، محددا معالم المصطلحات وأوعيتها المعرفية التي انطلقت منها.

فهو تعامل مع معطيات الحضارة الغربية بطريقة معتدلة وسطية<

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً